معماري عراقي مقيم في ستوكهولم
نقترب هذا العام من قرن على عمر الدكتور محمد مكية ، وهو يعيش مغترب الروح والوطن. حيث ولد في بغداد عام 1914 وشهد أفول أربعة قرون عجاف من الهيمنة العثمانية، وتلمس نشوء العراق الجديد على يد الإنجليز عام 1921 ، فعاش وعايش انتقال الحياة من حال الى حال، بما جعله يردد في مجالسه بأنه لم يعش قرنا بل عشرة قرون، بحسب كم وكيف المتغيرات التي عايشها منذ بغداد القرون الوسطى حتى أزمنة الاتصال والانترنت.
فبعد رحلة طويلة من الحل والترحال ، عاد مكية أدراجه الى لندن التي كانت قد استقبلته أول مرة العام 1935، حينما كان مبعوثا للدراسة في أول بعثة موسعة للدولة العراقية لبريطانيا.ثم عودته منها عام 1946، حيث عمل في دوائر الدولة العراقية، ثم أسس كلية العمارة في جامعة بغداد عام 1959، وشارك في إرساء خطاب عمراني ومعماري محلي واقعي، أحبط تباعا ، حينما تقاذفته صراعات الانقلابات وهمشته مناخات السياسة، فاضطر مكرهاً الى ترك العمل الأكاديمي بسبب التسييس لهذا المجال الحيوي عام 1971 ، ضمن نخبه كبيرة من الفاعلين المؤثرين في الثقافة العراقية. فهاجر الى الخليج وبيروت ثم لندن.
وأهم محطات مكية وتجاربه الخارجية ،كانت مدينة مسقط التي عمل فيها مستشارا لجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم في بداية عقد السبعينات، بعدما كانت المفاضلة محصورة بينة وبين المصري المرحوم حسن فتحي(1899-1989)، ويبدو أن لذلك الأمر دلالاته في المنحى التراثي الذي خطته السلطنة منذ بدايات مشروعها المرسوم بعناية وبمنظور واقعي وخطى راسخة، كون كلا المرشحين نحيا نحو المحافظة وآثرا التراث على الحداثة (بسماتها الغربية). وهكذا شارك في أسس تلك النهضة التي أثمرت تباعا،وجعلت من المشروع العمراني والمعماري العماني دالة للكياسة والحكمة.أما الحداثة المنفلته التي توجست السلطنة منها ، هي ما دعيت (النموذج السنغافوري) الخلاسي، الذي تجسد في مدائن الخليج عموما ،ولاسيما في نموذج مدينة دبي. ورغم تنائي السنين وسطوة الشيخوخة والعزلة، لكن الدكتور مكية مازال متوقد الذاكرة والحس النقدي، ويحتفظ بالكثير من الذكريات والأفكار والصور عن مسقط والسلطنة إبان بواكير نهضتها.
تسنى لمَكّيه خلال مشاركته في مشروع تنظيم مدينة مسقط في بواكيره، أن يطبق فكرة البناء الذاتي التي تقوم على أكتاف أهل المدينة ممن يجدون مصلحتهم تتداخل مع مصلحة مدينتهم. ومن هنا جاءت فكرة نشر كتاب توعوي تم توزيعه على جميع بيوت المنطقة المراد إعادة تأهيلها. وذلك ( ليعرف كل منهم حدوده وما ينبغي أن يعمله في داره وما قيمة الالتزام لهذا البرنامج الذاتي الذي تم ضبط آلياته بمجموعة من التشريعات التي ألزمت التقيد بها).. وهذا يفيد في الفصل بين العام والخاص ورسم الحدود بينهما من خلال آلية تشريعية. وقد تكون لتلك التشريعات نتائج باهرة عندما توفر بالنتيجة أراضي يفضل في عدم الإستثمار بها، ووجد ذلك في بعض مدن الخليج والجزيرة التي يمكن استثمارها بإرساء مشاريع البنية التحتية كالمساحات الخضراء والمتاحف والمراكز الثقافية والمكتبات والمشاريع النفعية التي تصب بالنتيجة في الصالح العام بعد ما يتم الحث على ذلك بإلغاء الضريبة عليها وإعطاء بعض الامتيازات لأصحابها. ويلعب الإعلام دوراً جوهرياً في حيثيات ذلك المسعى. ولمَكّيه تجربة غنية في مسقط حينما شهد التحضير لثلاثة تجمعات سكنية شعبية التقى خلالها بأهالي المدينة وتم خلالها حث الجميع وتشجيعهم على التفكير بحاضر ومستقبل مدينتهم التي تهمهم وتهم أجيالهم الصاعدة . وتلك الظاهرة تعكس الحس الحضاري حينما يتداخل فيها الحس الجماعي وتسخر معطيات الدراسات النفسية التي تجعل الجميع يفكر في الجميع، وتتداخل مصلحة الفرد مع الجماعة .
وبالرغم من النجاح العام وأحيانا الشكلي لبعض المشاريع العمرانية والمعمارية، فإن مَكّيه يشكو دائما من عدم تحقيقه لكل ما تمناه (ربما بسبب طبيعته الحدية أو موقف بعض الإداريين)، ففي مسقط مثلا يقول بأنه استطاع ان ينقذ بعض الابنية التي كانت آيلة للزوال في المدينة. ويصرح: (إن المعماري لم يكن حراً فيما يعمله بصورة كاملة، ولم تكن لديه الحرية بالقرار، وهكذا لم يكن لدي إمكانية تحقيق مشروع كامل). وعادة ما يكرر مكية بأن المعماري يجب أن يكون متواشجا مع مجتمعه والوعي بمتطلبات الإنسان والمجتمع إحدى متممات الدراسة الأكاديمية والتقنية، وهذه الآصرة تشكل جوهر تسيير التصميم، وتتحكم في واقعيته بتكريس القيم. وهذا يعني أن انعزال المعمار في «صومعة» المكتب هي مثلبة عليه، ولنأخذ العبرة من (أساطين-أسطوات) حرفة البناء في التراث وكياستهم الاجتماعية. وغير ذلك لابّد للمعمار من حجة علمية مقنعة ولسان حق عند الحوارات للدفاع عن سلاسة الفكرة و سلامة التنفيذ، ناهيكم عن رقة في التعامل ورفض الأنانية والنرجسية والمزاجية والفضاضة والغلاضة والطمع والتعسف.ولابد من تطوير الحس النقدي لدى المعمار من أجل ان يكون شاهد حق على الزوغان والتزوير الذي يقترفه الأفراد والجماعات في العملية المعمارية.
ولا بد للمعماري ان يكون مطلعاً ومرتبطاً بالبيئة الطبيعية ليؤكد تجذره في المكان، وهو ما يكرس تماهيه في تصميماته مع معطياتها، والذي يتداعى الى نتائج حضارية مقصودة بكل مساعي البشر للارتقاء بالحياة، وهذا هو سر بناء الحضارات المحلية وما التفاضل بينها إلا من خلال قربها من التفهم والمواءمة مع البيئة الطبيعية ، التي تعد المسرح الواقعي لمحك العَمارة، فبقاء المسرح ثابتاً مع تغير العروض والروايات المعروضة ، يؤكد على رصانة وجوده وحقيقتها. فالحضارة ليست مدعاة للخيلاء والتباهي، وإنما فلسفة تتعلق بالقيم الإنسانية ومقاصد لتسهيل حياة الإنسان وإضفاء السعادة عليها، وهي ليست كيانا ثابتا وسرمديا، حتى لو بقي المسرح الطبيعي نفسه، لكن خطها التطوري وقابليتها في المواءمة مع المستجدات بشكل عضوي يضمن لها البقاء لحقب أطول.وهكذا فقصة الحضارة هي قصة الإنسان ذاته، بفطنته وموهبته وإنتمائه الكوني وتفاعله ومساهمته المتميزة في (المعمورة) كما أوردها الفارابي.وبسبب تقارب أنساق التواصل وإنتقال المعلومة السريع وسلاسة الإقتباس والإقتناء، جعل من مدنيتنا الحديثة تقتضي تفهم لكل تلك المعطيات من أجل إنشاء مدينة حديثة بمميزات حركية (دينامية) متماهية مع الإنسان والمكان.
إن القيم الزمانية موجودة فينا ونتحسسها بعواطفنا وربما نرفضها تارة او نتقبلها تارةً أخرى، وإن تهذيب هذه العواطف هو سر كيان الحضارة المستمرة المنبعثة من وحي الزمان والمكان. إن من الخطأ الاقتصار على رؤية الدنيا من خلال ما نراه في الحداثة، بما يلغي «بصفاقة» الخوض في غمار التأريخ والتراث، الذي يعده «المتفذلكون» مضيعة للوقت والجهد، وهذا قصر نظر صريح. إن دراسة التراث ليس الإطلاع على قصص وحكايا (كان ياماكان)، إنما تنمية وتعزيز وتأكيد لبنى الإنسان وطاقته، ناهيكم عن إظهاره مدى مقاصده للخير. وبذلك فان التراث يمثل سمات الأخلاق في كنف التأريخ. وإن التعلم والتثاقف وسعة الأفق حرية يكتسبها الإنسان وحري التشبث بها، وهي تعاكس الحبس الذي يفرضه الجهل عليه. وهكذا فإن التحضير لحرية الإنسان تقتضي تثقيفه وتعليمه وتوسيع مداركه وإطلاعه على الثقافات وحركة الفكر في العالم،كما قال الإمام علي (كرم الله وجهه): (المرء عدو مايجهل).
لا بد ان تكون هواجس المعماري متصلة بالحدث العالمي وبمجريات الحياة في بيئته التي تضم في جنباتها السمات الروحية والتراكمات التأريخية. فتداخل التراث والحداثة لايمكن ان يبنى من فراغ، أو على أسس مقتبسة من ثقافات أخرى مختلفة في بيئاتها طبيعياً وبشرياً، وسبق لها أن جربت حتى وصلت الى الحالة المثلى. ولايمكن الاستغراب بأن النتائج من ذلك المسعى ستكون سطحية وهامشية، دون ريب. إن أي تغيير في الشكل للمدينة الإسلامية التي هي آخر منتج لعالمنا الوارث لثراء الشرق القديم ، لايمكن ان يكون دون المساس بالمضمون المديني بجانبيه الروحي والمادي، وهكذا فان صنع الاشكال لغرض الإبهار وإظهار الشكلانية ، سوف يمكث بعيدا عن حقيقة المبتغى للارتقاء بالحس المديني.
صحيح ان المدينة جلبت الكثير من الخيرات، ولكن الثمن كان باهظاً جداً في بعض الاحيان، وان المكاسب كانت دون الخسارة. فالمدينة لم تؤد الى نهضة حضارية على النطاق المعماري، ولم تتعد المسألة أكثر من كونها غزواً فكرياً. الذنب «طبعاً» ذنبنا، وليس ذنب المستشارين العالميين الذين يبيعون لنا البضاعة التي يجيدون صنعها، إنك لا تستطيع أن تطلب من مستشار عالمي أن يعطيك أحسن ما لديه، و لا تستطيع أن تطلب من معماري تخرج من معهد معماري أجنبي ، الا ان يعطيك الفكرة التي تعلمها في المعهد المذكور. للاسف، لم تتح الفرصة أمام الاختصاصي المحلي أن ينشأ على معطيات بيئته ويهضم عناصرها في ذات الوقت الذي يعرف كيف يستفيد من التكنولوجيا العالمية المعاصرة التي في متناول يده. لو حدث ذلك لكان لنا إنتاجنا المتسم بخصائص ومميزات مستوحاة من البيئة.
إن التخلف الحقيقي هو ذلك الذي نشاهده في العَمارة العربية المعاصرة بصورة عامة، ولاسيما الأبنية «الشعبوية»، وخاصة في منطقة الخليج بسبب وجود جموع العمالة الأجنبية الرخيصة والوفيرة. إن الخليج باعتباره يشكل أطراف الجزيرة العربية والبيئة الساحلية، قد نشأت فيه كيانات وقرى لها طابعها وهويتها، برغم بساطتها،لكنها نابعة من تقاليد وتراث قديم منسجم مع الطبيعة وحس المناخ والاوضاع الإجتماعية بصورة فذة. وهذا هو «كما يعتقد مَكّيه»، الأساس للمقومات الاصيلة لهذا التعاطف بالنسبة للأبنية وإستعمال موادها وارتباطها العقائدي «ان صح التعبير» ، ذلك لأن التراث الاسلامي قدم وجهة نظر عميقة، ولم يفرض شكلاً معيناً. فالتراث الاسلامي حركي (ديناميكي) وتواؤمي، لذا نرى إختلاف الابنية بإختلاف مواقعها: في جدة، وصنعاء، ونجد، والبحرين، وفي دبي.. حيث نرى اختلافات، ولكن ضمن ايقاعية موحدة. صحيح انها إختلافات مهمة، ولكنها لا تخرج على وحدتها المتكاملة(1).
يقول مكية: «إن العمران هو قبل كل شيء انتماء الى المكان. والواقع الجغرافي هو المسرح الطبيعي للبيئة، وهو أهم من التاريخ، فالتاريخ تصنعه الجغرافيا والمعمار يحدد تضاريس بيئته. لقد أخترت لدراستي حضارة البحر المتوسط لأننا نقع جنوبه في خط الاستواء الأفقي من أطلس العالم، خلفيتنا تحدها الصحراء والبوادي، في حين تحدنا الجبال في الشمال والشرق. وهذا النوع من التضاد والتفاعل أثرا على نوع السلطة في الحضارات القديمة منذ السومريين والبابليين والآشوريين، فهناك مركزية لنوع هذا النظام وعقيدته، بعدما اتخذت أبعاداً جديدة تختلف عن استخدام الخطوط والتزيين عند السومريين، وإن كانت قريبة منها (2).
يذهب مَكّيه الى أن العمران يعني التمكن من الموازنة والملاقحة الفذة بين أربعة معطيات وحاجات هي البيئية والروحية والاجتماعية والاقتصادية، ولايمكن التضحية بواحدة من أجل أخرى ، التخطيط العمراني هو حاجة إنسانية وهدف سعت له الأديان والفلسفات الأخلاقية، فهو لايخص قوما بعينهم بقدر كونه نتاجا إنسانيا عاما وعضويا. وبالرغم من شموليته فان لذلك حدود تتعلق بالذاتية الثقافية، وإن ما يوائم تجمع بشريا وبيئيا بعينه لايناسب أخرى، فهو جمع لتحليلات موضعية إجتماعية وإقتصادية وبيئية وسياسية. لذا تستوجب الواقعية في الطرق وتحاشى التطور المصطنع (التورم) للمدن ، ورسم خطى واقعية وعضوية متراتبة، تتعلق بطرائق العيش والرزق المستقطب للبشر. ويتجسد ذلك في العمليات الاستملاكية بغرض الاحتفاظ بمنطقة معينة من المدينة، وعدم اختراق التطور الحداثي لجنباتها ،وهذا يدعو الى خلق محفزات وحالة جذب تجعل من الإنسان يستغني عن أماكن بعينها للانتقال إلى أخرى ، وتضحيته هذه لاتكون إلا بمقابل وامتياز أن يقوم المخطط العمراني باكتشافها وتكريسها. وهذا يتطلب تنظيما جماعيا اقتصاديا وإداريا يتناسب مع اهدافها، ومن ضمنها المؤسسات المالية والمصارف لدرء الإستغلال الاحتكاري الذي يرد طبيعياً من أنانية البعض، والذي يمكن ان يقوض الاهداف المرتجاة.وها نحن اليوم غارقون في هذا المستنقع، حينما غابت الآليات العلمية الضابطة، والناس المؤهلين أخلاقيا ووظيفياً.
لقد دعا مَكّيه الى ما اسماه (التوافق الحضري) الذي لايعكس عاطفة للمكان التراثي فحسب، بل يأتي من خلال التطوير العقلاني الذي يرتق الفجوة التي اوجدتها التطورات الأخيرة في وسائل الإنتاج، والتي غيرت سجية المدن المسترسلة منذ الازمنة التأريخية.وهذا التوافق لايؤمن بطراز بعينه ، بل يستجمع الخزين التراثي ويصبه في قالب متماه مع عصره. وهذا يقودنا الى ضرورة المحافظة على النسيج العمراني التراثي الذي يختلف عن الحفاظ على الآثار، بحيث يبقى نبض الحياة يدب في جنباتها، ولا نصنع منها متحفاً جامداً محنطا ً يخدم السياحة، بل جعلها جزءا من نسيج المدينة الأوسع.
ويطالب مَكّيه دائما بوضع مقاييس وخطط تنظيمية للحفاظ على هوية المدينة دون تعنيف أو تشويه لفطرتها الأولى، وذلك من خلال آليات قانونية. ونادى مَكّيه بعدم بناء ناطحات سحاب في وسط مدينة جدة السعودية مثلا، لتشويه جماليات بيوتها القديمة، وفي مدينة مسقط حاول مَكّيه جاهداً أن لاتشيد مبان شاهقة تشوه طبيعتها الجبلية الوادعة، وان لا تتعدى المباني المشادة فيها عن الثلاثة طوابق. بيد أن تلك الإقتراحات كان تأثيرها محدودا وربما آنيا، حيث يلعب المعماري المنظم والإداري دورا جوهريا في اتخاذ القرار بحسب قناعات ، ونجد الكثير من المواقف السلبية التي تقترف تنأى عن الحس التراثي والثقافي، حينما يتصرف المعمار كمأجور أو ربما مرتزق لصاحب العقار او الأرض، فيصمم مباني ضخمة وشاهقة على رقعة أرض صغيرة مثلا، وذلك تبعاً لاملاء وقرار مالكها ، بما يمكن ان يعود تشويها للبنية العمرانية، التي تبقى أمانة بعنق المعماري في النصح والتبرير والتوجيه. ونجد التشويه قد شاع وأصبح قاعدة حينما نجد مبنى تأريخياً وادعاً، وبجانبه عمارة عالية ملتصقه لاغية لمقياسه المألوف ومشرفة عليه، بل خانقة لجمالياته، كما في مسجد جديد يشاد على ربوة في الخوير، حيث سمح ببناء عمارات عالية تمنع عنه الرؤية وتقلل من قيمة كونه شاخصا حضريا land mark وهنا يطفح الى السطح الذوق غير الجمالي، ويشيع الإبتذال، وهو ما ينعكس تباعا على سلوك الناس كمنتج منهم يعود وبالاً عليهم.
نضرب مثلا: تجربة شهدنا عليها ،وطبقت في ضواحي شمال لندن الكبرى، في (لوتن Luton) ، حيث اختيرت أماكن خربة يؤمها الكحوليون والمدمنون ومتعاطو المخدرات والدعارة في ثنايا المدينة، وتم تنفيذ خطة لتهيئتها عمرانيا بحيث يضفى عليها تنظيم ونظافة وجمالية من خلال مفردات العَمارة الحدائقية (landscape) وتشجر بعناية وتشذب وتزود بالنافورات والأرائك والأثاث المديني والإضاءة، بما يغير مجمل معالمها. وبعد الإفتتاح عاد إليها روادها الأوائل من السكيرين، فوجدوا أن بؤرتهم ومكان عبثهم ، قد أمسى حضارياً ونظيفاً، ولم يعد يناسب صعلكتهم وعربدتهم ويحوي أزبالهم ، وهكذا خف تواردهم إلى أن تواروا عن الأنظار تدريجياً، ليجدوا لهم مكانا متسخا آخر يؤمهم. وكأنهم يطبقوا الهاجس الفطري بأن (الشيطان يسكن في الخرائب)، كما كنا نسمعها ونحن صغارا، وإن الفراغ مدعاة سكن الشيطان، بما جعلهم يترعوا البيبان زخرفا، خشية من أن يكون الفراغ في ملمسها مدعاة لسكن الشيطان في عتبة وموئل الزرق وباب الرحمة وحسن الطالع. وهكذا يمكن تطبيق هذا المبدأ الوارد من كنف التراث الشعبي في حداثة المدن، ويبدو إن الحضارة تفتح رأس الإنسان على تلقف الخير مثلما الغابة التي تجتذب الغيوم في عنان السماء، على عكس التخلف والخراب والمكان المجدب الذي ينفره الغيم الجالب للغيث، ويجور ثم يبور.
يمكن أن يكون لون مسقط الأبيض الذي نشاهده من ربوة، توحي لنا وكأنها عروس قابعة ترصد البحر المفتوح على الأفق. وهذا أهم ما تمناه مكية، حينما وجد تلك الممارسة البيئية التي تهاجنت مع الجمال في مدائن البحر المتوسط الذي اختص به. فالأبيض عاكس للحرارة وموح بالنقاء ومنسجم مع زرقة البحر من جهة أو داكن الجبال التي تشكل خلفيته وهندامه.وهكذا أمست تلك سمة وتفردا لمسقط عن مدائن الخليج التي تمادت بزوارقها، وأمست تعاني اليوم من تلوث بصري حاد، يتعلق بالانسجام والتماه اللوني مع البيئة السماوية والجغرافية.
يتذكر مكية النقاشات التي دارت بصدد مشروع توسعة مدينة مسقط خلال عقد السبعينات،حينما احتدم الخلاف فيه ،حيث كان في نية بعض المسؤولين العمانيين أن يخططوا لطريق محوري يمكن تسميته «وريدي arterial) يصل مدينة مسقط بشمالها حتى الإمارات العربية ،وذلك بعرض 60 مترا على كنف شاطئ البحر الذي ينحصر ويتسع بينه وبين سلسلة الجبل المتاخمة. وقد كان اعتراض مكية بان هذا الطريق سيكون محل انتحار مثالي لمن يروم الوصول الى الشاطئ وسوف يقتل الرؤية والامتداد البصري والتواصل الطبيعي المتناغم بين الجبل والبحر الذي يمكن أن يكون مصدر خصوصية جمالية ترفد منظور الجذب السياحي للمنطقة .وربما حدث الأمر عينه عندما أنشئ كورنيش القرم، الذي قطع أوصال الشاطئ مع الغابة الطبيعية المتاخمة.
لقد اقترح مكية حينها أن يقسم الطريق الى شعبتين إحداهما ترد الى المدينة والأخرى تخرج منها بحيث تكون إحداهما متاخمة للشاطئ والأخرى ظهيرا لسلسلة الجبل المحاذي لها بحيث يستغنى عن العرض المفرط للشارع ويتم بذلك تكريس حالة من الجمالية بعدم قتل العلاقة بين الشاطئ والجبل وكذلك تنويع المناظر الطبيعية لرواد الطريق من خلال اختراقهم لشارعين يكتنفان بيئتين جماليتين مختلفتين. وقد رام مكية ربط جامع السلطان قابوس الذي كان من ضمن تخطيط المدينة التوسعي بشاطئ البحر وذلك بتسقيف جزئي لبعض الأجزاء وإنشاء رصيف بحري مسطح (Deck) ،وتوازياً مع ذلك يخفض مستوى الشارع ويستعمل حل «المستوى النصفي» الذي يجعل الإتصال يخترق بساتين النخيل التي تطرز هذا الفراغ من الأرض، ويهب المكان سحر وجمالية. ويتم إستغلال المساحات المحصورة بين اتجاهات الشوارع الذاهبة والآيبة لتكون مساحات خضراء موشحه بالنخيل تستقبل زائر المدينة بالخضرة النظرة من على بعد 20 كلم قبل الدخول الى المدينة الذي يلجها تباعا الى منطقة الشرايين التي تتوزع موصلة الى المدينة .ويمكن تسمية الخطوط تلك بالحمراء والخضراء وجعل العلاقة بينهما وتعاملها بشكل عضوي بحت(Organic) .
يذهب مكية إلى أن النسيج الحضري للمدن القديمة بديع ويمكن تطويره بإيجاد أماكن فارغة تهيئ الى ساحات في هذا النسيج لغرض التطوير وإعطائها روحية جديدة. أما البناية التراثية فيمكن إضفاء جمالية عليها من خلال تسقيفها وإرفاق بوابة لها، وخلق رؤية جمالية الغرض منها تطوير الحس البصري، دون الإضرار بعين الناظر وتجسيد التناشز. فإعطاء قيمة الفضاءات المعمارية والبصرية والتأثيرات المناخية وتوفير لعبة الضوء والظلال ، تلعب كلها الدور المباشر في إظهار تلك الجمالية وتكريسها، إيماناً بأن الحس الجمالي لدى الإنسان راسخ خام في منجم خوالجة، يتطور مع تطوره القابل للتهذيب والتشذيب.
مقت مكية الشوارع العريضة (السريعة)، ويبدو أنه حمل قراءة مستقبلية للأمر، حيث بدأت مدن أوروبية تلغي تلك الطرق اليوم ومنها باريس مثلا، كونها لم تحل مشكلة السير، بل فاقمت مشاكل البيئات. فقد حبذ مكية أن تكون الشوارع المدينية بمسربين ، أحدهما للذهاب والآخر للإياب، دون تعنيف لمعطياتها الأولى وطبيعتها التضاريسية. وفي هذا السياق رفض مَكّيه حدود الاختصاص الهندسي، حيث ان مهندس الطرق يجهل العَمارة والعَمارة يجهل الفن والجمال والأدب..الخ. فهو يدعو إلى انفتاح أنساق المعرفة، بما يجعل الكل يحس ويعي بالكل. وهكذا رام دمج أقسام الهندسة المختلفة فلا يشترط بمهندس الطرق أن ينشئ طرق مستقيمة لتسهيل مرور السيارات متوخياً سرعة وصولها. وعندما يلتقي شارعان لديه يضع في تقاطعها دوار (فلكة) في العادة، ولماذا لا يشكلان ساحة لها بوابة وامتداد مثلا، وتحف بها الأشجار والنخيل . لقد أهتم مكية بمداخل المدن وكان راغبا بأن تكون لمسقط بواباتها التي تجسدت بعد حين وهي اليوم سمة لها. ويقودنا الأمر الى تحليل السبب والجدوى في حضور كل عنصر معماري وكل مفردة، وإنتفاؤه حينما تتغير الأسباب والمعطيات، لذا حاول مَكّيه تفكيك «إن صح التعبير» العناصر من سياقاتها المولدة وتداولها كمفردات يمكن توظيفها جمالياً في عمائر حداثية مثل العقد (القوس) ، بعد ان حلت الخرسانة محل الطين والآجر المؤسس لهذا العنصر، وحرر هذا العنصر من الجدار الذي تعامل معه ككتلة وجسم وليس كخط فاصل ، وهو ما تجسد في مسجد الخلفاء ببغداد أو جامع السلطان قابوس بمسقط أو جامع الدولة الكبير في الكويت بشكل مثالي حينما حرر السقف من الجدار، و تداول عنصر البوابة، الذي أمست عرفا تصميميا (3).
ومن تداعيات تلك الجدليات الفكرية ، نلمس في مباني مَكّيه خاصية الصراحة الوظيفية والوضوح الإنشائي والمعماري ، والتجلي الفني ، ويمكن قراءتها من الخارج بسهولة كما هو جامع السلطان قابوس الذي ينساب مع الطريق السريع في منطقة العذيبة، متهاديا مع طبيعة السهل الساحلي المحيط، دون تعقيد أو افتعال وتمظهر في صرحية واختيال أو اختيار أشكال مبهرة ومجردة من المبرر.حتى أنه إقترح مثلا عدم رفع الجامع على منصة (مصطبة)، كي لاينحى نحو الصرحية المفتعلة، بالرغم من أن ثمة ضرورة لذلك بسبب وجود وادٍ متاخم له، وشكل جارف الماء خطرا داهما ودائما عليه. وبالمقارنة فإن هذا الحل الفكري تجرد منه جامع السلطان قابوس في روي حيث التناشر الصريح بين تقبيل الجامع وإسقاطه مع هيئة الساحة العمومية التي خططت قبله، وعلى العموم تبقى حلول المساجد عرضة للنقد بسبب مواقعها، حينما تحجزها الشوارع عن التواصل مع الحي السكني المحيط، الذي يرسم ملامح التواصل المفترض والقيمة الوظيفية المتعارف عليها في التراث.
وهنا نلمس أن مكية لم يبتعد في تصميمه المعماري لجامع السلطان قابوس عن مفهوم المسجد العراقي ولاسيما على الطراز العباسي ، من خلال إضفائه عناصر هيكلية ومعمارية تمتد حتى الريازة ، ولاسيما القباب والعقود واللمسات الفنية الزخرفية التي تمت لذلك الطراز . وربما تكون تجربة مكية قد نضجت من تجاربه السابقة في بغداد(الخلفاء والدولة الكبير) ثم الكويت وإسلام آباد وغيرها. وفي الجانب الفني نضج لديه منذ بواكير ستينات القرن العشرين منحى إحياء تداول الخط العربي،بملكات وخامات جديدة ، حينما جعل غرضه الاستفادة القصوى من التقنيات الحديثة ومواد البناء الصاعدة، دون أن يلغي تداوله للخامة المتوفرة في كل إقليم معماري، فثمة بون في الملكات بين الآجر في بغداد والحجر في مسقط. وقد أكد هذا التوجه ولده المعماري كنعان مَكّيه في كتابه عن أبيه(مابعد الكلاسيكية الإسلامية) ذاكراً: إن المصدر الأصيل الذي استلهم منه محمد مَكّيه فنه هو طراز الريازة العباسية التي اتخذت سماتها التقليدية في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي). ولو أن كنعان قد خلط التواريخ هنا، ربما بسبب عدم إطلاعه العميق على حيثيات التأريخ المعماري الإسلامي،من جراء سطوة التصانيف الغربية على تنظيراته.وهذا ما وقع به حتى بعض العمانيين ناسبين الطراز الى (الإيراني) لعدم اطلاعهم على الاصل العباسي الذي سبق المنتج الإيراني ولاسيما الصفوي المتأخر(القرن السادس عشر الميلادي).
لقد حاول مَكّيه إحياء بعض العناصر المعمارية الإسلامية وفقاً لموهبته الشخصية بتأثير من إدراك جمالي فطري متراكب مع التأثير البصري للمدرسة الإنجليزية ، التي تعتني في العادة بالخطوط المتعامدة، وتكاد أن تظهر من خلاله صرامة الهيكل المتكون من أعمدة أو أكتاف أو حيطان حاملة أو مزجهما من خلال عوارض واصله بينها بتقسيمات تحددها الحبكة الوظيفية ويأخذ بالحسبان عملها الإنشائي ليفرض عليها شكلها المستطيل باتجاه البحور الأوسع في حبكة الهياكل. وفي العادة فإن مَكّيه يتداول هياكل الأطر (عمود-اسكفه او جسر) أكثر من الحيطان الحاملة (bearing walls) التي هي سنة إنشائية عراقية، تماشيا مع الحداثة التي اقتنصت فكرة (ليكوربوزييه 1887-1965) بمفهوم المبنى المقام على أعمدة، وأثر في كل التوجهات المعمارية العالمية. بيد أن ثمة ممارسة لمَكّيه كان يرغب في جل مبانيه أن يظهر من خلالها هيبة الهيكل الإنشائي للعيان ،موحيا بقوة المبنى كما في المباني السكنية الحكومية في المنامة عام 1971. وخامة الإنشاء هنا الخرسانة المسلحة المصبوبة في الموقع في أكثر الحالات وحسب المشروع (أو سابقة الصب أو الجاهز prefabricated)) ، وقد تنأى تلك الخامة عن سياقات التراث المحلي،ولكنها تمكث الحل الهيكلي الأمثل، ولاسيما أنه جلب أعرافها من أهلها مخترعي الاسمنت البورتلاندي.وهنا نشير الى أن تصميم العمود عند مكية متكرر سواء الذي طبقه من الخشب في السدة التي بناها داخل ديوان الكوفة، أو اعمدة جامع السلطان قابوس في مسقط، والتي يبقيها مربعة الشكل بالرغم من أن الهيئة المدورة، أجدى وأكثر انسجاما نفسيا ووظيفيا مع مايحيطها من فراغ، ومعالجته تكون من خلال إظهار زواياه وضمور وسطه الذي يشكل كما الساقية، الذي يعالج بخامة وملمس وشكل ولون آخر في العادة ،ينبر من هيئة العمود وسط الفراغ.
وحاول مَكّيه أن يلتزم معيارية (نورم) موحد لمساقطه، ربما بسبب جمالي وإيقاعي ناظم وارد من عقلية مرتبة ومنظمة، أو من خبرته في المقاولات التي تحبذ توحيد المقاسات التي تسهل التكرار في التنفيذ. ولايشترط في كل المقاسات والتقسيمات المسقطية أو الواجهات أن تخضع لضوابط ونسب (المقطع الذهبي) التي اقتفاها الغربيون وجعلوا منها معيارية «مقدسة»، من خلال إيجاد نسب مقبولة بصريا. لقد حاول مكية إضفاء بعض المعالجات البيئية على تصاميمه، كأن تطغى على الواجهات الشرقية والغربية عناصر شاقولية أطول من عرضها ومحفوفة بعناصر ناتئة أكثر من التقاسيم الأفقية،أو حتى من خلال (دخلات وخرجات) Recesses & Buttresses))، كما في العَمارة العُراقية القديمة التي جاءت لأغراض إنشائية لمقاومة الحيطان الصفيقة ،وخشية من ظاهرة الإنبعاج. وحدث العكس في علاجه للواجهات الجنوبية، التي تعاني من فرط التشميس ، فأضفى ما يمكن ان يكون بوائك أو شرفات مظلات أفقية.وهذه النتوءات من جبهة البناء التي دعيت (كاسرات الشمس) شاعت بعد الخمسينات، وقلدها القوم بعد مشروع جامعة بغداد للألماني (الباوهاوسي) فالتر كروبيوس، التي مارسها مكية في تصميمه لجامعة الكوفة. ولم يتورع مَكّيه بكشف تلك الخرسانة أحيانا، وأخرى يغطيها بلباس وقشرة طابوقية، ولاسيما (الجف قيم أكثر من الدرز) أو يغشيها ببلاط جصي أو إسمنتي، محولاً المعادلة في الحس الملمسي ، بما يدلل على اتزان ذوقي بعيدا عن المغامرة. وقد حاول جاهداً أن يتبرأ من التأثير الأكاديمي المفرط ،ضمن سياقات تمرده على كثير من المفاهيم الفكرية والجمالية من خلفيته التعليمية الإنجليزية.
وقد بث مكية بعض الاشكال الحداثية في سياقات تقاسيمه، وهيأ لها سياقا مع أساليب العَمارة التقليدية مثل البوائك وكاسرات الشمس ، بما يمكن أن يناسب جماليات العصر وينسجم مع النزعة الى إيجاد لمسات تفترق عن التراث،وربما جاءت من سماتها تصميم طابق علوي ، يشبه القبعة فوق المبنى.ويبدو أنها سنة اتبعها جل جيل مَكّيه ،وبثت في أكثر العمائر ولاسيما (الرسمية منها)، وأمست عرفا (proto type) ، بما يوحي بمجملها وكأن المبنى كله يحاكي العمود وأمست القبعة تاجا له ، ومورست بالعراق بكثرة لكننا لم نجدها منتشرة في مدارس معمارية أخرى. والأشكال هنا تغلف محتوى وظيفيا يكون أقرب للحداثة ، وفي الغالب يتضمن نظام الممرات أو المجاز (كوليدور Corridors) ،وتوزيع الحجرات على جنبيها.وهذا الحل كرس الكتلة المتضامة للمبنى، وألغى عنصر الحوش والمناور التي تلعب دور الرئة في تنفس المبنى وتدوير الهواء في أرجائه، بينما الحل الحداثي اعتمد على تبريد الهواء الآلي في مواسم القيض.
عاد مكية بعد عقدين الى مسقط ليراها وقد تبدلت وأمست من اجمل العواصم، بل ربما أجمل عاصمة عربية قاطبة(4). وكانت بوابته هذه المرة مشروع جامع السلطان قابوس عام 1992 ، الذي بدأ العمل في ورشته عام 1995 واستمر بناءه ست سنوات، حتى اكتمل ثم أُفتتحَ في الرابع من شهر مايو عام 2001.وإشترك فيه مكتب محمد صالح مَكّيه مع كواد ديزين Quad Design ومركزهم لندن ومسقط،.ويعد هذا المعلم من أكثر شواخص العاصمة ،حيث بُنِى على موقع يَحتلُّ 416 الف مترَ مربّعَ ويمتد البناء لتَغْطية منطقةَ مِنْ 40 الف مترِ مربّعِ. وهو مجمع صرحي متعدد الوظائف ، ويمكن أن يكون هذا المشروع الأكثر نجاحا للدكتور مَكّيه لقيمته ورمزيته وموقعه ووسعه،وبذخ ملكاته من خلال تداول نفيس المواد والتجهيزات مثل الثريات والسجاد وأعمال الزخرفة المنفذة على خامات الحجر والخشب والخزف الكربلائي. ولم يشذ عن تربيعات ومحورية وتجديد تراثي ضمن تصاميم مَكّيه المنمقة والمعتنى بملكاتها ، والتي انسجمت مع توجه رسمي عماني في اقتفاء الوسطية والمحافظة العاقلة دون مغامرات حداثية، حتى ليبدو المجمع مع حدائقه landscape وكأنه مجمع تاج محل، لكنه تابع للقرن الواحد والعشرين. إن محور البناء الرئيس باتجاه القبلة الموازي لمحور الطريق السريع المتاخم،وهذا المحور ينعت في نهايته الأبعد كتلة البناء الأثقل والأهم وهي المصلى الكبير. وفي المحور الرئيسي المدبر للقبلة تتوزع الباحات والمرافق الآخرى مثل مكتبة وقاعة المحاضرات والمرافق الإدارية ،وهي تطوق بالأروقة وتنعت أركان المبنى، وذلك من خلال أربع منائر إرتفاع الواحدة منها 45,5م. ومن أجل إضفاء محور ثان يخترق الكتلتين الوظيفيتين ،وخلق مداخل مترادفة ومتمحورة وصرحية ، فقد مثلت المنارة الخامسة والرئيسية نهايتها ونعتت نهاية منظورها بارتفاع 90م . وهي على العموم تحاكي المنائر ألعُراقية مع بعض التطوير التصميمي ، وتعد من الشواخص البصرية المميزة للعاصمة. وهنا جدير أن نشير الى أن التراث العماني خلا من عنصر المنارة.
والمصلى الرئيسي مربع الشكل طول ضلعه 74.4 متر ويُمْكِنُه استيعاب أكثر من 6,500 مُصلّ بينما مصلّى النِساء يُمْكِنُ أَنْ يحتمل 750 مُصلّ. والأرض المُعَبّدة الخارجية يُمْكِنُ أَنْ تستوعب 8،000 مُصلّ وهناك فضاء إضافي متوفرِ في الفناءِ الداخليِ والممرَّاتِ جَعْل القدرة الكليّة تطأ حدود 20,000 مُصلّ . ومصلى للنساء يقع خلف المصلى الرئيس عبر الصحن الداخلي ويشكل امتدداً له، وهو مجهز بشاشة عرض لمشاهدة خطبة الجمعة والمحاضرات المنقولة من المصلى الرئيسي.
وهيكل المصلى الرئيسي أطر خرسانية محيطة تشكل عناصر شاقولية جمالية، مع معالجة جميلة لزوايا الكتلة، وذلك من خلال كوة مرهفة المعالجة. ويرتفع سقف المصلى على أربعة أعمدة ضخمة (قوائم الفيل) تتوسط الفضاء وترفع فوقها قبة مركزية إلى خمسين مترِاً فوق الأرضية، وبذلك فهو لم يبتعد عن تصاميمه الآخرى في الكويت وبغداد وإسلام أباد. ماعدا أن القبة جاءت هنا بشكل مغاير وربما مشرئبة الى التراث من خلال تكونها من مزدوج إنشائي أي من طبقتين إحداهما داخلية ،تتبع المقياس الإنساني والثاني خارجية، تنفع للمقياس الصرحي المديني، وهذه المعالجة طبقت في العَمارة ألعُراقية ، وتجسدت في العتبات المقدسة، والغرض منها إنشائي ووظيفي، حينما تداول خامة الطابوق وسياقاتها، لتكون مسارات العزوم المنسابة من الداخلية والخارجية تلتقي وتتعادل وتنساب برفق في الرقبة ثم الى العناصر الشاقولية ، وذلك من جراء دوران العزوم حول الإنتفاخة البصلية التي تكتنف القشرة الخارجية. بيد أن الأمر هنا مختلف حيث أن الهيكل الخرساني المسلح غيّر ذلك المفهوم، ووفّر على البناء حيلة الإنتقالة المرهفة بالحنايا والمثلثات الكروية Sequences and pendative ، وألغى التحول الشكلي من مربع الأكتاف الى مثمن رقبة القبة. ويكمن الإستثناء والفذلكة في تلك التفاصيل، هو تقطيع القبة الخارجية وجعلها بهيئة مخرمة متشابكة بعروق أساسية للهيكل ،حيث تضاء من داخلها في المساء ، لتكتسي جمالية حالمة. ولذلك التخريم تشابك منمق تتخلله خطوط ذهبية وتتجلى من خلال شفافية هيكل القبة الثانية المكسوة بقشرة من أحجار الفسيفساء الذهبية. والقبة من الداخل محاطة بتصميمات مجسمة لها شكل مثلثات هندسية ضمن هيكل من الأضلاع والأعمدة الرخامية المتقاطعة بأقواس مدببة مرصعة بجميع عناصرها ،بألواح من الخزف المصقول وتأخذ الأضلاع الرخامية المقوسة والمعقودة هيكل القبة الكروي المزينة بالزجاج الملون ويلف القبة شريط من الزخارف الكتابية يتضمن آيات قرآنية بخط الثلث وبألوان جذابة.
والمعالجات الفنية جاءت منوعة وثرية ولاتنتمي الى مدرسة معمارية بذاتها، وربما هذا ما أغاض مَكّيه، الذي كان يروم الإشراف على المعالجات التي تناسب الطراز «برأيه»، ولكن التوجه الرسمي كان مبرره أن يكون المعلم سجلا لكل فنون الإسلام وطرزها في مدارسه الإقليمية المحلية والإقليمية والمتنائية، وليس حكرا على إحداها. فنجد جداريات وكوات وحنايا مفعمة بفنون الزليج المغربي والجداريات المغولية والهندية والفارسية والكربلائي العُراقي والحجر المصري، وإستخدمت في بناءه مختلف وأرقى الخامات من الخشب والرخام والزجاج المعشق والنحاس والمعادن, وتوج ذروة البناء شرفات ومسننات توحي وكأنها مزاغل القلاع، بما يوحي بأنها مستلهمة من هيئة القلاع العمانية. وتم إستيحاء أشكال العَمارة العمانية في العناصر الزخرفية والهندسية المستخدمة في تصميم الجدران والسقوف والشمسيات المغشاة بالزجاج الملون. ومنها أُسلوب الزخارف الجصية التقليدية والمحفورة في كوات سقف قاعة المحاضرات. وكان الميل الى تركيز الزخارف الهندسية في المكتبة، والنباتية او المورقة في قاعة المحاضرات. وصنعت الأبواب والسواتر المتحركة من خشب شجرة القبقب الصلد، المغلف بقشرة تزيينية. ويضفي لون الخشب المائل الى العسلي تأثيرا جماليا على نصاعة الجدران البيضاء. وهنا نشير الى أن مَكّيه نجح في إضفاء صفة محلية على البناء وكذلك في إختيار الألوان الباهتة بنوعيها الأبيض والبني الفاتح، التي تنسجم أيما إنسجام مع الخلفية الطبيعية التي تمثلها الجبال الداكنة في ظهير مدينة مسقط.ويمكن أن تكون تلك المساهمة المسقطية لمعمار مكية،مناسبة للاحتفاء بقرن على ولادة هذا المعماري المخلص لثقافته وإنسانيته وحرفته.
الهوامش
1 كامران قرداغي- مقال: محمد مكية يتحدث عن الاسس الاخلاقية للعمارة العربية- جريدة المدى بغداد –العدد 1559- السنة السادسة-الخميس 16 تموز 2009.
2 فاطمة المحسن: مقابلة مع مكية – جريدة الرياض الرياض-الخميس 07 ربيع الثاني 1422 العدد 12057 السنة 37.
3 جاء ذلك في لقاء مع جريدة الشرق الأوسط-لندن، تحاور معه معد فياض-العدد 7555 الخميس 581999.
4 كان ذلك راي الشاعر العراقي المغترب في لندن فوزي كريم وكتب عنها بعد أن زار مسقط في بداية العام 2013.