ثمة فنانون يستحيل الامساك بظلالهم في واضحة النهار. فهم يربضون في مآوي الزلة والتوحد اتقاء للشبهات باحثين لأصابعهم عن حيطان جديدة كي يوقعوا عليها بأحرف بالية ما تبقى لهم من سبات الذاكرة.
الى هذه الطائفة المنقرضة ينتسب الرسام "العتيق" خليل غريب. الذي يتحاشى الكلام كمن يتوجس من أن تجرف الكلمات ألوانه الهشة وينفضح السر. لذلك يستعيض عن هذه العادة السيئة بالصمت التقي والوداعة الجارحة.
هنا في هذه المجالسة الخافتة، محاولة لاستلال نوايا الصمت من لسان تتقاطر العبارات منه كلآليء صغيرة فوق رمل مبلل.
الكثافة الروحية:
* يبدو من خلال لوحاتك أنك تشتغل وفق طقوسية معينة.
– صحيح فالطقوسية واردة، لكنها متقلبة، لا تتسم بميسم واحد، ولا تتخذ مسارا منسجما. وغالبا ما يعرف هذا المسلك الطقوسي فراغات زمنية قد تقصر وقد تطول لعدة سنوات. وهذا البياض لا يسبب لي هما، لأن عملية الانتاج عندي سيان تحققها أو عدمه.
ومن ألزم صفات هذه الطقوسية حصول كثافة روحية عالية تصل الى حدود التوتر الذي يندفع بشكل فوري وعنيف على أرضية شديدة الاختلاف، بحيث سيكون الانتاج وفيرا جدا قياسا بالمدة الزمنية، ثم يحصل توقف يعقبه استئناف، وقد يعقبه انهيار بدني حاد. وفي وقت لاحق تتم عملية تأمل المنجز. وغالبا ما يحدث هذا في اليوم التالي، فيخزن المنتج على شكل لفائف أو حزم في أماكن رطبة، الى أن تبدأ عملية مستقلة عن ارادتي: أعني بذلك عملية التخمر والتعفن والتحلل والتأكسد والتآكل والانهيار فالسقوط التام لمكونات العمل على شكل اتربة وغبار، كحصيلة لتفاعلات كيماوية للحشرات والكائنات المنبثقة عن المواد العضوية، وهذه المرحلة مرحلة التلاشي هي غائية العمل والمبتغى منه.
* من أين تنبع لديك هذه الرغبة في الابادة والاندثار؟
– عند مراقبة نشاطي التشكيلي الابداعي لمست منذ البداية أن عنصري الشفافية والهشاشة كانا يطبعان الأعمال، بحيث إني كنت أحس ميلا جارفا للاشتغال بالألوان المائية على الورق. تلي هذه المرحلة الاشتغال بمواد ذات طبيعة غبارية وترابية مدعومة بنسب ضئيلة من الصم بغية تثبيتها على الأرضية. بعد ذلك صرت أميل الى كل ما هو عضوي ومعدني بتجلياته المختلفة. وهذه المرحلة هي المحطة الأخيرة التي أتوقف عندها وأفتتن بنتائجها. وهذه الأشكال الناجمة عن خلائط من المواد تحدث لدى المتلقي، في معظم الأحيان، نوعين من الاستجابة: تقزز ونفور واستهجان، أو اعجاب مفرط. وهذان السلوكان دفعاني الى البحث عن دوافع هذا المسلك التشكيلي الخاص، لأجد في تاريخي الشخصي، خاصة في فترة الطفولة الأولى، الدافع والسبب، باعتباري عشت في محيط عمراني وبشري يتسم بالهشاشة وتداعي البنى العضوية لمحيطي البشري.
* تتحدث كرسام أخطأ سبيله الى النحت بكبوة جميلة.
– لا أستطيع تحديد الخط الفاصل بين ما هو نحت في عملي وما هو رسم أو تلوين الى درجة أنه يصعب علي إعطاء صفة اصطلاحية لما أنجز، حد التحرج، وفي هذا الباب تحضرني مصطلحات قد تلامس وتقارب ما انجزه على مستوى الطبيعة الشكلية،كتسمية "أومبرتو إيكو" = (العمل المفتوح)، أو اتجاه الفن الفقير (الايطالي)، أو الاتجاه الفيتنامي الذي يطلق عليه اسم (مدرسة الأشياء). كل هذه الاتجاهات لها صلة بما أعمل، دون أن تكون لأي منها سلسلة على بعضها.
فراغ بدون وسائد:
* س: كيف تلج القماشة: عاريا ؟ أم إنك تتزود بفكرة أو رؤيا وألوان معينة ؟
– غالبا ما أباشر العمل وأنا مصحوب بقدر هائل من الفراغ الداخلي والصمت الذاتي. وهذان المحزونان ينعكسان لاحقا على تفاصيل مجمل العمل، فهو يوحي للوهلة الأولى بالسكينة وخواء المضمون الى درجة اللامعني، وهذا سلوك يبدو شاذا في المسار الابداعي والفكري بوجه عام.
(بعد لحظة صمت عاتية، ينهض الخليل الغريب، ويمضي بخطي نملية صوب إحدى الغرف، ثم يعود بلوحة بالية تبدو وكأنها انتزعت من خربة منسية ويضعها بجوار نافذة يتسرب منها سناء أصيلي معتدل).
*متى انجزت هذه اللوحة ؟
– إنه عمل غير تام، لا يزال في طور الانجاز.
* اعتقدت أنه يعود الى قرون غابرة.
– هذا هاجس يرافقني منذ البدء، ويتمثل في توفير كل عناصر العتاقة والتحلل. ثم هناك تلك النية المبيتة لزرع عناصر الغناء، وفيروساته في صلب لحيان العمل للحصول على موت مبكر للوحة قدر الامكان.
* ألهذا السبب لا توقع أعمالك ؟
– شخصيا، لا أعرف دواعي التوقيع الآن، قد يكون ذلك تقليدا ثقافيا. أو رغبة في جني فائدة مادية أو معنوية.
وفي حالتي لا أستشعر مطلقا حاجة لأية فائدة. ومن هنا يبقى التوقيع في اعتباري دوما عنصرا زائدا لا لزوم له.
* الا تؤمن بالبصمة الانطولوجية ؟
– عندما ننجز عملا له خصوصية الاستلاب بوصفه ابداعا حرا، يغدو هو نفسه توقيعا كبيرا يعكس الخصوصية العامة لمنتجه.
* س: لم هذا الحرص على التواري خلف اللوحة ؟
– أنا حريص على عنصر الغياب بكل أبعاده: الزمني والشخص والمادي للعمل. فالمواد تندثر والتوقيع يتم إغفاله وكذا تاريخ الانجاز. هذا مقصود مع سبق الاصرار.
* س: وما هي الحواس التي تتوخى استنفارها لدى المشاهد؟
– الأصل في العمل أن يتوجه الى استهلاكي الخاص. لكني أمام إلحاح بعض الأصدقاء أقوم بعرضه، دون أن أملي على المتلقي أية طريقة لاستقباله، بل أتركه عن قصد يواجه التيه والاتكاء على مؤهلاته الخاصة. ومن هنا جاء الحرص على تجريد العمل من أي مؤشر رقمي أو عنواني أو اسمي، حتى يجد المتلقي نفسه ملقى في فراغ لا سند له. إلا ما قد تجود به حواسه وحساسيته الخاصة. ومن ثم يشعر بأنه في فضاء جديد خال من الوسائد التي تتوافر في بعض الأفضية الفنية التقليدية المحافظة.
* من أين تستمد كل هذه العدوانية:
– هذا معطى تربوي جديد. باعتبار أن الوضع المحيط بالكائن البشري يوفر له الأنس والأمن من خلال تزويده بالجاهز، مما يساهم تدريجيا في تغريب حواسه وامكانياته الخاصة، بينما في الحالة المشار اليها سابقا يكون عليه أن يبعث الحياة في هذه الحواس المعطلة مما يحقنه بمصل الحرية والانعتاق في الفعل والانفعال.
ماء وتراب… وقليل من النار:
* هل تستأنس في عملك الفني بأساليب معينة ؟
– عند تأمل العمل المنجز ألمس شخصيا أنه صنيعة كثير من المصادر المرئية والمفهومية. وما يشفع لي تبنيها أن عنصر الاضافة الشخصية حاصل بنسب متفاوتة. ناهيك عن عملية التوليف بين العناصر المستعارة من الذاكرة البصرية والفكرية.
* حينما نساكن لوحاتك نشتم عبير الزهد.
– هناك روح تقشفية زاهدة تنسحب على معظم أعمالي، ويبدو ذلك من خلال الاكتفاء بالمادي والجزئي والبسيط من اللوحة. والابقاء على معظم فضائها فارغا. مع التقتير في استخدام المواد الملتقطة أساسا من المحيط المحلي بدون مقابل. مما يوحي بالفقر المادي في العمل. وهذه رسالة ضمنية لابعاد كل عناصر الأبهة والترف عن العمل الابداعي. وهذه القصرية لها مرجعياتها المادية والمعنوية في مرحلتي الطفولة والمراهقة.
ففي الأولى تشربت بمعطيات مجالية فقيرة قوامها الجير والتراب والهواء والماء والقليل من النار. وبجوار ذلك كان هناك المحيط العائلي الذي اختار عن اقتناع أسلوب حياة متقشفة. إضافة الى أنشطته الروحية المتمثلة في استضافة طوائف هداوة وعيساوة وجيلالة. وكنت وأنا فتى استقبل إشاراتهم المادية والمعنوية حتى أضحت مكونا أساسيا من مكوناتي الذهنية والانفعالية.
أما بخصوص المعطى الثاني فهو يرتبط بسن المراهقة، ويقوم أساسا على مطالعاتي ذات البعد الصوفي والزهدي والتقشفي، وتشبعي بالمفاهيم والتصورات الرومانسية والفلسفية ذات المنبت الشرقي الآسيوي.
واعتبارا لكون العمل صدى للمكونات العامة لصاحبه، فقد جاءت هذه الاشارات ذات الايحاء الزهدي لتلقي بظلالها على مجمل أعمال… (صمت).
مع انسحاب آخر شعاع عن لوحة القرون الآتية، يشبك الخليل يديه ويبتسم لظله، وتنتشر في أرجاء الغرفة المعتمة شمس خفية ليس لها مشرق معلوم. فيهمس في أذني كمن يحرص على راحة موتاه:
– ألم أقل لك إنها في طور الانجاز؟
بطاقة:
خليل غريب 1948. أصيلة.
المعارض الفردية:
1965: النادي البلدي _ طنجة.
1965: دار الفكر _ الرباط.
1986: قاعة الامام الأصيلي _ أصيلة.
1988: قصر الثقافة _ أصيلة.
1990: مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية – أصيلة.
1991: متحف الأودية. الرباط.
1992: الرابطة الفرنسية المغربية _ القنيطرة.
1994: قاعة باب الرواح _ الرباط
1994: جامعة تولون لوميراي _ تولوز.
1995: رواق أبلانوس _ أصيلة.
1995: قاعة دولاكروي – طنجة.
عزيز الحاكم (شاعر وكاتب من المغرب)