إن ظاهرة الكتابة عند ابن عربي مهمة جدا ولعلها مركزية في نصوصه العرفانية، فهي تعني الممارسة الحرة والفنية والواعية أيضا للغة وللمكتسب اللساني الذي يرتبط به عمقيا: «فالشيخ الأكبر لا يقارب مفاهيمه بناء على النظر الفكري ولا يخضعها للتنظيم المنهجي، الذي قد نصادفه لدى المتكلمين أو الفلاسفة، وإنما يحتكم، في الغالب الأعم، إلى تجربته الروحية، ويترقب كتابته مما يرد عليه من أحواله ومقاماته.»(1) وسيخضع تحليلنا لهذه الظاهرة من مواقع مختلفة، منها موقع المفهوم للكتابة في حدّ ذاتها كحدث لساني داخل ثقافة معينة، وكذلك فعل الكتابة الصوفية التي تختلف عمقيا عن غيرها في حقول مختلفة، وأيضا من موقع الكتابة في شكلها الوجودي الصرف والمتعلقة بالمفهوم العام المرتبط بالغيب.
هذه مواقع ننظر منها إلى فعل الكتابة كما يناقشه ابن عربي في أكثر من مناسبة. لكن فعل الكتابة في حدّ ذاته له ارتباطاته بأفعال أخرى تحددها اللسانيات الحديثة في شكل نظري بحت، منها الكلام، وهو الحدث الضمني الموجود بالقوة في كل كتابة إنسانية أووجودية، لكن مقاربة الكلام في ذاته أيضا محفوف بنوع من المخاطر، يتعلق الأمر بمفهوم الكلام الإلهي إذا قيس بالكلام الإنساني أوالبشري بصورة أوضح. الكلام له علاقته بالصمت في عرفانية ابن عربي، لأن المسألة معقودة بتجربة أكبر هي تجربة التصوف التي لا تسمح بالتمايز بين سائر المفارقات. سنحاول مناقشة حدث الكتابة أولا في علاقته بالكلام، والكلام في صوره المختلفة والرمزية.
في كتابه روح القدس، والذي يُعدُّ وثيقة خاصة ملتبسة بحياة الشيخ الشخصية، يلفت ابن عربي الانتباه إلى علاقته بالتكلم أو بالكلام، فمن خلال تجربته الصوفية الكبيرة يبدو له الكلام زائدا عن الحاجة، إذ المتصوف في طريق تحقيقه للمعرفة يصفو كلامه وتدق عباراته، وهو يقول في ذلك: «فإني كنت شديد القهر لنفسي في الكلام»(2) وهذا يعني أن التجربة أكبر من أن يستوعبها لسان أونطق، فهي تتجاوز لحظة الكلام وتستلزم الصمت. الجدل بين الكلام والصمت عند ابن عربي يأخذ بُعدا فلسفيا ووجوديا، فهو ينطلق من تجربته التي تظل حية وواعية بذاتها، وتظل أيضا المعين الذي لا ينضب بالنسبة إليه كعارف في طريق المعرفة الإلهية التي لا نطق معها. إننا من خلال القراءة المتنوعة لبعض المتون الصوفية لابن عربي خاصة، لاحظنا مدى التأثر الشديد بصاحب المواقف والمخاطبات الذي جسد فكرة الصمت في مقابل شهود المعنى الإلهي الذي لا كلام معه. لقد عرف كيف يستفيد ابن عربي من غيره ولو بطريق الرمز والإيماء والإشارة البعيدة. إنه لا يصرّح بذلك ولكن نصه صريح بمظاهر التأثر الشديد. ففي كتابه مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية+ يلمح ابن عربي إلى علاقة الصمت بالكلام في تجربته الصوفية والتي تتضمن بالضرورة تجربة جمالية لا تفارقها لأنها تمثل نسغها ودمها الذي يسري فيها. تجربة المشاهد تركز على التلميح دون التصريح وعلى الإشارة دون العبارة:» وقال لي: خفيت في البيان، والشعور لأهل الستور»(3) وهذا الستر له سند من حياة اللغة في حدّ ذاتها، ومن النص المركزي الذي هوالقرآن الكريم: «ثم قال لي: أنظرني في النظم المحصور، وهوموضع الرمز، ومحل للغز الأشياء. ولوعلم أن في شدة الوضوح لغز الأشياء، ورمزها، لسلكوه. أنزلت الآيات النيرات دلائل لمعان لا تفهم أبدا»(4) وهوتعبير دقيق عن معاني قد صاغها النفري بقوة العبارة وجمال البلاغة في المواقف والمخاطبات، مثل قوله: «وأنا من وراء اللسان»(5) فكون المعنى الذي تختزله الرؤية العرفانية خافيا ومستورا وغائبا دلّ على عجز البيان أواللسان، ثم يصبح الصمت سيد الموقف لمّا تتجلى الحقائق في صورتها القاهرة: «يا عبد من رآني جاز النطق والصمت.»(6)
دلّ اشتغال ابن عربي على مضمون الكلام والصمت بفاعلية أكثر إدهاشا للقارئ المعاصر الذي يرى بأن ما تقوله الفلسفة الحديثة قد استبصر به ابن عربي عن طريق الكشف، وهذا ما سميناه بالتعبير عن المطلق الذي تشترك فيه ذوات كثيرة لا تحُدُّها الأمكنة ولا الأزمنة، أوكما قال رودولف أوتوعن التصوف من حيث هومطلق لازمني ولا تاريخ له، إنه واحد في الزمان والمكان.(7) إن ابن عربي في نص سابق حول الحضور والغياب يوحي بمسألة تجذر الموقف الجمالي المعاصر في الفكر الإنساني الذي يشتغل بدوره على هذه الثنائية الصعبة. نحن سنشتغل على مشهد مهم هومشهد نور الصمت بطلوع نجم السلب الذي يقول في مقدمته: «أشهدني الحق بمشهد نور الصمت، وطلوع نجم السَلْبِ، فأخرسني، فما بقي في الكون موضع إلا ارتقم بكلامي، وما سطر كتاب إلا من مادتي وإلقائي»(8) وهي مقدمة تعبر عن حقيقة الصمت في مقابل الكلام. الصمت الذي يعني التكلم. فنور الصمت يأتي من كون الكلام صفة عارضة: «فالعبد صامت بذاته متكلم بالعرض»(9) الطرح الذي طرحه ابن عربي يتجاوز المعنى التقليدي للصمت، فهو معني بالصورة الرمزية حيث الصمت له حضوره في الوجود. فالذي خلق صفة الكلام هو الله، والمتكلم في الحقيقة هو الله لأنه خالق هذا الكلام، أنطقه الله تعالى فهومتكلم بالعرض، أما في حقيقته فهوصامت. ثم ينسحب مفهوم الصمت جماليا إلى أقاصي أخرى من العرفان الأكبري حيث يتجلى الكلام فقط من حيث كونه مؤثرا وفاعلا، وهو الصادر عن الله الخالق بقدرة كن: «وعن الكلام صدرنا وهو قوله: كنْ فكنّا، فالصمت حالة عدمية والكلام حالة وجودية»(10) ومن هذا الباب فقط تبدو صورة الكلام من حيث علاقته بالذات الإلهية مصدر الوجود، وليس المقصود بالكلام مجرد معناه الطبيعي، بقدر أن المقصود هو النطق بالكلمة، وحاصلها هوعالم الموجودات. ولو عدنا إلى نص المشهد المذكور سابقا لوجدنا أن فكرة الصمت تتجاوز المعطى العام الذي يعرفه الناس لتتلبس بالمعنى الوجودي الخالص الذي يخص الذات الإنسانية وبخاصة العارف:» ثم قال لي: الصمت حقيقتك»(11) وتتجلى هذه الحقيقة في حدث الكلام، وهذا يجعل منطوق النصوص ذات طبيعة جدلية ويدخلنا في عملية تأويل صرفة: «ثم قال لي: على الكلام فطرتك، وهو حقيقة صمتك. فإذا كنت متكلما فأنت صامت.»(12)
لوأمكن العودة إلى المصادر الأساسية في الفكر الغربي خاصة نجد صدى كبيرا لمثل هذه المعاني منعكسة في الكتابات الفلسفية ذات الجذور العميقة. بعض الفلاسفة ممن التزموا خط التفكير في الإنسان ومشاغله القصوى، مثل هايدجر، لم يكتفوا فقط بالحديث العام عن القضايا التقليدية التي تحدث عنها الفكر البشري منذ القديم، بل شعروا بالحاجة إلى التعبير عن المشاغل الراهنة والأساسية التي لها علاقة بالشرط الإنساني وبخاصة مسألة اللغة التي قال عنها هايدجر بأنها: «بيت الكائن.»(13) إنها مسألة معقدة لأنها تمثل شبكة من العلاقات المتناقضة، ففي اللغة نجد الوجود بأكمله بما في ذلك الوجود الإنساني. ونقصد بالوجود العياني المادي أوالمعنوي، فعن طريق اللغة يوجد الإنسان، وهوما كان يعبر عنه ابن عربي في قضية الكلام والصمت. إننا نحاول مقاربة مسألة الكتابة عن طريق مصادرها الأساسية والتي تتمثل أولا وقبل كل شيء في الكلام، والكلام ليس ظاهرة بسيطة يمكنها أن تحلل بكيفية عادية، بل هو ظاهرة معقدة له صلة بالوجود البشري ككل، والكلام أيضا ليس صفة بشرية بل هوصفة إلهية محضة، وبيان طبيعة صفة الكلام الإلهي معنى يستغرق كتبا في التصوف والفكر والفلسفة إن لم نقل أزمنة وجهودا وأجيالاً. مقاربة الفلسفة انطلاقا من بعض رموزها الكبرى تَعِدُنا بالكثير فيما يتعلق بجماليات اللغة بكل متعلقاتها في باب العرفان الإسلامي. ودراسة ابن عربي لهذا الشأن دراسة تتفرع على أوجه وأبواب وتفاريع مختلفة، فهولم يناقش هذه المسألة بطريقة كلاسيكية عادية، بل رأى إلى أوجهها الخفية واطلع عليها رمزا وأشار إلى كل ذلك إشارة، وعلى الدارس حينئذ أن يتفطن للعبة الكلمات التي تعيد صياغة الفكر من منظور جديد.
ما هي أطروحة ابن عربي في الكلام والكتابة والصمت؟ كيف تتجلى الجماليات في المسائل التي طرحها داخل منظومة العرفان؟ كيف تشكلت هذه المسائل لتأخذ صفة الجمالية؟ وهل هذه القضايا لها راهنيتها ومستقبلها؟ كيف يمكن الحديث عن أبعاد هذه المسائل على المستوى الروحي والمعرفي؟ هذه جملة من الأسئلة التي ستكون الإجابة عنها تشكل مادة هذه الدراسة. وقد دلّت الصفحات السابقة رؤية تبسيطية لبعض هذه المسائل التي ستظلّ حاضرة دائما في صلب النقاشات المعاصرة.
في فلسفة ابن عربي وتصوفه نجد إرهاصاتٍ لمعانٍ تدلّ دائما على ما هوآتٍ. لا يتحدث ابن عربي عمّا مضى بشكل ميت، بل يستعمل ما هوحيٌّ في اللغة لكي يتجاوز عصره، وهذا يبرّر حقا مدى الاهتمام الكبير بعرفانيته على جميع المستويات. في الفتوحات المكية نجده يقول عن الكلام: «فما عندنا في الوجود صامت أصلاً»(14) أي كل شيء يتكلم بالضرورة، وإن لم يقصد الكلام فقد قصد معنى النطق بالدلالة، نطق باللسان أوبغير اللسان. هكذا يتحدث ابن عربي أيضا في كتابه المشاهد: «تكلمت أوصمت فأنت متكلم»(15) أو بتعبير هايدجر الذي يتقارب مع مفهوم ابن عربي: «نحن نتكلم باستمرار حتى لولم ننطق بكلمة»(16) والدلالة متقاربة إن لم نقل بأنها واحدة، ولكن التعبير عنها مختلف بحسب موقع كل واحد منهما في لغته. يحاول ابن عربي أن يوحي بدلالة الوجود الذي يتكلم بالضرورة. فالعالم بما فيه من أشياء وموجودات لا ينقطع عن الكلام أبدا، فدلالته مستمرة ما دام موجودا، وهذا حاصل ما يراه العارف في هذا الوجود. فعلى المستوى الجمالي نلاحظ أن ابن عربي يوسع من دائرة المعنى الخاص بالكتابة والكلام والصمت بحكم كونه متضمنا في عملية الكلام والدلالة، ويجعل هذه الدائرة تنداح إلى دوائر أخرى عبر القراءة التي تستمر مع القارئ. ربما يحق لنا أن نسأل كيف يمكن أن يتشكل فعل الكلام في الوجود؟ لا شك أن بداهة الإجابة ستكون متمحورة حول فعل الكتابة التي يقول عنها ابن عربي بشكل أخّاذ ورمزي: «فإن الكتابة أمر وجودي فلا بد أن يكون متناهيا.»(17)
المرحلة الجديدة في فعل الكتابة تبدأ من هذا الوجود الذي يتحدث عنه ابن عربي بشكل رمزي. ولكن طبيعة المقاربة لظاهرة الكتابة لا بدّ أن تبدأ من المعنى التقليدي للكتابة، لأن هذا الفعل الرمزي سيتسع ليدل على مفهوم أوسع وهي كتابة الوجود الذي يتصل بعالم الدلالة ذاتها، إذ : «العالم ليس فقط مكانا لأشياء ومواد وأشخاص وأحداث، ولكنه صور دالة من جهة، ورمزية من جهة أخرى»(18) وسنحاول أن نحيل على نص في الفتوحات يجمع بين دلالتين مختلفتين للكتابة استرعى انتباه الدارسين، لأنه حمّال أوجه، وفيه يقول ابن عربي: «اعلم أن الكلام على قسمين: كلام في موادّ تسمى حروفاً وهوعلى قسمين: إما مرقومة أعني الحروف وتسمى كتاباً، أومتلفظاً بها وتسمى قولاً وكلاماً. والنوع الثاني كلام ليس في موادّ، فذاك الكلام الذي لا يكون في مواد يُعلم ولا يقال فيه يفهم فيتعلق به العلم من السامع الذي لا يسمع بآلة بل يسمع بحقٍ مجردٍ عن الآلة، كما إذا كان الكلام في غير مادة فلا يسمع إلا بما يناسبه»(19) فهو ميز على مستوى الكلام بين نوعين، أحدهما متضمن في مادة معلومة، فإذا كان مرقوما فهوالكتابة والرقم هنا هو التسطير التي قال عنه بول ريكور: «هو تعقل مضموني خالص لفعل التكلم»(20) أما إذا كان شفويا فهو قول أوكلام. وأما القسم الثاني فهو الذي يتضمن نوعا من الغموض كما لاحظ أحد الدارسين(21) فقط لأن المسألة لها علاقة بدلالة النوع الثاني من الكلام الذي لا يستحيل إلى مادّة أوشكل أوصورة. إن عملية الفهم مقترنة بسماعه دون آلة ولا يشترط فيه أن توجد وسيلة إلى ذلك، لأنه في الحقيقة كلام رمزي يتجاوز معطيات الحس الإنساني المرتبط بالوسائل والآلات المؤدية إلى الفهم. وهذا السماع الذي يتجاوز الصورة التقليدية ليس معطى عاما بل هو لخصوص العارفين الذين لا يتقيدون بالصورة التي يشتغل بها العوام أو الغير.
إن ابن عربي كثيرا ما يشتغل على المعطيات غير المادية لآليات التفكير عند الإنسان أو البشر عموما، لأنه معنيّ بصورة العارف أوالإنسان الكامل الذي اكتملت لديه المعطيات البشرية وغير البشرية للفهم والتلقي عن الإله، وهذا ما قام بشرحه في مقام متجدد لما تحدث عن الخطاب الإلهي مستدلا بقوله تعالى: }وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَومِن وَرَاء حِجَابٍ أَويُرْسِلَ رَسُولًا{(الشورى/51)، مفرقا بين مقامات الخطاب التي جعلها في الوحي أومن وراء حجاب أوإرسال الرسل، ومقام من وراء الحجاب يكاد يشتبه بالكلام الذي ليس في مواد، حيث يقول عنه ابن عربي: «وأما قوله تعالى }أَومِن وَرَاء حِجَابٍ{ فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من ألقي عليه فيفهم منه ما قصد به من أسمعه ذلك وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي.»(22) والتجلي ليس شرطا فيه أن يكون قوليا، والقول نفسه عند ابن عربي قولان: «قول حال وقول خطاب.»(23)
على المستوى الفينومينولوجي، تبدوالكتابة مرتبطة بالوجود المادي والحيز الحسي الذي يتضمنها. إن الكتابة تتناهى لأن الوجود متناهٍ، وهذا يؤكد مدى ما وصل إليه تأمل ابن عربي العرفاني الذي جسّد معنى الكتابة في الظاهر الذي تعنيه، وفي المعنى الذي تكشف عنه والأشياء التي تتضمنها. ولوعدنا إلى النص المركزي الذي استحالت فيه الكتابة من رسم مرقوم خطاً إلى وجود عيني، لرأينا بأن المفهوم متفرع عن أصل مؤكد عند الشيخ الأكبر. وإذا كنا نؤكد على ظاهرة الكتابة في صلتها بالحس وسمينا هذا النوع من المقاربة بالفينومينولوجيا نسبة إلى علم الظواهر أوالظاهريات، والتسمية في الحقيقة تدل على معنى واحد، فبعض الدراسات تراهن على فكرة الأنطولوجيا وهي صلة الكتابة بالوجود، أومقاربة الكتابة كحدث داخل الوجود الإنساني: «والوعي بهذه البذرة الوجودية وبسريانها في المفهوم وفي المفاهيم التي تكوِّن معه سياجا نظريا هوما يمكِّن من تحقيق قراءة نسقية تراهن على العلاقات في تشابكاتها اللانهائية»(24) والعلاقة هنا هي التفكير في المتعدد من العناصر الذي يحكم فكرة الكتابة نزولا من الكتابة الإلهية إلى الكتابة الإنسانية. إذن سنحاول أن نشخص فكرة الكتابة على المستوى الظاهري لأن نص ابن عربي في هذا الأمر ليس فقط متشابكا بل هو مدعاة للتفكير الجاد والتأويل الحصيف، ومعانيه متعددة لا تنحصر فيما هو محصور في المنظومات المعرفية الأخرى كالنقد الأدبي والبلاغة وعلم الكلام. فهناك استيعاب حقيقي لجميع هذه المعاني والأفكار وإعادة صياغتها في معنى جامع لها. رؤية التشابك هوفي الحقيقة استبصار بطبيعة العلاقات التي تحكم العناصر المكونة للفكرة أوللرؤية. الكتابة هنا عند ابن عربي تخطت عتبة المفاهيم ودخلت أقاصي التجربة الكلية التي اختبرها العارف على المستوى الشخصي. ما عاشه ابن عربي كتب عنه، إنه مرآة تجربته التي قادها بالكشف الإلهي دون الاهتمام بالعقل النظري الذي لا يؤدي إلى شيء، والتجربة الصوفية عموما هي تجربة بريئة خالية من الأفكار المسبقة أو المعرفة النظرية، التجربة الصوفية بتعبير جورج باتاي: «تولد من الجهل وتظل فيه حتما»(25) وقد أشار ابن عربي نفسه إلى هذا الأمر بصريح العبارة حينما قال: «ومعرفته الجهل به فإنها حقيقة العبودية»(26) ونحن استدللنا بهذا المعنى لنفيد بأن محصول التجربة ليس الوعي المنطقي للأشياء، لأن ابن عربي يتحدث عن مسائل لا يؤيدها العقل على الإطلاق، بل هي من منبع المخيلة الطليقة التي واتت العارف خلال مكاشفته، وهذا سبيل من سبل المعرفة دللنا عليه في فصل التجربة الصوفية عند ابن عربي.
كيف يتصور ابن عربي الكتابة في شكلها المطلق؟ هل من محددات مفاهيمية ينطلق منها لتصوراته؟ هل كشفه كان مُؤَسسا؟ لعلنا لا نبالغ كثيرا إذا قلنا بأن عرفاينة ابن عربي تتناول مسألة الكتابة تناولا شموليا وكليا، ومن ضرورات المذهب التناول الشمولي للظواهر. ولكن هذه الشمولية لا تلغي التفاصيل التي تملك أهمية خاصة. فالكتابة ليست ظاهرة متعلقة فقط بحدث حضاري وثقافي يقوم به الإنسان خلافا للكائنات الأخرى، وهي ليست تبعا لذلك ميزة فارقة بين الكتاب أنفسهم من حيث الجماليات والتفاصيل الفنية المتعلقة بها، بل هي حدث كلي لا يشمل الإنسان فقط بل جميع الموجودات، والإنسان نفسه هوواحد من متعينات الكتابة كباقي الصور والأشكال والمتعينات في هذا الوجود. من هنا يبدأ التمييز بين أنواع الكتابة. ولندع نص ابن عربي نفسه يشرح هذه التفاصيل المهمة في مسألة الكتابة، وستكون مقاربتنا لها مقاربة نصية وصفية شارحة. قد أحلنا على المعنى الأول للكتابة كما تعرف في السياقات الأخرى، وحتى في السياقات الحديثة واستدللنا ببول ريكور حينما يرى إلى الكتابة كحدث يلتزم بخطية معينة وعند ابن عربي يسميه بالتسطير، فالمفهوم الخطي للكتابة وما يتضمنه من مفاهيم إضافية كالتثبيت مثلا هوالمفهوم التقليدي الذي يضبطها، لكن في عرفانية ابن عربي تتجاوز الكتابة هذا المفهوم لتشمل الوجود بكامله وهنا يكمن حقا الإطار الجمالي لها. فجماليات الكتابة ليس فقط كونها متعلقة فقط بالقطاع الفني أو الأدبي، بل كونها ذات صلة بالوجود الإنساني بشكل عام.
يمثل الإنسان حدثا كتابيا ضمن وجود أشمل، وهنا ليس الحرف وحده الذي يمثل صورة الكتابة في شكلها الخطي الأفقي، بل الوجود الإنساني ومن ثمّ العالم بكامله الذي يُعَدُّ: «المصحف الكبير الذي تلاه الحق علينا تلاوة حال كما أن القرآن تلاوة قول عندنا، فالعالم حروف مخطوطة مرقومة في رقّ الوجود المنشور، ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبدا لا تنتهي.»(27) وقد ألمحنا أن الكتابة تنتمي إلى الوجود فهي تنتهي بانتهائه، لكن الكتابة الإلهية في شكلها الرمزي لا تنتهي لأنها دالة على القدرة، وتركيب الصورة هوالذي يعطينا تصورا جماليا عن مفهوم الكتابة في حدّ ذاتها، وهو أن الجامع بين الحدثين هو فعل الخلق والإبداع. فالكتابة حدث إبداعي في المقام الأول، حدث يدل على تناسل الصور والأشكال وتدفقها من يد المبدع، وهذا من فعل الأداة التي يتشكل بها العالم ويقصد بها القلم واليد التي تكتب به. هذه كلها مسائل متعالقة فيما بينها. إن الإنسان في عرفانية ابن عربي لا يتحدد فقط بمفاهيم خارجة عن ذاته، بل هو نسخة العالم كما يقول(28) ولكنها تأخذ صورة من شكل شبيه أعلى منها: «فكل ما في هذا العالم جزء منه وليس الإنسان بجزء لواحد من العالم، وكان سبب هذا الفصل وإيجاد هذا المنفصل الأول طلب الإنس بالمُشاكِل في الجنس الذي هو النوع الأخص، وليكون في عالم الأجسام بهذا الالتحام الطبيعيّ الإنسانيّ الكامل بالصورة التي أراده الله ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه بالعقل الأول والنفس الكل، وإذا قلت القلم الأعلى فتفطن للإشارة التي تتضمن الكاتب وقصد الكتابة فيقوم معك قول الشارع: إن الله خلق آدم على صورته، ثم عبارة الشارع في الكتاب العزيز في إيجاد الأشياء عن كن.»(29) ومقتضى النص من باب تأويله وفهمه هو أن حدث الكتابة ليس من متعلقات الإنسان، فليس الإنسان وحده الكاتب ولكن الله بمعنى مّا هو كاتب أيضا ولكن حروفه هي التعينات للصور والأشكال، والإنسان تعين منها، والإنسان أيضا كان من الفعل كن الذي دل على فعل الإيجاد والتكوين. الوجود الإنساني هو كتاب الله تعالى وقد استدل ابن عربي بالحديث الذي جاء فيه أن الله خلق آدم على صورته. إن هذه الدلالة لم تكن لتوجد على مسرح الكتابة لولا ارتباط النص عند ابن عربي بالتأويل، فضلا عن التمسك بمبدأ الكشف الباطني الذي يعطي هذه المعاني التي لا يراها غير المكاشف بالحقائق في عالم الغيب. هذه أسرار إلهية لا يمكن أن تكون في متناول الناس جميعا، أسرار يراها العارف بعين باطنة. إن ابن عربي لم ير الأشياء في حالة من التمزق والانتشار، بل رآها في حالة من الوحدة الجامعة، وهذا ملمح من ملامح المذهب الذي سطّره الشيخ الأكبر في فلسفته الباطنية والعرفانية.
يعطي ابن عربي دلالة مهمة للقلم واللوح، فكلاهما أمران متلازمان من حيث الوجود ومن حيث العلاقة، فلا يمكن أن نفصل أحدهما عن الآخر، يقول عنهما الشيخ الأكبر: «القلم واللوح أوّل عالم التدوين والتسطير وحقيقتهما ساريتان في جميع الموجودات علوا وسفلا ومعنى وحسّا، وبهما حفظ الله العلم على العالم، ولهذا ورد في الخبر عنه «قيدوا العلم بالكتابة» ومن هنا كتب الله التوراة بيده، ومن هذه الحضرة اتخذ رسول الله وجميع الرسل عليهم السلام كتاب الوحي وقال:}كِرَامًا كَاتِبِين{(11) }يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ{ (الانفطار/11-12)، وقال: }مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا{ (الكهف/49)… والكتب الضم، ومنه سميت الكتيبة كتيبة لانضمام الأجناد بعضهم إلى بعض، وبانضمام الزوجين وقع النكاح في المعاني والأجسام فظهرت النتائج في الأعيان.»(30) فدلالة الكتابة على المستوى الرمزي هوالحفظ من خلال التدوين والتسطير، ولكن ما هي طبيعة التدوين عند القلم الأعــلى واللوح المحفوظ؟ تكمن الإجابة في نص ابن عربي من خلال قراءة تأويلية تكشف عن مضامينه، إنه يقول بأن لحظة الكتابة تشبه لحظة أخرى موجودة في الطبيعة وسماها بالنكاح المعنوي بين الأجسام وكان الحاصل هوظهور النتائج في الأعيان. وكذلك فعل الكتابة بالقلم. وهناك المعنى المهم والأساسي لفعل الكتابة وهوالضم أوما يمكن تسميته بنظام العلاقة، فبانضمام الزوجين وهوهنا دال على اختلاف العناصر نشأ المعنى المراد سواء من النكاح وسماه المعنوي أومن نظام العلاقة بين البنيات فينشأ منطوق الكتابة، جملة كانت أونصا أوخطابا. لقد دلّ النص على أنّ الموجودات متعلقها القلم واللوح، وهما يظلان دائما رمزان عند ابن عربي للإيجاد والخلق، فالمعنى المتصل بهما دائما له علاقة مباشرة بالوجود، فمن باب الاستحالة أن لا يكون هناك كون دون وسائل توجده، فالوجود الذي نحياه هومن باب حضور الوسائل المأمورة بالإيجاد. وفعل الأمر دلّ على التلقي الإلهي بشكل مباشر، فحقيقة الكتابة سارية في كل الصور والأشكال، وهذا ما نصّ عليه ابن عربي سابقا، وما دامت الكتابة حقيقة سارية فوجودها عند الإنسان صورة من صور الكتابة الكبرى والتي نستطيع أن نسميها الكتابة الإلهية في صحيفة الكون.
كيف يتلقى القلم الأمر الإلهي؟ إن هذه الفكرة أو هذا المعنى المتوتر سيفتح أفقا في معنى الكتابة في حدّ ذاتها. فعلى المستوى الجمالي فقد وسّع ابن عربي فكرة الكتابة من كونها حدثا يختص بالإنسان إلى حدث أوفعل يختص بالألوهية والجامع بينهما هوالإيجاد أوالخلق. الآن سنبحث عن الصورة الرمزية التي عبّر بها ابن عربي عن هذا المعنى الإضافي في فعل الكتابة. الصورة موجودة في الفتوحات المكية، المجلد السادس في باب معرفة منزل مفاتيح خزائن الجود ضمن نص طويل يقول فيه: «وأوّل متعلِم قبِلَ العلم بالتعلم لا بالذات العقل الأول، فعقل عن الله ما علمه وأمره أن يكتب ما علمه في اللوح المحفوظ الذي خلقه منه فسمّاه قلما، فمن علمه الذي علمه أن قال له أدبا مع المعلم ما أكتب هل ما علمتني أوما تمليه عليّ؟ فهذا من أدب المتعلم إذا قال له المعلم قولا مجملا يطلب التفصيل فقال له: اكتب ما كان وما قد علمته وما يكون مما أمليه عليك وهوعلمي في خلقي إلى يوم القيامة لا غير، فكتب ما في علمه مما كان، فكتب العماء الذي كان فيه الحق قبل أن يخلق خلقه وما يحوي عليه ذلك العماء من الحقائق… وكتب وجود الأرواح المهيمة وما هيمهم وأحوالهم وما هم عليه وذلك كله ليعلمه، وكتب تأثير أسمائه فيهم، وكتب نفسه ووجوده وصورة وجوده وما يحوي عليه من العلوم، وكتب اللوح. فلما فرغ من هذا كله أملى عليه الحق ما يكون منه إلى يوم القيامة لأن دخول ما لا يتناهى في الوجود محال فلا يكتب فإن الكتابة أمر وجودي فلا بدّ أن يكون متناهيا فأملى عليه الحق تعالى وكتب القلم منكوس الرأس أدبا مع المعلم لأن الإملاء لا تعلق للبصر به بل متعلق البصر الشيء الذي يكتب فيه، والسمع من القلم هوالمتعلق بما يمليه الحق عليه، وحقيقة السمع أن لا يتقيد المسموع بجهة معينة بخلاف البصر الحسي فإنه يتقيد إما بجهة خاصة معينة وإما بالجهات كلها، والسمع ليس كذلك فإن متعلقه الكلام، فإن كان المتكلم ذا جهة فذلك راجع إليه، وإن كان لا في جهة ولا ذا جهة فذلك راجع إليه لا للسامع، فالسمع أدل في التنزيه من البصر، وأخرج عن التقييد وأوسع وأوضح في الإطلاق.»(31)
في النص طبقات من المعنى تكشف عنها القراءة الأولى، والقراءة الثانية ستكشف حتما عن طبقات أخرى أكثر خفاء. ومنطوق النص في الظاهر هو أنّ الكتابة تحصرها الجهة، فهي مقيدة غير مطلقة وهذه حقيقة القلم. القلم مخلوق للكتابة وحس الكتابة البصر والبصر محصور في الجهة التي يكتب فيها «بل متعلق البصر الشيء الذي يكتب فيه» هكذا يتحدث ابن عربي عن صفة ما هو مكتوب. المجال البصري هومجال الكتابة على كل حال، ولكن مجال السمع وإن كان للقلم فهو استكتاب أو كتابة لإملاء سابق، لا يتقيد بالجهة أو الجهات على اختلافها. السمع هنا له القدرة على عدم التحدد أكثر من البصر. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فمجال الكتابة ما ينحصر في الوجود، أي ما سمعه القلم من الكلام الإلهي، من بدء الخلق إلى يوم القيامة، وكل هذا الزمن فإنه في الحقيقة محصور، وما هو محصور يتقيد في صفحة الكتابة. فضلا عن أن الاسم يقوم هو بدوره بعملية التثبيت والتقييد، لأن متعلقه بالأشياء «وكتب تأثير أسمائه فيهم» ويقصد في الموجودات التي أمر بكتابتها. لا نكتب دون اسم حامل. والبصر وإن تقيد فلا بدّ أن يتقيد بصورة أو بشكل، والشيء الذي لا شكل له أي لا اسم له فهو خارج عن أصل الكتابة كما قررها ابن عربي. تأتي الصورة التي عبّر بها ابن عربي عن صفة القلم حينما قال عنه «منكوس الرأس»، وهي صورة رمزية معبرة عن المجال البصري الذي يحدّ المكتوب، حتى وإن كان هذا المكتوب مقيدا بما هو مسموع، إلاّ أنه يظل مبصرا في المجال الذي يدون فيه ما يُملى عليه. منكوس الرأس تشرح حقا معنى التنزيه والاطلاق والوضوح والوسع الذي أُعطي للسمع. سيبقى لنا مجال لكي نتحدث عن فضاء الكتابة كما طرحته بعض الجماليات المعاصرة وبخاصة في مجال التصوير.
لقد تحدثنا عن ابن عربي على أساس أنه يكتب للمستقبل وليس متعلقا بالماضي. لا شيء يستهويه في التقاليد الكتابية السابقة. إنه يكتب وفق الخبرة أو التجربة الصوفية التي يحصل على ثمراتها من خلال الكشف الذي رأينا صورة عنه في فصل سابق. إن ما يدعو إليه ابن عربي أو يعبر عنه ليس عن نظر، بل عن رؤية وبصيرة، فهو محكوم بمجال شعوري معين يستلهم منه معانيه وكأنه خُلق لكي يعبر عن الذين سيأتون من بعده. هذا ما وجدناه في الصور والأشكال التي يعبر عنها في فصل الكتابة. لقد مضى الحديث عن الفرق بين البصر والسمع في الكتابة، وعن الكتابة من حيث هي معنى يرتبط بالوجود الكلّي الذي يعيشه الإنسان. بقي أن نفهم ما الوجه الذي يؤسس فعل الكتابة عند ابن عربي؟ ما المؤديات الجمالية في موضوع الكتابة؟ لا شك أن مضمون الأسئلة ليس المقصود منه فقط البحث عن الكيفيات التي عبّر بها عن معانيه، حيث لا تهمنا هنا في هذا المقام طريقته في التعبير، بل كيف فكر في هذا المعنى؟ ما محصول جهده بل كشفه العرفاني؟ هذا المقصود حين الإجابة عن السؤال. وليس الجدوى من البحث في الإجابة، بل السؤال الذي يتخلق من خلال النصوص التي نبحث فيها، لأن لحظة السؤال هي لحظة القراءة التي انتهت إلى الحيرة كما يعبر الصوفية في هذا المقام.
لا يزال البحث في الكتابة موصولا بالبحث عن تفاصيل أخرى تمّس الجانب الباطني فيها، وهو جانب يخص حياة ابن عربي وأمنياته ككاتب جامع للتفاصيل، حيث يقول في صورة الجريح الذي يأمل ما لا يستطيع: «فلو أعطانا الله الكتابة الإلهية أبرزنا جميع ما يحويه هذا الكتاب على الاستيفاء في ورقة صغيرة واحدة كما خرج رسول الله(ص) بكتابين في يده بالكتاب الإلهي الذي ليس لمخلوق فيه تعمُّل، وأخبر أن في الكتاب الذي في يمينه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم من أول خلقهم إلى يوم القيامة، والكتاب الآخر مثله في أسماء أهل الشقاء، ولوكان ذلك بالكتاب المعهود ما وسع ورقه المدينة، فمثل ذلك لووقع لنا أظهرناه في اللحظة، وقد رأينا تلك الكتابة وهي كالجنة في عرض الحائط والنار وكصورة السماء في المرآة»(32) والمسألة تشبه أحواض الزهور اليابانية التي تحدث عنها الشاعر الفرنسي بول كلوديل قياسا على مجموعة من الأبيات في صفحة تتضمنها وقال عنها بأنها احتوت على مشهد طبيعي كامل في منمنمة.(33) ألمحنا إلى مثل هذه التقاطعات لنبين مدى راهنية ابن عربي في ميزان النقد المعاصر وصراع الفلسفات الجمالية فيما بينها. إن المعنى على مستوى المنظور والتحيز والتقييد هومن شأن الكتابة الحقيقية، لكن الكتابة الإلهية تتجاوز القدرة البشرية مهما أوتيت من قوة. الكتابة الإلهية لا تنحصر في حيز، ولوكانت، لما كان ذلك دليلا على القدرة أصلاً. إن مثل هذا الطموح الذي يرغب فيه ابن عربي كعارف ليس غريبا عن طبيعته التي تود الوصول إلى لحظة المطلق. فمعنى الكتابة الذي يراود الشيخ الأكبر ليس هوالتعبير فقط بل كفاية الحيز البصري للكلام. إن ما تنطق عنه الرغبة الدفينة هوشيء يشبه ما تحاوله الفلسفات الجمالية المعاصرة في إيمانها في الأشكال التي لا شكل لها، في الصمت خلال الكلام كما عنــد هايدجر وموريس بلانشو. هذه كلها فلسفات حاولت مقاربة هذا الطموح الأكبري فعبرت عنه بصور رمزية مختلفة. لقد عبر الناقد موريس بلانشو عن معنى الكتاب الآتي الذي اشتغل فيه عن غياب الأدب وأعاد صياغة سؤال الكتابة من منظور الغياب لا الحضور، وكانت فكرته تدور حول تحويل الكتابة إلى صيغة سؤال تعني الكاتب في حدّ ذاته: «كل كاتب يجعل من الكتابة قضيته»(34) وهذا ما جعل بعض الدارسين لابن عربي يرى إلى إمكانية الحوار بين الشيخ الأكبر وبين بعض الدراسات المعاصرة أملا في: «تحيين تصورات ابن عربي وإدماجها في التأمل الجديد، انطلاقا من إعادة بناء هذه التصورات ووصلها بالزمن الثقافي الجديد.»(35) ورأى بأن الإشكالية التي تبني هذه التصورات تتمثل في الذات الكاتبة.([)
لا زلنا نأمل في دراسة المزيد من التفاصيل التي تتعلق بالكتابة وتجربة التصوف عند الشيخ الأكبر، وهي تفاصيل ستعرف منعطفا جديدا في رمزية الكتابة وعلاقتها بالحياة والوجود معا. ويمكننا أن نلخص الباقي في معنيين مهمين وهما: المحـو والإثبات، والمعنى الثاني يتمحور حول دلالة الكتابة.
أما فيما يتعلق بالمحو والإثبات فقد كان موقف ابن عربي جماليا عرفانيا لا يخرج عنهما أبدا. ومسألة الكتابة ربما هي من المسائل الأكثر صعوبة في جمالياته إذا لم نستثن في ذلك الخيال، لارتباطها بالوجود، فالكتابة كما ذكرنا ليست مفهوما تقليديا يدل على حاجة الكاتب إلى التعبير، بل هي فلسفة خاصة لها جمالياتها التي تجعلها منفردة في سياق عرفانية ابن عربي. فكما أن النص هوناتج عن كتابة القلم فكذلك الوجود ناتج عمّا سطره القلم الأعلى في اللوح المحفوظ، ولكن هل ما سطّره قابل للمحو كما يحدث عند الكاتب؟ هل كتابة المحو تشكل إطارا جماليا كما درسها الغرب من وجهة نظر ميتافيزيقية؟
تتلخص فكرة المحو في موضوع الكتابة في التفرقة الواضحة بين الكتابة الإنسانية والكتابة الإلهية، بين القلم الأعلى والأقلام الأخرى، بين تسطير وتسطير. إن مفهوم الكتابة حتى في الخطاب النقدي المعاصر مسؤولة عن فعل التثبيت سواء للنص أو للحديث أو للخطاب بشكل عام(36) هي: «لا تضيف شيئا على ظاهرة الكلام سوى التثبيت»(37) فما المعنى الذي تأخذه كلمة تثبيت؟ إن كلمة تثبيت في سياق عرفانية ابن عربي وضمن حديثه عن الكتابة الإلهية التي هي كتابة الوجود، تعني النقش على اللوح المحفوظ ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة: «وكتابته نقش ولهذا تثبت فلا تقبل المحو»(38) هذه الكتابة هي صيغة لعلم القلم الذي هوعلم الإجمال والتفصيل: «والتفصيل يظهر بالتسطير وهوعين ذواته»(39) إذن فالتثبيت لا يخرج عن معنيين مهمين هما النقش والتسطير، الأولى تدل على تثبيت ما يجب تثبيته لحفظه والثانية تعني كيفية التثبيت. ونلاحظ بأنها نفس المعاني التي تنطبق على الكتابة البشرية، سوى في تفصيل دقيق ومهم يكاد يكون مركزيا في المفهوم العام للكتابة في أفقها الجمالي، وهذا الفرق يقول عنه ابن عربي: «فلو كانت كتابته مثل الكتابة بالمداد قبلت المحوكما يقبله لوح المحوفي عالم الكون بالقلم المختص به الذي هو بين أصبعي الرحمن»(40) فالوسائل البشرية منتهية وزائلة ولا يمكن التأكد من ثباتها، فهي متحولة غير مستقرة. وأما كون كتابة المحو تكتب بالمداد فلدلالة عدم ثبات المداد على اللوح، فتسطيره غير نقشه، هذا من جهة ومن جهة ثانية، يرى ابن عربي أن المحو مرتبط بحالات التردد الإنسانية، وهو أنْ لا ثبات فيما يتعلق بالطبيعة الإنسانية الحقيقة، ولكن هناك طبيعة خاصة بالقلم الأعلى كما سماه ابن عربي وطبيعة أخرى بسائر الأقلام، وقد شرح ذلك بقوله: «فإنّ الذي كتبه القلم الأعلى لا يتبدّل، وسُمّي اللوح بالمحفوظ من المحو فلا يُمحى ما كُتب فيه، وهذه الأقلام تكتب في ألواح المحووالتثبيت وهوقوله تعالى: }يَمْحُواللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ{(الرعد/39)، ومن هذه الألواح تتنزل الشرائع والصحف والكتب على الرسل صلوات الله عليهم وسلامه، ولهذا يدخل في الشرائع النسخ.»(41)
كيف استطاع ابن عربي أن يعطيَ شرحا للمحو والإثبات؟ ليس شرحا فحسب بل فهما وتأويلا؟ لكي نتتبع التفسير الذي أعطاه من خلال ما كتب بخاصة في الفتوحات المكية، نجد المعنى الغيبي دائما مستترا وراء ذلك، وهذا المعنى الغيبي لا يلغي المعاني الوجودية الأخرى، ومن بين هذه المعاني الغيبية فضلا عن معنى المداد الذي رأيناه سابقا هناك معنى الثابت والمتحول في هذا العالم، وهومعنى دقيق جدا من المعاني الغيبية التي حاول ابن عربي أن يربط بينها وبين فعل الكتابة، ونـراه يقول فـي ذلك: «وذلك أن القلم الكاتب في لوح المحويكتب أمراً مّا وهوزمان الخاطر الذي يخطر للعبد فيه فعل ذلك الأمر ثم تمحى تلك الكتابة يمحوها الله فيزول ذلك الخاطر من ذلك الشخص لأنه ما ثم رقيقة من هذا اللوح تمتد إلى نفس هذا الشخص في عالم الغيب، فإن الرقائق إلى النفوس من هذه الألواح تحدث بحدوث الكتابة وتنقطع بمحوها، فإذا أبصر القلم موضعها من اللوح ممحواً كتب غيرها مما يتعلق بذلك الأمر من الفعل أو الترك»(42) والقارئ المتمعن للنص يجد بأن فعل الكتابة على اللوح داخل ثنائية المحو والإثبات فعل جمالي في المقام الأول لأنه يعبر عن مقصود الكتاب عمّا يكتبون، وليس هناك من كاتب يعاني فعلا تجربة الكتابة إلا وهو يؤمن إيمانا حقيقيا بأنّ ما يكتبه هوعين المحو، وقد قال النفري في إحدى مخاطباته: «يا عبدُ قل لقلبك امْحُ أثر الأسماء فيك باسمي تثبت حكومته ويفنى معناه به»(43) والتعبير عن المحو هو تعبير عن التجدد والاستمرار، وكلما كانت الكتابة تتجه إلى الإيمان بالفعل ونقيضه كانت أقدر على الاستمرار. ليس هناك من معنى الثبات الذي يقتل فعل الإبداع عند الإنسان، وقد أضاف النفري معنى جديدا في مواقفه: «إن كتبت لغيري محوتك من كتابي وإن عبّرت بغير عبارتي أخرجتك من خطابي.»(44)
كيف يمكن إحالة هذه المسائل الذهنية أو الغيبية على مسائل علم الجمال الحديث أو المعاصر؟ هل من ترابطات تجمع بين الفضائين: فضاء العرفان وفضاء علم الجمال في هذا المجال؟ نحن نظن بأنّ هناك أكثر من ترابط في الحقيقة، لأن الجماليات المعاصرة تشتغل على ما هو غيبي في الحياة الإنسانية والفنية عموما أكثر من اشتغالها بما هو مادّي ملموس. إن علم الجمال يتعامل أكثر مع المجرد، ويحاول أن يتجاوز الطرح التقليدي الذي يختزل كثيرا من المسائل في تصورات قديمة وبالية. صار التجديد ضرورة قصوى لإيجاد التوازن الحقيقي بين تطور الفكر وتطور الحياة أيضا. فابن عربي لا يطرح المسائل بصورة تقليدية ويستعيد في البلاغات القديمة ويركن إلى الماضي الأدبي والفني للثقافة العربية، بل هو مزيج من ثقافات متداخلة ومتناقضة ومختلفة فيما بينها، وقد قام المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس بدراسة المصادر في كتابه حول ابن عربي وقد خلص إلى نوع من التكوين العجيب الذي شكل ذهنية هذا العرفاني الكبير وقد قال: «إن الإسلام – وروحانياته – قد نشأ في وسط جغرافي – بلاد العرب، سوريا، مصر، فارس – كان في الوقت نفسه قلب الحضارة القديمة، وميدانا لتعايش الأفكار الدينية والفلسفية تباينا»(45) وخلُص فيما بعد إلى ربط هذه الأفكار فيما بينها من خلال الدراسة المقارنة حتى يصل إلى محاولة دراسة محي الدين بن عربي دراسة تليق بفلسفته وقد قال فيه: «وإن شخصية ابن عربي الفكرية والصوفية القوية لتسود كل التاريخ الحديث للروحانيات الإسلامية.»(46)
نحن استدللنا بهذه الفكرة لتقوية اليقين بأن المعنى الجمالي عند ابن عربي مُرّكَبٌ من معانٍ قديمة تمتد في الزمان والمكان، وتستحيل إلى معاني متجددة تنفد في ثقافات مختلفة عبر قراءتها وتأويلها. فأمر الكتابة من حيث هي فكرة جمالية يتخطى السياج المعرفي لها ويصل إلى غاية رمزيتها، وهذا هوالطرح الجمالي الذي يتفق والطرح الفلسفي، وقد وضّحه ابن عربي في سياق مختلف تماما دون أن يسمي كما فعل فلاسفة الجمال عبر العصور. ولمّا تستمر فاعلية الأفكار عبر الزمان نرى تأثير ذلك في النقاد الذين سعوا إلى نوع من الموسوعية دون ارتباط قسري بنشاط معين دون غيره. إذا ركزنا فعلا على الإنتاج الجمالي الذي صدر عن ابن عربي كصوفي وعرفاني له قدره ومنزلته، نرى بأنه إنتاج لم يستوعب فقط ما له علاقة بالمجال الديني بل استطاع أن يستوعب المجال الكوني، وهذا ما سمح بوجود قدر كبير من هامش التأويل والقراءة الحرة في نصوص ابن عربي، ويؤكد لنا من خلال طرحنا المتواضع أن هذه النصوص ليست ذات وجهة دينية صرفة بل ذات وجهة ميتافيزيقية.
يصبح موضوع الكتابة موضوعا جماليا لمّا يكون ذا علاقة بالوجود بشكل عام، بما في ذلك الوجود الإنساني، ويدخل في حلقة رمزية تجعله موضوعا لا يقتصر على فعل فيزيائي هو التسطير أو التدوين أو التثبيت كما تقرره طبيعة الأشياء، إنه يتعداه إلى فعل رمزي كما سميناه يحتاج إلى قراءة وتأويل وفهم. إن معظم النصوص الواردة في الكتابة نجدها حقائق تسري في كيانات أخرى مختلفة كما يقول ابن عربي نفسه، ولوجاز لنا أن نستعير من ابن عربي بعض مصطلحاته وبخاصة مصطلح السريان لوجناه صالحا للتعبير عن مقتضى ما نحن بصدده، أوكما قال ابن عربي في نصٍ سَبَقَ الاستدلال به: «القلم واللوح أول عالم التدوين والتسطير وحقيقتهما ساريتان في جميع الموجودات علواً وسفلاً ومعنى وحساً»(47) ففعل الكتابة ليس مقتصرا على سببين أووسيلتين هما القلم واللوح بل تشمل جميع الموجودات في العالمين العلوي والسفلي. وقد قال ابن عربي بحق: «فالموجودات كلها كلمات الله التي لا تنفد، فإنها عن« كن «وكن كلمة الله.»(48) وهنا يمكن أن نتحدث عن المعنى الثاني وهو حول الدلالة التي يتيحها فعل الكتابة.
إن معنى الدلالة قائم أساسا على ما تشكله الكتابة من أهمية عملية في الحياة الصوفية أو العرفانية. وأيضا ما تعنيه في مضمونها العام وما يمكنها أن تدلّ عليه في بُعدِها الخاص. وما دمنا قد انطلقنا من مقدمات معينة في تحديد مفهوم الكتابة بحكم أنها نتاج كلام، فلا بدّ من معرفة دلالة الكلام، لأن المقصودَ من المفهومين واحدٌ، فضلا عن كون الكتابة تمثل الصورة الثانية للكلام من حيث هونتاج تعبير إنساني عن مقاصد وأغراض مختلفة. تكمن الدلالة في الوجود ذاته للكلام أوللكتابة، وقد عبّر عنها ابن عربي بلفظ المعنى أوالحقيقة، حيث لا نجد الكلام أو الكتابة منفصلين عن المعنى، وقال في ذلك ذاكرا العلوم التي تنطوي تحت منزل وزراء المهدي من الباب السادس والستين وثلاثمائة: «وفيه علمُ المعنى الذي جعل الكتابة كلاما وحقيقةُ الكلامِ معلومةٌ عند العقلاء»(49) وعدم الفصل بين الكلام والكتابة أوالبحث عن الفواصل الدقيقة التي تفصل بينهما هومن لوازم البحث الجمالي في التصوف، فالكلام في حقيقته هوالذي يتحول بفعل التثبيت إلى كتابة، ولكنّا نجده هنا حاصل الكتابة، وتفسير ابن عربي يوحي بنوع مخصوص من المعنى الإلهي الذي وجد صورته في الكتابة الأزلية أي في اللوح المحفوظ ليتكلم بها العارف من خزانة الجود الإلهي، وهنا الموقف له علاقة بما يعطيه الكشف الصوفي للعارف الواصل الذي يطلع على مخزون الغيب مكتوبا ومنقوشا على اللوح ثم يصيب به ذويه من خلال كلامه. صار التحول من شأن أعلى إلى شأن أسفل، وصار للكلام هذه الحظوة والمنزلة على الكتابة، ولكنّ الضابط هو المعنى الجامع الذي يجعل الكتابة تتنزل بفعل الكشف إلى الكلام.
تأتي دلالة الكلام أوالكتابة في حديث ابن عربي ولغته من خلال بحثه في نعوت القرآن الكريم، ودائما في الفتوحات المكية، من الباب الخامس والعشرين وثلاثمائة في معرفة منزل القرآن من الحضرة المحمدية، وفيه يحاول التفرقة بين الكلام والكتابة كوصفين متصلين بالقرآن الكريم، وهي تفرقة العارف الحريص على الدلالة العامة سواء تعلق الأمر بالقرآن في حالة كونه كلاما أو في حالة كونه كتابة، ولا بأس أن نستدل بنصه وهو طويل في لفظه حيث يقول: «فإذا تحققت ما قرّرناه تبينت أن كلام الله هو هذا المتلو المسموع المُتلَفّظ به المسمى قرآناً وتوراة وزبوراً وإنجيلاً، فحروفه تعين مراتب كلمه من حيث مفرداتها، ثم للكلمة من حيث جمعيتها معنى ليس لآحاد حروف الكلمة، فللكلمة أثر في نفس السامع، لهذا سميت في اللسان العربي مشتقة من الكلِم وهوالجرح وهو أثر في جسم المكلوم، كذلك للكلمة أثر في نفس السامع أعطاه ذلك الأثر استعداد السمع لقبول الكلام بوساطة الفهم لا بدّ من ذلك، فإذا انتظمت كلمتان فصاعداً سمي المجموع آية أي علامة على أمر لم يعط ذلك الأمر كل كلمة على انفرادها مثل الحروف مع الكلمة، إذْ قد تقرّر أنّ للمجموع حكماً لا يكون لمفردات ذلك المجموع، فإذا انتظمت الآيات بالغاً ما أراد المتكلم أن يبلغ بها سمي المجموع سورة معناها منزلة ظهرت عن مجموع هذه الآيات لم تكن الآيات تعطي تلك المنزلة على انفراد كل آية منها، وليس القرآن سوى ما ذكرناه من سور وآيات وكلمات وحروف، فهذا قد أعطيتك أمراً كلياً في القرآن والمنازل تختلف فتختلف الآيات فتختلف الكلمات فيختلف نظم الحروف، والقرآن كبير كثير لوذهبنا نبين على التفصيل ما أومأنا إليه لم يف العمر به، فوكلناك إلى نفسك لاستخراج ما فيه من الكنوز، وهذا إذا جعلناه كلاماً، فإن أنزلناه كتاباً فهونظم حروف رقمية لانتظام كلمات لانتظام آيات لانتظام سور كل ذلك عن يمين كاتبة كما كان القول عن نَفَسٍ رحماني فصار الأمر على مقدار واحد وإن اختلفت الأحوال، لأن حال التلفظ ليس حال الكتابة، وصفة اليد ليست صفة النَفَسِ، فكونه كتاباً كصورة الظاهر والشهادة، كونه كلاماً كصورة الباطن والغيب، فأنت بين كثيف ولطيف، والحروف على كلّ وجهٍ كثيف بالنسبة إلى ما يحمله من الدلالة على المعنى الموضوع له، والمعنى قد يكون لطيفاً وقد يكون كثيفاً، لكن الدلالة لطيفة على كل وجه وهي التي يحملها الحرف وهي روحه والروح ألطف من الصورة.»(50)
سنحاول أن نستخرج بعض الدلالات من هذا النص الذي تتضح فيه بعض المعالم الجمالية فيما يتعلق بدلالة الكلام والكتابة. على الرغم من كونه نصا استوعب الأفقين الشفوي والكتابي، إلاّ أن الكلام لا يدل على ما هو شفوي بقدر ما يدل على الفعل اللساني. يقع القرآن كخطاب بين صورتين قد حددهما ابن عربي في:
[ الكلام/ الكتابة
[ صفة النَفَسِ/ صفة اليد
[ الظاهر/ الباطن
[ الشهادة/ الغيب
[ الكثيف/ اللطيف
هذه مجموع المفارقات التي تشكل مفهوم الخطاب القرآني ولكنها تدرجه ضمن أفق جمالي وفلسفي مختلف عن بقية الآفاق التي أدرج فيها من قبلُ. تكمن الدلالة إذن في توتر هذه المفارقات، وبخاصة لمّا نعلم بأنها كلها متعلقة بالخطاب القرآني ولا تنفصل عنه، إذ لا نستطيع أن نختزل القرآن في مجرد النَفَس، بل هوأيضا من إنتاج اليمين الكاتبة، والدلالة تقع في هذا التلقي المزدوج لمثل هذا الخطاب الذي جمع بين كل أنواع المفارقات اللسانية في فضاء واحد، ليست المسألة مسألة تضاد بقدر ما هي بناء من عناصر مختلفة ومتنوعة تشكل في النهاية عالما واحدا من الدلالات والمعاني. ولا شكّ أن ابن عربي وضع نصب عينيه معنى الروحي مقابل ما هو صوري أو مادي، وربط مسألة المعنى في الخطاب القرآني بصورتين: اللطافة والكثافة، ولكن تبقى الدلالة من حيث هي، تنتمي إلى عالم اللطافة لأنها روح الحرف، والروح كما قال ألطف من الصورة.
هوامش الدراسة:
1 – خالد بلقاسم: الكتابة والتصوف عند ابن عربي، دار توبقال للنشر، المغرب، طبعة أولى، 2000، ص 19.
2 – ابن عربي: روح القدس في مناصحة النفس، تحقيق: د. حامد طاهر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، الطبعة الأولى 2006، ص 284.
[ هو عبارة عن كتاب يسير فيه ابن عربي سيرة عبد الجبار النفري الذي صاغ مواقفه ومخاطباته بطريقة جديدة غير معهودة في المنظومة البلاغية والأدبية السائدة. عبارة عن أقوال حكمية شديدة التركيز وكلها رمز وإشارة إلى معاني باطنية تلخص موقف العارف في قضايا مختلفة. وقد اتخذ لها مظهر المشهد الذي يخاطب البصر ويتصوره الخيال.
3 – ابن عربي: مشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية، تحقيق: سعيد عبد الفتاح، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2005، ص 63.
4 المصدر نفسه، ص 63.
5 – عبد الجبار النفري: كتاب المواقف ويليه كتاب المخاطبات، بتحقيق أرثر يوحنا أربري، منشورات دارالكتب العلمية، بيروت، 1997، ص 9.
6 – المصدر نفسه، ص 164.
7- Rudolf Otto : Mystique d’Orient et mystique d’Occident, trad. Jean Gouillard, Petite Bibliothèque Payot /278, Paris, 1996, p. 13.
8- ابن عربي: مشهد الأسرار القدسية، ص 66.
9- ابن عربي: الفتوحات المكية، ضبط وتصحيح: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 2006، 3/271. يشير الرقم الأول إلى المجلد و الثاني إلى الصفحة.
10- ابن عربي: الفتوحات المكية، 2/536.
11- ابن عربي: مشهد الأسرار القدسية، ص 66.
12- المصدر نفسه، ص 66.
13- Martin Heidegger : Lettre sur l’humanisme, trad. Roger Munier, in Questions III et IV, Tel / Gallimard, Paris, 2008, p 67.
14- ابن عربي: الفتوحات المكية، 3/116.
15- ابن عربي: مشاهد الأسرار القدسية، ص 67.
16 Martin Heidegger : Acheminement vers la parole, trad. Jean Beaufret, Wolfgang Brokmeier, et François Fedier, tel/ Gallimard, Paris, 2006, p. 13.
17 – ابن عربي: الفتوحات المكية، 6/154.
18 – منصف عبد الحق: الكتابة والتجربة الصوفية، نموذج محيي الدين بن عربي، منشورات عكاظ، الرباط، الطبعة الأولى، 1988، ص 63. والتشديد من عند المؤلف.
19 – ابن عربي: الفتوحات المكية، 7/37.
20- بول ريكور: نظرية التأويل، الخطاب وفائض المعنى، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الأولى، 2003، ص 58.
21- منصف عبد الحق: الكتابة والتجربة الصوفية، ص 22.
22- ابن عربي: الفتوحات المكية، 6/58، ويضيف قائلا: «وأما علم الترجمة عن الله فذلك لكل من كلمه الله في الإلقاء والوحي فيكون المترجم خلافا لصور الحروف اللفظية أوالمرقومة التي يوجدها ويكون روح تلك الصور كلام الله لا غير.» 6/58.
23- ابن عربي: الفتوحات المكية، 6/59.
24- خالد بلقاسم: الكتابة والتصوف عند ابن عربي، ص 26.
25- Georges Bataille : L’expérience intérieure, Tel Gallimard, Paris, 2006, p. 15.
26 – ابن عربي: الفتوحات المكية، 1/167.
27 ا- لمصدر نفسه، 1/158.
28 – نفسه، 1/210.
29 – نفسه، 1/210.
30 – نفسه، 5/328-329.
31 – نفسه، 6/154.
32 – نفسه، 3/222-223.
33- Paul Claudel : Réflexions sur la poésie, Nrf / Gallimard, Paris, 1963, p. 119.
34- Maurice Blanchot : Le livre à venir, Folio /Essais, Gallimard, 1995, p. 281.
35- خالد بلقاسم: الكتابة والتصوف عند ابن عربي، ص 103.
[ يجد الباحث تقاطعات بين ابن عربي وموريس بلانشو فيما يتعلق بالذات الكاتبة من منظور فلسفي وجمالي. الذات التي تغيب، والتي تسمع الصوت المطلق كما ألمحنا سابقا. ينظر ص 106 وما بعدها من المرجع نفسه.
36- بول ريكور: ما هوالنص، ترجمة : عبد الله عازار، مجلة العرب والفكر العالمي، مركز الإنماء القومي، العدد 12، خريف 1990، ص 66.
37 – المرجع نفسه، ص 66.
38 – ابن عربي: الفتوحات المكية، 3/425.
39 – المصدر نفسه، 3/425.
40 – نفسه، 3/425.
41 – نفسه، 5/89.
42 – نفسه، 5/90.
43 – النفري: كتاب المواقف، ص 195.
44 – المصدر نفسه، ص 136.
45 – أسين بلاثيوس: اين عربي، حياته ومذهبه، ترجمه عن الإسبانية: عبد الرحمن بدوي، مكتبة الأنجلوالمصرية، القاهرة، 1965، ص 108.
46 – أسين بلاثيوس: ابن عربي، حياته ومذهيه، ص 109.
47 – ابن عربي: الفتوحات المكية، 5/328.
48 – ابن عربي: فصوص الحكم، الجزء الأول، ص 142.
49 – ابن عربي: الفتوحات المكية، 6/66.
50 – المصدر نفسه، 5/140.
محمّد خطّاب
باحث وأكاديمي من الجزائر