ميخائيل باختين
ترجمة: طارق النعمان
1 – صياغة المشكل وتعريف أجناس الكلام
إن كافة المجالات المتباينة للنشاط الإنساني تشتمل على استخدام اللغة. ومن المفهوم تمامًا أن طبيعة وأشكال هذا الاستخدام متباينة بقدر تباين مجالات هذا النشاط. وبالطبع فإن هذا لا ينقض الوحدة القومية للغة. فاللغة متحققة في شكل تلفظات فردية ملموسة (شفاهية ومكتوبة) بواسطة مشاركين في المجالات العديدة المتنوعة للنشاط الإنساني. وتعكس هذه التلفظات الشروط والأهداف الخاصة بكل مجال من هذه المجالات، ليس فقط من خلال الموارد المعجمية والأسلوبية والنحوية للغة وإنما قبل كل شيء من خلال بنيتها التأليفية. إن هذه الجوانب الثلاثة جميعًا -المحتوى الثيمي والأسلوب والبنية التأليفية- مرتبطة ارتباطًا لا ينفصم بكلية التلفظ ومحدَّدة بالتساوي بالطبيعة الخاصة لمجال للتواصل.
إن كل تلفظ منفصل هو بالطبع تلفظ فردي، بيد أن كل مجال تستخدم فيه اللغة يُنمِّي أنماطه الخاصة المستقرة نسبيًا من هذه التلفظات، وهذه الأنماط هي ما يمكن أن ندعوها بأجناس الكلام speech genres.
إن ثراء وتنوع أجناس الكلام لا حد له ؛ لأن الإمكانات المتنوعة للنشاط الإنساني لا تنفد، ولأن كل مجال من مجالات هذا النشاط يحوي ذخيرة كاملة من أجناس الكلام التي تتمايز وتنمو كلما أخذ هذا المجال الخاص يتطور ويصبح أكثر تعقيدًا. ويفترض أن يُشدَّد تشديدًا خاصًا على التباينية الحادة لأجناس الكلام (الشفاهي منها والمكتوب). وفي حقيقة الأمر، فإن مقولة أجناس الكلام يفترض أن تشتمل على الردود القصيرة في الحوار اليومي. وهي متنوعة إلى أقصى حد اعتمادًا على موضوع الحوار والموقف والأطراف المشاركة)، والسرد اليومي everyday narration، والكتابة (بكل أشكالها المتنوعة)، والتوجيهات العسكرية القياسية القصيرة، والأوامر التفصيلية والمفصَّلة، وذخيرة وثائق العمل المتنوعة تنوعات شتى (وإن تكن في معظمها معيارية)، والعالم المتنوع للتعليقات (بالمعنى الواسع للكلمة: اجتماعية وسياسية). كما يجب علينا أيضًا أن نضم هنا الأشكال المختلفة من التعبيرات العلمية وكل الأنواع الأدبية (من المثل إلى الرواية متعددة المجلدات).
قد يبدو أن أجناس الكلام متباينة تباينًا شديدًا، بحيث إنه ليس لديها ولا يمكن أن يكون لديها مستوى واحد مشترك يمكن أن تتم دراستها فيه. ذلك أن ما يبدو لدينا هنا، على مستوى واحد من الدرس، هو ظواهر متباينة من قبيل ردود الحياة اليومية ذات الكلمة الواحدة والروايات متعددة المجلدات والتوجيهات العسكرية المعيارية حتى على مستوى تنغيمها، والأعمال الشعرية الغنائية الشديدة الفردية، وهكذا قد يتصور المرء أن مثل هذا التباين الوظيفي يجعل السمات المشتركة لأجناس الكلام مجردة وخاوية على نحو فائق. ولعل هذا يفسر لماذا لم يُطرَح حقًا المشكل العام للأجناس على الإطلاق. لقد درست الأجناس الأدبية أكثر من أي شيء آخر إلا أنها منذ الأزمان القديمة وإلى اليوم ظلت تدرس من حيث سماتها الأدبية والفنية الخاصة، من حيث الاختلافات التي تمايز جنسًا أدبيًا عن الآخر (داخل عالم الأدب)، وليس بوصفها أنماطًا خاصة من التلفظات المتمايزة عن أنماط أخرى بيد أنها متشاركة معها في طبيعة (لغة) لفظية مشتركة.
إن المشكل اللغوي العام للتلفظ وأنماطه يبدو وكأنه لم يُنظر إليه على الإطلاق. أما الأنواع البلاغية rhetorical genres فهي تدرس منذ اليونان (وكثيرًا ما لا تُعْزَى في العصور اللاحقة إلى النظرية الكلاسيكية). ففي ذلك الزمن كان يتم بالفعل تكريس الكثير من الانتباه إلى الطابع اللفظي لهذه الأنواع بوصفها تلفظات، على سبيل المثال: الانتباه إلى جوانب من قبيل العلاقة بالمستمع وتأثيره على التلفظ، والإغلاق اللفظي الخاص للتلفظ (بوصفه مستقلًا عن تتميمه للفكرة) وما إلى ذلك.
لكن هنا أيضًا ظلت السمات الخاصة للأجناس الخَطابية rhetorical genres (قضائية، سياسية) ظلت تلقي بظلالها الكثيفة على طبيعتها اللغوية العامة. وفي النهاية، فقد دُرست أجناس كلام الحياة اليومية (بشكل أساسي الردود rejoinders في حوار الحياة اليومية)، ومن وجهة نظر لغوية عامة (داخل مدرسة سوسير وبين أتباعه اللاحقين البنيويين، والسلوكيين الأمريكيين وكذلك على أساس لغوي مختلف كليةً بين الفوسلريين إلا أن هذا الاتجاه من البحث لم يستطع أن يفضي إلى تحديد ملموس للطبيعة اللغوية العامة للتلفظ كذلك، نظرًا لأنه كان مقتصرًا على السمات الخاصة بكلام الحياة اليومية الشفاهي، وفي بعض الأحيان لكونه متوجهًا على نحو مباشر وعن عمد نحو تلفظات بدائية (السلوكيين الأمريكيين).
إن التباين الحاد لأجناس الكلام والصعوبة الملازمة لتحديد الطبيعة العامة للتلفظ لا ينبغي على الإطلاق أن يتم التقليل من قدرهما، ومن المهم أهمية خاصة هنا أن يتم لفت الانتباه إلى الاختلاف البالغ الأهمية بين أجناس الكلام الأولية (البسيطة) وأجناس الكلام الثانوية (المركبة) (على أن يُفهم لا بوصفه اختلافًا وظيفيًا). إن أجناس الكلام الثانوية (المركبة) -روايات، مسرحيات، كل أنواع البحث العلمي، أنواع الشروح الأساسية وما إلى ذلك- تنشأ في ظل تواصل ثقافي أكثر تركيبًا ومقارنة بما سواه، تواصل متطور ومنظم بقدر عالٍ (وأساسًا يكون مكتوبًا) تواصل يشمل ما هو فني artistic وعلمي scientific وسياسي- اجتماعي sociopolitical وما إلى ذلك. وهي خلال عملية تشكلها تمتص وتهضم أجناسًا أولية (بسيطة) متنوعة اتخذت الشكل الخاص بها في التبادل المباشر للكلام بدون توسط. فهذه الأجناس الأولية يتم تحولها وتتخذ شخصيةً مُمَيَّزة حين تدخل في الأجناس المركبة. فهي تفقد علاقتها المباشرة بالواقع الفعلي وبالتلفظات الواقعية للآخرين. فردود حوار الحياة اليومية، على سبيل المثال، أو الخطابات الموجودة في رواية ما تحتفظ بشكلها ودلالتها الخاصة بالحياة اليومية فقط على مستوى محتوى الرواية. إنها تدخل داخل الواقع الفعلي فحسب بواسطة الرواية ككل، أي كحدث أدبي -فني- وليس بوصفها الحياة اليومية. فالرواية ككل هي تلفظ مثلها مثل ردود حوار الحياة اليومية أو الخطابات الخاصة (فهي ذات طبيعة مشتركة)، بيد أنه على العكس من هذه، فإن الرواية تلفظ ثانوي (مُركَّب).
إن الاختلاف بين الأجناس (الأيديولوجية) الأولية والثانوية هو اختلاف كبير جدًا وأساسي للغاية ، إلا أن هذا الاختلاف هو بدقة السبب في لماذا ينبغي أن تكون طبيعة التلفظ مكشوفًا عنها ومحدَّدة عبر تحليل كلا النمطين. وحينئذ فحسب يمكن للتعريف أن يكون وافيًا بالطبيعة المركبة والعميقة للتلفظ (وأن يحيط بوجوهها الأكثر أهمية).
إن أي توجه أحادي البعد إزاء الأجناس الأولية يقود لا محالة إلى ابتذال المشكل بأكمله (واللسانيات السلوكية هي أقصى تمثيل لهذا). فالعلاقة المتبادلة ذاتها بين الأجناس الأولية والثانوية وعملية التشكيل التاريخي للأخيرة تلقي الضوء على طبيعة التلفظ (وقبل كل شيء على المشكل المركب للعلاقات المتبادلة بين اللغة والأيديولوجيا ideology، ورؤية العالم world view).
إن دراسة طبيعة التلفظ وتنوع الأشكال النوعية للتلفظ داخل مجالات متنوعة من النشاط الإنساني لهي مهمة أهمية شديدة تقريبًا بالنسبة لكل مجالات اللسانيات والفيلولوجيا، وهذا لأن أي بحث تكون مادته لغة متعينة –تاريخ لغة، نحو معياري normative grammar، تأليف أي نوع من أنواع المعاجم، أسلوبيات اللغة stylistics of language، وما إلى ذلك– هو لا محالة يتعامل مع تلفظات متعينة concrete utterances (مكتوبة وشفاهية) منتمية إلى عوالم متنوعة من النشاط والتواصل الإنسانيين: سجلات تاريخية chronicles وتعاقدات contracts ونصوص قوانين، ووثائق أكليروسية [كهنوتية] وغير أكليروسية وأجناس أدبية وعلمية وتفسيرية متنوعة، وخطابات رسمية وشخصية وردود في حوار الحياة اليومية (داخل كل فئاتها الفرعية المتنوعة) وهكذا وها هنا يجد الباحثون مادة اللغة التي يحتاجون إليها. إن وجود فكرة واضحة عن طبيعة التلفظ بعامة وعن خصوصيات الأنماط المتنوعة للتلفظات (الأولية والثانوية) أي عن أجناس الكلام المتنوعة يعد ضروريًا، فيما نعتقد، بالنسبة للبحث في أي مجال خاص، أما تجاهل طبيعة التلفظ أو الإخفاق في مراعاة خصوصيات الفئات الفرعية النوعية للكلام في أي مجال من مجالات الدراسة اللغوية فيقود إلى عدم الاكتراث [الآلية] والتجريد الزائد ويشوِّه تاريخية البحث ويُضعف الصلة بين اللغة والحياة. وعلى كل، فإن اللغة تدخل الحياة عبر تلفظات متعينة (تجلِّي اللغة) وكذلك فإن الحياة تدخل اللغة عبر تلفظات متعينة، فالتلفظ هو نقطة تلاقي مشكلات مهمة أهمية استثنائية. وسنقارب مجالات ومشكلات معيَّنة خاصة بعلم اللغة في هذا السياق.
أولًا، وقبل كل شيء الأسلوبيات. فأي أسلوب هو مرتبط ارتباطًا غير قابل للانفصام بالتلفظ وبأشكال نمطية من التلفظات أي بأجناس كلام، فأي تلفظ –شفاهي أومكتوب، أولي أو ثانوي، وفي أي عالم من عوالم التواصل– هو تلفظ فردي ولذا يمكنه أن يعكس فردية المتكلم (أو الكاتب)؛ أي إنه [التلفظ] يمتلك أسلوبًا فرديًا إلا أنه لا يتسنى لكل الأجناس أن تدفع بقدر متساوٍ إلى عكس فردية المتكلم في لغة التلفظ أي أن تكون حافزة على أسلوب فردي. أما أكثر الأجناس تحفيزًا فهي تلك الخاصة بالأدب الفني؛ إذ ها هنا يدخل الأسلوب الفردي على نحو مباشر داخل مهمة التلفظ ذاتها، وهذا هو أحد أهدافه الأساسية (لكن حتى داخل الأدب الفني فإن أجناسًا متنوعة تطرح إمكانيات مختلفة للتعبير عن الفردية في اللغة وعن جوانب متنوعة من الفردية). إن أدنى الشروط تفضيلًا بالنسبة لعكس الفردية في اللغة تتحقق في أجناس الكلام التي تقتضي شكلًا معياريًا، على سبيل المثال، أنواع عديدة من وثائق الأعمال، والأوامر العسكرية، والإشارات اللغوية في الصناعة وما إلى ذلك. فها هنا يستطيع المرء أن يعكس فحسب أكثر جوانب الفردية اصطناعًا وتقريبًا بيولوجية (بصورة رئيسة في التجلي الشفاهي لهذه الأنماط المعيارية من التلفظات). ففي الغالبية العظمى من أجناس الكلام (فيما عدا الأجناس الأدبية الفنية) لا يدخل الأسلوب الفردي في قصد التلفظ، ولا يعمل بوصفه هدفه الوحيد، وإنما هو، كما كان، ظاهرة ثانوية [ظاهرة عرضية] للتلفظ، أحد منتجاته الفرعية. إذ يمكن لأجناس متنوعة أن تكشف طبقات ووجوهًا متنوعة من الشخصية الفردية كما يمكن للأسلوب الفردي أن يكون موجودًا في علاقات متبادلة متنوعة مع اللغة القومية، بل إن المشكل نفسه الخاص بالقومي والفردي في اللغة هو بالأساس المشكل الخاص بالتلفظ (وعلى كل، فها هنا فقط في التلفظ تكون اللغة القومية مجسَّدة في شكل فردي). فالتحديد ذاته للأسلوب بعامة والأسلوب الفردي بشكل خاص يتطلب دراسة أعمق لكل من طبيعة التلفظ وتنوع أجناس الكلام.
إن الصلة العضوية غير القابلة للانفصال بين الأسلوب والجنس مكشوفة بوضوح أيضًا في تشكل أساليب اللغة، أو الأساليب الوظيفية functional styles وجوهريًا فإن أساليب اللغة أو الأساليب الوظيفية ليست شيئًا آخر سوى أساليب نوعية generic styles لعوالم معينة من النشاط والتواصل الإنسانيين. وكل عالم من هذه العوالم يملك ويطبِّق أجناسه الخاصة به التي تطابق شروطه الخاصة، كما أن ثمة أيضًا أساليب خاصة تطابق هذه الأجناس، فالوظيفة الخاصة (قد تكون علمية، تقنية، تعليقية، خاصة بالعمل، حياتية) والشروط الخاصة بتواصل الكلام الخاص بكل عالم تولِّد أجناسًا خاصة، أي أنماطًا من التلفظات ثيمية وتأليفية وأسلوبية معينة مستقرة استقرارًا نسبيًا. كما أن الأسلوب مرتبط ارتباطًا غير قابل للفصل بوحدات ثيمية خاصة، والمهم أهمية خاصة أنه مرتبط بوحدات تأليفية خاصة: بأنماط خاصة لبناء الكل، أنماط لتتميمه [لاكتماله] وأنماط علاقات بين المتكلم والمشاركين الآخرين في التواصل الكلامي (مستمعين أو قراء، مشاركين في كلام الآخر، وما سوى ذلك). إن الأسلوب يدخل بوصفه عنصرًا واحدًا في الوحدة النوعية للتلفظ. وبالطبع، فإن هذا لا يعني أن أسلوب اللغة لا يمكن أن يكون موضوعًا للدراسة المستقلة بذاتها. بل إن دراسة كهذه، أي عن أسلوبيات اللغة كمجال معرفي مستقل لهي ممكنة التحقيق وضرورية. بيد أن هذه الدراسة لن تكون صائبة ومنتجة، إلا إذا كانت مؤسَّسة على وعي دائم بالطبيعة النوعية لأساليب اللغة وعلى دراسة تمهيدية للفئات الفرعية لأجناس الكلام. إلا أنه حتى هذه اللحظة ليس لدى أسلوبية اللغة مثل هذا الأساس ومن هنا ضعفها. فما من تصنيف متفق عليه بعامة لأساليب اللغة، إذ إن أولئك الذين يحاولون أن يوجدوها يخفقون بشكل متكرر في أن يفوا بالمتطلب المنطقي الأساسي للتصنيف: أي في أن يصوغوا أساسًا موحَّدًا. فالتصنيفات القائمة فقيرة فقرًا شديدًا وغير متمايزة. وعلى سبيل المثال فإن نحو اللغة الروسية المنشور حديثًا للأكاديمية يقدم الفئات الفرعية الأسلوبية التالية للغة: كلام الكتب المتحذلق، والكلام الشعبي [الجماهيري]، والكلام العلمي المجرَّد، والكلام العلمي التقني، وكلام التعليقات الصحفية، وكلام العمل الرسمي -، وكلام الحياة اليومية المألوف، وكذلك اللهجة [اللغوة] المشتركة المبتذلة vulgar common parlance. وبالإضافة إلى هذه الأساليب اللغوية، ثمة الفئات الأسلوبية الفرعية من الكلمات اللهجوية [المميزة للهجة معينة]، والكلمات العتيقة والعبارات الوظيفية المهنية. إن مثل هذا التصنيف للأساليب لهو تصنيف عشوائي عشوائية كاملة وفي أساسه تكمن تنويعة من المبادئ (أو الأسس) الخاصة بالتقسيم إلى أساليب. وعلاوة على ذلك، فإن هذا التصنيف هو في آن واحد غير مستقصٍ وتمايزه غير مستوفٍ. وكل هذا هو نتاج مباشر لفهم قاصر للطبيعة النوعية للأساليب اللغوية وغياب تصنيف قائم على تدبر جيد لأجناس الكلام بالنسبة لعوالم النشاط الإنساني (وتجاهل التمييز بين الأجناس الأولية والثانوية الذي هو مهم أهمية بالغة بالنسبة للأسلوبيات).
إنه لمن الضار على نحو خاص أن يُفصل الأسلوب عن الجنس genre عند تفصيل المشكلات التاريخية، فالتغيرات التاريخية في أساليب اللغة متصلة اتصالًا لا ينفصم بالتغيرات في أجناس الكلام، كما أن اللغة الأدبية نسق دينامي مركَّب من الأساليب اللغوية. أما التناسبات والعلاقات المتبادلة لهذه الأساليب في النسق الخاص باللغة الأدبية، فهي متغيرة باستمرار، فاللغة الأدبية التي تتضمن أيضًا أساليب غير أدبية، تُعد حتى نسقًا أكثر تراكبًا، وهي منظَّمة على أسس مختلفة. ولكيما نحل لغز الديناميات التاريخية المركبة لهذه الأنساق ونتحرك من وصف بسيط (وفي معظم المجالات، سطحي) للأساليب، التي دائمًا ما تكون بادية للعيان ومتناوبة مع بعضها البعض، إلى تفسير تاريخي لهذه التغيرات، فإنه يجب على المرء أن يطوِّر تاريخًا خاصًا لأجناس الكلام، (ليس فقط للثانوي منها وإنما أيضًا للأجناس الأولية)؛ مما يعكس بصورة أكثر مباشرة ووضوحًا ومرونة كل التغيرات الحادثة في الحياة الاجتماعية. فالتلفظات وأنماطها، أي أجناس الكلام هي أعِنَّة التوجيه من تاريخ المجتمع إلى تاريخ اللغة. فما من ظاهرة جديدة مفردة (صوتية أو معجمية أو نحوية) يمكن لها أن تدخل نسق اللغة دون أن تكون قد اجتازت المسار الطويل والمعقد للاختبار والتكييف الأسلوبي النوعي .
إن في كل حقبة أجناسًا كلامية معينة هي التي تضبط النغمة لتطور اللغة الأدبية. وهذه الأجناس الكلامية ليست ثانوية فقط (أدبية، وصحفية، وعلمية) وإنما أيضا أولية (أنماط معينة من الحوار الشفاهي- من حوار الصالونات، من دائرة المرء الخاصة، وأنماط أخرى كذلك، من قبيل الحوار المألوف وحوار الأسرة اليومي، والحوار السياسي الاجتماعي، والحوار الفلسفي وسواها). إن أي توسيع للغة الأدبية يَنْتُج عن التعويل على طبقات متنوعة غير أدبية من اللغة القومية تلزم عنه لا محالة درجة ما من الاختراق لكل أجناس اللغة المكتوبة (الأدبية، والعلمية، والصحفية، والتخاطبية وما إليها) بدرجة تزيد أو تقل، وتلزم عنه حيل نوعية جديدة لبناء الكل الكلامي the speech whole، إغلاقه، تكيف (توافق) المستمع أو المشارك وما إلى ذلك. وهذا يقود إلى إعادة بناء أكثر أو أقل أساسية وإلى تجدد أجناس الكلام. وعند التعامل مع الطبقات غير الأدبية المماثلة للغة القومية، فإن المرء لا محالة يتعامل أيضًا مع أجناس الكلام التي تكون هذه الطبقات متجلية عبرها. وفي أغلب الحالات، تكون هذه أنماطًا متنوعة من الأجناس الحوارية التخاطبية؛ ومن ثم إضفاء السمة الحوارية المميزة تميزًا يزيد على أو يقل عن الأجناس الثانوية وإضعاف تأليفها المونولوجي، والمعنى الجديد للمستمع بوصفه محاورًا مشاركًا، والأشكال الجديدة لتتميم الكل [لإغلاق الكل]. وما إلى ذلك. فكما يوجد أسلوب يوجد جنس. إذ إن تحول [انتقال] الأسلوب من جنس إلى آخر لا يعني فحسب الكيفية التي يبدو بها أسلوب ما، في ظل ظروف جنس غير طبيعية بالنسبة إليه، بل إنه أيضًا ينتهك أو يجدِّد الجنس القائم [المعطى]. وهكذا فإن أساليب اللغة الفردية والعامة معًا تحكم أجناس الكلام. وبالقطع فإن دراسة أعمق وأوسع لهذه الأخيرة لهي لازمة من أجل دراسة منتجة لأي مشكل أسلوبي.
ومع ذلك، فإن القضية المنهجية الأساسية والعامة معًا للعلاقات المتبادلة بين المعجم والنحو (من ناحية أولى) والأسلوبيات (من ناحية أخرى) تقوم على المشكل ذاته الخاص بالتلفظ وأجناس الكلام.
إن النحو (وكذلك المعجم) مختلف اختلافًا أساسيًا عن الأسلوبيات (بل إن البعض حتى يعارضهما بالأسلوبيات)، إلا أنه في الوقت ذاته ما من دراسة نحوية واحدة يمكن لها أن تتم بدون ملاحظة وتفصيل أسلوبيين. وفي عدد كبير من الحالات يبدو التمييز بين النحو والأسلوبيات متلاشيًا تمامًا. إذ إن ثمة ظواهر يدرجها بعض الباحثين في مجال النحو بينما يدرجها باحثون آخرون في مجال الأسلوبيات، فالوحدة النظمية the syntagma هي أحد الأمثلة.
ولعل المرء يقول إن النحو والأسلوبيات يلتقيان ويتباعدان في أية ظاهرة متعينة من ظواهر اللغة، لأنها إذا ما نظر إليها فقط داخل نسق اللغة فإنها ظاهرة نحوية، أما إذا ما نظر إليها داخل كلية التلفظ الفردي أو داخل جنس من أجناس الكلام فإنها ظاهرة أسلوبية. ويكون هذا لأن الاختيار ذاته الخاص بالمتكلم لشكل نحوي معين هو فعل أسلوبي a stylistic act. بيد أن هاتين الوجهتين من النظر للظاهرة اللغوية الواحدة والخاصة نفسها لا ينبغي أن تكونا غير متنافذتين على بعضهما البعض كما لا ينبغي أن تحل إحداهما محل الأخرى بشكل ميكانيكي، بل يفترض أن تكونا مترابطتين ترابطًا عضويًا (مع التمييز المنهجي الأشد وضوحًا في تحديد المعالم بينهما) على أساس الوحدة الفعلية للظاهرة اللغوية، إذ ليس إلا فهمًا عميقًا فحسب لطبيعة التلفظ والسمات الخاصة بأجناس الكلام هو ما يمكن أن يوفِّر حلًا سليمًا لهذا المشكل المنهجي المُركَّب.
ويبدو لنا أن دراسة طبيعة التلفظ وأجناس الكلام ذات أهمية أساسية للتغلب على تلك التصورات الأبسط حول حياة الكلام speech life، حول ما يُدْعَي تدفق الكلام speech flow، حول التواصل وما يدور في فلكه وهي أفكار لازالت جارية في دراستنا للغة. وعلاوة على ذلك، فإن دراسة التلفظ بوصفه الوحدة الفعلية للتبادل الكلامي ستجعل من الممكن فهم طبيعة وحدات اللغة فهمًا أصح (بوصفها نسقًا): كلماتٍ وجملًا.
وسننتقل الآن إلى هذا المشكل الأعم.
2 – التلفظ بوصفه
وحدة التبادل الكلامي:
الاختلاف بين هذه الوحدة
ووحدات اللغة (كلمات وجمل)
إن لسانيات القرن التاسع عشر، البادئة مع “وليم فون همبولدت”، وإن كانت لم تنكر الوظيفة التواصلية للغة إلا أنها قد حاولت أن تضعها في الخلفية بوصفها شيئًا ثانويًا. أمَّا ما وضعته في الأمامية فقد كان وظيفة التفكيرالمنبثقة بشكل مستقل عن التواصل. إن الصيغة الهمبولدتية الشهيرة تمضي على هذا النحو:
“بعيدًا عن التواصل بين كائن إنساني وآخر، فإن الكلام هو شرط ضروري للتفكير حتى في العزلة. في حين أن آخرين، الفوسلريين vosslerians على سبيل المثال، يشدِّدون على ما يُدعى الوظيفة التعبيرية expressive function. ومع كل الطرق المتنوعة التي يفهم بها منظرون أفراد هذه الوظيفة، فإنها بالأساس تصل إلى التعبير عن الخطاب الفردي للمتكلم. فاللغة تنشأ من حاجة الإنسان إلى أن يعبِّر عن نفسه، إلى أن يجسِّد نفسه. إن جوهر أي شكل من أشكال اللغة مخفَّض على نحو ما إلى الإبداعية الروحية للتفرد. وقد اقْتُرحَتْ ولا تزال تُقْتَرَح الآن صور أخرى عديدة لوظيفة اللغة إلا أنها لا زالت تقلل من شأن -ما لم تكن تتجاهل كلية- الوظيفة التواصلية للغة. فاللغة منظور إليها من منظور المتكلم كما لو كان ثمة متكلم واحد فقط ليس لديه أية علاقة ضرورية بمشاركين آخرين في التواصل الكلامي. وإذا ما وضع أساسًا دور الآخر في الاعتبار، فإنما يوضع دور مستمع لا يفهم المتكلم إلا بصورة سلبية فحسب. فالتلفظ وافٍ لموضوعه. (أي محتوى الفكر المتلفظ) وللشخص الذي ينطق التلفظ. فاللغة بصورة أساسية تحتاج متكلما فحسب -متكلمًا واحدًا- وموضوعًا لكلامه. وإذا كانت اللغة أيضًا تعمل بوصفها وسيلة للتواصل، فإن هذا ليس إلا وظيفة ثانوية لا ترتبط بجوهرها. وبالطبع فإنه لا يمكن أن يتم تجاهل جمعية اللغة، وتعددية المتكلمين عند الكلام عن اللغة إلا أنه عند تحديد جوهر اللغة، فإن هذا الجانب ليس جانبًا ضروريًا بحيث إنه يحدِّد طبيعة اللغة. وأحيانًا يتم النظر إلى جمعية اللغة بوصفها نوعًا من الشخصية الجمعية، “روح الشعب” وما شابه، وتلصق بها دلالات عريضة (بواسطة ممثلي” سيكولوجيا الأمم”)، لكن حتى في هذه الحالة تُحرم تعددية المتكلمين والآخرين المرتبطين بكل متكلم من المتكلمين من أية دلالة أساسية فعلية خاصة بها.
ومازالت سارية في اللسانيات تخييلات من قبيل “المستمع” و”الفاهم” .
(شركاء “المتكلم”، “فيض الكلام الموحَّد” “the “unified speech flow، وما إلى ذلك. وهذه التخييلات تنتج فكرة مشوهة تمامًا عن العملية المركَّبة والمتعددة الأوجه للتواصل الكلامي الفعال. إن المحاضرات في علم اللغة العام (حتى لدى الجادين مثلما هو في محاضرات سوسير) تعرض باستمرار صورًا خطية إيضاحية للطرفين المشاركين في التواصل الكلامي -المتكلم والمستمع (الذي يتلقى الكلام)- كما تقدم رسومًا توضيحية لعمليات الكلام النشطة للمتكلم والعمليات السلبية المقابلة لإدراك وفهم المستمع للكلام. ولا يمكن للمرء أن يقول إن هذه الرسوم كاذبة false أو إنها لا تطابق جوانب معينة من الواقع؛ إلا أنها حين تُطرح بوصفها الكلية الفعلية للتواصل الكلامي فإنها تصبح تخييلًا علميًا a scientific fiction. والواقع هو أنه حين يتلقى المستمع ويفهم معنى (معنى لغة) الكلام، (فإنه يتخذ على نحو مزامن لهذا توجهًا استجابيًا فعالًا [نشطًا] تجاهه. فهو إما أن يتفق أو يختلف معه (على نحو كامل أو جزئي)، يعززه، يطبقه، يستعد لتنفيذه وما إلى ذلك من استجابات. والمستمع يتبنى هذا التوجه الاستجابي responsive attitude طوال فترة عملية الاستماع والفهم. من البداية الأولى -وفي بعض الأحيان وبالمعنى الحرفي لهذه العبارة منذ الكلمة الأولى للمتكلم- إن أي فهم للكلام الحي alive speech، لتلفظ حي a live utterance هو فهم استجابي بالفطرة inherently responsive، على الرغم من أن درجة هذا النشاط تتنوع إلى أقصى حد. فأي فهم هو فهم مشبع بالاستجابة، وبالضرورة يستخرجها بشكل أو بآخر: فالمستمع يصبح المتكلم.
إن فهمًا سلبيًا لمعنى الكلام المُدرَك هو فقط جانب مجرد من الكلية الفعلية للفهم المستجيب استجابة نشطة، والمتحقق حينئذ في استجابة لاحقة تكون متمفصلة بالفعل. وبالطبع لا يكون كل تلفظ متبوعًا دائمًا على الفور باستجابة متمفصلة لغويًا. إذ يمكن لفهم ما مستجيب استجابة نشطة لما هو مسموع (أمر مثلًا) أن يكون متحققًا مباشرة في فعل (تنفيذ الأمر أو التوجيه الذي تم فهمه وتم قبول تنفيذه) أو أنه يمكن أن يبقى، في الوقت الراهن، فهمًا مستجيبًا استجابة صامتة (فثمة أجناس كلام معينة مقصود بها بشكل قاطع هذا النوع من الفهم المتجاوب، على سبيل المثال، الأجناس الغنائية lyrical genres)، بيد أن هذا، إذا جاز القول، فهم مستجيب برد فعل مؤجَّل. وعاجلًا أو آجلًا فإن ما سُمع وفُهم فهمًا نشطًا سيجد استجابته في الكلام أو السلوك اللاحق للمستمع. وفي معظم الحالات، فإن أجناس التواصل الثقافي المركَّبة يكون مقصودًا بها على وجه الدقة هذا النوع من الفهم المتجاوب تجاوبًا نشطًا مع الفعل المؤجَّل. وكل شيء نقوله هنا هو أيضًا يخص الكلام المكتوب والمقروء مع التكييفات والإضافات الملائمة. وهكذا، فإن كل فهم فعلي ومتماسك يكون متجاوبًا تجاوبًا نشطًا ولا يؤلِّف سوى المرحلة الأولية التمهيدية من الاستجابة (في أي شكل من الأشكال التي يمكن أن يكون متحققًا فيها). والمتكلم نفسه يكون متوجِّهًا توجهًا دقيقًا نحو مثل هذا الفهم المتجاوب تجاوبًا نشطًا. فهو لا يتوقع الفهم السالب الذي، إذا ما جاز القول، لا يقوم بأكثر من أن يستنسخ فكرته هو الخاصة في ذهن شخص ما آخر. وإنما هو يتوقع استجابة ما، اتفاقًا، تعاطفًا، اعتراضًا، تنفيذًا أو ما إلى ذلك (فأجناس الكلام المتنوعة تفترض سلفًا توجهات متنوعة متماسكة وخطط كلام speech plans من جانب المتكلمين أو الكتَّاب) أما الرغبة في أن يُجعل كلام المرء مفهومًا فليست إلا جانبًا مجردًا فحسب من خطة كلام المتكلم المتعينة والكلية. وعلاوة على ذلك، فإن أي متكلم هو ذاته ليس إلا مستجيبًا بدرجة تزيد أو تقل فهو، في جميع الأحوال، ليس المتكلم الأول the first speaker، ليس الكائن الذي أزعج الصمت الأزلي للكون. وهو يفترض سلفًا ليس فقط وجود نسق اللغة الذي يستخدمه، وإنما يفترض أيضًا وجود تلفظات سابقة –له ولآخرين- يدخل معها تلفظه المحدَّد في نوع ما أو آخر من العلاقة (ومن ثم فهو يبني عليها، أو يتجادل معها، أو ببساطة يسلِّم أنها معروفة سلفًا للمستمع). فأي تلفظ هو حلقة وصل في سلسلة منظَّمة تنظيمًا مركَّبًا جدًا من التلفظات الأخرى. وبالتالي، فإن المستمع الذي يفهم بصورة سالبة، والمصَّور بوصفه شريك المتكلم في الرسوم الخطاطية للسانيات العامة لا يتطابق مع المشارك الفعلي في التواصل الكلامي وما يمثِّله الرسم ليس إلا جانبًا مجردًا من الفعل الكلي الحقيقي للفهم المتجاوب تجاوبًا نشطًا، نوعًا من الفهم الذي يثير استجابة وهي استجابة يستشرفها المتكلم. ومثل هذا التجريد العلمي مبرَّر تمامًا في حد ذاته، لكن بشرط واحد: وهو أن يكون مُدرَكًا بوضوح بوصفه تجريدًا ليس إلا وأنه ليس ممثَّلًا بوصفه الكلية الحقيقية المتعينة للظاهرة. هذا وإلا فإنه يصبح تخييلًا. وهذا هو بدقة الوضع في اللسانيات، نظرًا لأن مثل هذه الخطاطات المجردة؛ في حين أنها ربما لا تزعم أنها تعكس التواصل الكلامي الحقيقي، تظل غير مصحوبة بأي إشارة للتراكب الشديد للظاهرة الفعلية. وكنتيجة لهذا، فإن الخطاطة تشوِّه الصورة الفعلية للتواصل الكلامي، نازعة بدقة أكثر جوانبها الأساسية. فالدور الفعَّال للآخر في عملية التواصل الكلامي مقلَّص بناءً على ذلك إلى أدنى حد.
إن هذا الإهمال للدور الفعَّال للآخر في عملية التواصل الكلامي، والرغبة بشكل عام في إغفال هذه العملية متجليان في الاستخدام غير الدقيق والغامض لمصطلحات من قبيل “الكلام” “speech” أو “تدفق الكلام” “speech flow”. إن هذه المصطلحات غير المحددة عن عمد مقصود بها في المعتاد أن تعيِّن شيئًا ما يمكن أن يتم تقسيمه إلى وحدات لغوية، مما يتم تأويله حينئذ بوصفه أقسامًا من اللغة. صوتية : (فونيم phoneme، ومقطع syllable، وإيقاع الكلام speech rhythm، ومعجمية lexical (جملة وكلمة). “إن تدفق الكلام the speech flow يمكن أن يكون مجزَّأً …broken down”؛ “كلامنا مقسَّم”… divided وهذه هي الطريقة التي تكون بها تلك الأقسام من القواعد النحوية المكرَّسة لدراسة مثل هذه الوحدات اللغوية مقدَّمة في المعتاد داخل المحاضرات العامة في اللسانيات والنحو، وأيضًا داخل البحث الخاص في الصوتيات phonetics والمعجميات lexicology. وللأسف فإن النشرة الأكاديمية الحديثة لنحونا تستخدم المصطلح ذاته غير المحدود والغامض “كلامنا”. وها هي الكيفية المقدَّم بها القسم الخاص بالصوتيات: “إن كلامنا مقسَّم بشكل أساسي إلى جمل يمكن أن تتم تجزئتها هي الأخرى بدورها إلى عبارات وكلمات. كما تُقسَّم الكلمة بوضوح إلى وحدات صوتية صغيرة– مقاطع … كما يتم تقسيم المقاطع إلى أصوات كلام مفردة أو إلى فونيمات…
لكن أي نوع من الأشياء يكون “تدفق الكلام” هذا وما المقصود ب- “كلامنا”؟ ما طبيعة مداه الزمني the nature of their duration ؟ هل له بداية ونهاية؟ وإذا كان طوله غير محدود فأي جزء من أجزائه هو الذي نقطِّعه إلى وحدات؟ إن هذه الأسئلة لم يتم طرحها أو تحديدها على الإطلاق. فاللسانيون لم يحوِّلوا بعد كلمة “كلام” غير الدقيقة -التي يمكن أن تعيِّن اللغة أو عملية الكلام (أي التكلم)، أو التلفظ الفردي، أو سلسلة كاملة طويلة غير محدودة من مثل هذه التلفظات، أو جنس معين من أجناس الكلام (“لقد ألقى خطبة “)- إلى مصطلح محدود (محدَّد) ذي حدود دلالية واضحة المعالم .
(ثمة مواقف مشابهة توجد أيضًا في لغات أخرى). ويمكن تفسير هذا بالنقص الكامل تقريبًا للبحث في مشكل التلفظ وأجناس الكلام (وبالتالي، لمشكل التبادل الكلامي كذلك) فما نجده تقريبًا دائمًا هو لعبة مشوشة بكل هذه المعاني (فيما عدا المعنى الأخير). وفي معظم الأحوال فإن تعبير “كلامنا” يعني ببساطة أي تلفظ لأي شخص. بيد أن هذا المعنى لا يبقى بقاءً مطردًا على طول الخط . وإذا كان ما يتم تقسيمه وتقطيعه إلى وحدات اللغة هو غير محدود وغير واضح تمامًا، فإن هذا النقص في التحديد وهذا التشوش ينتشر أيضًا في هذه الوحدات ذاتها.
إن عدم الدقة والتشوش الاصطلاحيين في هذه القضية المركزية منهجيًا للتفكير اللساني ينتجان من تجاهل الوحدة الفعلية للتواصل الكلامي: التلفظ. لأن الكلام لا يمكن له أن يوجد في الواقع إلا في شكل تلفظات متعينة فحسب لأناس متكلمين أفراد، ذوات كلامية [فاعلي كلام]. فالكلام دائمًا مصوغ [مصبوب] cast في شكل تلفظ منتمٍ إلى ذات متكلمة معينة، ولا يمكن له أن يوجد خارج هذا الشكل. وبغض النظر عن كيف يمكن للتلفظات أن تتنوع من حيث طولها ومحتواها وبنيتها التأليفية فإن لها سمات بنيوية مشتركة كوحدات للتواصل الكلامي، وقبل كل شيء، حدودًا واضحة المعالم تمامًا. وبما أن هذه الحدود جوهرية وأساسية فلا بد من أن تتم مناقشتها مناقشة تفصيلية.
إن حدود كل تلفظ متعين كوحدة للتواصل الكلامي تكون محدَّدة بتغير الذوات المتكلمة، أي بتغير المتكلمين، وأي تلفظ -من الرد القصير ذي (الكلمة الواحدة) في الحوار اليومي إلى الرواية الضخمة أو الرسالة العلمية- له، إذا ما جاز القول، بداية قاطعة an absolute beginning ونهاية قاطعة an absolute end، بدايته مسبوقة بتلفظات آخرين، ونهايته متبوعة بتلفظات متجاوبة لآخرين (أو فهم آخرين مستجيب استجابة نشطة على الرغم من أنها يمكن أن تكون صامتة أو، في النهاية، فعل مستجيب a responsive action مؤسس على هذا الفهم).
إن المتكلم ينهي تلفظه لكيما يُخلي الأرضية للآخر أو ليخلق مساحة [ليفسح] لفهم الآخر المستجيب استجابة نشطة. فالتلفظ- ليس وحدة عرفية [اصطلاحية]، وإنما هو وحدة فعلية، مرسومة حدودها بوضوح بتغير الذوات المتكلمة، وهو ما ينتهي بإخلاء الأرضية للآخر، كما لو كان بقرار صامت [بمرسوم صامت] a silent dixi مدرك من قبل المستمعين (كعلامة) على أن المتكلم قد انتهى.
إن هذا التغير للذوات المتكلمة، الذي يخلق الحدود الواضحة المعالم للتلفظ، يتنوع في طبيعته ويكتسب أشكالًا مختلفة في العوالم المتباينة للنشاط الإنساني والحياة الإنسانية، اعتمادًا على وظائف اللغة وعلى الشروط والمواقف الخاصة بالتواصل، ويلاحظ المرء هذا التغير للذوات المتكلمة ببساطة ووضوح شديدين في الحوار الفعلي حيث تتناوب تلفظات المحاورين أو المشاركين في الحوار (وهو ما سندعوه الردود rejoinders). وبسبب بساطته ووضوحه فإن الحوار هو شكل كلاسيكي للتواصل الكلامي. وكل رد، بغض النظر عن كم هو قصير أو مفاجيء، له نوعية اكتمال خاصة تعبِّر عن موقف معيَّن للمتكلم يمكن للمرء أن يستجيب إليه أو يمكن أن يتخذ، بالنسبة إليه، موقفًا [وضعًا] استجابيًا. وسنناقش بمزيد من التفصيل هذه النوعية الخاصة من إكمال [تتميم] التلفظ، وهي إحدى مؤشراته الأساسية. لكن في الوقت ذاته فإن الردود كلها مرتبطة ببعضها البعض. ونوعية العلاقات التي توجد بين ردود الحوار– العلاقات بين السؤال والجواب، التأكيد assertion والاعتراض objection، التأكيد assertion والاتفاق agreement، الاقتراح suggestion، والقبول acceptance، الأمر order والتنفيذ execution وما شابه– هي نوعية علاقات مستحيلة بين وحدات اللغة (كلمات وجمل) سواء في نسق اللغة (في القسم الرأسي المتعامد) (the vertical cross section) أو داخل التلفظ (على المستوى الأفقي) (on the horizontal plane).
إن هذه العلاقات الخاصة بين الردود في حوار ما هي فئات فرعية فقط لعلاقات خاصة بين تلفظات كاملة في عملية التواصل الكلامي. وهذه العلاقات ممكنة فقط بين تلفظات ذوات كلامية مختلفة، وهي تفترض مقدمًا مشاركين (آخرين) (بالنسبة للمتكلم) في التواصل الكلامي. إن العلاقات بين تلفظات كاملة لا يمكن أن تكون معالجة نحويًا نظرًا لأن، ونكرر، مثل هذه العلاقات مستحيلة بين وحدات اللغة، وليس فقط في نسق اللغة، بل داخل التلفظ كذلك.
أما في أجناس الكلام الثانوية، خصوصًا الأجناس الخطابية، فإننا نواجه ظواهر تُناقض بوضوح هذا المبدأ. إذ بصورة متكررة إلى حد كبير يثير المتكلم أو الكاتب داخل حدود تلفظه الخاص أسئلة يجيب عنها هو نفسه، ويثير اعتراضات على أفكاره الخاصة ويرد على اعتراضاته هذه وهكذا. بيد أن هذه الظواهر ليست شيئًا آخر سوى استنفاد عرفي للتواصل الكلامي وأجناس الكلام الأولية. وهذا النوع من الاستنفاد هو نموذجي للأجناس الخطابية [البلاغية] rhetorical genres (بالمعنى الواسع، الذي سيضمِّن أنواعًا معينة من النشر العلمي على نطاق عريض)، بيد أن أجناسًا ثانوية أخرى other secondary genres (فنية بحثية) تستخدم أيضًا أشكالًا من هذا القبيل لتقدم أجناس كلام أولية والعلاقات بينها داخل بنية التلفظ (وها هنا تكون محوّرة altered بدرجة تزيد أو تقل بحكم أن الذات المتكلمة the speaking subject لا تتغير تغيرًا حقيقيًا).
إن تلك هي طبيعة الأجناس الثانوية، بيد أن العلاقات بين الأجناس الأولية المعاد إنتاجها the reproduced primary genres لا يمكن لها أن تكون متناولة تناولًا نحويًا في أيٍّ من هذه الظواهر، على الرغم من أنها تظهر داخل تلفظ مفرد a single utterance. فهي تحافظ داخل التلفظ على طبيعتها الخصوصية الخاصة بها، التي هي مختلفة اختلافًا أساسيًا عن طبيعة العلاقات بين الكلمات والجمل (ووحدات لغوية أخرى أي عبارات وما إلى ذلك).
وهنا فإننا، تعويلًا على مادة الحوار والردود التي تؤلِّفه، يجب أن نطرح بشكل مؤقت المشكل الخاص بالجملة بوصفها وحدة اللغة، بوصفها مُميَّزة عن التلفظ بوصفه وحدة التواصل الكلامي.
(إن السؤال عن طبيعة الجملة لهو واحد من أكثر الأسئلة تعقيدًا وصعوبة في اللسانيات. فتصادم الآراء الخاص بهذا السؤال يستمر في مجال دراستنا حتى هذا اليوم. وبالطبع فإن المهمة التي نضعها لأنفسنا هنا لا تتضمن فحص هذا المشكل بكل تركيبه، ولكننا نعتزم ذكر جانب واحد فحسب من جوانبه. بيد أن هذا الجانب يبدو لنا هو الجانب الأساسي للمشكل بأكمله، فمن المهم لنا أن نحدِّد بدقة العلاقة بين الجملة والتلفظ. إذ إن هذا سيمنحنا صورة أوضح لكل من التلفظ والجملة). إلا أن هذا سيأتي فيما بعد. أما هنا فإننا نلاحظ ببساطة أن الحدود الخاصة بالجملة كوحدة للغة لا يتم تحديدها على الإطلاق بتغير الذوات المتكلمة. إن مثل هذا التغير، المؤطِّر للجملة على كلا الجانبين، يحول الجملة إلى تلفظ كلي. فمثل هذه الجملة تتخذ خصائص جديدة وتُدرك إدراكًا مختلفًا تمامًا عن الطريقة التي ستُدرك بها إذا ما كانت مؤطَّرة بجمل أخرى داخل التلفظ المفرد للمتكلم الواحد ذاته. فالجملة هي فكرة تامة نسبيًا، مرتبطة بشكل مباشر بالأفكار الأخرى لمتكلم مفرد داخل تلفظه ككل. والمتكلم يتريث في نهاية جملة كيما ينتقل حينئذٍ إلى فكرته التالية، مُواصِلًا، ومُكمِّلًا ومُعزِّزًا الجملة السابقة. إن سياق الجملة هو كلام الذات المتكلمة الواحدة (المتكلم). فالجملة ذاتها ليست مرتبطة بشكل مباشر أو شخصي بالسياق غير اللفظي للواقع the extraverbal context of reality (موقف situation، وضعية محيطة sitting، تاريخ سابق prehistory) أو بتلفظات متكلمين آخرين؛ وإنما هذا يحدث على نحو غير مباشر فقط من خلال سياقها الكلي المحيط، أي من خلال التلفظ ككل. وإذا ما كانت الجملة غير محاطة بسياق كلام المتكلم نفسه، أي إذا ما كانت تؤلِّف تلفظًا كليًا تامًا (رد في حوار) فإنها حينئذٍ تواجه (هي ذاتها) مباشرة الواقع reality (السياق غير اللفظي للكلام) (the extra verbal context of speech) والتلفظات المختلفة لآخرين. فهي غير متبوعة بارتياثة [بوقفة مؤقتة] a pause سيعيِّنها ويؤوِّلها المتكلم نفسه. (فأي ارتياثة نحوية أو محسوبة أو مؤوَّلة تكون ممكنة فقط داخل كلام متكلم مفرد، أي داخل تلفظ مفرد. فالارتياثات بين التلفظات ليست، بالطبع، نحوية وإنما واقعية real. ويمكن مثل هذه الارتياثات الواقعية -سواء أكانت سيكولوجية أو مدفوعة بظرف ما خارجي- أن تعطِّل أيضًا تلفظًا مفردًا. أمَّا في باقي الأجناس الثانوية الفنية فإن مثل هذه الارتياثات تكون محسوبة من قبل الفنان أو المخرج أو الممثل. بيد أن هذه الارتياثات تختلف اختلافًا أساسيًا عن كل الارتياثات النحوية والأسلوبية -على سبيل المثال، بين الوحدات النظمية syntagmas- داخل التلفظ). إذ يتوقع المرء أن تُتْبَع باستجابة أو بفهم متجاوب من جانب متكلم آخر. إن جملة من هذا النوع، بحكم أنها أصبحت تلفظًا كليًا، تكتسب امتلاءً دلاليًا خاصًا بالقيمة. إذ يمكن للمرء أن يتخذ وضعًا استجابيًا بالنسبة إليها، فيمكنه أن يتفق أو يختلف معها، أن ينجزها، يقيِّمها وما إلى ذلك. بينما لا يمكن لجملة في سياق أن تستولد استجابة، إذ إنها تكتسب هذه القدرة (أو بالأحرى، تتمثلها) فقط في كلية التلفظ الكامل. إن كل هذه الخصائص والخاصيات المميزة الجديدة تمامًا لا تنتمي إلى الجملة التي أصبحت تلفظًا كاملًا، وإنما تنتمي بدقة إلى التلفظ نفسه. فهي تعكس طبيعة التلفظ وليس طبيعة الجملة. إنها تلصق نفسها بالجملة معزِّزة إياها حتى تغدو تلفظًا تامًا. فالجملة بوصفها وحدة لغوية تنقصها كل هذه الخواص، فهي ليست معينة الحدود على أي جانب بتغير الذوات المتكلمة، كما أنه ليس لها اتصال مباشر مع الواقع realty (مع موقف فوق لغوي [غير لغوي]) أو علاقة مباشرة بتلفظات آخرين؛ إذ ليس لها امتلاء دلالي بالقيمة semantic fullness of value، وليس لها قدرة على أن تحدِّد مباشرة الوضع الاستجابي للمتكلم الآخر، أي أنها لا تستطيع أن تستثير استجابة. فالجملة كوحدة لغوية نحوية في طبيعتها. إنها ذات حدود نحوية واكتمال ووحدة نحويين. (وبالنظر إليها داخل كلية التلفظ ومن منظور هذا الكل فإنها تكتسب خواصّ أسلوبية). وحين ترتسم الجملة كتلفظ كامل، فإنها تكون كما لو كانت موضوعة في إطار مصنوع من مادة مختلفة تمامًا. وحين ينسى المرء هذا في تحليله لجملة ما فإنه يشوه طبيعة الجملة (وفي الوقت ذاته طبيعة التلفظ كذلك، بمعالجته نحويًا). وقد ظل عدد كبير جدًا من اللغويين والمدارس اللغوية (في مجال دراسة التركيب) أسرى هذا التشوش، وظل ما يدرسونه بوصفه جملة في جوهره نوعًا ما لهجين من الجملة (وحدة اللغة) والتلفظ (وحدة التواصل الكلامي). فالمرء لا يبادل جملًا على نحو أكثر بأي حال مما يتبادل كلمات (بالمعنى اللغوي الصارم) أو عبارات، وإنما هو يتبادل تلفظات مكوَّنة من وحدات لغوية، كلمات، وعبارات، وجمل. والتلفظ يمكن أن يكون مكوَّنًا من اثنتين من جملة واحدة ومن كلمة واحدة، إن جاز القول، من وحدة كلامية واحدة (بصورة رئيسة رد في حوار). بيد أن هذا لا يحوِّل وحدة لغوية ما إلى وحدة تواصل كلامي. إن غياب نظرية ناضجة بشكل جيد للتلفظ بوصفه وحدة التواصل الكلامي يفضي إلى تمييز غير دقيق بين الجملة والتلفظ وفي معظم الأحيان إلى خلط كامل بينهما.
دعونا نعود إلى حوار الحياة الواقعية. وكما قلنا فإن هذا هو أبسط وأكثر أشكال التواصل الكلامي كلاسيكية. وتغير الذوات المتكلمة (المتكلمين) الذي يحدد حدود التلفظ يكون واضحًا هنا بصورة خاصة. لكن في عوالم أخرى من التواصل الكلامي كذلك، بما في ذلك مجالات التواصل الثقافي المنظَّمة تنظيمًا مركَّبًا (العلمية والفنية)، تبقى طبيعة حدود التلفظ كما هي.
إن الأعمال المبنية بناءً مركَّبًا والمتخصصة من أجناس علمية وفنية متنوعة، على الرغم من كل الطرق التي تختلف فيها عن الردود في الحوار، هي بطبيعتها من نفس نوع وحدات التواصل الكلامي. وهي، أيضًا، مرسومة الحدود بوضوح مع تغير الذوات المتكلمة، وهذه الحدود، بينما تحافظ على وضوحها الخارجي، تكتسب جانبًا داخليًا خاصًا، لأن الذات المتكلمة، وهو في هذه الحالة مؤلف العمل يظهر فرديته الخاصة في أسلوبه، رؤيته للعالم، وفي كل جوانب تصميمه لعمله. إن هذه البصمة للفردية الواسمة للعمل تخلق أيضًا حدودًا داخلية خاصة تميز هذا العمل عن أعمال أخرى متصلة به في العمليات الإجمالية للتواصل الكلامي في ذلك العالم الثقافي الخاص: تميِّزه عن أعمال السابقين ممن يستند عليهم المؤلف، عن أعمال أخرى من نفس المدرسة، عن أعمال المدارس المناهضة التي يتنازع معها المؤلف، وهكذا إن العمل، مثله مثل الرد في حوار، موجَّه نحو استجابة الآخر (آخرين)، نحو فهمه المتجاوب النشط، الذي يمكن أن يتخذ أشكالًا متنوعة: تأثيرًا تعليميًا على القراء، إقناعهم، استجابات نقدية، تأثيرًا على الأتباع والخلفاء، وما سوى ذلك. إذ يمكنه أن يحدِّد مواقف الآخرين الاستجابية في ظل الشروط المركَّبة للتواصل الكلامي في عالم ثقافي معين. فالعمل هو حلقة في سلسلة التواصل الكلامي، وهو، مثل الرد في حوارٍ ما؛ مرتبط بتلفظات أعمال أخرى: بكل من تلك التي يستجيب هو لها وتلك التي تستجيب له. وهو في ذات الوقت، مثل الرد في حوار ما، منفصل عنها بالحدود القاطعة التي يخلقها تغير الذوات المتكلمة.
وهكذا، فإن تغير الذوات المتكلمة، بتأطيره للتلفظ وبخلقه قوامًا مستقرًا محدَّدًا تحديدًا فاصلًا عن التلفظات الأخرى، المرتبطة به، يُشكِّل السمة التكوينية الأولى للتلفظ كوحدة للتواصل الكلامي سمة مميزة له عن وحدات اللغة.
الهوامش
* هذا النص يمثل القسم الأول من مقال باختين الطويل بعنوان The Problem of Speech Genres، وهو ضمن كتاب Speech Genres and Other Late Essays.