أنصت لهمس كائنات الظلام ينسرب خفيضا لا يكاد ي سمع, وقد ابتلع الليل ضجة السيارات السريعة الخاطفة, ونباح الكلاب البعيدة المتقطع, أفكر أنني سأرى الرجل, عاري الصدر, كما رأيته من قبل فأحث نفسي على أن أترك عيني مفتوحتين لحظة يسحب يده, بعد أن يحركها قليلا ثم يطلقها الى أمام. كنت أشك بخلو قبضته, وأشك بأنه أشار بها أو أطلقها بالفعل, فقد شغلت وقتها ببريق الجلد على جسمه المنحوت اذ تسطح ثديه لحظة ارتفعت يمناه, عندما سحبها الى الخلف إنمسح الثدي لولا حلمته البنية المنفرشة مثل حبة باقلاء مقشرة. ربما أخذت الأشياء تتداخل: الأبواب, والجدران, وقبضات المعدن, والأصوات, منذ حكيت لأمي وهي, كعادتها, تروح وتجيء منشغلة أول الأمر, فبقيت وحيدة أندفع من باب الى باب, أراها تمضي الى آخر المطبخ حيث تركنا برميل النفط, فوقه القفص الفارغ, وفوقهما كدست على نحو بطيء حاجيات قديمة متروكة, لم يكن لأحد أن يتذكر تلك الأشياء لولا حديث أمي الذي لا ينقطع عن قدور الغافون, وعلب المناسبات المنقوشة, ومصباح الغاز, تصورتني أحدث نفسي, أعيد على مسامعها تفاصيل فحلم أخافها, حتى فتحت الباب ورأيت الرجل يبتسم ابتسامته التي لا معنى لها, عندما تركت أمي القفص والتفتت نحوي فسكت مستغربة أن تكون قد أنصتت وسمعتها تسأل إن كنت قد قصصت الحلم على أحد قبلها, قالت إن الاحلام على أطراف الطير, وكما لو كانت تصلي لانت قسماتها وأغمضت عينيها لتضيف »سينغلق باب وينفتح باب«. أحستني خفيفة في وقفتي تلك كأن ثقلا قد أزيح عن صدري. إنها واحدة أخرى, بنفسجية اللون, يرتجف الجفن فترتفع وتنخفض, تبدو عندها قاتمة كما لو كانت سوداء. ظهرت الأولى على الجفن الأعلى, مدورة وصغيرة أخذت تستطيل وتكبر حتى أصبحت مثل حبة فاصوليا تنغز ليل نهار. لم أشعر بأي ألم لحظة انفجرت, كنت مشغولة بفتح أبواب لا عد لها, أفتح بابا وأخطو خطوة أو خطوتين, يتغير الضوء, ربما يتغير لون الجدار, بعد أن أسمع الجلبة وأرى طيورا كبيرة وأشباح أناس بأذرع طويلة تركض واسعة الخطوات صوب الجدار, ثم أرى بابا جديدا, شبيها بسابقه, كأنه هو, وكأنني لم أفتحه من قبل, فأفتحه وأدخل ليتغير الضوء ويتبدل اللون, وتحلق الطيور الكبيرة مرة أخرى, وتركض الأشباح.
هل رأيت حلما أشد بلاهة من هذا الحلم? شعرت بألم أصابعي وهي تلتف كل مرة على المقبض, تجاهد لتمسك بذراعه المعدنية المحفرة ثم تسحبها الى الأسفل, كانت ذراع الباب الأخير عصية لم تستجب ليدي, كأن الباب لم يفتح منذ زمن بعيد, كانت الجلبة قد بدأت تتصاعد خفق أجنحة وخطوات, ويدي فزعة تحاول حتى إذا غدت الطيور قريبة انفلت المشهد ووجدتني بمواجهة الرجل وقد مسحت عيناه الناريتان كل ما عداها, وحركت يده المرفوعة مخاوفي. لا أتذكر أني فتحت الباب فما زالت قوة ذراعه ترهقني, لكنني كنت شبه متأكدة أن بابا من الأبواب يخبئ شيئا: رجلا, أو طيرا, أو صحراء.. أتساءل كلما ظهرت واحدة أخرى وتذكرت الحلم, ألم أسمع وقتها نباحا ولو كان بعيدا, ولم أر, مطلقا, ضوء سيارات الاسعاف?
بدأ الرجل يحرك يديه في فضاء داخن, يدان عضلتان, تمتد اصابعهما مخلفة ظلا قاتما على صدره العاري, كان يبتسم ابتسامة لا معنى لها عندما بدأت يمناه تشير إلي, ضم أصابعه وسحب يده الى الخلف ثم أطلقها كما لو كان يحمل رمحا, فتحت عيني بالكاد ومسحت عن جفنها الدم والصديد, كانت الدملة قد انفجرت واختفى معها ألم الجفن العلوي لتعود فتنغز في زاوية الجفن الأسفل, حيث تراها.
أخشى, في كل مرة أضع فيها رأسي على الوسادة وأنصت لهمس كائنات الظلام أن يحدث ذلك ثانية, أكدت أمي أنه لن يأتي مرة أخرى, لكنها أضافت شيئا عن الأبواب وهي تنفتح وتنغلق, فأي أبواب تلك التي سأراها, وأي طيور?
في الصباح أرى الطيور قادمة من جهة ميناء المعقل تستدير فوق المستشفى استداراتها الكبيرة, مفرودة الأجنحة, تلون الشمس أجسامها المغزلية الدقيقة بيضاء الريش فتبدو مثل قطع من قطن تتلاعب في اناء النهار ثم تنزل خاطفة كما لو كانت تنزل الى نهر, أرى عندها خرزات أعينها تبرق بريقا صامتا, بلون الحناء, قبل أن تغيب خلف بنايات المستشفى لتعاود صعودها من جديد, أفكر انها قد التقطت, بانتباهة الطيور, نداءات أناس المستشفى في الردهات الطويلة بالغة التعقيم فنزلت صامتة الأعين لتدق بمناقيرها على النوافذ كما لو كانت تنقر على زجاج الفتحات الدائرية للبواخر قبل أن تفزعها صفارات التوديع, أو منبهات سيارات الاسعاف وهي تعبر كل وقت من الباب الخلفي للمستشفى الى الشارع العام منحرفة تجاه مدرستنا قبل أن تنطلق متصلة النداء في شوارع المعقل.
في أوقات الاستراحة نتشبث بالحافة الاسمنتية لسور المدرسة لنطل برؤوسنا ونراها تندفع الى اليمين صوب محطة القطار, أو تميل جهة دور العمال مخترقة شارع الملعب, تسأل فاطمة وهي تلاحق بنظراتها الأضواء الخاطفة:
– لماذا تتوجه معظم سيارات الاسعاف نحو محطة القطار?
أفكر قليلا ثم أجيب:
– ربما لأنه يأتى بالكثير من الركاب غائبين عن الوعي بعد ليلة سفر طويلة متعبة. لم نكن ننسى أمر سيارات الاسعاف إلا في وقتين: حين ننشغل برسالة يجلبها ساعي البريد على دراجته الهوائية الى فاطمة, أو حينما أقص أحد أحلامي عليها, ساعتها تغيب الطيور المغزلية البيضاء, وتنسحب سيارات الاسعاف بصافراتها, وأضوائها, والمخاوف التي تثيرها كما تثير عاصفة ترابية, ونبقى مستندتين الى سور المدرسة انتظر أن تسحب فاطمة الظرف من أحد كتبها وتقول جاء, ودق الجرس, وسألني هل أنت فاطمة, فأجبت نعم, في كل مرة يأتي فيها يدق الجرس ثم يسأل فأجيب, يفتح بعدها حقيبته الجلد المثبتة على بدن الدراجة ويخرج الظرف, قبل أن يغلق الحقيبة ويعدل من وضع قبعته الزرقاء أكون قد فتحت الرسالة, فيركب دراجته ويقول:
– لك خال لا يمل كتابة الرسائل.
لكن الظرف لم يكن يحتوي على رسالة أبدا, كان يضم في كل مرة صورة جديدة, ملونة أو بالأبيض والأسود, ينفرد الرجل فيها واقفا تحت شجرة أو منحنيا على جسر, أو يجلس بين آخرين, أجد صعوبة في التعرف عليه بين صورة وأخرى, خصوصا في الصور الجماعية فانتظر أن تشير فاطمة, مخفية شعوري بأنه ليس برجل الصور السابقة, فتؤكد بصوت عال:
– إنه خالي يبتسم للمصور, ليس بإمكانك تذكره بين رسالة وأخرى.
مرت سيارة الإسعاف بصافرتها المتلاحقة فمددت يدي لأمسك بالحافة الإسمنتية لكن فاطمة توقفت تتأملني في ابتسامة صامتة, فتساءلت:
– رسالة جديدة?
إتسعت ابتسامتها, شعت زرقة عينيها, وهزت برأسها فتركت حافة السور متمنية أن أتعرف عليه من غير أن تشير. كان الظرف كما هو على الدوام مربعا, مثني الحافة, بمستطيل أزرق, ملصقا من ثنيته الدقيقة حسب, فتحته بسبابتها وسحبت الصورة, كان بمفرده هذه المرة يركب حصانا ويعتمر قبعة دائرية ويبتسم للمصور.
قالت:
– إنه الآن في بغداد يدرب الفروسية في نادي الصيد.
لم تشغلني عندها جدة ملامحه بالقدر الذي أثارتني فيه العلاقة الغريبة بين الحصان والصيد, فما معنى يدرب الفروسية في ناد للصيد, وماذا يمكن أن يصطاد من على حصان, بيدين فارغتين ترتديان قفازي جلد لامعي البياض? يبدو أكثر شبابا من جميع الصور السابقة, ربما بفعل قبعته ذات اللونين, أو بفعل اخضرار العشب من حوله, أو بفعل ركوبه الحصان.
قالت:
– لن تنسي ملامحه هذه المرة.
فتساءلت:
– هل سيمكث طويلا?
– لم يذكر شيئا, أمي تقول انه لن يصبر على البقاء في مكان واحد.
أعادت الصورة الى الظرف, دسته بين أوراق الكتاب وأضافت:
– سيمل سريعا..
– ألم تريه يوما?
هزت رأسها نافية وقالت:
– كان في المتوسطة حين أرسلته جدتي الى العشار ليحد سكين المطبخ, بقيت تنتظره سنوات فقد نسي أمر السكين وتوجه الى الفاو بدلا من العشار, من هناك كان يبعث بالحناء, والبخور, والبهارات الهندية, ثم انقطعت هداياه فقد مل البقاء في الفاو فتوجه للعمل في السماوة.. أتوقع انك ستفتحين بابا ذات مساء فتجدينه هناك.
– على الحصان?
– لا تكوني سخيفة, المهم أن تريه وتتحدثي إليه.
– لكنني لا أتكلم, عادة, في أحلامي.
– في أحلام الطيور والأشباح, خالي شيء آخر, ثقي, سيكون بامكانك محادثته, وربما زودك بصورة جديدة.
أذهلني الأمر: أن آتي برسالة بدلا من ساعي البريد من رجل يمنحني إياها في الحلم, لم تكن معرفتي به كافية لتبدد غرابة الأمر, فقد ظل رجلا محبوسا في ظرف تتغير ملامحه بين صورة وأخرى, يبدو كبير السن في واحدة, حتى اذا تصورته بعمر محدد جاءت صورة لتخرب تصوري, فهو يطل كما في رسالته الأخيرة, شابا لا ترهقه ملاعبة الخيول. فتحت فاطمة عينيها فنظرت الى زرقتهما المحببة, قالت:
– ما رأيك أن نكتب له?
– ها?
– نكتب رسالة ونعطيها لساعي البريد.
– وماذا نقول فيها?
– كل شيء, كل شيء, المدرسة, الطيور, والاحلام, نكتب حلما ونرسله إليه.
– لا , الأحلام لا تكتب, انها على أطراف الطير.
– لكن المديرة تدونها في دفتر المخالفات.
– أعرف, كما أعرف أنها تدون تفاصيل رسائلك.
خفتت زرقة عينيها وغاب بريقهما, كانت يدها مرمية على الكتاب, منحنية قليلا, مضمومة الاصابع كأنها يد دمية تتكئ على سور مدرسة, وقد انطفأ من حولها كل شيء: منبهات سيارات الاسعاف, خفق أجنحة الطيور, وضجة الطالبات.
قالت:
– هل تعتقدين انها تفعل ذلك حقا
استغربت لصوتها, تصورته في لحظة صوت الدمية المسندة الى السور ينبعث من ظهرها, فالجميع يعلم ان للمديرة عيونا في الصفوف, وهي تندد في كلمة كل خميس بمخالفات الطالبات وتؤكد أنها تدون كل شيء لتعرضه في مجلس الآباء والامهات, ثم تشكر بصوت واطئ مطمئن الطالبات المتعاونات اللواتي يزودنها بالتفاصيل الدقيقة للمخالفات.
استدركت فاطمة كما لو أحست غرابة سؤالها:
– هل تعتقدين أن البنت النمشاء تنقل ما يدور بيننا?
– طبعا, لقد رأيتها اكثر من مرة تتسمع للطالبات.
– ربما كانت تتنصت علينا..
– انها تقف دائما قرب الشبابيك, أو في عتمة الممر, أو تحت السلم..
– يا إلهي..
– يكفي أن تلمح الصورة في نظرة خاطفة, او تستمع, بلا وضوح, الى الحلم, لتنقل التفاصيل, تضيف للصورة ما تشاء, وتغير من الحلم ما يحلو لها.
– علينا أن لا نتحدث ثانية.
– كيف أخبرك عما يدور في أحلامي, وكيف تحدثينني عن خالك إذن?
إلتمعت زرقة عينيها من جديد وقالت:
– لا أريد لحياة خالي أن تقيد في دفتر المخالفات.
لكنني بقيت مع كل حلم أمسك بذراعها وأسحبها الى مكاننا المعتاد جنب السور, أراها تلتفت قلقة قبل أن تسألني إن رأيت شيئا فأحكي آمنة, عالية الصوت, من دون أن أخشى أحدا يختبئ قرب شباك, أو في عتمة ممر, أو تحت سلم, كانت البنت النمشاء قد انحرفت عن طريقنا منذ أن رأيتها خلف مخزن المواد وقد رفعت تنورتها, وجهها الى حائط المخزن وظهرها الى السور, تركتها تفعل بهدوء واستمعت لها توش في خط مائي قصير يحفر بركة صغيرة أمامها سريعا ما فرغت في خط متعرج يمر من بين ساقيها, ظلت ثواني على جلستها تشد تنورتها وتحدق الى البركة يمتصها التراب, بصقت بصوت مسموع وقامت, منفرجة الساقين, وهي ما تزال تشد على التنورة, التفتت إلى الجانب ورأتني, لم أشاهد ملامحها بمثل هذا الوضوح, ولم أعرف أن لها كل هذا النمش, وأن الخوف والمفاجأة يمكن أن يصبغا الوجوه كما اصطبغ وجهها تلك اللحظة.
لؤي حمزة عباس قاص من العراق