شاكر حسن: ما هو الرسم، وأين حدوده؟
عندما أعلن شاكر حسن في صبيحة يوم شتائي بارد من أيام عمان عام 1993 بان (كشك العبدلي) هو عمل فني رائع. أسرعنا لمشاهدته وسط نظرات استغراب من جمهور مزدحم في تلك الساحة المخصصة لباصات النقل العام في وسط عمان، فما هو كشك العبدلي: انه مكعب من الالومنيوم والبلاستيك لا يتسع لأكثر من شخص واحد يجلس داخله لقطع التذاكر وقد أهمل هذا الكشك لسبب ما، فأصبح هدفا للصق الاعلانات وبعض الكتابات العشوائية (كارفيتي) أحرقته أشعة الشمس فبدت بعض جوانبه البلاستيكية معتمة بلونها البني المحروق مختلطا بالألوان الطينية الأخوى والخطوط المحفورة بعفوية. ثم تمادى شاكر حسن في حماسة لدرجة انه ألقى في بغداد محاضرة أسماها (كشك العبدلي) وحاول اقناع المسؤولين عن دائرة الفنون في عمان لنقله الى باحة هذا المركز باعتباره عملا فنيا متكاملا. ان حماس شاكر حسن لهذا (النموذج) يعبر بشكل من الأشكال، عن نظرته للفن وربما لخلاصة النتائج التي توصل اليها في فهم الفن ووظائفه. فالكشك بما الى اليه من ظاهر حال، يشبه الى حد كبير ما ينتجه الفنان الآن من رسومات على الورق. لم يعد شاكر حسن يرسم لوحة بمعنى الرسم المتعارف عليه بل إنه يكتشف وحسب. والعناصر الفنية المؤلفة للوحته تتكون من بقايا ما ينتج من قصاصات ورق وآثار ألوان وأشكال يشتغل عليها بطرق مختلفة. يوم احتفلنا بعيد ميلاده السبعين في دارة الفنون (أذكر أني علقت على طريقته ووسائله بالرسم) حين قلت: كلنا يشترى المواد الفنية من مخازن مخصصة لبيع هذه المواد الا شاكر فانه يشتريها من الصيدليات ومخازن البقالة وبائعي القرطاسية، وليس هذا الا نوعا من ممارسة الحرية في انتاج العمل الفني. وانها حتما حالة وعي عال بالخروج عن التقليدية في الرسم.
في أعماله الاخيرة المعروضة في المركز الثقافي الفرنسي / عمان وهي خلاصة تجربة جديدة بدأت منذ أربه سنوات تقريبا يقدم شاكر حسن لوحة ذات وجهين، فهو يبدأ بالوجه الأول فيلصق ويلون ويخربش على ورق شفاف غالبا، وبعد أن ينتهي منه يكمل على الثاني، فيستغل ما تبقي من أثار الوجه الاول لخلق لوحة جديدة، وعندما يضعها بين زجاجتين يتداخل كلا الوجهين لينتج عنها لوحة متكاملة تحمل كل تلك العناصر الجمالية للكتلة والفراغ واللون والضوء وبذلك يمكن مشاهدة اللوحة من جانبين.
ان استغلال الفنان للضوء الطبيعي، أو الضوء الاصطناعي على حد سواء، يمنح اللوحة سحرا خاصا. لان هذا الضوء ينفذ اليها من مصادر واتجاهات مختلفة فيزيدها توهجا أو غموضا تبعا للوقت وزاوية النظر الى اللوحة، كما أن الضوء يساعد أيضا على ابراز بعض الألوان والمساحات بينما يغمر مساحة أخرى بالعتمة لينتج عن كل هذا احساس بالتسامي الناشيء عن مسحة الغموض التي تستدعي جملة تداعيات بصرية -بعضها وليد عمل عفوي والاخر عمدي.
إن تجربة شاكر حسن في الرسم (خمسون سنة أو أكثر) تجربة غنية وطليعية في الفن العربي المعاصر، فهو منذ البداية (أوائل الاربعينات) كان مختلفا عن أقرانه من الرسامين العراقيين، كان الأكثر حداثة في لوحاته وكتاباته الفنية، والأكثر معاصرة في أفكارا. وقد مضى على هذا النهج، سابقا كل الأجيال اللاحقة. والمتابع لأعماله الفنية لا يستطيع حصر شاكر حسن في خانة جيل معين كما أرد النقاد على تصنيف الفنانين تبعا لسنوات عطائهم، فشاكر حسن لا يعرف ان كان من جيل الخمسينات أو الستينات أو السبعينات. وأنا أعتقد بأنه رسام ينتمي لكل الأجيال بل يتجاوزهم في كثير من الأحيان. وانه بحيويته وتجدده وحريته في الرسم قد سبق الجميع، وخير دليل على ذلك ما نشاهده في هذا المعرض. فاننا نشاهد هنا أعمالا فنية خالصة، تحمل جمالياتها الخاصة وتقنياتها العالية لكنها تقنيات مخفية ومموهة وراء عناصرها المختزلة والمجردة الى حد أنك لا تفرق كثيرا بينها وبين أية لقية عتيقة أو أثرية شاهدتها في يوم من الايام في كتاب قديم أو مخطوطة متآكلة. وما هي إلا لوحة معاصرة جدا وحديثة جدا بكل تفاصيلها.
شاكر حسن بأعماله هذا يضعنا بين وهم الرسم وحقيقته. انه يمزج الأزمنة والأفكار والأشكال والألوان بمهارة الساحر ويقدمها لنا جاهزة، تمنحنا متعة بصرية وذهنية مشفوعة بسؤال كبير وصعب جدا. ما هو الرسم واين حدوده ؟!
رافع الناصري ( فنان من العراق)