بالأمس أرسل لي الصديق الروائيّ مولاي أحمد المديني كتابًا لإيميل سيوران (غسق الأفكار)، وهو من كتبه التي أنجزها باللغة الرومانيّة قبل انتقاله الجغرافيّ واللغويّ إلى عاصمة الفرنسيين التي استقطبت في تلك المرحلة وقبلها معظم مثقفي تلك البلاد الذين أثْروا لغة فولتير وهوجو بنبرتهم التراجيديّة المفعَمة بالارتطام المدوّي بحائطِ العبث الوجودي الأقصى، من (ترستان تزارا) ذلك الغاضب والشاعر الكبير الذي أسّس للدادائيّة مطلع القرن الفائت. واللافت أن سيوران لم يتطرّق إلى تزارا في أيٍّ من كتبه العديدة في حدود علمي، إلى يونسكو والعالم الأنثروبولوجي ميرسيا إلياد … إلخ
(غسق الأفكار) من ترجمة الشاعر التونسي عبدالوهاب الملوّح، وهناك ترجمات لكثيرٍ من كتب الفيلسوف بتوقيع مواطنه الشاعر آدم فتحي، وأذكر أنّني منذ أكثر من ربع قرنٍ بدأت في قراءة هذا المنفرد، فأصاب هوىً جريحًا في نفسي وتفاهمتُ مع أصدقاء بترجمته لمجلة (نزوى)، بدءًا بترجمة مقابلةٍ مطوّلةٍ معه ترجمها الشاعر محمد الصالحي، وملفّ أنجزه المترجم والشاعر محمد علي اليوسفي، وتوالت الموادّ التي تندرج في هذا السياق. الملاحظ أنّ الثلاثة من هؤلاء المترجمين الذين وردوا بمحض الصّدفة هم من تونس. هل يمكن القول إن سيوران وخطابه الفلسفي لقيَ تفاعلًا أكثر لدى الوسط الثقافيّ التونسيّ؟
لا أجزم القول، ولا أيّ قول، لكن اللهجة التونسية رغم أنّها إحدى اللهجات المغاربيّة والعربيّة تاليًا، لها نبرتها الخاصّة؛ فهي لا تعرف المُراوغة في التعبير عن الواقع والأحداث، ولا تعرف التّنميق والكنايات الكثيرة بقدر ما هي مباشرة فوريّة، تغادر نبرة الرثاء، لصالح ما يشبه الغثيان الوجودي والسخرية… اللهجة هنا تجسيد لنمط التفكير الأعمق والسلوك.
ولا أنسى بالطبع ترجمة الصديق لقمان سليم، شهيد البحث عن الحقيقة والحريّة مع أقران له مثل، سمير قصير الذي التقيته في باريس قبل عودته إلى بيروت ليستقر ويعانق مصيره في سلسلة الاغتيالات الإجرامية، التي طالت تلك العقول النيّرة الطليعية، وما أكثرها في تلك الأرض المكلومة التي انقذفت في أسوأ المصائر وأكثرها قتامة.
تلك الترجمة المبكرة والمبتكرة في صيغها الأكثر حداثة وهجانة؛ إذ تضرب في تراث اللغة العربية، متوغّلة في استجلاء الدلالات الخبيئة المراوغة البعيدة، بقدر ما هي أكثر قربا من حبل الموت والفناء والاضمحلال؛ لاستجلاء مقالة الفيلسوف الذي طوّح به لا وعيه الجامح إلى الحنين في إعادة الكون إلى (الكاووس) والسديم، ليعيد تشكيله ربّما، أو يتحجر هناك، في أحفورات العدم السحيق.
كان لقمان يقول لأطفاله الذين
لم يُولدوا بعد:
هذه يا أبنائي أرض طفولتي وأسلافي
التي كنت أحلم تحت سمائها التي تتدافع في فضائها الأحلام والغيوم
حين فاجأته بنادق التتار، خفافيش الجحيم
لا، لم تفاجئه، كان عارفا بإشراقة المصير والهاوية.
مولاي أحمد كتبَ ملاحظة في البداية تقول، أعتقد أنك تشاركني الرأي أننا نحتاج بين الفترة والأخرى لمجانين الفلسفة؟
وأعتقد نعم أيها الصديق، أننا في هذه البرهة الحالكة من تاريخ البشر والعالم الذي تقوده قوىً رهيبةٌ واضحةٌ بقدر ما هي غامضة، مستنيرةٌ بالعقلِ والعلمِ بقدر ما هي ظلاميّة بالغةُ التوحُّش والإبادة، عابرة للقارات، والمدن والأرياف والمحيطات، متعددة الجنسيات بنسبيّة عالية، تقود العالم بوسائل شتّى لهيمنة القوة والبطش. أكون بحاجة أكثر إلحاحًا لجنون الفلسفة والشّعر، وحكمة هذا الجنون الرّائية العاقلة على نحوٍ يحدّق في عيون الكارثة الجاحظة بشرر القيامة التي يُقاد إلى جحيمها الصارم هذا العالم الحائر الدائخ المترنّح، ليس عن نشوة وغيبوبة روحيّة، بقدر ما هي آتية من دُوارِ المستقبل القاتم والمصير.
إننا، مولاي أحمد، وأنت المثقف العميق قضيتَ خمسين عامًا في أروقة البحث وسراديب الكتب والمعرفة في بلاد النور حقًا؛ لكن الظلمة ليست بعيدة؛ سواء ظلمة الوجود وأشباحها وأسئلتها المُبْهمة، أو ظلمة أولئك الذين لا يملكون المال اللازم لاستمرار الحياة.
هذه القوى المهيمِنة الكاسرة للرأسمالية المعوْلمة، وليست الأخرى التي ادّعت الاشتراكية والشيوعيّة، وما زال بعضها يتقنّع بالتّسميات التي تزعُم التعارض مع تلك، بأقل وحشيّة؛ بل أكثر فتكًا وسُحقًا للأفراد والجماعات والنُزوعات الحرّة للانفصال عن القطيع الذي تقوده. في الأخير هي تكتّلات لمصالح كونيّة كبرى يلتقي أطرافها في التدمير الذي يصل حدّ الإبادة والتّصفية والاجتثاث لشعوب وجماعاتٍ بشريّة أين منها شريعةُ الغاب الأكثر تواضُعًا أمام إمكانات العقل الباهرة للافتراس والتدمير… بعض مفكري أوروبا منذ القرن الثامن عشر نظّروا (للدولة) كونها الوحش ذا الأنياب المُخيفة والشرّ الذي لا بد منه، كي لا تنحدر الجماعات البشرية إلى شريعة الغرائز والغاب.
هل أصبح الغابُ في ضوء عُنف الراهن بكل صُعُد هذا العنف ما يشبه الماضي اللطيف؟
خاصةً تجاه شعوب مُحتلّة من الخارج، ومقهورة مقمُوعة من أنظمتها المحليّة حتى دفعتها إلى استحضار الزّمن الكولونياليّ المُباشر، بشيءٍ من الرقّة والحنين؟ وهي مُفارقة تدخل في سياق الكوميديا السوداء من فرط مأساويّتها وفظاعتها.
نعم، نحن بحاجةٍ إلى جنون الشّعر والفلسفة والفنون جميعها، الأكثر حكمةً وصدقًا من أطنان التّنظيرات المتشدّقة بمعايير العقلِ والقياس والقيم والمنطق.
دعك من الخبراء والمحللين (الاستراتيجيين العرب) فحدّث بلا حرج، يظهرون فجأة وقت الأزمات الكبرى، وكأنها أعياد موسميّة لهم، هكذا بلا عدٍّ ولا إحصاء تستطيعه حتى الحواسيب الإلكترونية، على هذه الأرض المنكوبة بالمحارق والدماء المُراقة المُستباحة من كل حدبٍ وصوب، ليزيدوا الضحايا تنكيلًا وتعذيبًا. إذ لا حقيقة على هذه الأرض إلا حقيقة هؤلاء الضحايا المفجوعين على كل المستويات.
وإلا طالما لدينا كل هذا الكم من (الاستراتيجيين الحكماء) تكون مآلات الأوضاع بمثل هذه الكارثة والانحطاط؟
يأتيك الجواب المعلَّب منذ قرون، أنها مؤامرات (الإمبريالية العالمية)، لكن لماذا هذه الإمبريالية المتوحشة المتغطرسة تتآمر على بلدان حوَّلَها زعماؤها الكُثر وأنظمتها الطائفية والفئوية من مشروعِ أملٍ ومستقبلٍ إلى (مسلخٍ همجيّ)؟
لماذا تُجهد نفسها في التآمر وهي التي حين تقرر الغزو والحرب تقرره بوضوح ساطعٍ مثلما حصل في غزو العراق الذي دمّر البلاد والعباد وأعاده إلى الوراء عقودًا طويلةً كالحة، ويحصل الآن في دعم العدوان على غزة وفلسطين؟
هذا الاندفاع البركانيّ في الرؤية والرؤيا هو المقاربة الأكثر دقّة لجُمُوح الأحداث والوقائع الدمويّة التي تسود سلوكَ العالم وسلوك قادته الأكثر نفوذًا وبطشًا في سحق الشّعوب والجماعات المغلوبة والمغلولة، إلا ما تبقّى من إرادة الحياة والاستمرار التي بقيت بعد مِحن ومجازر ما زالت قائمة، وربما هي مقدمة لأن يفترس (الأقوياء) بعضهم في حروب كبرى على غرار الحربين العالميّتين وما بعدهما من تحضيرات في الخفاء غالبًا. لكن عبر هذه القفزات الضوئيّة لتطور آلة الحرب والإبادات، لن يكون هناك عودة أو أملٌ ضئيل في العودة إلى التقدم والحضارة.
إلا إذا ذهبنا إلى المقاربة والافتراض الآخر كون شبكات القوى ذات النفوذ الكوني من التماسك العقلاني المحسوب وبلوغ الرشد بعد تلك التجارب المريرة الكبرى، بحيث لو جمحت أحيانا إلى مناطق بعينها من التنافس والصراع التي تصل إلى الخطوط الجحيميّة التي لا تبقي ولا تذر أخضرَ أو يابسًا؛ إذ كل شيء يتحوّل إلى قاعٍ صفصف، كما فعلت ودَفعتْ بما حلّ (بالآخر) البعيد راهنًا أو في جغرافيّة تلك الحضارة نفسها من الشعوب الأصلية مثل الهنود الحمر في الأمريكتين وغيرهم حين قامت أعمدة العمران وأركانه الكبرى على بحر من جماجم وعظام تلك الشُّعوب الهالكة.
في كل الأحوال والاحتمالات يا صديقي مولاي أحمد، الإنسانيّةُ أو البشرية تترنّح مُنهكة تتخبّط في التيه واليباب الإليوتي، حين تفكر في اليوم والغد وما بعد الغد، حتى إنها استنفدت وفقدت معظم أحلام يقظتها ومنامها: تيه الأعمى وعصيان الصيد في الظلام.
«منذ ولادتي وأنا أحمل جنازة، جنازة هذا العالم» يقول الفيلسوف المجنون، على نمط الأقرب في رؤيته التراجيدية حول الوجود إلى سلفه الكبير (شوبنهاور) في ظني من (نيتشه) صاحب (غسق الأوثان) الذي يدين له بالكثير؛ لكنّه يهاجمه أحيانًا حين يتحول هذا الأخير وهو من وُصِفَ بمطرقة القرن العشرين وما تلاه، مطرقة للثوابت الفلسفيّة والمفاهيم القارة، حين يتحول إلى واعظ ومُرَبٍّ في النظر والسلوك. لكن سيوران لم يترك أحدًا إلا انقضّ عليه، حتى حبُّه للكثيرين من أسلافه حبُّ انقضاض عدائيٍّ حنون.
(سيوران) الذي هجا نفسه حين اكتشف أنه صار مشهورا ويُشار إليه في الأوساط الثقافية الفرنسيّة وغيرها كونه كاتبًا مُهمًا أو مفكرًا، ورثى لحال (بورخيس) الذي يكنّ له على ما يبدو إعجابًا خاصًا، على المنوال ذاته، واعتبر أن ذلك الأرجنتيني الفريد كانت الشهرة والدعوات والمؤتمرات حوله أكبر أذيّة أُلحقت به مبرزًا علوّ مكانته وموقعه في مشهد الثقافة العالمي.
وأختتم هذا المقطع الصباحي الأقرب إلى الأُفول والمغيب منه إلى إشراقة الصّباح، في طقس ما زال يهبنا هداياه بتأجيل حرارته القاسية، أختتم بتلك المقولة الأثيرة على قلوب البعض: «كل الجرائم مغتفرة ما عدا جريمة الإنجاب».
ولم يضف في هذا العالم القذر، فقد تجاوز هكذا توصيفات جاهزة سهلة مستقصيًا أثر كائنات المنفى الميتافيزيقي وأيتام التاريخ.
أشرتُ إلى شيءٍ عن الطقس لدينا، بعد مفاجأة الأمطار المبهجة التي أجّلت زحف طلائع الصّيف، عبر المنخفض الجوي الأخير، الذي غمرت أمطارُه عُمان والكثير من مناطق الخليج والجزيرة العربيّة، جعلت أشجار الأودية والجبال والصحارى مثل الغاف (الميموزا) والسّمر (الأكاسيا) والسدر وأعشابًا وأشجارًا أخرى أصغر حجما، وتلك التي ذكرت، أشجار قارّة في أزل المكان، كأنّما وُلدتْ من رحمٍ واحدٍ برهةَ نشأة الكون الأولى. وهي التي بمقدورها تحمّل قسوة الطقس البالغة التي تحول تضاريس المكان والفصول إلى قطعة من جحيم حقيقيّ لا مجازي. جعلتها الأمطار الأخيرة تخضرّ وتورق في السهول والوديان وكثبان الرمال.
هل أسألك عن الطقس في باريس؟ أعتقد أن موجات البرد القارس انخفضت باتجاه طقسٍ معتدلٍ حتى يصل إلى ربيع يختال مُورقًا ضاحكًا حيث أحلم بالقدوم وتصفية الحساب مع الحر والجفاف بعيدًا أيضا عن الصقيع.
يسحقُ الشّعابَ والوديان بحافريه المدرَّبَين، ويقتحمُ البلدةَ بعُوائه المتقطّع الجريح.
ذئبُ وادي الفجّ المتحدّر من سلالِ جبالٍ لا نهائيةٍ كأنما قادمٌ من غموض الغيب والمغيب، لآفاق تمتدّ في سلالته القِطّيّة التي لا يتقادم عليها الزمانُ حتى أتى زحف تقنيةِ الحداثة فغادرت المكانَ لتسكن الأبديّة.
لن تسمع بعد اليوم عُواءه وانقضاضاتِ قطيعهِ مع الفجر النديّ حيث تضطرب الطيور في وُكُناتها، والثعالب تتراجع مذعورةً من غزوتها عائدة إلى الجحور.
لن تسمع بعد اليوم وفي مُقبل الأيام عواءه المرح وقت التزاوج والسفاد، ولا الحزين وقت الجفاف والغروب.
ذئبُ الوحشةِ يعْوي فيْ أعماقي
ذئبُ الحُب
ذئبُ الموْت
ذئبُ الظمأِ الأبديّ
يعْوي في صحرائِهِ المُتلاطمة بالأشواق والجراح.
ذلك العواء القَادم من عُصور ما قبل التاريخ.
تحت شلّال النبعِ القديم، مُغمَض العينين مستسلمًا لآلهة المياه:
متذكّرًا مساء الأمس القريب، وتلك المرأة النائمة على بطنها في العُشب قريبًا من زبد الأمواج لبحر عُمان
نوارس تُحلّق في أحلام الصِّبْيَةِ والخيول.
توحُّد جسدِ المرأة بالنجيل النديّ ربما يُعيد إليها غِبطة الياسمين في صباح من صباحات دمشق الغائمة.
مستعيدًا تلك المُدُن التي أَحَبَّها تتقاطر في نومه كقطاراتٍ هاربةٍ إلى التُّخوم قبل أن يبتلعها البركانُ في أعماقه السّحيقة.
الوجوهُ المُشرقة بالغيابِ وهي تتلاشى في الدخان والضباب.
قال لها: هناك مسافةٌ أقطعهُا بين البحر وعينيكِ حتى حوض خصرك الرّهيف. مسافة أميالٍ ضوئيّة قبل التكوين وقبل الطوفان حين كان القمر يُضيء الغَمْر، لكني سأطويها في زمن الحُلُم العاصف القصير بالوصول إلى موجتك المزبدة بالشبق والحنين.
(العزلة وطنُ الأرواح المُتعَبة) الأرواح الجريحة التي طوّح بها النأيُ بعيدًا بين أمواجه المُزبِدة الغَامضة فوجدتْ في العُزلةِ بعضَ أمانٍ وطمأنينة يُمليها وطنٌ حقيقيّ.
العزلةُ ليست خيارًا قسريًّا، زنزانةً يدفع إليها الاكتئاب والقنوط؛ بل الخيار الأكثر جمالًا وحريةً وضفافًا لا محدودة.
المكانُ الذي يُمكنك أن ترى منه الأشياء والبشر خارج الأقنعة والمساحيق والقشور، ويمكنك أن تقارب حقيقةَ الوجود والطبيعة في جوهرها المُغَيَّب وسط الصّخب والزحام.
إنها ليست منفى؛ بل وطن الأرواح والقلوب التي أثخنتها جراحُ التاريخ والغياب.
عامٌ جديدٌ
السنوات تترى (تكرُّ تفرُّ) تقتحم القرى والمدنَ، الصحارى والجبال وقبلها أجساد البشر والقلوب التي تعبر -إن أدركت- إلى محارق الشّيخوخة المُذِلّة على الأرجح في مثل الزمنِ الوحشيّ الذي نعيش وقد انطفأ نورُ الإيمان والرّوح في أعماقه وسلوكه.
تحطّ وتنقضّ الأيام والسنوات على رؤوسنا وأرواحنا مثل جلاميدِ صخرٍ جبليٍّ حطّهُ السيلُ من علٍ على ما توحي به عبارةُ امرئ القيس الذي يخترق الأحقابَ بشعاعِ خياله الشعريّ الخصيب، وهو يصِفُ حصانه جامحًا بفتوّةٍ ونضارةٍ في البراري والفلوات، كما تجمح السنوات حتى تستقر بحنوٍّ في محيط الزمان الأزليّ.
الحيواناتُ بضواريها تشيخ وتضمحلّ، حصانُ امرئ القيس، أحصنةُ الفرسان شاخت واضمحلّت وبقي الشعرُ فيما يُشبه واحةً من الظّلال والخلود. وبقفزة زمنيّة ضوئيّة لا ينقصها شططُ النأيِ والبعادِ القاسِي، أين ذلك الحصان في بلدة (سناو) الشرقيّة العُمانية، حين جمح وهاج في مضمارِ السّباق، وكان على ظهره ذلك الطفل الذي كُنتُه متجاوزًا الجموع المُحيطة، مكتسحًا طرقات البلدة كإعصارٍ من رغبةٍ وغبار، حتى انتهى به المطاف إلى أُنثاه الموثقة إلى نخلة على ضفة الفلج المتدفّق بالمياه والأحلام.
الغريبُ
الذي تقاذفتْه أمواجُ التيه
أزمنةً
طويلةً
متشرّدًا
في التُخومِ والمُتونِ والأقاصي
أيامًا تتلوها سنواتٌ في البحث عن الغائب الذي لا يأتي
حتى استقرّ أخيرًا في قلبِ العَدَم السحيق.
صمتُ الكائنات اللامرئية على سطحِ الوجود
صمتُ الأحاسيسِ وما خلّفها الذي يُنذرُ بالانفجار
صمتُ الحيتان في الأعماق النّائية للبحار
صمتُ الفراغ للسكون الآسيويّ العميق
صمتُ المقابر: ماذا يفعل الموتى في مثل هذا الطقس الرائع؟
ماذا يفعل الفلاسفة والشّعراء والمقاتلون في حروبٍ لا تنتهي؟
البارحة رأيتُني أمشي مذعورًا بين الجنائز والجثامين المكدسة البيضاء بينما البراكينُ تنفجر من باطن الأرض والفضاء، ما لبثتُ أن تكيفتُ مع هذه القيامة ماشيًا باتّزانٍ في أمواج المياه والسّديم.
أيها الصمتُ، أيها الفراغُ المعبَّأُ بمخلوقاته وأشجاره الخفيّة.
رجلٌ يعتمرُ خوذته ذاهبًا إلى ساحةِ الحرب والموت.
طفلٌ ذاهب إلى مدرسته المهدَّمة التي بناها بأجملَ، في خياله الغض ورؤاه الباذخة، وحين يصل إلى أشلاء المدرسة التي كانت والصحبِ، يعود وقد تلبَّستْهُ صرخةُ الذئب المثكول ملتحِقًا بأبيه إلى الحرب الشعثاء التي لا تبقي ولا تذر، منقذفًا في أُتونها والسعير الذي تناسلت فيه الأجيالُ من غيرِ أن تفنى أو تهرمَ وتغيب.
رائحةُ الأرض والشجر في الصباح النديّ، وذلك الليل المطرز بالنجوم، تغري بالبقاء الأبدي والتوحّد في أحشائها والاضمحلال.
أكان علينا أن نموتَ بالأقساط عبر رحيل الأصدقاء والأحبّة في زمن الموت الفرديّ والجماعيّ العربيّ هذا.
أصدقاء يتواترُ رحيلهم من عمرنا أصغر قليلًا أو أكثر، لا يهم في مسيرة الزمان والمصائر القاسية.
فوجئتُ هذا الصباح برحيل محمد الغزّي، هذا الإنسان النبيل والمثقف الكبير بتواضعٍ وبُعدٍ عن الصخب والضجيج. عاش الغزي سنين في مدينة (نزوى) بعُمان مُدرسًا في جامعتها، فكان المثال الأخلاقيّ والمعرفيّ لطلبته ومن عرفه رغم قسوةِ انفصاله عن تونس الطليعيّة ثقافةً واجتماعًا إلى تلك المدينة الهادئة بين جبالها العالية التي تسكن الأسطورة والميتافيزيقيا، كان الغزّي عاشقًا لتلك الطبيعة الفريدة ومعجبًا بطيبةِ بشرها وكرم الضّيافة. سنفتقدك فقدانًا أليمًا يا غزّي، للشفافية والصدق والعطاء لأجل العطاء.
هذا الحطامُ البشريُّ في البلاد التي دمرها الفسادُ والاستبداد وهجرتها الآلهةُ القديمة والحديثة تتزاحم في فوضى كونيّة كأنما ذاهبٌ إلى انتقامٍ مُريع أو إلى حتفه الأخير.
في قَعر مُظلمةِ * الوجود قُذف الكائنُ المصنوعُ من طين الهشاشة والزّوال، لذلك فهو يُغالب هذه الكينونة العبثيّة بالصّلافة وتوهُّم الصّلابة التي لا تُقهر والصراعات والحروب،
إنه الكائن المُلقى على قارعةِ الكون حسب هايدغر.
ربما عزلةُ المتوحّدين مع ذواتهم والطّبيعة والمعرفة، وأولئك الزّهّاد ومن جرفتهم عواصفُ العبَث الوجوديّ والعَدَم العميْق.
ربما أقربُ في العمْق إلى روحِ المُواجهة لقسوة الصّيرورة والاضْمحلال.
ليس نواحكِ
يا يمامة الوادي الذي اصطحبني من الشرق الأقصى إلى عُمان، قاطعًا كلّ هذه المَفازات من البحار والصحارى، ليس نُواحكِ بل شدوكِ الموسيقيّ الذي يأخُذ بمجامِع الأفئدة والأعماق.
ها أنا مع الفجر الأول مُستلقيًا على فراشي أُصغي إليكِ إلى النشيد الأزلي منذ حمائمِ نوح… ومنذ الطّفولة لامس روحيْ لأول مرة صوتُكِ في تلك القرية التي تغزوها بنات آوى والذئاب.
(مُتّجهًا نحو الجنوب والطريق طويل)
حيث الطقس عاصفٌ مثلجٌ طوال الوقت
شريدًا بين الأصقاع، لا ملاذ، لا نافذة امرأةٍ تُؤويني من برد العالم القارس
في هذا الكون الجليديّ أمضي وحيدًا كدُبٍّ قطبيّ من غير أن أمتلك قوّته في هذه المنازلة الأكثر ضراوةً للقدر الأعمى، ولا حتى أبسط من هذه القوة إزاء قسوة الوحدة والمصير.
يؤخذُ الناسُ والأحبة منك بلمح البصر. (هذه هي الحقيقة الوحيدة)
منبعُ الحقائق، المُنتهى والمُبتدى، في هذا الوجود المُنزلق العَابر، تتدافعُ الخليقةُ في الحياة اليوميّة والأحلام والطّموحات، في النهارات المشمسة والليالي الغائمة المدلهمّة برعودِ برقها والوميض، لكن وحش الأسطورة رابضٌ في غُموض تلك المتاهة في الخطوط المتشابكة والمنحنيات، لينقضّ على الفريسة لحظةَ حربٍ شعواء أو سلامٍ خادعٍ عَميم.
في الأوقات المُظلمة التي كان يرفس في أتُونها هبطَ فجأة عليه الإلهامُ، ينبُوع ماءٍ في صحراء العطشِ والدّم… ظل مستسلمًا لنهر الهذيان الجّارف مغمَض العينين بالكاد يبُصر الورقة البيضاء، يكتب بحنانٍ وعصبيةٍ كأنما يثأر بحَفْرِهِ في جسدِ عالمٍ كاد أن يطوّح به في مقبرة الجفاف والمَوات. ظلّ على هذا النحو من اندفاع المطر السديميّ حتى سقط على أرضية الغُرفة المُفعمة بالفوضى مترحّلًا في وديان النّوم إلى حيواتٍ وأحلامٍ أخرى.
حين تتوالى عليك النكبات
جارفةً روحَك إلى عرينها المُلتهب
لا ملاذَ لكَ إلا الله والجبال، إرشيف الأزل، والبحر.
يتذكرُ الحمارُ الهَرِمُ، صعودَ أول جبلٍ في حياته، بادئًا بالهضاب القريبة حتى يمتطي بخيالِه وجسدِه الفَتِيِّ الذرى المبعثرةَ والغيوم.
مصائرُ النّسوة العاشقاتِ للبحر
تَتشابَه في الجّمال وشفافيّة الانتحار
يذهبن كلّ آخر ليلٍ لاستنشاق نسيمِ الفجر المضمّخ بزبد المحيطات
يلتقطن المحار والأصداف لكائناتٍ متحجّرةٍ ليصنعن العقود التي تزين النحور الفاتنة والصدور
ويلتقطْن لآلئَ المياه
ربما ذات مساءٍ حصلن على عملات من أقطار مُختلفة نسيها بحارةٌ في غَمرة التنقّل والرحيل.
(معرفتنا بسطح المريخ أكثر من معرفتنا بأعماق البحار)
من يستطيع أن يسبر أعماق المحيطات التي غمرها الأزل بأسراره الخفية؟
لا يكاد يتجلّى سرٌّ إلا وتسرحُ أسرابٌ في غور المياه مع الحيتان والأمواج التي تتشكّل من الجريان المتدفّق كالزمن، والارتطام.
في البدء كانت المياه والسديم
وكذلك في المُنتهى والنّهايات التي ستغمرُ الأكوانَ وتمضي بأسرارها التي لن تستسلمَ لسطوة الحواسِيب والرياضيات.
المطرُ المطرُ
يصرخ العُمانيّون كبارًا صغارًا، هؤلاء الذين كادوا ينسون الأمطار الحقيقيّة أمام هيمنةِ الافتراضية بالأفلام في المدن البعيدة.
المطر المطر، تستقبله الأرض العطشى بشغفِ العُشّاق المكلومين، يستقبله الرّبع الخالي الذي تمور في أعماقه جنائنُ الأقوام البائدة.
المطر المطر، يصرخ العُمانيّون وأهل الخليج العربيّ من أعماق غابات إسمنتيّة ومما تبقى من السّواحل والبحار
المطرُ المطرُ
الزاّئر الوحيد بمُحيّاه الأكثر فرحًا وبهجةً يخبّئ حُزنًا دفينًا يُشبه القسوة القادمة والغياب.
المطر المطر، صرخة الثكالى والمحزُونين في هذه البقاع القصيّة.
قيل: (لا يمكن التحديق في عينِ الشمس أو الموت)
وكذلك في عينيْ طفلٍ يفترسُه الألمُ والجراح، يتلوّى يتصاعدُ منه الأنين الصّامت والنّاطق بكل عذاباتِ البشريّة في تاريخها المُكتنز بالمآسي والنكبات.
يحتضنه الوالد، تحتضنُه الأمّ بكل حنانِ الكون، لكن الجراح والأنين لا ينقطعان خطًّا متصاعدًا، منذ مقتلة الجَدَّين الأولَين في تلك البريّة المُوحِشة.
(ثمّة عالَمٌ قديم قد وُلِدَ وجديدٌ يتشكّل لكنه لم يولد بعد)
أعتقد أن العوالم جميعها منذ نشأة الخليقة وبدايات التاريخ، لم تولد إلا في مخيلةٍ عدميّةٍ مغامِرةٍ وشرِسة، مخيّلة قرصانٍ ومثله الغازي الحالم بممالك الشّرق والغرب، أو في مخيّلة فيلسوفٍ وشَاعر.
القرصان المغامر في غموض المحيطات المدلهمة والجزر والأصقاع بحثًا عن ذهبِ الكنز المفقود الذي تراكمت عليه الأمواجُ والأزمنة.
والفيلسوف الشّاعر، يخوضُ غمار الأفكار في محيط الوجود والتّاريخ المُظلمَين المضطربَين بتناقضات لا يُعرف لها مرفأ أو يقين فهي دائما قيد التشكّل والبحث، وما إنْ يتجلى قبسُ المعنى ويتشكل العالَم إلا وينهار من جديد ليُبحر مرة أخرى في غضب الموج وعواصفه من جديد.
كلُّ شيءٍ قيد التشكّل والانهيار بحثًا عن المعنى، عن الكنز المفقود الذي ربما ليس له وجود مثل هذه الأسطر الهاذية حيرةً وعجزًا عن أي فعل إزاء ألم الكائن المُصاب وجراحِه العميقة.
الندم يحفر ذاكرته في الصخر والأفلاج
الندمُ القادمُ من عصورٍ بعيدةٍ يتلبّسك اللحظةَ بكامل أثقاله الباهظة وأمواتِه، كأنك من ارتكب المجزرة، التي ستمتدّ أصداؤها إلى أجيالٍ مُتعاقبةٍ وجبالٍ لا يبلغ طولَها إلا الله
كأنك مَن أبادَ الأجنّة في أرحام أمّهاتها
وأغرق الفُلك التي تحمل النور المنقذ من الهلاك
الندم يحفر ُذاكرته كأنك القربان الأخير لآلهة الأقوامِ الآفلة.
آه، لا تنظروا إلى الغيوم التي تتكاثف في أرجاء سماء القرية أو البندر وفي التخوم،
لا تنظروا إليها كي لا تنبت لها أجنحة وتحلّق مبتعدة تمطر في البعيد:
هكذا كان يردد أولئك البشر الذين قذفهم القدرُ وسط الجبال قريبًا من الصحراء والبحر
حنينُهم الجارف إلى المطر، بعد السنيّ العجاف، يسبقهم إلى استسقاء الغيوم الطالعة للتوّ من خلف رؤوس الأودية والشّعاب
برؤوسٍ منكسة إلى الأرض والتراب
بحناجر تلهث بالأدعية والأوراد
منتظرين النعمة الإلهية التي ستغمر البلاد.
شجرةُ الوادي التي أضحتْ مخضوضرةً بعد الأمطار الأخيرة تؤمها الفراشات والطيور من كل جنس ولون
شجرة وحيدة
وكأنما في حقلٍ شاسعٍ
أو بحرٍ من غير ضفاف
من فرْطِ غبطتها بالحريّة والجمال.
حين تهبُنا الصّدفة أحيانًا لقاءَ صديقٍ وزميلٍ من عهود الطّفولة المعرفيّة والعمريّة، نتذكر ذلك الماضي في ضوء الرّاهن المُعاش…
كانت اللقاءاتُ المتقطّعة بزميلِ الدّراسة المبكّرة أحمد بن سعود السيابي سواءً في مسجد الخور أو في المدرسة السعيدية في الفترة المسائية.. كان ذلك الولد الذي كانه السيابي يَشِي ويؤشّر إلى الشيخ أحمد والوضع المعرفيّ بشموليّة المعرفة الشّاسع… كان الذكاء المبكّر وجنين الاختلاف والاجتهاد والتأويل، عن السائد الذي لا يقبل النقاش والاجتهاد. حتى حين بدأ بعض التلاميذ في تلك الفترة التي أضحت من النأي بمكان حين بدأوا بمجافاةٍ صارمةٍ لما سُمّي (بالعلوم العصرية) وتعلُّم اللغة الإنجليزية، كان هو -وفق ما أتذكّر- سَبّاقًا إلى محاولة تعلُّم اللغة الأجنبية والعلوم الوافدة (الحديثة) بجانب المعرفة الدينية واللغوية العربية المتوارثة والعميقة التي أنجزها الأسلاف للأجيال العُمانية المُتعاقبة.. أتذكر هذا وغيره في ضوء كتبٍ راهنة أهداني إياها السيابي وحوارات كثيرة أنجزها الشيخ أحمد بن سعود السيابي، وما زلت أبحر بين الفترة والأخرى في مياهها المتموّجة بالاجتهاد والآراء المتعدّدة المنابعِ والمصادرِ والمشارب والسجالات من غير تعصُّب، وإن كان سطوع الانحياز الإيجابيّ خياره، لكن عبر النقاش والإقناع. وكيف كان يترحّل بسلاسةٍ بين حقولِ المعرفةِ المُختلفة في مراياها المتنوعة من غير تكلُّف أو شطط واستعراض. يتنقل بين التاريخ والفقه وأصول الكلام والفلسفة، بين المِلل والنِّحَل واللغة والشّعر، قاطفًا من كل حقلٍ أو بستانٍ زهرتَه المفضّلة لتندمجَ في سياقِهِ المعرفيّ ورؤيتِهِ الشاملة إزاء الخالق عز وجل والمخلوق، الكون والكائنات. يترحّل بين أقاليم المعرفة كأنما في نُزهة، وببساطة لا ينقصها العمقُ، تشبه حياته وسلوكه اليومي مع من يلتقي ويتحدث من غير تعالٍ ولا ترفّعٍ مفتعَلَين على الأرجح لدى البعض.
كأنه في نزهةٍ أو رحلة بين ضفاف الأفكار والأديان والتاريخ. وليس حواره الأخير مع مجلة نزوى عبر الزميل عبدالرحمن المسكري إلا نموذجٌ مكثف، وهناك كتاب الأستاذ مروان محسن الذهلي المهمّ، وغيره الكثير الكثير من الكتب والمؤلفات التي تضيف جديدًا إلى المكتبة العُمانية والعربيّة في مجالها وسياقها تصلُ إلى ثلاثين أو أربعين كتابا ربما.
حين أستعيد في هذه البرهة من الزّمن والعُمر، صوت علي بن منصور الشامسي السمائلي (الحباسي) وهو يقرأ بنغمه الموسيقيّ الرفيع وخامة صوته المخضلّة بنداء البراري والمياه، حين يقرأ مختاراته المنتقاة بعنايةٍ فائقة من شعرِ الأسلاف الكبار أو المعاصرين له، كأنما أستعيد طفولةَ الشّعر والزمن والمكان بكامل ذلك البهاء والإشراق.
أتذكر الشّامسي مثل حلم النائم على ضفة ذلك الوادي السّحيق المُفعم بالمياه والرّوغ والحيوات الضاجّة، وهو يتدفق في حضرة الشعراء الشيخ عبدالله بن علي الخليلي، وموسى بن عيسى البكري وأبو سرور، والخال سلام بن حمد الرمضاني، وحبراس السليمي، كان صوته يَتصادَى مع جريان (فلج الحيلي) بمسجد (الحباس) أو يصل عبر فضاء الوادي إلى الضفة الأخرى (الخطو) حيث فلج (المحيدث) بأوانيه المستطرقة هندسيًّا (غَرّاق فلّاح) والشجر وفي طليعته النخيل الذي يتمايلُ فرحًا وبهجةً مع شدو يمام الظّهيرة وصوت المُنشد والنّسيم الذي يشبه رقة الأمهات رأفةً وحنانا.
أو يذهب عبر الوادي الخصيب نفسه إلى بلدة (سرور) ليلتقي بصوت محمد بن سعيد المخلدي الذي يشبهه في الكثير من الجوانب الجماليّة والذوقيّة والمعرفية الحصيفة.
كان زمنًا آخر
وكنّا أولئك الحالمين بالشّعر والمستقبل.
سيف الرحبي
الهوامش
* إشارة إلى بيت الحطيئة:
أَلقَيتَ كاسِبَهُم في قَعرِ مُظلِمَةٍ
فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ