الأسير
الآن التقت عيناهما.. وهي، بهيجة.. دققت النظر فيه جيدا.. محاولة سبر غور هذا الكيان المتداعي للتعرف فيه على عبدالقدوس: الحبيب، المحبوب، العاشق، العزيز الذي لا أعز ولا أغل منه..!
لكنها سرعان ما أحست الغربة.. بل وجه الغربة من هذا الذي يجلس هنا معها في صالة البيت.. اوجعها انها لا تستطيع التواصل بأي شكل معه.. لتعرفه.. لتتأكد منه.. "انه آخر.. (صرخت في داخلها) آخر.. هذا ليس عبدالقدوس الذي كان يذوبني فيه.. ويذوب في بكلمة.. او بنظرة او بلمسة علمني ان اجيد تلقيها والانسجام معها.. بل والاستجابة لها بأحسن منها.."
"هل هذا هو..؟" مر نصل السؤال الحاد على أوتار صوتها الداخلي.
"هذا البقية المتآكلة ممن كان.. انسانا.. أهذا هو زوجي وحبيبي الحي حقا؟" لهب السؤال الحارق أشعل حنجرتها.. فتيبست.. وبلعت ريقها ولكن لا ري هناك يطفىء هذا الحريق الذي شب في ليلة الظلام هذا.
"عبدالقدوس.. شاعر الحب.. والمداعبة والكلمة هذا..؟ أم ان بقايا الخراب هذه هي لرجل آخر؟
اذا كان هذا هو عبدالقدوس.. فكيف ومن حطم الصورة والاصل منه ؟ من هدم هذا الكيان الاجمل في حياتي…؟ ارحمني يا الهي الرحيم من هواجسي هذه.. واغفر لي سوء ظني.. ان كان ظني سيئا، فلم يعد في دنيانا وفي زماننا هذا الساحق الماحق امان. لا أمان ولا وضوح..؟ كم شهيد حرب جاءوا بجثته الى اهله وذويه.. وهؤلاء استقبلوه وشيعوه..
ودفنوه بما يليق.. وقرأوا الفاتحة وأقاموا مجالس العزاء على روحه الطاهرة.. ثم بعد مرور أيام.. او اشهر.. او سنوات -ينبع – الشهيد امامهم حيا.. معافى..! يعود هذا الكان شهيدا الى اهله وحياته.. وكأن موتا لم يكن. كان هناك خطأ فقط.. خطأ في قراءة الاسم او الرقم او العنوان..! فمن يصدقني الحال الآن.. ويبعد الخطأ او الخطيئة عني ويتبت لي أن هذا الغريب.. العائد الى بيتي، والجالس الآن ينتظر مني حبا.. وحنانا.. واحتضانا، وحتى ينتظر مني أنا الصابرة ينتظر الترميم.. ترميم ما تآكل منه وأحاله الى بقايا لا تثير الا الوجع في الروح والقلب والجسد".
= ارهقها وأمرضها هذا الشعور بالغربة والشك والضياع.. وعادت بعينيها اليه لكنها ما رأت الاكومة التهدم والبقايا أمامها..
لا رواء ولا بهاء ولا شيء من عبدالقدوس.. وعاد حريق الاسئلة يكويها بناره..
"هل هو زوجي فعلا وليس أسيرا آخر.. أخطأ العنوان، او تعمد المجيء الى هنا، كما حدث مع أم شاكر.. قبل ستة اشهر اذ دخل عليهم عند الفجر.. اسير، كان بقايا تبقت من رجل.. واعلن أنه شاكر بن محمود شكر وقد عاد من اسره الطويل الى بيته.. ولكنه لم يكن شاكر.. ابن ام شاكر وابن محمود شكر.. بل واحد شبيه اسم الأب والجد..! الا يمكن، في هذا الزمن الذي ضاع فيه كل مقياس، ان تكون هذه البقايا الممحولة، قدوسا آخر غير قدوسي.. ما وجد مأوى ولا زوجة عند عودته، وقد عرف عنى وعن بيتي وأولادي ما عرف في خلال سنوات الاسر هناك (مع قدوسنا الأصلي) وجاء الآن ليرتب له وضعا وحياة معنا، على الحاضر…؟".
= تعبت جدا من فكرة الشك هذا الى حد أنها اغمضت عينيها مرة أخرى.. وصلت في داخلها..
" يا الهي الرحيم.. اشملني برحمتك الواسعة، وانزل علي صفاء عدلك، وابعد عني الشكوك والظنون السيئة قربني يا الهي، بارادتك الخيرة، من هذا المسكين الذي لم أره هكذا مرة في حياتي.. ولم يخطر ببالي ان يصل قدوس الى هذه الحالة. ابعدني عن الشك في هذا المهدم.. الوحيد، الذي يشبه كثيرا تابوت أبيه (ان كان هو قدوس) العتيق عندما عادوا به بعد الدفن. تابوت عتيق فارغ ووحيد..!!
آخ.. من اين لنا بقوة ربانية لتحمل مثل هذا الوجع..؟!"
أثناء استقرار بهيجة في لجة افكارها ومخاوفها وهواجسها كانت الصفنات الطويلة والصمت العميق يسيطر تماما على وجود وعلاقات عبدالقدوس وضياء واسراء.. الا من بعض ابتسامات.. تمنع فتح أي منفذ للدخول الى عالمهم الغريب على عبدالقدوس.
"ألا يمكن أن يكون عبدالقدوس، هذا العائد في هذا الليلة الظلماء، ليس عبدالقدوس الحقيقي؟"
لا تستطيع فكاكا من هذه الهواجس المدمرة.. تنتقل من صفنة الى صفنة.. ومن استغراق الى استغراق.. ومن انغمار تام في لجج محادثة الذات الى لجج.. ولكن القدر قد قدر لها هذا العذاب الذي ما ان يبد أ حتى يستمر ويتطور ولا ينتهي.
– لقد غرقت يا بهيجة، لا أعلم في أي عالم.. تغادرين وتعودين مع سكتاتك الطويلة , المريرة، حتى اني لم اسمع صوتك لا منفعلة في عركة الجيران.. ولا مع وجودي..!
= اطرقت بهيجة كالمعتذرة.. وواصل بصوته المجروح..
-:أما الأولاد فوجودهم هنا مرتبك تماما لا يعرفون كيف يتصرفون.
= قال عبدالقدوس هذه الكلمات شاعرا بحاجة شديدة الى ان يعرف ما الذي يجري في عوالمهم الداخلية التي فرضت عليه صمتا ما كان يتوقعه او يفكر فيه.
-: اعذرني.
– قالت بهيجة بصوت يابس تماما.. ثم اضافت:
-:لا استطيع تحمل انك.. هنا، في بيتنا بسهولة هكذا بعد ثمانية عشر عاما من الـ….. الانقطاع الكامل، الذي… (صمتت لبرهة مختنقة… ثم) الذي يشبه الموت… (احتقن وجهها) لا…:! لا اخبار.. لا رسائل.. لا أمل.
= وخنقتها عبرة بكاء فسكتت وسكت، وعيون ضياء واسراء تدوران.. متنقلتين بين اثنين مطحونين برحى مأساة خالدة ألو جع.. بعد لحظات من الصمت الموجع.. عادت الى الكلام.
-: اعذرني انه لامر ثقيل الوطأة فعلا.. اعذرني أنت الذي توقعت، شأن غيرك من الاسرى العائدين. توقعت.. الرقص.. والموسيقى.. والزغاريد.. ولكن..
= صمتت وهي في قمة تأزمها.. ثم كادت أن تنفجر في وجهه لكنها تنبهت.. فجعلت صوتها خفيفا.. ضعيفا:
-:أكاد لا أعرفك..
– ونظرت اليه بدقة شديدة مراقبة ردة فعله..
-… انت لا تشبه نفسك..
– ماما….
= نهرت اسراء أمها لتمنعها من الاسترسال في جرح هذا الرجل المنتهي.. المكوم الآن أمامهم.. كومة متبقية ممن كان يفترض ان يكون زوج بهيجة وأب الابناء.
-: حق (قال عبدالقدوس).. حق، ما قالته أمك حق، لم أرسل رسائل.. لأنهم عاقبوني عدة عقابات.. منها انهم فرضوا علي منع ارسال رسائلي اليكم.. ليس ذنبي.. لست أنا.. أنا.. ما..
= وأطرق شابكا أصابع كفه الايسر مع اصبعي يده اليمنى.. الاصابع السبعة النحيلة التي تغضنت وتهدل جلدها. لفتت انتباه الثلاثة، ركزت بهيجة نظرها عليه مطرقا.. ثم نظرت بحدة الى أصابعه السبعة.. المفروكة ببعضها بقوة وقسوة.. وانهال حوارها الداخلي:
"… ما كانت اصابعه هكذا. كانت أصابع عازف بيانو رائع، كما كان يقول، عاشق الموسيقى صديقنا، جميل، بدأ عبدالقدوس يتعلم العزف على البيانو.. والجيتار.. ويداعب اوتار العود.. شعلة كانت لا تعرف الخفوت والانطفاء.. يحب كل شيء ويريد كل شيء.. يا الهي، ليس هو، وليست هذه أصابعه، انها الآن أقصر مما كنت أعرفها، مل تقصر اصابع الاسير؟ لا… قد ينحل جسمه، ويشيب شعرا.. او يتساقط.. لكن أصابعه "
ما إن ابعدت عينيها عن يديه واطرقت هي الاخري حتى بانت خصلة الشعر الأشيب اذ انزلق المنديل الرمادي الذي تلف به رأسها بعد ان تحجبت أثر اسره.
ألقى عبدالقدوس، يعتصره ألم أكبر من ألم مجابهتها له بشكوكها، نظر سريعا الى الخصلة المجللة بالبياض، قبل ان تعيد بهيجة المنديل الى رأسها وتحكم لفه حول شعرها الذي شاب ولم تجرؤ على صبغه ولا مرة.
تبادلا نظرات قصيرة جدا، ناطقة جدا, قبل ان تفترق عيونهما من جديد.. هي تسوي المنديل وتغطي شعرها وهو يحاول تغطية اصبعيه الاثنين المتبقيين في يده اليمنى.
-: اسراء بنتي قومي افرشي في الصالة..
= ثم التفت الى ضياء..
-: ضياء ماما، انتهى سكر الحصة، اشتر ربع كيلو من أبي شامل.
-: نصعد ننام.. الوقت متأخر وانا هلكت من التعب.
= اكملت بهيجة وحدجت عبدالقدوس بنظرة ثابتة واخبرته
-: أنت مكانك هنا في الصالة – ثم أضافت -.. مؤقتا ان شاء الله.
= وحين لحظت الانكسار الذي ران على محياه المتهدل الجلد تداركت..
-: نحن معذورون.. فالامر غير بسيط.. ولا سهل.. وأنا لكثرة ما فقدت، وأضعت، وخسرت لم أعد سهلة الـ…
= وقبل أن تكمل.. هز عبدالقدوس رأسه المتعب.. الفارغ من أيما خطة او ترتيب وقال لها مصبرا ومطمئنا.
-: افهم صدقيني أنا أفهم الوضع الانساني.. ووضعنا ليس وضعا انسانيا اعتياديا.. انه معقد.. و…
-: ماما… يللا نصعد.
= قالت بهيجة حاثة أولادها.. وانصرفت.. ودون ان تلتفت أو توقف سيرها قالت بسرعة.
-: تصبح على خير…كذلك ردد ضياء واسراء وهما يغادران الصالة.. وتركوه واجما.. ذليلا مرة أخرى.. واقفا لا يدري ماذا يفعل، وحيدا في فراغ الصالة وظلمة الليل.. وبضع صرخات تأتي متقطعة من بيت الجيران الايسر.. وبيوت أخرى.
خرج أهلها الى الشارع.. منتظرين عودة الكهرباء المقطوعة الى التيار.. بعد ان طار النوم من عيونهم جميعا.
في الدقائق الأولى التي جمعت بهيجة وابنيها في الغرفة العلوية سادهم صمت متوتر، في داخلهم لم يكونوا متفقين مع أمهم بشأن نوع المعاملة التي عاملت بها.. عبدالقدوس.
ومما زاد في توترهم انهم لم يتعودوا ان ينطقوا كلمة "بابا" منذ أن بداوا يتكلمون.. والآن يجدون صعوبة كبيرة في نطق هذا الكلمة وقولها لرجل لم يروه.. لم تلتق عيونهم بعيونه.. لم يتعودوا وجوده.. هذا اضافة الى أن هذا الرجل.. ان هو الا.. بقايا، سواء كان أبدهم فعلا او هو رجل آخر، ضل طريقه، او فقد أهله وبيته واختارهم ليلوذ بهم ويركن، آخر العمر، اليهم.
-: لا تتعبوا أعصابكم.. والا ترهقوا نفوسكم، ابقوا بعيدين عن هذا الموضوع.. أنا اتصرف..
-: كيف نبقى بعيدين يا امي..؟
= احتج ضياء..
-: انه.. ابونا..
-: من قال انه أبوكم..؟ كيف نتحقق من انه أبوكم ؟ هل تقدران تثبت لي بدليل واحد.. صغير.. أنه ابوكم ؟
=… بدأ الرجع الكبير يغزو الشاب الوسيم.. الصغير، ويعقد عينيه، ويقطب وجهه ويوجع روحه وجعا ما عرفه طيلة فقدانه لابيه عبر السنوات الثماني عشر التي هي عمر ضياء..! اسراء لا تفعل أكثر من ان تنظر وتسمع مرتجفة الشفتين بكاء صامتا تنتابها الهواجس والأسئلة.. والخوف من نتيجة كل ما سيسفر عنه موقف بهيجة من عبدالقدوس وشكها فيه..
بقي عبدالقدوس حائرا تماما.. غريبا تماما (قفزسطر من مكتبة ذاكرته وانتصب أمامه) ان ابعد البعداء من كان بعيدا في محل قربه..!
"أي والله يا أبا حيان.. يا توحيدي.. يا فقيرا ومظلوما ومنبوذا مثلي..: أي والله..".
نظر الى المكتبة.. والى الركن الخاص بأبي حيان التوحيدي حيث كانت هناك كتب التوحيدي.. وكتب عنه.. لم ير أيا منها.. باعتها بهيجة.. باعت الامتاع والمؤانسة، الله وحده يعلم ماذا اشترت بثمنه.. طحينا.. ام بطاطا.. أو ربما كيلو طماطم..!!
احتار عبدالقدوس بين أن يتمشى في الصالة.. او يلتقط كتابا مما تبقى من كتبه التي لم يشر قرها أحد.. ولكن من أين له قوة البصر ليقرأ في عتمة لا يضيئها إلا فانوس يقاوم بضعف شديد ظلام انقطاع التيار الكهربائي..! لم يطق الجلوس أكثر مما جلس.. ايدور في زوايا البيت ؟ ما جدوى كل ذلك ؟
"… علي أن أرتب الامور.. ان أفهم ماذا جرى في دخيلتهم، هؤلاء الذين قاسوا ما قاسوا بسبب غيابي عنهم لزمن… "كارثي" نعم.. الزمن.. كارثة، سيف.. كما انه صديق وحبيب.
يجب أن أفهم ما جرى… وما يجري الآن فلا الهيستيريا ولا الصراخ او المطالبة الملحة.. المتعجلة تستطيع ان تؤقلمني مع المكان.. ومع الانسان.. الموجوع، في هذا البيت.
الشيء الاكيد هو انهم لا يعرفونني.. لم يعودوا يعرفونني.. ان هذا واضح في سلوك بهيجة التي صدمتها رؤيتي.. في حالي هذه.. استنجد بم أو بماذا لكي…"
= قطع حواره الداخلي.. اوقف تياره المتدفق وانهار جالسا..
"… علي أن أدرك أنا وضعهم مثلما أريد منهم أن يدركوا وضعي، انهم الآن، ليسوا بأقل وجعا مني، أو أقل ضياعا مثلي.. أعرف – أعرف جيدا ان طريقي اليهم ستكون طويلة، بطول سنوات الاسر الثماني عشرة.. ان بقي للبقية الباقية مني عمر.."
اشعل سيجارة من لهب الفانوس.. امتص نفسا عميقا.. عميقا، ومن خلال الدخان المنفوخ بحسرة من أنفه وفمه.. جال ببصره في زوايا واركان البيت.. استحضر العزائم والولائم والضحكات والنكبات،. كل زاوية او ركن.. او جدار يقع نظره عليه.. يستحضر له شخصا او اكثر من أهل البيت.. من الجدات العجائز والشيوخ والشباب والاطفال.. الذين ترقم أن يردهم عند باب مركز الشرطة في لحظة استلامه اسيرا عائدا الى أهله.. لكنه لم ير أحدا منهم.. لا شك أن بعضهم مات.. والبعض الاخر سافر.. "معذورون..".
معذورون لان مواد الحصة التموينية لا تكفيهم وهم في ضائقة وعوز ما استطاعت ان تعوضه حاجات البيت التي باعوها ولا كتب المكتبة العامرة التي بناها بسنوات وبأموال كثيرة. معذورون.. لاني جئت.. هكذا.. كالقضاء.. في وقت غير مناسب.. واربكت نظام حياتهم.. ونظام استقرارهم، الذي رغم كل الاحوال كان قد استقر على حال معينة.
معذورون.. لاني الآن ابدو بالتأكيد، نفرا زائدا، جاء بلا دعوة ليشارك معدومين بقايا ما يملكون من نزر لا يغني ولا يسمن. معذورون، لم ينتظروني.. لم يتعودوني، كل هذا حق، علي الا اتبرم أو اعاتب، او اتوجع أمامهم.. فهم أيضا لديهم ما يكفي من الاوجاع، سأنتظر، فأنا عندي من الصبر جبل.."
قادته نظراته الدائرة في الصالة بعدما وجد راحة من حوارا الداخلي المتدفق، الى المكتبة في عمق الصالة.
لهث نحوها، وقف أمام ارففها الفارغة الآن تماما، الا من بعض كتب قليلة. "خانات " المكتبة تبدو مثل فمه الخالي الذي فقد عددا من أسنانه.. ".. يا سبحان الله.. شبيه الشيء، منجذب اليه.." ابتسم أمام فراغ مكتبته، لكنه سرعان ما نسي الابتسام عندما توالت الاسئلة من داخله وهو ينظر الى ذات الاماكن التي يعرفها جيدا والتي كان تضم كتبه:
«.. أين بقية الكتب…(! أين تاريخ بغداد للخطيب البغدادي؟ أين المتنبي؟ أين عيون الزا…؟ أين مجموعة الجاحظ ؟ أين مجلدات التراث الشعبي..؟ أين السياب:؟.. أين النواب ؟ أين ابو حيان التوحيدي…؟ أين فوكنر وهيمنجواي..:؟ أين الجواهري..؟: أين الوردي… اين تاريخ الموسيقى؟ اين ؟".
وتصاعدت الـ اين " مع تصاعد صوته.. ودوران نظراته الراكضة عبر أرفق وخانات المكتبة الخاوية.. خواء حياته وحياة هذا البيت في ساعة الوجع هذه…
«… يا الهي.. ها هو الوجع الدائر في الاضلاع والحنايا، والصدر.. وفي الروح هذه المرة، قد عاد يدور بأقسى وأشد.."
– ثم صاح في دخيلته، وهو ينهار أمام المكتبة الخالية ,= كتابوت أبيه… الفارغ والوحيد، صاح بأقصى صوت هامس يستطيعه.
"… توقف.. توقف أيها الوجح، توقف وغادرني. لا تداهمني وأنا هنا في بيتي ووسط أهلي.. ابتعد عني لانهض.. وأرى نتيجة المطحنة الدائرة في الغرفة العليا.. الى الجحيم بأول نص مسرحي وأول قصيدة حب كتبها العراقي قبل ستة آلاف عام.. الى الجحيم.. الى الجحيم.. فقط غادرني أيها الوجع الذي ما عرفت غيره طوال ثلث عمري الأخير.. توقف يا وجعي"
شعر بضغط فكيه على بعضهما بقوة اوجعته حي الاخرى.. نهض بصعوبة من جثوته- كنهوض بطل تراجيدتي امام بوابة معبد عريق.. عتيق.. هدمته حرب القبائل التاريخية..:.. وقف.. حاول التنفس. لكن مسار الوجه في الصدور والظهر منعه.. ركز ذهنه ثانية على حركة الرجع، الذي يدور الآن بسرعة.. وقوة وضغط. حتى استطاع كما يظن منذ عشر سنوات. ان يبعد الرجع.. وان يعود الى حوارا الداخلي.. متلمسا بيديه.. فراغ أرفف المكتبة..
".. أكيد باعتها بهيجة مع ما باعت من حاجات وأثاث البيت التي كانا يحبانهما.. لأنها أشياء حبهما وزواجهما وبيت سعادتهما.. نفث نفسا حارا..
"… معذورون، معذورون، معذورون، لا يوجد فينا مقصر.. كلنا معذورون، الا هذا القدر الذي فرض علينا جميعا وسحقنا بالتساوي…"..
ابتعد عن المكتبة.. اراد أن يجلس ليرتاح.. لكنه توقف في مكانه ونظر الى فراغ البيت.. والصالة والمكتبة.. وفراغ روحه.. وصدرت عنه صرخة مكبوتة:
"… يا الهي ما هذا العذاب..؟: اريدهم، اريد أهلي.. اريدهم قريبين مني… أوف… علي أن أوسع صدري وصبري كي لا افقدهم أو أفقد الخيط الواهي الذي ظل يربطني بهم طيلة مسافة أيام وليالى الاسر.. ما يخالف.. أصبر.. نعمة ربانية هذا الصبر الذي أعرفه والذي تدربت عليه.. ودربته معي وطورته وعمقت سنوات عمره في اقفاص الأسر هناك.. وفي قفص الغربة الموجعة هنا.. الآن…!
اريدهم.. احبتي بأي ثمن… بأي تضحية "هل بقي في ما اضحي به..؟" والله انت مضحك يا عبدالقدوس.. تضحي.. خلاص.. انت ضحيت حتى أصبحت الضحية.. اصبر يا عزيزي حتى لا تكن ضحية.. جديدة لوضع جديد".
جلس.. دخن سيجارة ثانية اشعلها من الفانوس.. هذه المرة.. بعد أن اصبحت سيجارته السابعة رمادا صرفا، مص نفسا مريحا وطويلا وببطء شديد نفث الدخان.. تنفسه الآن مرتاح..
«.. جيد، جيد يا أبا ضياء، بدأت ترى دربك بعد أن عدت ونهضت من كبوتك وجثوتك، بدأت تضيء طريق الوصول الى بهجتك.. وضيائك واسراء هواك..
– لذ له هذا التداعي الذي كان يمارسه في نفس هذا الصالة.. مع الورقة والكتب، والكلمات.. والكتابة..
شعر بقوة جديدة في داخله..
"… جيد والله يا ابا ضياء.. بدأت ترتب أمور وضعك وتفهم وجعك.. تسيطر عليه.. وتستعين بك.. بنفسك بصبرك. نعم.. أنا صبور يا عبدالقدوس.. ألا تعرفني؟
تدربت جيدا على الصبر.. واستطيع الآن أن امنح جميع فاقدي الصبر، صبرا لم يعرفوه ولم يجربوه.. أو يطرقوا دروبه.. نعم.. انا صبور،أنا ابن صبر العراقيين كلهم من أول اجدادهم قبل آلاف السنين وحتى آخر احفادهم.. الصغار الذين يموتون جوعا و- وجعا..- ياه.. يا عبدالقدوس انظر الى التوافق العجيب بين – جوع – و- وجع – أهذه صدفة؟أم ان هذا بناء روحي.. نفساني، تاريخي تجذر في ابعد تلافيف الروح والذاكرة.. والأدب… والشـ… كفى.. أين أنت من هذا التداعي الأدبي..؟
مص نفسا آخر أكثر راحة وسعادة… واسترجع مقام اللامي من أعماق نفسه..
«.. أنا بصبري على صبر أيوب.. عديت..
اذا انت نجوم الليل.. عديت..
أنا.. نجوم الظهر طلعن علي..:
دندن – الابوذية – بطرب منتش.. ارتاح.. وبصيص أمل بدأ يلوح في عتمات المكان وعتمات الروح، ويشي بأنه سيسوي كل مشكلة سيطرحها وضع المطحنة التي تجري فوق رأسه في الغرفة العليا..
"… ولكن ما الذي يجري هناك فوق رأسي؟ ما المطحنة التي تطحنهم هناك ؟ أخاف ان اصعد واتدخل، وحتى اني أخاف ان اتساءل.. فأوتر الأجواء المتوترة أصلا.
اجهشت اسراء ببكاء مر لم تجربه من قبل، بكاؤهم صار أكثر مرارة عما كان عليه في الايام القليلة الماضية قبل وصول عبدالقدوس.
رفعت اسراء رأسها بعينيها الغارقتين بدموع لا تعرف الرحمة.. غضبت
-0ماما.. انت الآن وضعتنا أمام مسألة كافرة، نعم كافرة جدا. علينا الآن. حسبما تعتقدين، ان نتأكد من هوية الرجل.. لا والله بقايا الرجل، الموجود تحت 0أهو أبونا أم هو شخص آخر…: !لا اصدق هذا.. لا اصدق.
= ضياء وبهيجة كانا يصغيان باحترام لكلمات وبكاء.. وتساؤلات اسراء.. صمتهم وقور.. واصغاؤهم جليل.. وهي اسراء لم تبق وجعا داخلها الا ونفثته بكامل حريتها وبكل صوتها…
-: أين اذن نتيجة انتظارنا- الكافر- معك طيلة هذا الاعوام ؟= تساءلت بحرقة.. واستمرت:
أتكون النتيجة شكا قاتلا.. لو صح.. أو أخطأ فسيقتل فينا البقية الباقية من انسانيتنا.. اهذه هي النتيجة المرجوة.
-: بنتي: حاولت بهيجة أن تتكلم بهدوء.. لكن اسراء قاطعتها:
-0ماما.. حبيبتي، لا عدل في هذا الذي يجري الآن، لا هنا ولا هناك في بيت كرم.. ولا حتى فيما تعلمين من سر الاسرير المنتحل شاكر محمود شكر.. لا عدل ولا حق.. ولا حقيقة ولا انسانية..
= ومنعها طوفان وجع بكائها الطاغي من الاستمرار.. وحل صمت الظاهر.. وفوران الداخلي.. الذي يغلي كمرجل ينتظر الانفجار تحت ضغط حرارة لم يعهدها.
تركوا كل شيء كما هو.. والكلام كما هو والوجع كما هو، والكل – فوق وتحت – ينتظر ما لا يعرف، وحل هدوء جديد للحظات..
عندما هدأت اسراء.. تكلمت بهيجة.. معلمة الأدب العربي المحبوبة من جميع من يعرفها.. تكلمت بهدوء عميق معروف عنها.. ومتصفة به.. وبصوتها المدرب.. لكن المنكسر الآن، وبتركيز فائق وبوضوح نطقت كل كلمة.
-: كما حميتكم وصنتكم طوال السنوات الثماني عشرت التي مرت، والله يعلم كيف مرت، علي أن أواصل حمايتكم وصيانتكم حتى أخر لحظة في حياتي.
أنا المسؤولة، وأنا الاعرف منكم في هذا الكارثة التي حلت بنا.. كفى تعذيبا لانفسكم يا ابنائي، لا اريد الخوض، معكم، أكثر في هذا الموضوع.
-: أمي.. تحمينا من ماذا؟ وممن..؟ لم أرك ضائعة كحا اراك الآن.
-: ضياء حبيبي.. اترك مسألة ضياعي، ولا تخف علي.. لكني يجب أن أحميكم من كل احد.. ومن كل شيء اعتقد انه سيسبب لكم أذي ومشكلة.. الناس بيت بلاء في هذا الزمن الذي ضاع واضاع كل قيمة.
-: وتحمين نفسك، تفكرين بنفسك أيضا، ليس نحن السبب الوحيد الرئيسي في ضياعك وشك.. انت… انت أيضا مهمة في هذا كله.
– بنبرة عتاب وادانة خفية قال ضياء لبهيجة.
-: نعم.. احمي نفسي وأفكر بنفسي.. لا اخفي عليكم شينا من مشاعري وهواجسي.. أنا التي صامت جوارحي كلها.. اجبرتها على الصيام.. صامت روحي وجسدي ويدي وعيني واذني وفمي وقلبي.. صام كل نبض حي في، كل شعور من مشاعر الانسان.. ابعدته طيلة ثمانية عشر عاما واقسرته على السكوت والصيام.. حملت كل كياني الحي.. كيان انسان في عز شبابه.. حملت هذا الكيان وأجبرته جبرا على الصيام التام..
«… والله لو كانت بينيلوبي مثلي وفي زمني هذا اذن لحاكت عشرات السجاجيد…"
اقفلت أبواب الجوارح والعواطف.. وكان من حقي، كامرأة شابة، شروعا وقانونا، أن افتح هذه الابواب في الوقت المناسب ,. للرجل المناسب.. لكني اغلقت، من اجلكم انتم بالذات. ومن اجل ذاك الحبيب الغالي، اغلقت نفسي على نفسي، كيلا يصيبكم أي مكروه او تعانون أي ضياع، والآن أيضا يزداد اصراري على هذا الصيام.. لأ… صو… نكم…
= جرها البكاء الى أسفل.. لكنها نهضت.. قاومت.. ومنعت الدموع من الانهمار..
-: ألا ترون كيف نشفت ؟ ونضبت ؟ا وتيبست ؟ لماذا؟ من أجلكم.
– هم ضياء أن يقاطع بهيجة لكنها تدفقت مانعة اياه عن مقاطعتها..
-: من واجبي، كامرأة عراقية عاشت الهول بعد الهول، في هذا الزمن الحامض، يا أحب من عندي، أن أقول لكم بوضوح وصراحة
أنا أشك بهذا الرجل الذي استلمناه اليوم باعتباره زوجي وأباكم.. الخوف يا اعزائي.. الخوف يعمل ذبحا في روحي وقلبي وعقلي.. الخوف..
= وسكتوا مجددا..
تحت، كان عبدالقدوس يقف في وسط الصالة تماما دافعا كل حواسه وسمعه وذهنه.. وعضلات وجهه الى أعلى، محاولا أن يلتقط ما يمكن التقاطه من الكلمات.. الصارخة أحيانا، المندفعة الحادة والباكية والموجوعة التي كانت تدور بين الثلاثة في الغرفة العليا.
لكنه.. مع كل خبرته في هذا المجال، لم يستطع أن يلتقط الا انصاف كلمات.. أو كلمات لا يتمكن من ربطها.. على الرغم من تيقنه الآن بأن هناك حوارا جارفا يدور بين طاقي رحى المطحنة التي تطحن بهيجة وضياء واسراء، كما تطحنا هو.. هنا.. تعب، وجلس مشعلا سيجارة تاسعة..
قاسم محمد (كاتب ومسرحي من العراق يقيم في الشارقة)