في التراث الموسيقي العُماني، هناك فرق بين الصوت كمصطلح فني بمعنى الأغنية أي أغنية، والصوت كفن موسيقي له قالب فني (قالب السهرة) وصيغة لحنية وإيقاعية وأسلوب أداء متفرد. من هنا، فإن الأصوات بالمعنى الأول كثيرة ومتنوعة، غير أن النمط الموسيقي المشهور بالصوت الخليجي له قصة جديرة بالعناية والدراسة لما لها من أهمية ليس في تاريخ الموسيقى بعُمان وجنوب الجزيرة العربية والخليج فحسب بل وكذلك في منطقة المحيط الهندي وشرق آسيا.
في مطلع القرن العشرين ظهرت تقنية تسجيل الأغاني وإنتاج الأسطوانات وتجارتها الأمر الذي ساهم في حفظ جزء هام من التراث الغنائي للمنطقة. وفي ظل تزايد العناية بالموسيقى المحلية وتراثها، وإدراك أهميتها في صياغة الهويات الثقافية الجديدة وتأصيلها في الدول التي نشأت حديثاً في منطقة الخليج خلال القرن العشرين، قدم بعض الدراسين من المتأخرين تأويلات واستنتاجات غير دقيقة عن أصول الأصوات الخليجية أثارت جدلاً بين اليمنيين والخليجيين.
لعب أهل الكويت والبحرين بصفة خاصة دوراً تاريخياً في الحفاظ على الصوت ونشره بالأسلوب الذي نعرفه اليوم باعتباره رمزا للهوية الخليجية عامة والكويت والبحرين خاصة، ودليل على الدور الثقافي والفني للخليج الذي برز بشكل مؤثر كمركز استقطاب للفنانين الموسيقيين من أرجاء الجزيرة العربية بلغ أوجه في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. ومن الملاحظ أن الهوية الموسيقية التي تعرف بـ ” الخليجية ” قد توسعت إلى خارج حدود الخليج العربي الطبيعية لتشمل في وقتنا هذا كل أرجاء الجزيرة العربية من جده غرباً إلى المكلا جنوبا ومسقط شرقاً.
في المقابل انشغل اليمنيون جنوباً بظروفهم الداخلية وتراجع إعلامياً دور مدينتي عدن والمكلا ذات الصلة الفنية المباشرة بعُمان والخليج، بسبب حرب الاستقلال عن بريطانيا وإعادة تشكيل النظام السياسي في جنوب اليمن، كما تم القضاء على الدولة العُمانية في زنجبار عام 1964م ذات التنوع والانفتاح الثقافي وضعف مركزها في عُمان الطبيعية.
إن مناقشة مسألة غناء الصوت في التراث الموسيقي العُماني أمر حديث جداً، ورغم أن الكاتب قد تطرق إلى جذور هذا الفن الموسيقي في بحث سابق منشور بعنوان” جذور غناء العوادين العُمانيين وتطوره ” إلا أنه ربما تكون هذه المقالة الأولى التي تحمل هذا العنوان المباشر، ذلك أن الدراسات الموسيقية في عُمان نشأت متأخرة بعد تأسيس مركز عُمان للموسيقى التقليدية 1984م، وهي بشكل عام لا تزال في بداياتها، وتواجه تحديات متنوعة منها قلة الباحثين المختصين. في المقابل لا تولي البحوث والدراسات عن الموسيقى في الخليج واليمن أهمية لدور العُمانيين الفني.
وإذا كانت الأصوات التقليدية ـ بمعنى الأغاني ـ في ظفار تؤدى في الغالب بمصاحبة آلات إيقاعية باستثناء شرح بيت توفيق، فإن الصوت كفن موسيقي يؤدى بمصاحبة آلة العود، وأبرز مشاهيره في عُمان هم من مدينة صور.
إن شهادات الممارسين العُمانيين رغم قلتها هي على درجة كبيرة من الأهمية، ولكن قبل أن استعرض بعض ما تمكنت الحصول عليه منها، لا بد أولاً من النظر في معنى “الصوت” كمصطلح في التراث الموسيقي العُماني ودلالاته الفنية، ثم سأقدم بعض الملاحظات التي أسست لإشكالية أصل الصوت في الخليج وجذوره الثقافية والفنية.
جاء في معجم موسيقى عُمان التقليدية بشأن تعريف الصوت بأنه ” مصطلح عام يشير إلى مقطوعات غنائية، يسبق هذا المصلح اسم الفن الذي يغنى فيه(1) مثل:
ـ صوت برعة، غناء تؤديه فرقة بيت توفيق في صلالة
ـ صوت شرح، غناء تؤديه فرقة بيت توفيق في صلالة مصاحبا للعبة الشرح.
ـ صوت الهوج، من أغاني الأعراس التي تؤديها فرقة حديد بن شمسة في مرباط.
ـ صوت سيلام، من الاصوات التي تؤديها فرقة حديد بن شمسة في مرباط.
وفي دراسة سابقة أشار الباحث إلى تطابق معنى الصوت في التراث الموسيقى العُماني مع ما جاء بشأنه في كتاب الأغاني الشهير(2).
الصوت الخليجي
في ظل الثورة المعلوماتية الحديثة، تكشفت الكثير من الحقائق عن وجود هذا النوع من الغناء وممارسته بأساليب فنية متنوعة في منطقة جغرافية واسعة تمتد من اليمن جنوباً إلى عُمان والخليج وكذلك إلى شرق أفريقيا والهند وشرق آسيا. وهذا يعني أن نتائج الدراسات السابقة التي كانت تقتصر على حدود دول مثل الكويت أو البحرين وتنفي وجود الصوت في أي مكان آخر هي على المحك الآن، والمعلومات الجديدة تؤيد وجهة النظر اليمنية والحضرمية على وجهة الخصوص؛ فأينما كان الصوفيون الحضارم كان الشرح والصوت. وأصوات الزربادي والموزعي الحضرمية التي نعتقد أنها الأصل، يماثلها شرح بيت توفيق في مدينة صلالة، وشرح بيت شمسة في مرباط، وكذلك شرح بعض المدن الساحلية العُمانية وخاصة مدينة قريات التي تقع ضمن إدارة محافظة مسقط العاصمة.
في البداية لا بد من التنويه إلى أهمية وتاريخية الإنجاز التوثيقي الذي قام به المؤرخ الكويتي أحمد البشر الرومي من تسجيلات سمعية ليوسف البكر آخر حفظه الأصوات من بين ثلاثة تلاميذ المصوت الكويتي الشهير عبدالله الفرج (ت.1901/1903) وهم ابراهيم بن يعقوب، وخالد البكر(3). وقد كتب الأستاذ الرومي عن ذلك، القصة التالية:” كنت أزور يوسف البكر في ديوانه وكان يعزني ويكرمني عند زيارتي له، وكان سنه حوالي الثمانين، فكنت أفكر كثيراً كيف نحفظ هذا التراث لو مات يوسف البكر، وكان ذلك في أوائل عام 1953. ومن حسن حظي أنني زرت في تلك الأيام الشيخ جابر العلي الصباح نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الإعلام حالياً، فأهداني مسجلاً جديداً وكان من أوائل المسجلات التي وصلت الكويت ففرحت به فرحاً شديداً. فاشتريت عددا من الأشرطة وذهبت إلى ديوان يوسف البكر لأسجل له بعضا من أصواته فرفض في بادئ الأمر. فأقنعته بأن نسجل صوتاً واحداً ليسمعه فوافق على ذلك، وعندما سمع صوته ارتاح وطرب وقال: كأنني أسمع صوت أخي خالد فوافق على تسجيل كل ما يعزفه من أصوات واستماعات حتى أنني أبقيت المسجل في ديوانه وفي كل ليلة أزوره لأسجل ما يعزفه واسمِعه ما سجلته، وقد سجلت له أكثر من ستين أغنية ما بين صوت واستماع ولم استنزف كل ما عنده ذلك أنه ضعف ومرض وفي يوليو 1955 انتقل إلى رحمة الله (4)”.
وقد اعتمد الباحث المصري أحمد علي صاحب أول كتاب عن الصوت الكويتي على تسجيلات المؤرخ أحمد البشر الرومي تلك، ونشرها في كتاب له بعنوان: الموسيقى والغناء في الكويت. ورغم أهمية البحث إلا أنه ساق فيه عددا من التأويلات النظرية الخاطئة تجاه جذور الصوت وأماكن انتشاره بسبب ما كان ينقص الباحث من معلومات عن موسيقى المنطقة عامة وصلاتها الثقافية.
تشير معظم المصادر ذات الصلة بالتأريخ للصوت كفن موسيقي في الخليج إلى أن رواده الأوائل كعبدالله الفرج في الكويت ( 1836 ـ 1901/1903) ومحمد بن فارس في البحرين (1895 ـ 1947) كانا قد اخذا هذه الصنعة الفنية عن الفنانين العرب الجنوبيين اليمنيين عامة والحضارم خاصة. وفي تقديمه لكتاب الموسيقى والغناء في الكويت كتب المؤرخ الكويتي أحمد البشر الرومي:” ولد الفرج وتربى في مدينة بومبي بالهند عام 1836م (..)، وكانت بومبي في تلك الأيام تزخر باليمانيين من جميع أطراف اليمن وهم أهل طرب (..) ومن المحتمل جداً أن تكون صلات عبدالله الفرج بالغنائيين من هؤلاء اليمنيين قوية جداً بدليل معرفته بالأصوات والاستماعات اليمنية معرفة ممتازة مما أتاح له أن يدخل عليها التعديلات التي أكسبتها هذه الحيوية الحية والجمال مما لم نجده في الأصوات والاستماعات اليمنية الحالية(5)”.
إن نقل الطرب العربي اليمني وأجواءه من مدينة بومبي إلى الكويت القرية الصغيرة الواقعة في شمال الخليج في نهاية القرن التاسع عشر كان من وجهة نظري حدثاً غير عادي بكل تأكيد.
في المقابل كان للبحريني محمد بن فارس استاذ على قدر كبير من الأهمية عرف في المصادر البحرينية باسم عبدالرحيم اليماني أو العسيري، وتذكره المصادر الحضرمية باسم عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ أبوبكر(6). وفي كتاب: ” محمد بن فارس أشهر من غناء الصوت في الخليج ” لمبارك العماري قصص عديدة عن هذه العلاقة الفنية التي لم تؤثر على بن فارس فحسب بل وعلى مطربين آخرين قبله وبعده كضاحي بن وليد ومحمد زويد وغيرهم. وقد وصف العماري دور ومكانة الفنان عبد الرحيم بقوله: ” تشاء الأقدار أن يصل للبحرين فنان مقتدر يريد الاستقرار بها.. سكن في غرفة بحي المهزاع بالمنامة.. أخرج من بين أغراضه عوداً كان قد أحضره معه ويمارس هوايته، وابتدأت الأنظار تلتفت إليه. لم يكن بالهاوي أو المبتدئ بل كان فناناً محترفاً وقديراً بكل ما للكلمة من معنى .. طار اسمه بين محبي الطرب وصار كل منهم يتمنى مجالسة عبدالرحيم العسيري للاستماع إليه والاستمتاع بفنه(7)”. ويضيف العماري في مكان آخر من كتابه ” ليس المرّة الأولى التي يصل فيها للبحرين .. فقد زارها قبل ذلك بزمن طويل أي قبل نهاية القرن التاسع عشر، وتعرف آنذاك على أبرع فنانيها في عصره وهو صقر بن علي الذي التقى به مرات عديدة بعد ذلك في مسقط والهند(8)”.
وفي هذا السياق اقتبس من كتاب العماري الفقرة الهامة التالية: ” كانت في الهند ملاهي عربية بها مغنون عرب ويرتادها البحارة والزوار العرب والجالية العربية.. أما مسقط فقد اعتاد ( محمد بن فارس) أن يزورها دائماً، وله فيها معارف وأصدقاء منهم شاعر يحرص على تدوين نصوص الأغاني المتداولة عندهم، وكذلك ما يسمعه من أغاني جنوب الجزيرة العربية، ويقال: إن محمد بن فارس كان ينقل منه بعض النصوص التي تستهويه ليعيد صهرها في بوتقة وجدانه حيث يذيبها ويشبعها تحريكاً حتى يبلورها في لحن وأداء جديدين يماشي الذوق الخليجي.. ومن أصدقائه هناك السيد شهاب، الذي يستضيفه خلال إقامته هناك وفي مطرح له صديق يدعي الشيخ أحمد. وقد زارها (مسقط) مرّة برفقة محمد زويد وعبدالله الطبعان، وعبدالله بيجاه، ومرّة أخرى مع عيسى سلمان دلهوس.. كما صحبه في إحدى رحلاته زميله عبدالله بن علي بن إبراهيم الملقب بالطبعان الذي كان يجيد القراءة والكتابة، وصحبه في رحلة أخرى أخوه صقر.. ويعتقد أنه وصل إلى عدن.. كما زار الكويت (9)”.
الصوت العُماني
تعود أقدم الروايات عن ممارسة الصوت كفن موسيقي خاص بالعوديين العُمانيين إلى أواخر القرن التاسع عشر مع واحد من مشاهير الصوت العُمانيين والمنطقة في ذلك الوقت هو شهاب أحمد ( أو أحمد شهاب)، ولكن توجد صعوبة كبيرة في العثور على بيانات لهذا الفنان المحترف. إن وجود هذا الشخص ليس خياليا بل واقعيا، وقد أكد لي ذلك أكثر من موسيقي عُماني وفي مقدمتهم الفنان عوض حمد حليس، وكذلك الفنان محمد المسقطي، وكلاهما أكدا لي بأنهما شاهداه، وهو حسب وصفهم فنان ومصوت له سمعة وشأن كبير في ذلك الوقت. وقال لي المسقطي أنه: كان يستقبل المطربين الذين يتوافدون مع السفن التجارية إلى مسقط وهذه الرواية تتطابق مع ما ذكره العماري في كتابه الشهير عن محمد بن فارس(10)، ويعتقد المسقطي أن شهاب أحمد من أصول حضرمية وجاء ليعمل في مطرح في إطار التعاون بين حكومتي مسقط والمكلا، واستقر في مطرح وتزوج وله أبناء واحفاد. فيما كان الفنان عوض وهو من المتمرسين في أداء الأصوات قد حضر في صغره مع والده جلسة لشهاب أحمد بالقرب من مسقط، وكانت مثل هذه الجلسات الغنائية تتم بشكل سري وفي أماكن خاصة خارج المدينة.
ولكن للأسف لا توجد عندنا معلومات عن وجود تلاميذ عُمانيين لهذا الفنان الذي من الواضح أن له مكانة عند زواره الخليجيين، كما لا نعلم من لحن صوت: ” يا من هواه أعزه وأذلني “، الذي كتب كلماته الإمام سعيد بن أحمد بن سعيد البوسعيدي (القرن الثامن عشر) وأداه في الخليج من غير ذكر اسم الشاعر الإمام الفنان البحريني ضاحي بن وليد ( توفي في الأربعينات من القرن العشرين).
يا من هواه أعزه وأذلني
كيف السبيل إلى وصالك دلني
وتركتني حيران صبا هائما
أرعى النجوم وانت في نوم هني
ويعد الفنان سالم بن راشد الصوري (ت.1979) أشهر المصوتين العُمانيين في الخليج وبدأ حياته الفنية من بلدته صور حيث تعلم العزف على آلة العود مع حمد حليس (ت.1986). وأول تسجيلات سالم الصوري صوت بعنوان: خو علوي، وختم بعنوان:” يحيى عمر قال للعشق فنون”. ومن الملاحظ أن أبرز المصوتين العُمانيين هم من مدينة صور، وهذا ربما يشير إلى أي مدى كان الصوت بشكله الحالي مرتبط بالبحر ومطربي السفن التجارية.
يحيى عمر قال للعشق فنون.. ما هو لمن قد تملس وانتقش
العشق ما هو بدحراج العيون .. ولا هو لمن يبتلش فيه البلش
بحر الهوى طاح فيه كم من زبون .. ويكون داحق على رأس الحنش
والفنان سالم بن راشد الصوري هو من بين الموسيقيين العُمانيين كحمد حليس مثلاً ، الذين أتأسف أشد التأسف على عدم التوثيق لهم توثيقا يليق بتجربتهم في الوقت الذي كانت تتوفر فيه الوسائل التقنية اللازمة لذلك بل إن هذا الموسيقي صاحب التجربة والسيرة الذاتية الثرية جداً كان يعمل كرئيس قسم الموسيقى والغناء في إذاعة سلطنة عُمان بمسقط. إن شهادة المطربين الصورين الرواد للتاريخ كانت ستبرز دور الفنانين العُمانيين ومكانتهم في صياغة هذا الفن الذي عرف بالصوت الخليجي وبلورته بالشكل الذي نعرفه اليوم.
وكنت قد حصلت على نسخة من حوار إذاعي لسالم الصوري، يذكر فيه بعض المعلومات الهامة ذات الصلة بالصوت وما يدل على انتشاره في شرق أفريقيا. يقول: ” الحضارم في أفريقيا بكثرة والطرب يحبوه كثير، وإذا صار معهم شيء عرس أو حفلات عزمونا، والعرس يبقى سبع أيام والسهرة قد يشترك فيها عشرة مطربين أو اكثر. الأيام السبعة كلها طرب ليل ونهار. فيقوموا زفان والبرعة، عندهم الصوت والبرعة في هاذيك الأيام، والبرعة هي الختام، يعني ختام الحفل، مثل هذي اللي غناها محمد فارس” بو معجب نهار الأحد”، يغنوها في إحياء الحفل لما تكون برعة لها رقص ثاني.. تحريكة ثانية. فنحن في ظفار وصور مستعملينها على الخناجر(11)”. وفي سياق الحوار الإذاعي يسرد قصة له في واحدة من مشاركاته فيقول:” حادثة وحدة كنت في سمرة في مقديشو، اجتمعوا عشرة مطربين(..)، هاذلاك عشرة وانا الحادي عشر. حاصل ذيك اليوم طلب على الجمهور صوت قمت أنا وطقيت لهم صوت، وقاموا الزفانة يزفنوا على طريقتهم، هناك كانوا هاذلاك اليمانية أهل افريقيا كانوا يزفنون. من عاداتهم يكون في نص الصوت لازم يصير فكّة، ويصير توشيح ويبتدي الصوت مرّة ثانية. فعملت نفس الشيء، فقمت أنا بالعود في النصف الثاني اطق عندهم وأزفن معاهم، فأثنا هذا حطيت العود على ظهري وراء وأنا أطق العود وأزفن معاهم ما دريت إلا والغزالة طارت هي وأوتارها.. وكان بالنسبة لي موقف حرج، فأخذت عود من واحد من المطاربة واستمريت في العزف (…) كملت الصوت وكملت التوشيحة صفقوا لي عاد(12) “.
لقد ظل الصوت في جميع الظروف والأماكن محافظاً على عناصره الفنية والأدبية الأساسية وهي: القالب الفني التقليدي اللحني والإيقاعي، ونصوصه الحمينية( شعر الغناء الحضري)، وآلاته الموسيقية الرئيسية كالمرواس والقنبوس ثم العود .
وحسب علمي لا توجد في تراث الصوت نصوص من الشعر النبطي الذي ينتمي إلى الخليج وشمال الجزيرة العربية، ومعظم نصوص الأصوات هي من الشعر الحميني لمشاهير الغناء اليمني المتجولين في أرجاء المنطقة من حضرموت جنوباً إلى عُمان البحرين والبصرة والهند وشرق أفريقيا وفي مقدمتهم: يحيى عمر (ت. حوالي 1740م)، وخو علوي؛ زين العابدين الحداد (ت.1745م)، وبن زامل؛ علي أحمد (ت. 1748م) وغيرهم.
ولعلنا جميعا نعرف صوت ختم ” يا مركب الهند ابو دقلين(13)” الذي سجله الصوري أكثر من مرّة في الأربعينات من القرن العشرين، وحسب روايته ما كان يعتقد في تسجيله الأول أنه رح ينجح، لذلك يبدو أنه كرر التسجيل في التلفزيون الكويتي بمصاحبة مجموعة موسيقية. ويامر مركب الهند كما يروي من كلمات يحيى عمر أما اللحن للصوري. والحقيقة أن اللحن كذلك لأبو معجب يحيى عمر، ولكن الصوري عالجه بأسلوبه، وهذا السلوك كان متعارف عليه في الماضي، فينسب الفنان الصوت إلى نفسه بمجرد أنه غناه بكلمات جديدة أو بأسلوب فني جديد. ويضيف أن يحيى عمر له أغاني كثيرة وقصائد غنى منها عبداللطيف الكويتي، ومحمد فارس، وضاحي بن وليد وآخرين.
يحيى عمر قال قف يازين .. سألك بمن كحل اعيانك
ومن علمك يا كحيل العين .. ومن الذي خضب ابنانك
ومن شكل لك حرز في حرزين .. ومن شكّل لؤلؤك ومرجانك
عاليش يا ناقش الكفين .. سألك بحسنك واحسانك
حملت يحيى عمر حملين .. وسار تعبان من شأنك
ودي بوصولك ولو زامين .. وأحط يدي على امتانك
لي شهر في شهر في شهرين .. وأنا مناظر لبستانك
لا ذقت حبة ولا ثنتين .. نهبت خوخك ورمانك
والورد شفته في ذا الخدين .. وهوْ محطوط على أوجانك
يا مركب الهند أبو دقلين .. ياريت أنا كنت ربانك
بعبر بك البر والبحرين.. وبا نزل المال في خانك
وبا نقسم الفائدة نصفين .. الله يخون الذي خانك
لك قسم في قسم في قسمين .. لك قسم زائد على أخوانك
وختمت قصدي بالذكر الزين ..على محمد نسل عدنانك
عودة الصوت
من واجبنا الحفاظ على هذا الفن الغنائي وتراثه الذي ساهم في إبداعه موسيقيين معروفين ومجهولين ينتمون إلى جغرافيات متعددة من اليمن وعُمان والخليج كرمز من رموز الغناء في الجزيرة العربية وهويتها الثقافية، فهو فن غنائي مكتمل البناء لا يجيده الا الفنان المتمرس صاحب المهارات الفنية العالية، ويتطلب مواهب فنية في التلحين والغناء والعزف والأداء الحركي.
ومنذ تأسيس فرقة مركز عُمان للموسيقى التقليدية عام 2016م كان ولا يزال الصوت من الفقرات الغنائية الأساسية لحفلات الفرقة.
وفي هذه المناسبة(14) يشرفني اليوم أن أقدم لكم الفنان الصوري القدير جمعة بن فايل العريمي استاذ وعضو فرقة مركز عُمان للموسيقى التقليدية. إن هذا الفنان حسب وجهة نظري هو الأكثر إتقاناً لأداء الصوت اليوم في عُمان. والفنان جمعه لا يجيد أداء الصوت فقط بل وكذلك يتقن أداء فنون موسيقية عديدة عُمانية ويمينة وخليجية، وهو أيضاً شاعر ميدان وممارس للكثير من فنون الموسيقى العُمانية التقليدية.
مسلم بن أحمد الكثيري
موسيقي وباحث
مدير مركز عُمان للموسيقى التقليدية
المصادر والمراجع
1) مصطفى، يوسف شوق: معجم موسيقى عُمان التقليدية. إصدار مركز عُمان للموسيقى التقليدية ـ وزارة الإعلام 1989م.
1) الكثيري، مسلم بن أحمد: جذور غناء العوادين العُمانيين وتطوره. ومجلة نزوى العدد 70 إبريل 2012 .
1) راجع، علي، أحمد : الموسيقى والغناء في الكويت، شركة الربيعان للنشر والتوزيع. الكويت الطبعة الأول 1980م .
1) العيدروس، عمر عبدالرحمن: مقدمات في الغنية الحضرمية. إصدار مكتب ووزارة الثقافة محافظة حضرموت ـ المكلا. 2011م.
1) العماري، مبارك بن عمرو: محمد بن فارس أشهر من غناء الصوت في الخليج .
1) حوار إذاعي مع سالم الصوري بعنوان: برنامج لقاء مع فنان عُماني ( تاريخ البث 27/1/ 1995 ) التسجيل طبعا أقدم منذ ذلك. لم يتم ذكر تاريخ التسجيل . المحاور زيدان ياسين. سهرة مع سالم بن راشد الصوري عام 1978م
1) مصطفى، يوسف شوق: معجم موسيقى عُمان التقليدية . ص 307
2) راجع ، الكثيري، مسلم بن أحمد: جذور غناء العوادين العُمانيين وتطوره. ( تم تقديم البحث في ندوة الفنون المغناة في عُمان والجزيرة العربية والتي نظمها مركز الدراسات العُمانية ـ جامعة السلطان قابوس 2010. ونشر البحث في أدبيات الندوة المذكورة. (ومجلة نزوى العدد 70 إبريل 2012 ).
3) راجع، علي، أحمد : الموسيقى والغناء في الكويت، شركة الربيعان للنشر والتوزيع. الكويت الطبعة الأول 1980م . ص6.
4) راجع، علي، أحمد : الموسيقى والغناء في الكويت، شركة الربيعان للنشر والتوزيع. الكويت الطبعة الأول 1980م . ص6.
5) راجع، علي، أحمد : الموسيقى والغناء في الكويت، شركة الربيعان للنشر والتوزيع. الكويت ص6. الطبعة الأول 1980م
6) راجع، العيدروس، عمر عبدالرحمن: مقدمات في الأغنية الحضرمية. إصدار مكتب ووزارة الثقافة محافظة حضرموت ـ المكلا. 2011م. ص 148
7) راجع، العماري، مبارك بن عمرو: محمد بن فارس أشهر من غناء الصوت في الخليج . ص 86
8) راجع، العماري، مبارك بن عمرو: محمد بن فارس أشهر من غناء الصوت في الخليج . ص 89
9) راجع، العماري، مبارك بن عمرو: محمد بن فارس أشهر من غناء الصوت في الخليج . ص 196
10) المصدر السابق
11) راجع، حوار إذاعي مع سالم الصوري بعنوان: لقاء مع فنان عُماني. أرشيف الإذاعة العُمانية مسقط. بدون تاريخ.
12) راجع، حوار إذاعي مع سالم الصوري بعنوان: برنامج لقاء مع فنان عُماني ( تاريخ البث 27/1/ 1995 ) التسجيل طبعا أقدم منذ ذلك. لم يتم ذكر تاريخ التسجيل . المحاور زيدان ياسين. سهرة مع سالم بن راشد الصوري عام 1978م
13) راجع، حوار إذاعي مع سالم الصوري بعنوان: برنامج لقاء مع فنان عُماني ( تاريخ البث 27/1/ 1995 ) التسجيل طبعا أقدم منذ ذلك. لم يتم ذكر تاريخ التسجيل . المحاور زيدان ياسين.
14 ) أصل المقال محاضرة قدمها الباحث بدعوة من مؤسسة بيت الغشام في جناحها في مهرجان مسقط 2018 بمرافقة الفنان جمعه العريمي وعدد من أعضاء فرقة مركز عُمان للموسيقى التقليدية.
مسلم بن أحمد الكثيري*