علوي الهاشمي
شاعر وناقد بحريني
لم يكن علي عبدالله خليفة مجرد شاعر نشر أول مجموعة شعرية اتسمت بالوعي الجديد والحداثة في إطار حركة الشعر الجديد في البحرين. وذلك عندما أصدر مجموعته الشعرية الأولى عام 1969م بعنوان (أنين الصواري) وهو عنوان يكشف عما أطلق عليه الناقد أحمد المناعي «بداية الإدراكات الواعية في الشعر حين اتجه علي عبدالله خليفة إلى إسقاط قضية البحّار التي كانت تعتبر قضية الغالبية من الناس في الخليج على واقع الإنسان المعاصر محولًا ما فيها من أبعاد الى مادة شعرية». (التعريف بالحركة الأدبية الجديدة في البحرين، ص9).
كما لم يكن الشعراء الشبان الثلاثة الذين اعتبرهم أحمد المناعي خليفة الشعر الجديد في البحرين وهم (علي خليفة وقاسم حداد وعلوي الهاشمي) مجرد شعراء شأنهم شأن علي خليفة الذي سبقهم بزمن قصير جدًا في العمر وفي نشر مجموعته الشعرية الأولى. فقد كان ميلاد علي عام 1944م وقاسم عام 1948م بينما كان ميلاد الثالث بينهما عام 1946 م و كذلك جاء نشر بواكير الشعراء الثلاثة متسلسلًا بعد (أنين الصواري) عام 1969م و(البشارة) عام 1970م و(من أين يجيء الحزن) عام 1972م.
وقد شكلت هذهِ الطليعة من الأدباء مع من سبقها ورافقها وجاء بعدها، شعراءَ وقصاصين وروائيين ونقادًا وكُتّابًا جمعتهم أخيرًا في نهاية عقد الستينيات من القرن العشرين أسرة الأدباء والكتاب عام 1969م، شكلت ما أدعوه الطليعة التأسيسية لحركة الأدب والثقافة الجديدة في البحرين، بعد حركة النهضة الأدبية الأولى المتمثلة في النادي الأدبي الأول ولم يستمر طويلًا، تتشظى حركة الثقافة والأدب من جديد وتتوزع على الأندية الأهلية المختلفة مثل نادي إقبال أوال والنادي الأهلي ونادي العروبة ونادي الجزيرة والنسور وغيرها من أندية المحرق والمنامة والقرى المتباعدة التي شكلت تربة حية لانطلاقة الحركة الأدبية الجديدة ومما صيرها الغفيرة منذ أول أمسية شعرية أقامتها أسرة الأدباء في الثالث من يناير عام 1970م التي أقيمت في نادي النسور بالمنامة وحضرها أكثر من ألف شخص من الجنسين ومن كبار الشخصيات الثقافية والفكرية في البحرين بإلإضافة إلى عامة الناس. فكانت بذلك حدثًا ثقافيًا كبيرًا. وقد شارك في الأمسية ستة من أبرز شعراء الأسرة هم غازي القصيبي وعبدالرحمن رفيع وحمدة خميس وقاسم حداد وعلي عبدالله خليفة وعلوي الهاشمي.
ثم سرعان ما تبعتها أمسية للشعر الشعبي في شهر مارس من العام نفسه شارك فيها الشعراء عبدالرحمن رفيع وعلي خليفة وإبراهيم بوهندي وحضرها الجمهور الغفير نفسه تقريبًا. وقد تتابعت الأمسيات واحدة إثر الأخرى في ذلك العام المبكر من عقد السبعينيّات الذي سجل انطلاقة الأسرة الأدبية بعد تأسيسها مباشرة.
ويلاحظ المتصفح لتاريخ نشاط الأسرة
تواريخ هذه الأمسيات وصورها في كتاب (شعراء البحرين المعاصرون) الصادر عام 1988م.
في ذلك العقد السبعيني المبكر من الحركة الأدبية الجديدة اتضح أن الشاعر علي خليفة كان يمثل أكثر العناصر اشتراكًا في مجمل النشاطات الأدبية والثقافية في الأسرة بالإضافة إلى رئاسة مجلس إدارتها بعد الدكتور محمد جابر الأنصاري الذي لم يقض فيها أكثر من عام واحد.
كان علي خليفة في ذلك العقد السبعينيّ دينامو أسرة الأدباء إلى جانبه الناقد أحمد المناعي وبعض الأدباء المتحمسين للعمل والنشاط والمشاركة.
ولم ينحصر نشاط علي خليفة في إطار أسرة الأدباء، إذ سرعان ما أسّس له مع القاص عبدالقادر عقيل والشاعر يعقوب المحرقي دارًا ثقافية للنشر سماها (دار الغد) وأصدر منها مجلة (كتابات) حين وجد الإجازة الرسمية التي تقدمت بها الأسرة قد تأخرت لإصدار مجلة خاصة بها أسمتها (كلمات). وقد أدت دار الغد ومجلة (كتابات) دورا ملموسًا في تنشيط الحركة الثقافية والأدبية وإن لم ترتبط مباشرة بإدارة أسرة الأدباء والكتاب مما خلق جوًا من التنافس في النشاط وتوزعه بين أسرة الأدباء ودار الغد خاصة بعد صدور مجلة (كلمات) التي كانت (مجلة كتابات) في انتظارها بعد أن صدرت قبلها بعدة سنوات.
ولم يكتفِ علي خليفة في التعبير عن حيويته الفياضة بالنشر وكتابة الشعر فصيحه وعامِّيِّه، حيث أصدر ديوانه الأول الفصيح (أنين الصواري) وأتبعه فورًا بديوانه الشعبي (عطش النخيل) الذي أحيا فيه فن الموّال الشعبي فنشر فيه عددا من الزهيريات التي شاعت بين الناس في البحرين والخليج، بل اقتحم علي بهذا الاهتمام بالشعر والمواويل والقصيدة العامية وبإلقائه الدافئ المتميز معاقل إذاعة البحرين، وقدّم برامج مسائية كان لها صدى واسع عند المستمعين بدأها ببرنامجه الشهير (ظمأ الأوتار) عام 1969م.
تعود بداية معرفتي بعلي خليفة الشاعر إلى مطلع الستينيات من القرن الماضي وأنا على مقاعد الدراسة في المرحلتين الإعدادية والثانوية، حين كان ينشر بعض قصائده في مجلة (هنا البحرين) التابعة لإدارة الإعلام حينذاك، وكانت (هنا البحرين) وسيلة النشر الوحيدة في البحرين آنذاك، ولم ألتقِ شخصيًا بعلي على الرغم من نشر المجلة المذكورة بعض المقطوعات الشعرية لي مع صورة نشرت إلى جانب صورة لعلي خليفة، وذلك قبل أن تجمعنا مسابقات المجلة التي فزنا فيها مع آخرين بجائزة الشعر مرتين كان فيهما علي يتقدمنا بالفوز بالجائزة الأولى.
يرى الناقد أحمد المناعي في (تعريفه المختصر بالحركة الأدبية الجديدة في البحرين) أن «المتتبع لمراحل تطور الأدب في البحرين يجد أن أوائل الستينيات هي نقطة انطلاق حقيقية للتيار الواقعي الجديد، حيث كشفت تلك البدايات عن إمكانيات وطاقات أدبية جيدة لدى الشباب، هي الآن الوجه المضيء للحركة الأدبية الحالية في البحرين». (ص6)
في حفل توزيع الجوائز بسبب غيابي عن البحرين للدراسة في الخارج ابتداء من عام 1965م، تعرفت عليه أكثر في ذلك العام، وعلى قاسم حداد، وغيرهما من الشعراء الشباب حين عادت الصحافة إلى النشر بعد توقف صحافة الخمسينيات بأمر من الإنكليز ما يقرب من السنوات العشر. فكان صدور جريدة (الأضواء) أول الغيث الذي انهمر بعده عدد من الصحف والمجلات التي أتاحت لنا فرص النشر على صفحاتها والتعرف على بعضنا البعض من خلال الصور الفوتوغرافية الشخصية التي تنشر مع القصائد والمقالات.
وبقي تعرفي على الشاعر علي خليفة وغيره من الشعراء والكتاب تعرفًا صوريًا لوجودي خارج البحرين، أقوم بإرسال قصائدي لجريدة (الأضواء) وأكتفي بذلك حتى عودتي النهائية للوطن نهاية عام 1968م واشتغالي بإدارة تجارة والدي، مما عزلني واقعيًا عن الأدباء إلا البعض منهم بالمصادفة، فالتقيت بالأستاذ إبراهيم العريض الذي سأل عني إثر نشري قصيدة (شيء ثقيل لا يطاق) في جريدة الأضواء والتقيته في أحد المحالّ التجارية في شارع باب البحرين، وصار منذ ذلك الوقت يمرّ عليّ في الشركة التي أعمل بها بين الفترة والأخرى، كما كنت ألتقي وأنا في طريقي اليومي سائرًا إلى عملي التجاري بالشاعر الشاب عبدالحميد القائد في نقطة التقاطع بين شارع المتنبي وشارع الشيخ عبدالله فتوطدت العلاقة بيننا. ثم سمعت بأن الشاعر علي عبدالله خليفة يعمل موظفًا في إدارة الجمارك الواقعة على ساحل البحر أمام باب البحرين مباشرة، فسعيت لزيارته والتعرف عليه شخصيا لأول مرة، وذلك في مطلع عام 1969م، فأحببته لدماثة خلقه وأدبه الراقي وتواضعه الجم الذي استقبلني به. وأحسست من جلوسي السريع معه أنه كان مهمومًا بضرورة التقاء جميع الأدباء الشباب بطريقة أو بأخرى، وكان ذلك ما كنت أشعر به وأحتاج إليه للتعرف على الشعراء والأدباء الذين أقرأ لهم ما ينشرون في جريدة الأضواء خاصة.
واتسع هذا الاهتمام وانتشر بين عدد من الأدباء والكتاب الشباب حتى قادنا ذلك للاتفاق على الفكرة المشتركة المتمثلة في تأسيس كيان أدبي يجمعنا، فصار همنا التفكير في أقصر الطرق للحصول على ترخيص رسمي بذلك. فاجتمعنا في سطح منزل الدكتور محمد جابر الأنصاري وكان وقتها مديرًا للإعلام، وقد لعب دورًا أساسيًا في عملية التأسيس وإصدار الرخصة الرسمية، كما كان الناقد أحمد المناعي واحدًا من أنضج المجتمعين وأكثرهم حماسًا ورغبة وعملًا في موضوع تأسيس الأسرة الأدبية مع الأنصاري ومحمد الماجد وغيرهما، حتى شهدت الشهور الأخيرة من ذلك العام المبارك 1969م عملية تأسيس أسرة الأدباء بعد نقاش وحوار طويلين وأخذ ورَدّ وتخوف حول استخدام أو تجنب الأسماء الشائعة كالرابطة والاتحاد وغير ذلك من الأسماء المتقاطعة مع السياسة، فوقع الاختيار على اسم (الأسرة) فصدر الترخيص الرسمي بسهولة نسبية، وذلك في شهر سبتمبر من ذلك العام المثقل بالطموحات والتطلعات عام 1969م.
وكان لاشتراك علي خليفة وأحمد المناعي في مؤتمر الاتحاد العام للكتاب الآسيويين الأفريقيين في الهند الذي أقيم في ذلك العام مع الانطلاقة الأولى المبكرة لتأسيس الأسرة الأدبية، دور كبير في إشاعة خبر التأسيس ونشره بين الحاضرين من الأدباء في ذلك المؤتمر الدولي على الرغم من وجود وفد من الأدباء البحرينيين الذي حضروا برئاسة الأستاذ إبراهيم العريض، وما حدث من اختلاف بين الطرفين حول إلقاء كلمة الأدباء في البحرين أمام المؤتمر التي قدمها الأستاذ العريض باللغة الانكليزية وإصرار المناعي على إلقائها باللغة العربية، وقام بنشر بيان وتوزيعه على المؤتمرين عندما لم يوافق العريض على ذلك. ولتفاصيل ذلك الحضور الأدبي المبكر والأول الذي جمع عضوين من أعضاء الأسرة والوفد الذي اختاره العريض من الأدباء والشعراء الآخرين الذين لم يكونوا أعضاء في الأسرة. ولعل فرصة أخرى أكثر اتساعًا تجيء للمزيد من ذكر التفاصيل الخاصة بهذا الحدث الثقافي المبكر من حياة الأسرة في بدايات تأسيسها، وما تركه ذلك من آثار لاحقة ظهرت في الردود المتبادلة المنشورة في الصحافة المحلية قبل أن يطويها النسيان. واحتفلت أسرة الأدباء بعد تجاوز الكثير من العقبات قبل عامين بيوبيلها الذهبي «عام 2019م»، في حفل مهيب كرمت فيه الأسرة مؤسسيها من الأعضاء وفي مقدمتهم الأنصاري والمناعي وعلي خليفة، شاركت فيه الشيخة مي محمد الخليفة رئيسة هيئة الثقافة والآثار التي أقيم الحفل تحت رعايتها.