يمكن لرواية سلطان النوم وزرقاء اليمامة لمؤنس الرزان (المؤسسة العربية للدراسات 1997) أن تخاتل القارىء، وتغريه بتلبس منظورات الاحتمال والمشاكلة، وهي تفعل ذلك في اكثر من مكان داخل السرد، لكنها تأتي الى كل ما هو آني وموجود واشكالا في الحياة العربية المعاصرة ومحيطها الدولي من خلال ما هو فردي أولا. وانساني ثانيا، لأن (الاحلام حق من حقوق الانسان، لا يقل أهمية عن حقه في الخبز والهواء… والماء، ص 5و6)، كما يخبرنا (سلطان النوم). ولنا بين دهشتنا بوجود كيان يتسلطن علينا بلغة كلية وبين هذه المفاهيم المثقلة بالمفارقة ان نتصور مدى السخرية المبطنة التي ينز بها نص قرر، منذ البدء، هدم الاحتمالية ومشاكلة الواقع، والاتيان بالواقع نفسه بشروحه في دواخل الشخوص وخارجهم في الحياة، واللغات، والأوهام والأحلام، والمعرفة والسلطة.
والاصوات التي تحاور القارىء وتواجهه ليست عابئة به، فهي لا تريد منه الشراكة، لكنها تمتلك سرها الاكبر الذي يجعل من كل هؤلاء البشر باحثين عنها، آتين اليها، واجدين فيها راحتهم المسلوبة وحقهم المستلب: فسلطان النوم يأتي بهم الى مملكته، كما هي، خارج المكان والزمان، قائمة داخل المنامات والاحلام، كما هو شأن القصر المسحور عند الحكيم وطه حسين، في تجربتهما المشتركة عن قصر يقيم في الاعالي الفنية والاقاصي والتخوم الجمالية عندما تنقطع اللغة عن المشاكلة، وهو امر سيغري كلا من المرحوم جبرا ابراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف على فعل مماثل، خلق آخر، عن عالم بلا خرائط، تنشغل فيه الاصوات بمناقشة الفنون والسرديات، ثمة عالم يقيم خارج المنظورات والأبعاد الزمانية والمكانية، وهو ما يدفع الواقع، وكذلك ايديولوجيات الفئات الى التوق اليه، والتمكن منه او السعي نحوه، يوتوبيا ممكنة مرة، وسلطة قسرية تدعي القداسة لنفسها مرة اخري.
لكن مؤنس الرزان يأتي الى ممالك بلا خرائط من زاوية أخرى، ومن فعل سردي آخر، يتأسس في تخوم السخرية المفارقة، وهي تستحث سلسلة من التغايرات والافتراقات ما بين فعل الناس والفئات والدول والانظمة وبين ما ينبغي ان يكون، بدون ان تعلن ولو لمرة واحدة انها تسعي نحو مشاكلة الواقع، او الحقيقة، فكل أمر هنا لا يعدو أن يكون سردا، يهتز ويتغاير ويتقلب كأذنه على كف عفريت. لكن (كأنه) هذه لا تتحقق في نص ما بعد – حداثي، يشاكس الاحتمالية، ويرفض المشابهة، ويتحلل عن دراية وقصد عما هو استعاري، للعودة الى كنائية نثرية، عذرية ما، تنزع فيها اللغة قشرتها الاحتمالية، وثقلها الاستعاري المستوطن، فبئر الاسرار هنا، اسم على مسمى، يقيم، ويتخاطب، ويتحرك، وينشغل، ويحضر للمقهى، ويراقب ايضا، شأن غيره. انه بديل الكاتب – المثقف في عهد التوتاليات المختلفة، داخل الانظمة المتباينة وعصور المعلومات. لكنه، وهو الذي تغيب عنه الدهشة اصلا فيستجديه الناس ليكون مكمن اسرارهم ووديعة حياتهم وهاجسهم، يتداخل بسلطان النوم، مهيمنا على المنامات والاحلام، وكلاهما (مساحة) من الحرية، ينفس فيها المرء عما هو في داخله، بعيدا عن الرقابة وتساؤلات السلطات. ان هذا الحضور، مجسد في السرد ويعد أكبر إدانة لطغيان الماكينة البيروقراطبة والتجسسية على حياة الانسان.
لكن رواية مؤنس الرزان سلطان النوم وزرقاء اليمامة لا تتوخى أليغورية السرد، فهي لا تسقط سميات القيم والاعتبارات والمواثيق على ناطقين باسمها، يتوزعون ما بين خير وشرير في رحلة عبور او عودة ما بين البراءة والتجربة، والاكتشاف، والمعاناة والتحرر من الخطيئة، انها لا تنتهي عند حد، حتى عندما تخلد زرقاء اليمامة في نهاية المطاف الى محارتها، ملاذا وحيدا يستعيد لها دفء موسيقى الطفولة: ذلك لان الجميع هنا، يحضرون بهيئات وصور واصوات اولا، ولغات كل طرف هي التي تشكله امامنا هيأة وكيانا. لكننا عندما نتحرر من غواية السرد، نرى هؤلاء جميعا يجتمعون ثانية في تكوينات لغوية متكررة، كسلطان النوم، او بئر الاسرار، كما انهم يعطون تكوينات مماثلة من النصوص، التاريخية كزرقاء اليمامة وروميو وجولييت، او من المحكي الشعبي كعلاء الدين وامه. وحتى سليمان التوحيدي، يعيدنا الى التوحيدي الغائب، طالب الغربة والغياب بعدما اعياه الحال وصعب عليه المنال وتبين له سفه البحث عن مآل واعتبار بين السلاطين والحكام، فأولو الامر لا يلقون أنانية وكيدا عن غيرهم. وما عليه الا ان يخلد الى النسيان، بطي كتبه وحرقها أولا. فاللغة هي التي تخرجه حضورا وتأتي به كيانا، وتقيمه كاتبا، وبالاتيان عليها في مدوناته ينتهي التاريخ الشخصي، وتتأكد علامة الغياب شاهدا على الاجحاف الذي لا تلغيه اكاذيب اولياء الامر.
ومرة اخرى، فالأليغوريا ليست شغله، حتى عندما تبدو شبه مدينة الضاد مشاكلة لغيرها: فكل موصوف هنا يتشكل من لغة الآخرين، من روميو وجولييت وزرقاء اليمامة ونور الدين وعلاء الدين…الخ، وهي لغة تتوالد فيما بينها، ساعية عبر مجموعة من الاستراتيجيات للعودة ثانية الى عذريتها، بعد تفكيك الاستعارة، وهرمها الايديولوجي، وخطابها المتورم. وهكذا تستعاد حرفية الكلمة خالية من الدلالة. فلا (جدران تفصل بين المفاهيم والكائنات). كما يقول السارد على لسان بئر الاسرار، فـ(لا توجد حدود حقيقية)، بين (عالم الاحلام وعالم اليقظة – 109)، ولهذا هنا تقيم (مناجم الشعر) في هذه (الاغوار العصية على ابصارنا اثناء اليقظة)، بما يحتم ان تنخرط نهائيا سلطة العقل، وتأتي بديلها حرية اخرى، يجسدها بئر الاسرار، كما يلي:
(اشار بئر الاسرار الى واد عريض فيه دهاليز وسراديب وقصور وموسيقى والوان وروائح وكلمات تدور في فلك غريب. فلك تتغير العلاقات فيه بين الكلمات بسرعة عجيبة. كأنها علاقات فطرية عشوائية مرتجلة – 109).
أي أن الكتابة هنا جوهر نثري، لكنها تستعيد عذريتها لتسرق تمنع القارىء، فيكبسه وضعها، ويسري معها سوية، غير منقاد لسلطة أخرى غير غرائبية مستجدة تتأكد اختلافا في الابتداء، لتستحضر محنة الواقع والحياة عند الانتهاء، لكن هذه الاستعارة العذرية تعني ايضا التمدد الكلي في تسمية ما ومجاز، فبئر الاسرار، ينبغي ان يتشكل كذلك، كيانا يخلو من الدهشة فتصب فيه الاسرار من مختلف الناس الذين يتخفون عن بعضهم ويكيدون لغيرهم، ويمنحون شتى الوكالات فرصة العمل والمال والانشغال. كله يصب هنا: انه المرغوب فيه، لكنه المكروه ايضا. وبثنائية الانجذاب والرفض، تتحرك قوة السرد في واحدة من استراتيجيات النص المذكور العديدة: ولهذا يتحرك بئر الاسرار ما بين المقهى والشارع والدار والبار، جاذبا آخرين اليه. ومحط متابعة المتجسسين عليه، شأنه شأن السر اينما حط ورحل وتجول. ولكن الاكتفاء بالسر محركا لا يضمن للسرد الحركة والتوالد. ولهذا جيء بزرقاء اليمامة، فاعلا سرديا آخر، تغوص في بواطن الناس.. وتنقل افكارهم، وهكذا يستطلع صوتها عشرات الاصوات التي تتضارب داخلها الاهواء والافكار، والتي تمنح المؤلف فرصته للتعليق على ما هو دائر من ايديولوجيات وصراعات، ولوثات وهوايات، مستعيدا فيها لمحات من هاجسه وافكاره التي ظهرت في رواياته الاخرى. وتلعب السخرية المبطنة دورها في دفع القارىء بعيدا عن الهيمنة الكلية للسرد، ليتمدد قليلا، منتقدا اللغة المضببة في الايديولوجيات القومية، ومارا على شتى الصياغات والافكار عابثا بها، عارضا لتبايناتها الشديدة مع هموم الناس ونزعاتهم وطموحاتهم.
لكن النص لا يقيم تحريره للغة ويؤكده سرديا الا بقصد استيطان بديل: فالعادة التي تخصها زرقاء اليمامة بالنقد هي التي تسقط حضورها على السلوك، كما تسقطه على اللغة، وهي البديل التراكمي للطباع والازمنة في آن واحد، كما انها يمكن أن تتشكل في داخل بئر الاسرار نفسه، خاليا من الدهشة، لان (العادة هي التي تصادر الدهشة وتجعل كل غريب وعجيب مألوفا عاديا – 113). فبئر الاسرار هو استخلاص كل العادات والطباع والازمان، متغيرة متقلبة هذه المرة، لكنها تبني على ماضي، بصفتها امرا متكررا وهاجسا مشهودا، وحكاية لم تكن الأولى ولا الاخيرة.
أي ان الترادف كاستراتيجية سردية أخرى يحيل لاحقا على سابق، ولكن بدون مزيد من الاشارة والتكرار، فكل تلاحق سردي يزيد في تبئير فكرة ما، لكنه لا ينبغي غلق هذه الفكرة، ما دام النص يشتغل على اساس تفعيل طاقته التكسيرية من خلال هدم التخوم التعبيرية من جانب، وتكثيف فعله السردي عبر الترادف واللصق والتكرار والاقتران والجمع بين الاصوات، من جانب آخر.
فالابتداء السردي بسلطان النوم صوتا يأتي باللغة الى المنامات والاحلام، ولانه كذلك ينتهي الحظر والتحريم. فـ(لا أقاليم محظورة على الكائنات في سلطتي، ولا مناطق منع تجول، ولا كيانات محاصرة، ولا غرف محرمة – 8): ويمثل هذه المقارنات يجري هدم الممنوع من جانب، كما يجري استجماع وقائع الحياة المعاصرة، ضغوطها وآلامها، في ظل الاشتراكيين والرأسماليين وما بينهما من كيانات متخصصة في خلق الخصوم، وتصفيتهم.
لكن هذا التجسيم لا ينتهي بمثل هذه المواصفات القرينية، فثمة فعل مضاد يغوص في اولئك المقاومين لإرادته دون وعي منهم: اذ ان طاقة زرقاء اليقظة يمكن ان تتفتت، او توهن، او تضعف، ولهذا تفرح بالاحلام، غير عارفة انها الوجه الأخر للمنامات، طاقة الحاكم وارادته، (قاومت بالحلم، بدأت هجومي المضاد بالحلم، انتقيت احلام ثوار رومانسيين واحلام شعراء اشياء مجانين، ثم مزجتها – ص 137). نعم، هكذا تضيع معارضة الحاكم، ولن تتبقى عند معارضيه او صادي عودته غير امزجتهم الخاصة. (حلمي الخاص)، كما تسميه زرقاء اليمامة.
لكن هذا الابتداء الذي يقود الى تداخلات الاصوات مع زرقاء اليمامة وبئر الاسرار لا يعني الانتهاء، لان مجموع السرد يعول على (الرواية الاخري)، فثمة صوت وآخر، معلن ومستور، حاضر وغائب، مسمى ومجهول، وكل ذلك يبقى السرد بوحداته الكبرى متحركا في دوائر ومماطلات ترفض الخطية الزمانية، او الموضعة المكانية، فلا حدود كهذه تفرض نفسها على السرد، فمتى ما حضرت هذه ضاعت الطاقة السردية بفاعليها المصوتين الذين يخرجون من (حرفية اللغة) مرة، من طاقتها الاستعارية نحو هذه الحرفية، او من التاريخ ومدوناته، وكذلك من المحكي، علاوة على اولئك الآتين من الحياة، مجموعات من الاصوات التي تتسع بحضورها، الوقائع، فكريا وسياسيا واجتماعيا، فالتقرير الصحفي، وكذلك المعلومات والاصوات التي يتسلط عليها ذهن زرقاء بالتقاطاته وانثيالاته، باصفائه واحالاته، تختلط بمنزوعات اللغة وانزياحاتها، فتبدو رواية سلطان النوم مشتبكة، غنية، مليئة بالسخرية المتجذرة عبر المجاورات والاحالات، لكنها ايضا ملفقة كالمعارضات الادبية والكتابية، تأخذ شيئا من نص، لتهدمه، وتحيل على آخر لتغذي نواة المفارقة فيه: فأين صياد ألف ليلة وليلة ؟ واين حكاية علاء الدين ؟ وكيف هو أمر حكاية الملك دوبان والطبيب يونان صاحب وصفة الورقة المسمومة كالشفة المعدة للتقبيل ؟ ان هذه الحكايات وغيرها تظهر ثانية في سلطان النوم، كما تظهر حكاية زرقاء اليمامة، لكنها موجودة هذه المرة لتأكيد المفارقة: فثمة عفاريت يطلبون الخروج من القمقم في ألف ليلة وليلة، باحثين عن أمل ما، واضعين على أنفسهم شتى العهود ومقيمين أنفسهم في قسم ما ينبغي تنفيذه عند الخروج، اي ان مغادرة القمقم تعني فضاء حرا، وحياة بديلة، وانتشارا في الارض والماء والهواء، اما الآن، فان سليمان التوحيدي يكتشف التباسا آخر غير ذلك الذي يدفعه الى الغيبة والقنوط من قبل، ثمة ملل وانتظار، مستجد، ومثله يومىء باليأس من هذا العالم، بعدما اشتبكت ايدي الجناة، مختلفة خارجا، ومؤتلفة ضد هؤلاء الناس ؟ يقول سليمان التوحيدي:
(نحن الآن في عالم ألف ليلة، ولكن بغير ذلك الحس الفذ بالدهشة، فاللامبالاة حلت محلها، والعالم على كف عفريت، هل تذكرين المارد المحبوس في قمقم منذ ألف ليلة، وكيف كان يتحرق شوقا للتحرر من قمقمه والخروج الى العالم والحياة والناس، لقد صار القمقم الآن هو الملاذ والملجأ -121).
واعمل هذا الرأي، الذي تعارضه زرقاء الآن، يتأكد لها في نهاية المطاف فبحارتها، هي الملاذ بعدما اكد لها الشيخ الحكيم في شبه مدينة الضاد، ان النتيجة بادية، وشبح سلطان النوم في الانتظار.
والعبث بالنصوص ومواد الذاكرة الشعبية وكذلك بالتقارير العلمية والصحفية يشكل احدى مناكدات الوعي ما بعد الحداثي، الملول المفجوع المتمرد على ما هو مفلوق ونهائي ومدع للحق واليقين ؟ وهو كذلك في رواية مؤنس الرزان سلطان النوم وزرقاء اليمامة: فهذه النصوص والمواد والافكار تستعاد ثانية وثالثة، بمدياتها الايديولوجية المأخوذة عن ميشيل عفلق مرة، وتلك الآتية عن الخطاب القومي، والثالثة عن المحكي، والمقال العلمي، والشغب الاعلامي، والخطاب الماركسي والاحادي العالمي الدارج الآن، وكلها تتقابل مع اخرى، او تتحاور مع الذات وانفصاماتها، لتنتهي بعد سلسلة المحاكاة والمعارضة والتفكيك الى خيبة ما، فليس هناك قدر محبب وليس هناك غير محطات انتظار للمفجوعين لا ينجو منها حتى العلماء، بينما تطل فوهة مسدس سرحان من فوق الجميع، لترصد الاذهان في لحظة الشغف بها والانشداد اليها، انها فوهة كاتم الصوت الذي رآه مؤنس الرزان منذ زمن في اعترافات رمزا وحقيقة، كتقي عنده نزعة الشغف المأخوذ بالمفكرين والكتاب، والرغبة في اصماتهم مرة والى الابد، ليبقى سرحان وحيدا أوحد مطلا متسلطا على الدنيا، وكذلك على الممالك التي تهرب منه، في سلطنة النوم، وكذلك عند قدرات الرصد الذاتية لزرقاء اليمامة وامثالها.
وبينما يتسلط (كاتم صوت) سرحان على الجميع، لنا ان نتصور الاتساع العظيم للتوتالية السياسية، انها ليست مسورة بأسيجة، ما دامت تبتدىء سيرتها وتنهيها بالدمار أولا، لكنها تبقى مريضة كسرحان، الذي ينهمك في متابعة الخارقين، والمفكرين الكتاب، ساعيا الى بلوغ اذهانهم، موزعا بين الرغبة فيهم والحقد عليهم، تماما كما هي عقدة المستعمر ازاء المستعمرين يقول سرحان، معلقا على الروائي ميم (الكاتب الطويل هذا يراقب زرقاء اليمامة ويصور بعدسة عينه السحرية ما يدور في ذهنها – ص 80).
وقبلها يعلن استياءه من فعل التفكير والكتابة عند هذا الكاتب الطويل:
ياللفهلوة ! بوسعي ان اضع حدا لحياته الآن، في هذه اللحظة وبوسعي ان أضع حدا للمرأة التي يراقبها، أقصد زرقاء اليمامة، ثم وضع حد لبئر الاسرار الاحمق هذا – ص 80.
ويقول أيضا:
ولأنني اراقب كل هؤلاء، وهم لا يعرفون انني أراقبهم، فانني سيد المشهد ولانني أحمل مسدسا مرخصا سريع الطلقات، فانني قادر على وضع حد لحياتهم جميعا الآن – ص 80.
ويمثل هذا الانشغال بالآخرين، ومن خلال امتلاك أدوات التجسس والدمار، يؤول سرحان الى حضور كارثي، لا يعنيه غير انهاء الآخر، تصفيته اولا، عندما ترجح كفة الحقد على الرغبة !
ولا يعني الاتيان بسرحان صوتا مكتوما مشحونا بالتوترات التي تفصح عنها رغبته في اطلاق النار، وممارستها فعليا، لعبة البدائل الوحيدة في سلطان النوم، رواية مؤنس الرزان، اذ ان الرواية تلجأ الى ممارسة (ما بعد حداثية) اخرى، تلك التي لا تعطي اللغة فيها نفسها بسهولة، فكل دلالة قابلة لتوليد مستجد، ولهذا تتحقق المماطلة التأويلية، التي تقرن اليوم بتنظيرات (دريدا): فكلما انساقت وحدة سردية الى استنتاج، تداخلت معه المفارقة، او داهمته أخرى مضادة: وكلما تبدت رغبة ظهر لها اكثر من نقيض، فكل رغبة تعني احتواء أنانية ما، هيمنة من نوع معين. وحتى العشق الذي تنشد اليه جولييت ليس بهذه البراءة، وروميو قد يعجب بريشارد، كما ان سليمان التوحيدي قد يتحلل عن خطاب قاطع ماسك عندما تدخل ضده قوى أخرى تعريه او تسخر من شرفه الشخصي. وقد تستثمر السردية فشل الايديولوجيات، لكنها تأتي ايضا بهذه حلما ومناما، بغيابها تنتهي متنفسات الانسان، ويحل بديلها أي الغلق والكبت والتحريم، ثمة حاجة بشرية، وثمة مسعى نبيل، يتشوه نعم، لكنه الوجه الاجمل في الحياة.
وكما جاء في مذكرات ديناصور، فان الايديولوجية قد تتبلد وتموت، وتفترق عما هو معاصر، وقد يؤول حضورها الى طوق وسجن عند المحترفين، لكن نشأتها حلما تضع حياة البشر في طريق الامل والعاطفة والشوق الى ما هو آت.
لكن المماطلة التأويلية التي تتشكل منها الرواية في بعدها (ما بعد الحداثي) لا تلقي بالنص في مجال قفر، غير مأهول، او عدمي،. فالاحالات على شتى الكتابات، وبضمنها كتابة كافكا مثلا، تستدرج القراءات والمسموعات والوقائع الى خطر يرفض الخطاب المتورم ان يستوعبه، رغم تداعي اشارات التنبيه وأجراس الانذار منذ ان استيقظ علاء الدين من (فوطبيعية) الامتياز، ليرى الحقيقة، غبارا ورمالا وهبة عجاج تتلوها أخريات، وكما جرى تفعيل اللغة من قبل، فان سواد العيون عند علاء الدين، هبة ومنة يكثر تعاطيها مجازا، تؤول عند العادة، الى قرينة ثابتة يحققها الكاتب عبر العودة الى نصوص الف ليلة وليلة، هبة من العنصر الخارق واستجابة لطلب الام، اما التحرر من القرينة فيعيد علاء الدين خاليا من التورم، قادرا على الرؤية العادية، متحررا من كيد خطاب العظمة، رائيا للخطر، فثمة عاصفة قادمة !
وبكلمة أخرى فان الرواية لا تريد ان تضع نفسها في (أليغوريا) ما، تقيم بموجبها جسرا سرديا موصلا للاحداث ونتائجها: فعاصفة الصحراء حقيقة قائمة في السرد، لكن الكاتب ليس معنيا بمتابعة وضعها ومآلها، انه معني اكثر بتقص ذلك الاستخفاف بما يجري، وذلك العناد لرؤية القدوم الخطر. ولهذا لا يتمكن من الرؤية الا من له درية ما، امتياز خارج على هؤلاء الناس المضغوطين داخل الخطاب المتورم، كما يجري لرزقاء مرة: بينما لا يرى العجاج ويبصره غير علاء الدين بعدما تحرر من (عجائبية) الغرور فيه، ان التحرر يعني الخلاص من عتمة التورم التي يأتي بها خطاب مشحون بالمجاز والاستعارة بديلين للواقع، يراهن على رؤيته على انها البصيرة ! انها حال شبه مدينة الضاد، تلك التي يصفها رشاد في النتيجة انها (مثل كل المدن المتخلفة غير مبنية على اركان وثيقة، ولا دعائم محكمة، ولهذا تتداعى وتتصدع عند اول هجمة من خصم سواء أكان الخصم الطبيعة ام الغرب المتحضر- ص 190). وبدل ان يتحول امر عاصفة الصحراء ومثيلاتها التصحرية الى تقريرية سياسية، ثمة ما يحيل على تذررية ما، فكرية او انثروبولوجية، تنتقل فيها الذرات الرملية الى الداخل المديني، وتملأ خلالها كل شيء، بديلا للماء في الصنابير والحنفيات والانابيب، والغرف، بينما تشتغل المشاهدة والتصوير فيما يشبه تمثيلية او فيلما سينمائيا، يخلوان مما هو انساني، كأنهما يقصدان هذا التفريغ، عرضا ذا بعد واحد، يبصره المشاهد مفرغا من التساؤل والاستفسار، ومن ثم عاجزا عن الاعتراض ! يقول العلامة:
لفت انتباهي ان عاصفة العجاج كانت تهدف الى ترويعنا، نحن المشاهدين، لا الى التحطيم الحقيقي او التدمير الواقعي، فقدرت ان الامر كله ليس سوى خدعة سينمائية – ص 65.
لكنه سرعان ما يتبين (ان قبيلة الرمال لم تكن وديعة تماما) وكأنها (عمالقة من الوحوش التي خرجت لتوها من قمقم الكبت المزمن، فاندفعت نحو حدائق الرغائب الفاتنة، تنهب، وتسبي، وتسلب، وتتلاعب بكل كائن حي او جماد او ثبات، ص 64).
ولربما يبدو خيط الرمال متسللا متراكما، فاعلا، ما بين الحقيقة والتمثيل، الواقع والادعاء، تركيبا مجازيا لموزائيكية النص، اجتماعه وتآلفه، من كل مكان وزمان ؟ لكن هذا الخيط يحيل على ما هو آني وقائم في ذاكرة القراء، ولهذا يتشكل مجازا قويا يمنح الرواية مبرر حضورها ايضا خارج امتيازها الفني. دون ان يعني ذلك تسليمها بيقين ما، يدعيه اي طرف من الاطراف الواقعة تحت هذا الطغيان الجديد.
ولعل حضور الروائي في هذا النص هو الذي يزيد في غنى الرواية، ومماطلتها ما بعد الحداثية: فالاحالة الذاتية قائمة هنا، والمؤلف يعلن على لسان الآخرين انه بلغ حالة من الضجر، في (الضجر كان يعلكني – 47)، بعدما كثرت المادة الصحفية، وتأكدت أحوال اجتماعية فاجعة تعيد نفسها باستمرار. (نأكل الهواء منذ ولدنا – 48)، كما ينقل عن مقال لزميل ساخر، وفي المقهى، ما بين روائي بانتظار المدهش و(بئر الاسرار) تبتدىء الرواية بانشداد الروائي المستجد الى من يقوده الى (عالم الضاد)، فيكون أثر ذلك شغوفا بمادة تثير عنده الرغبة والفضول:
عثرت علي أمضغ الفضول، بعد أن كان يعلكني الضجر، واكتشفت ان خوائي امتلأ بعد لقائي بئر الاسرار بعصير الدهشة، وأن خيالي الذي جف ونضب اكتز بغابات الاثارة، وخيالي الذي بدأ يغفو منذ اعوام ويتثاءب ويكاد ينام، قد اخذته رعدة الذهول – ص 54.
وليس صعبا تبين بدء الروي، ليس من خلال الفضول والرغبة في السرد فحسب، وانما من خلال الحث الجديد للمخيلة خروجا على النوم. اي ان المماطلة السردية تبتدىء هنا ما بين التسليم للنوم، والاحلام والمنامات، وما بين الفعل الواعي اليقظ الذي يستدعي التدقيق والمراجعة والاجتهاد والرؤية والتساؤل وصد اليقين والعادة. ولهذا يتحقق الابتداء بمثل هذه اليقظة لكنها اليقظة التي لا يسع الروائي عرضها بيقين بديل أو بتأكيد وثوقي صارم، ولهذا جرى تغريب التجريدات، كالدهشة والخيال والاثارة والخيال، بما هو مادي، وحقنها بما هو استعاري، لتتأكد في داخلها سخرية خفيفة عمادها المفارقة والتفريق.
لكن الروائي لا يستبدل كسعي وارادة بئر الاسرار وحده، فتسلطه على زرقاء اليمامة يتيح التنقل بين الاصوات المختلفة، ص 80، اذ كما ينقل سرحان، فان (الكاتب الطويل) هذا يراقب زرقاء اليمامة ويصور بعدسة عينه السحرية ما يدور في ذهنها، وما يدور في ذهنها هو عملية سطو، نعم، سطو، كل خصوصيات الآخرين، لانها تراقب ما يدور في رؤوس الناس ونفوسهم، لكنها لا تعلم ان الكاتب يراقبها ويستغلها ويوظف ما ترده وما تسميه بقدراتها الخارقة – 80.
وليس صعبا الاستناد الى مجمل نظريات يونج، وبعده لاكان، في ظهور الشبيه، او الآخر، في الشخصية الواحدة: فالكاتب يضغط على ذلك الأخر الذي يريد اجهاض ما عنده، انه الشبيه – الخصم، الذي ينخرط غريما متحديا أيضا، ساخرا من ذاته، ليتطابق في لحظة ما مع القوة الاخرى الحاقدة على الكتابة والابتكار. لكنه في لحظته الأولى، وليد شبيه، وخصم وغريم متحمل. يرى الفعل الابداعي تجميعا، وتلفيقا من هنا وهناك، في (معصرة المخيلة)، وصوته حتى هذه اللحظة هو صوت الآخر الذي يقبع في أعماق الذات ساخرا ومستاء:
ان سرحان يعرف كيف يؤلف هذا الكاتب الذي يجلس هناك روايته، ان ذلك الكاتب يحمل اربعة شوارع وثلاثة أماكن من عمان، مقهى، ومكتبة، ودائرة حكومية، ثم ينقل من بيروت زمنا وحربا وغانية وشارعين، ثم يقتلع عناصر حكاية من ألف ليلة وليلة، ويطحنها بحجر رحى الاخيلة…ص 79.
أي ان سرحان المستاء المناكد هو الكاتب في العمق الملول والانطوائي والمنزعج، لكنه الراغب والمطلع ايضا الذي يقدم للقارىء فكرة أولية مشوشة عن المادة الروائية ؟ اما عجزه عن تأويل اجتماع هذه المادة فهو الذي يبقيه صوتا مقطوعا وحانقا، ينظر بتأفف للكاتب الذي يتجاوز مرحلة الابتداء تلك. وانفراط الذات ليس جديدا، لكن حضور الأنا – الخصم يؤول في الرواية الى تجميع لكل ما هو وثوقي ويقيني شارك في تكوين النشأة الأولى للكاتب، ولانه كذلك تتشكل منه أيضا قاعدة الخطاب المتورم، واصحابها العتاة الذين ينطلق منهم كاتم الصوت ويلوذ بهم الديناصور أمام الهدم الذي تجريه الكتابة لكل ما أعدوه كيانا ثابتا ويقينا لا رجعة عنه، وقداسة تمتلك الحقيقة لوحدها، ان مؤنس الرزان يحيل على نقطة الابتداء، والثقة المنقوصة، والرؤية الاحادية، فيقبلها باوجاعها، بمبضع مستجد باستمرار ليحول دون ابدالها بيقين متجبر أخر، ماضيا الى امام نشدانا لاستيعاب اوسع لحياة أكثر احتداما وتناقضا مما يجري الظن فيه والتواطؤ بشأنه، فالتقوقع عند البداية السرحانية لا يتأتى منه غير البطش او تعطيل الابتكار والتجدد، انه الالتفاف على ديناصورية ما تحمي الخلف الذي يجد عند اليقين ثباته واستجماعه للسلطة، ليكون مندفعا من تلك القداسة المسقطة على الذات مضادا لما هو مغاير ومختلف: ولا غرر ان تتخطى ذات الكاتب تنشئة اليقين، باتجاه ابدال مستمر ومماطلة تأويلية، تبصر المساعي المختلفة، بيقظة تتعاكس عن عمد مع سلطان النوم، حتى وان اخذت عنه الاحلام والمنامات نحو المزيد من الانبعاث والتجدد، خروجا على الركود والتماسا للمعرفة وهدما لكل ما يدعي اليقين والوثوقية، ان التخلي عن (سرحان) هو تخل عن تنشئة وثوقية، ولفكر يقيني عفا عليه الزمن، ولانها كذلك لابد من انكشاف متصل للرؤية يحول دون التبلد والالتباس، ولربما يبقى (سرحان) كأصحاب العاصفة، طرفين مناكدين للانسان، الا ان اليقظة ازاء الخطر هي الخطوة الأولى في اتجاه آخر يرسي حبا مغايرا للحياة.
محسن جاسم الموسوي (ناقد وأستاذ جامعي يعمل في تونس)