جاك لانغ- وزير الثقافة الفرنسي الأسبق ورئيس معهد العالم العربي بباريس
ترجمة:ل.ن
تأثرت كثيرا برحيل صديقي القديم ورفيق الدرب أندريه ميكيل. لقد فقدنا برحيله أحد رموز الأدب والثقافة العربية. وسفيرا حقيقيا للثقافة والحضارة العربية في الغرب. وهو الذي أخذ على عاتقه أن يكون صلة وصلٍ بين الثّقافة العربيّة والفرنسيّة.
إلى جانب دراسته الآداب الفرنسية راح أندريه ميكيل يتعرف عن قرب على هذا الشرق الذي أحبه، ليفيدنا بكل هذه الدراسات الرصينة والترجمات المتميزة وكل الأعمال التي قدمها لنا. وبذلك نوسِّع معارفنا بجوانب هذا الشرق المضيئة. ولابد أن ذلك الشغف الكبير الذي سكن أندريه بتاريخ العرب والمسلمين كان مدفوعا بالنزعة الإنسانية وحب استكشاف الآخر وملامسة هويته. بعيدا عن النظرة الأحادية الجانب الضيقة.
ومازلت أحتفظ في مذكراتي بعلاقة مشرقة بيننا جمعت بين الصداقة والتعاون الثقافي حيث شدني إليه حبه الشديد للمعرفة وللثقافة العربيتين. أذكر أنه حينما كنت وزيرا للثقافة في حكومة (الرئيس الأسبق) فرانسوا ميتيران، طلبتُ من أندريه ميكيل أن يترأس مؤتمرا دوليا هاما حول الحوار المتوسطي، نظمناه في مارسيليا. وإذا به يفاجئ الجميع خلال افتتاحه لأعمال المؤتمر بإلقائه علينا قصيدة باللغة العربية كان يحفظها عن ظهر قلب ليترجم لنا بعدها فحواها المُعبِّرة عن صميم الموضوع المطروح. كانت هذه جرأة من رجل مثله يتسم بنظرة ثاقبة وحكمة بالغة، في حين كانت مفاجأة سارة لي ولكل الحضور. وهذه الحركة بالذات إن كانت تعبر عن شيءٍ فهي تعبر عن علاقته الوطيدة مع اللغة العربية وشخصيته الشغوفة الفريدة المنفتحة على العالم. كان هو نفسه يعتبر بمثابة نقطة مضيئة بين حضارتين كبيرتين، الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية. ممثلا بذلك التزاوج المتكامل والتناغم بين ضفتي المتوسط.
تعامل أندريه بكل جوارحه مع العالم العربي واللغة العربية. ولن أبالغ إذا قلت إن هذا المثقف الفرنسي الأوروبي الكبير، بقيَ مواطنا وفيا للغة العربية التي أحبها، فأفنى حياته وهو يدافع عنها كما يدافع الابن البار عن وطنه الحبيب، وينشد حبه الوثيق لها، ويبين بدراساته الرصينة وترجماته المتميزة وقع التراث الثقافي لهذه اللغة في التراث الإنساني.
قد يطول الحديث هنا عن إرث ميكيل الفكري والأدبي وإنجازاته التي قدمها لنا وهذا رغم المسؤوليات العديدة التي تقلدها في أكبر المؤسسات الفرنسية الحكومية. فقد أنجز بجدارة المهام الثقافية المهمة التي أوكلها إليه الرئيس الأسبق فرانسوا ميتيران، حين كنت وزيرا للثقافة. فكان له الفضل في تحديث المكتبة الوطنية بباريس والتحويل الرقمي وصيانة المخطوطات إثر استلامه إدارتَها في 1984. كما كان له الفضل في تحديث المكتبات الجامعية عام 1988 التي كانت شبه مهملة حين كلفه وزير التعليم آنذاك ليونيل جوسبان. كما كان له الفضل في تطوير عديد المكتبات خلال هذه الفترة الحافلة بالعطاء لهذا الرجل الفذ وجدانيا وفكريا.
تميز أندريه عن معشر كبار المثقفين الفرنسيين والمستعربين بعشقه الجامح للغة العربية.. هذه اللغة التي تسربت في أعماقه لتنسجم بروحه إلى درجة أنه راح يعبر بها عن أحاسيسه الفياضة شعرًا ليترجمها بعدها إلى اللغة الفرنسية. وهذه ترجمة حقيقية للمرتبة العليا التي احتلتها اللغة العربية في قلبه ووجدانه.
أتكلم هنا كوني صديقًا قديمًا لأندري ميكيل متأثرا بالغ التأثُّر برحيله ذلك الرجل شديد اللطف والطيبة والتواضع الذي لم يكن يجري وراء الأضواء رغم غزارة إنجازه الفكري والإنساني. لقد طلبت منه قبل شهور من وفاته أن ننظم له تكريما بمعهد العالم العربي لنحتفي بمسيرته الحافلة بالعطاء وأعماله، ولكنه رفض. لم يكن أندريه ميكيل بالذي يبحث عن الأضواء وهو الذي أنار درب المعرفة وحب الآخر أمامنا. لهذا بودي بهذه المناسبة الحزينة أن أحيي الإعلام العربي الذي خصص لأندريه ميكيل العديد من المقالات والمنابر التكريمية. وأخص بالشكر هنا مجلة العُمانية التي بادرت بإنجاز ملف كامل حول ميكيل، ذلك الصديق الوفي للثقافة العربية وعاشق لغتها.