"الحداثة " La Modernite، واحدة من المقولات الاشكالية التي شغلت المشهد الثقافي العربي لأكثر من عقدين من الزمان، إبداعا ونقدا وتنظيرا ومجالا، وما يفتأ صداها عالقا بالآذان وآخذا بالنفوس والأذهان، الى الآن. ولا غرو، فالحداثة هي الابستيم الثقافي المهيمن على لحظتنا، أو هي مناخ الوقت L’airde temps حسب التعبير الفرنسي. ومن ثم كانت شعارا ودثارا لجيل كامل من المبدعين، أو بالأحرى لأجيال مختلفة من المبدعين، ما بين شيوخ وكهول وشباب. فالكل يدعي بالحداثة وصلا، وهي عنهم غافلة مراوغة لعوب..
ولا بدع أن يتواصل ويتجدد الحديث عن الحداثة في محافلنا العربية، رغم مهرجان الكلام الطويل الذي أقيم لها سنين عددا، ورغم اتجاه الحديث هنالك، في المحافل الغربية، الى ما بعد الحداثة (1). وذلك عائد الى الطابع الاشكالي والخلافي للحداثة الأدبية العربية كمفهوم وماهية من جهة،والى تدافع وتقاطع الأسئلة والقضايا التي يستثيرها الابداع العربي الراهن كنصوص وتجارب من جهة ثانية.
من هذا المنطلق، وعلى مهاد الهنا والآن، تبدو أهمية تجديد السؤال واثارة الاشكال، إن على المستوى النظري أو على المستوى النصي، ليس فقط، من أجل المزيد من ترسيخ التحديث والتجريب في المجال الأدبي بمختلف تعبيراته وحقوله، بل، وقبلئذ، من أجل إعادة النظر في مقولة الحداثة ذاتها، وجس نبض الهوية فيها، وتقييم تجربتها وحصيلتها. هنا بالضبط، مربط الفرس، كما يقال.
وتأسيسا على هذا، ليس من قصد ووكد هذه المداخلة أن تعيد على الاسماع ذلك العزف المألوف على وتر الحداثة، الحفي بها والمشيد بكشوفها وفتوحها، ففي أدبيات الحداثة، قديمها وجديدها، ما يملأ منه السمع ويشفي الغليل. إنما قصد هذه المداخلة ووكدها في الاساس، أن تسائل الحداثة العربية وتناقش بعض طروحاتها النظرية وتجلياتها الأدبية، من خلال المقارنة والمقابلة بين منطوقها ومسكوتها، أي بين ما تظهره وتعلنه عبر مقولاتها وبناها السطحية، وما تضمره وتخفيه في تجاويفها وبناها العميقة. بين ما تفكر فيه وما لا تفكر فيه، أو تتجانف التفكير فيه.
وواضح أن محاولة في مثل هذا الطموح الابستمولوجي يضيق عنها إهاب مثل هذه المداخلة المحدودة بالزمان. ومن ثم ستفضي بمكنونها في شكل ملاحظات وتأملات نظرية تمس في الدرجة الأولى حقل التنظير وحقل الشعر، وينوب فيها المجمل عن المفصل. والمحاولة الى ذلك، وان كانت تصب في "نقد الحداثة " فان هذا النقد لا يعني بالضرورة موقفا مضادا من هذه الحداثة وسباحة ضد تيارها الزاحف، بل هو صادر عن ولاء حميم لهذه الحداثة وغيرة صادقة عليها، خوف أن تزيغ عن سويتها وتتنصل من هويتها.
والهوية هذه تخصيصا هي الاشكال الأول، أو المسكوت الأول الذي يتلبس فكرة الحداثة العربية ويثوي في شغافها.
وكيما نقترب من هذا الاشكال ونجلو هذا المسكوت، نطرح التساؤل الأولي التالي:
كيف تفكر الحداثة العربية في ذاتها،وكيف تؤسس مفهومها ورؤيتها وخطابها وما هي المواصفات التي تقترحها على الكتابة،كي تصير حداثية ؟!
وبعبارة، ما هو المنطوق النظري لهذه الحداثة وما هي ألفباء برنامجها؟!
سوف لن نتقيد هنا، كما جرت العادة، بطروحات وبيانات قيدوم الحداثة العربية، أدونيس، التي أضحت على أهميتها من "كلاسيكيات " هذه الحداثة، وسنستحضر قصدا، بعض طروحات وبيانات الحداثيين المغاربيين، ليتضح للعيان،كيف ذهب هؤلاء بالمشروع الحداثي – الأدونيسي، حتى حده الأقصى، دون أن يخفى بالطبع ولاء هؤلاء لهذا المشروع وتأثرهم به شكلا ومضمونا. ولا غرو، فهم من بيضة أدونيس خرجوا وفي عشه درجوا.
– يقول التونسي محمد مصمولي: (الابداع اعتراض وتعارض ومعارضة بالضرورة للمثال، وللنمط، وللشكل وللأنموذج، أي لسلطة الموروث الفكري والفني، ولسلطان الذاكرة، والمفروغ منه والمتفق عليه في مجال الأداء والتعبير والصياغة. (…) إن الحداثة مثل الابداع، من حيث كونها نقيض القدم، فهي ايضا محاولة بداية دائما "لا عن سابق مثال")(2).
– ويقول المغربي عبداللطيف اللعبي: (الحداثة بالنسبة لي، تكمن في طاقة التغيير والتمرد، فالشاعر الحديث هو الذي يطيح "بالمقدسات " اللغوية والتعبيرية الحساسة. هو الذي يستطيع كذلك، أن ينتقى، داخل زلزال التحول، عناصر الاستمرار الديناميكيه، شرط ان يطورها كيفيا) (3).
– وفي السياق ذاته،يرى محمد بنيس، ان على الكتابة كيما تتعمد بماء الحداثة وتنخرط في معمعان المواجهة والتأسيس، ان تقوم بسلسلة من الأفعال التدميرية يستعرضها على النحو التالي:
– آن لنا أن نخرب الذاكرة كآلة متسلطة.
– تدمير القوانين العامة.
– تدمير سلطة اللغة.
– تدمير التراتب المانوي.
– تدمير النحوية داخل النص.
– تدمير السيادة.
– تدمير سيادة المعنى وأسبقيته داخل النص.
– تدمير استبداد الحاضر.
أما عن خصائص وصفات وغايات النص الحداثي المقترح، بعد هذا المسلسل التدميري البدئي، فهي حسب تعبيره واستعراضه أيضا:
– توق الى اللانهائي واللامحدود، يعشق فوضاه وينجذب لشهرتها.
– الابداع حين يخضع للوعي، للتقعيد، يعلن موته.
– نقل اللغة الى مجال الغواية والمتعة.
– الوصول الى حال الحضرة الشعرية بالنص وفي النص.
– زمان الشعر متشكل من منظومة الدواخل، انه النفس، انه ايقاع الوعي واللاوعي في تجلياته التي لا ضابط لها.
– ومن ثم، فإن الكتابة نزوع مغاير لعالم مغاير في النص وبالنص (4).
هذا غيض من فيض التفكير الحداثي – النظري، في نسخته المغاربية المزيدة والمنقحة والمضفحة أيضا. ولا تخفى هنا القواسم المبدئية المشتركة بين هذه المنطوقات والطروحات الموتورة. فهي سوية تجمع على أن الحداثة الكتابية أو الكتابة الحداثية معارضة وتعارض مع سلطة الموروث الفكري والفني ومع سلطان الذاكرة، وهي نقيض للقام، وخلق على غير سابق مثال، حسب محمد مسمولي، وهي كامنة في طاقة التغيير والتمرد والاطاحة بالمقدسات اللغوية والتعبيرية، حسب عبداللطيف اللعبي. وهي تخريب للذاكرة كآلة متسلطة وتدمير للقوانين العامة وسلطة اللغة والنحوية والمعنى وعشق للفوضى والغواية والمتعة، حسب محمد بنيس. الى آخر النشيد الحداثي – النظري القاصف.
فماذا يعني هذا الكلام ؟!
يعني بصريح القول وفصيحه، ان الحداثة، وفق هذا المنظور، دعوة الى القطيعة مع الماضي وتركته وتصفية الحساب مع الذاكرة الموشومة، والانطلاق من اللامثال، واللانمط، واللانموذج. أي من درجة الصفر في الكتابة، حسب تعبير بارت. وبأخف العبارات وأعفها، هي اعتراض وتعارض ومعارضة للنموذج ولسلطة الموروث، حسب تعبير مسمولي. لكن الكلام يعني ضمنيا، وفق دلالة المفهوم الاصولية، ان الحداثة الغربية المتلألئة هناك على الشط الآخر، تبقى هي المثال والنمط والنموذج المطروح أمام الحداثة العربية الطريرة، وهي الكفيلة بترميم وتأثيث الذاكرة المخربة حسب تعبير بنيس. فيما أن الانطلاق من اللامثال أي من الفراغ، عملية مستحيلة، لأنه لا شي يولد من لا شيء. وبما أن الموروث العربي عاجز عن تقديم المثال والأسوة، تبقى الحداثة الغربية اذن هي المثال الذي لا ندحة عنه. ومثل هذا التفكير أو التنظير الحداثي ينزع من حيث يعي أو لا يعي، الى تغريب هوية حداثته وتهجينها، بدل تعريبها وتأصيلها. أي ينزع بعبارة صوب حداثة خلاسية، غريبة الوجه واليد واللسان. هذا مسكوت أول.
ومن جهة ثانية، فان هذه الحداثة، إذ تدين السلطة وتدعو الى نسفها وتدميرها، تغدو بدورها سلطة مضادة تقوم على الاقصاء والالغاء، وتأتي على الأخضر واليابس، في مجال رمزي وروحي بالغ الأهمية والحساسية، وهو مجال اللغة والأدب وتدمير القوانين العامة للمنظومة اللغوية والأدبية، هكذا دفعة واحدة وبضربة لازب، هو ضمنيا تدمير للقوانين العامة للهوية والذاكرة الجمعية، دفعة واحدة وبضربة لازب. وعلى الرغم من أن هذه الحداثة تدعو جهرة الى الحرية والابداع، الا أنها في العمق، تصادر هذه الحرية وهذا الابداع، وتنفي حق الاختلاف والمغايرة، إذ تدعو جهرة الى تسييد وتشييد بديل مضاد ومحدد، هو بديلها هي بالذات دون سواه، كما أنها تغدو بدورها "مقدسا" اذ تدعو الى الاطاحة بالمقدسات والمتعاليات، وتكرس ما يمكن تسميته بـ" فتيشية " الحداثة وصنميتها. وهي في هذا لا تكاد تختلف عن أنماط السلطة التي تناوئها وتجابهها. انها إذ تنفي ما قبلها، لتثبت ذاتها ولحظتها تغدو متماهية في التحليل الأخير، مع السلطة السياسية العربية التي تشجبها. وهذه العصا من تلك القصية. هذا مسكوت ثان.
ومن جهة ثالثة، فإن نزوع هذه الحداثة الى تحقيق الحضرة الشعرية الخالصة بالنص وفي النص ولا شيء سوى النص، يفرغ هذه الحداثة بداهة، من نسغها الحراري ونبضها الانساني والوجداني، ويحيلها الى حداثة شكلية أو لوغوسية، غايتها وضالتها هي الغواية والمتعة وتفتيق أو "تفجير" الأشكال واللغات والأساليب، في الدرجة الأولى.
يقول أنطون مقدسي في هذا الصدد: (فالنص الحديث لا يقول الا ذاته، أي أنه مستقل عن كل موجود أو نص خارجه كالطبيعة أو المجتمع وغيرهما، أو متعال عليه، لا بل هو مستقل عن كاتبه، عن واضعا، مكتف بذاته، وعليك إما أن تقبله واما أن ترفضا. أنت حر، فلا يصف أية طبيعة، ولا يتحدث عن أية ظاهرة اجتماعية ولا عن أي شخص، بل هو يبتدع ذاته) (5).
معنى هذا أن الحداثة تسبح في هجرتها الخاصة، وتمارس طقوسها السرية المغلقة المستقلة والمكتفية، بمعزل عن جاذبية وضوضاء المجتمع والتاريخ والايديولوجيا، وما شاكل، فهي حداثة متعالية ومحايدة. وهي ايديولوجيا متعالية على الايديولوجيات. أو هي بعبارة اللايديولوجيا. فالنص هو المبتدأ والخبر. والايديولوجيا، في منظور الحداثة العربية مقولة رثة ومتجاوزة، انهكها طول الاستعمال وأنهكت معها اللغات والرؤى والأشكال. لكن من المعلوم أن التنصل من الايديولوجيا هو شكل ماكر من أشكال الايديولوجيا، اذ لا حياد ولا تعالي ضمن عالم ينغل بالصراع والنزاع. وهروب الحداثة العربية بالنص الى النص هو، في التحليل الأخير هروب من فواجع ومراجع الواقع وتصعيد لها وتنفيس عنها، في الوقت الذي تدعو فيه بياناتها وطروحاتها الى تدمير وتفجير وتغيير هذا الواقع. ومن ثم يمكن القول بأن الايديولوجيا الضمنية للحداثة العربية بعد تجريدها من مسرحها الخارجية، هي ايديولوجيا المهادنة والمسالمة والهروب الى الأمام. فتحت طائلة هذه الحداثة قامت "الهدنة " المريبة بين المثقفين والسلطة، بعد أن أفرغ خطاب المثقف باسم الحداثة من شحنته الحرارية ومضمونه التاريخي والاجتماعي والايديولوجي، فتشكلن وتبنين وتحدثن، ولم يعد يشوش على السلطة أمنها واستقرارها. وبدل أن تشكل الحداثة كما هو مؤمل منها، فمزة قطع مع السلطة، صارت تشكل فمزة وصل معها. بل صارت تشكل تاليا، فهزة وصل مع الغرب ومع الصهيونية أيضا. فهذه الحداثة هي التي قادت قطب الحداثيين العرب، أدونيس الى الدعوة الى التطبيع الثقافي مع اسرائيل. وهي التي قادت مثقفين حداثيين الى زيارة اسرائيل وخطب ودها.
وبذلك تناقض الحداثة ذاتها وتنكث ميثاقها وتضعنا تلقا، مفارقة شقية. ففي الوقت الذي تتعالى فيه على السياسة وأوضارها، وتلح على استقلال النص عن كل موجود أو نص خارجي، اذا بها بغتة تسقط في حمأة السياسة وتخذل براءتها النصية لحساب النص الخارجي الآثم. هذا مسكوت ثالث.
إن هذه المبادىء والطروحات الحداثية النظرية التي أتينا على بعض قليل منها، على سبيل الاجتزاء لا الاستقصاء، هي التي احترثت للشعر، في الدرجة الأولى، أرضه الجديدة ودعمت مغامرته الابداعية وأطلقته من عقال. فقد كان الشعر بالأساس، هو المجال الحيوي الذي اختبرت فيه الحداثة طروحها وفروضها، وهو رهانها الأول.
ولا مراء في أن الحداثة قد أعطتنا أبهي الأشعار وحبتنا بأجود الشعراء، منذ طلائع الخمسينيات حتى الآن، واللائحة طويلة وحفيلة. بيد أن هذه الحداثة أيضا، هي التي أربكت حركة الشعر الحديث، وساوت بين غثه وسمينه، ونكدتنا بأسوأ الشعر والشعراء. أي هي التي زجت بالشعر الحديث في نفق ضائقته وأزهته. ذلك أن نسف هذه الحداثة لجل القوانين المعايير، واطاحتها بالثوابت والمرجعيات، قد نفتح الباب على مصراعيه أمام المتشاعرين ومحدودي المواهب ؛ وأحال الشعر الى مطية ذلول للراكبين. وهذا هو مطب الحداثة الحساس، وهنا تتجل أزمة الشعر وضائقته كأعرق خطاب إبداعي أنتجته القريحة العربية.
وقد لعب التنظير الحداثي الأريحي، دورا أساسيا في هذه الأزمة. كما لعب النقد، والنقد الحداثي تخصيصا، دورا لا يقل أهمية وخطورة في هذه الأزمة، ومرد ذلك الى غياب النقد Critique عن هذا النقد، وانتحائه منحى وصفيا صرفا في رصده للمنجز الشعري واستقصائه لأسئلته وظواهره، بما يساوي بين التبر والتراب. فمنذ انطلاقة حركة الشعر الحديث، دأبت الكتب والدراسات التي واكبتها على كيل المديح والثناء بسخاء لهذه الحركة عن حق أو باطل، وأفرطت في الأغلب الأعم، في الإشادة والاحتفاء بمنجزها بدافع الولاء لها والحدب عليها، في مواجهة أنصار الثبات والسلفية الشعرية. ولا أستثني من هذه الكتب والدراسات سوى نزر يسير منها، هي في حدود مطالعاتي خمسة وهي على التوالي:
– أزمة القصيدة العربية، مشروع تساؤل، للدكتور عبدالعزيز المقالح.
– أفق الحداثة وحداثة النمط: دراسة في حداثة مجلة شعر، بيئة ومشروعا ونموذجا، لسامي مهدي.
– بحثا عن الحداثة، لمحمد الأسعد.
– في حداثة النص الشعري، للدكتور علي جعفر العلاق.
– أزمة الحداثة في الشعر العربي الحديث للدكتور أحمد المعداوي.
وتجدر الاشارة الى أن أصحاب هذه الكتب الخمسة، هم شعراء حداثيون أولا، وأهل صناعة الشعر، أبصر به من العلماء بآلته، كما قال ابن رشيق. والكتاب الأخير، على نحو خاص، هو أجرأ وأنكأ هذه الكتب، وأحدها رؤية ولغة وهو يقارب إشكالية الحداثة الشعرية ويتنطس أسئلتها ومأزقها. إذ يشكل الكتاب من ألفه الى يائه، "محاكمة " أدبية صارمة للحداثة الشعرية ومراجعة جذرية لمنجزها وارثها. وهي محاكمة لا تخلو من غلو وشطط، لكنها أيضا لا تخلو من صواب ووجاهة. ونظرا لأهمية وحساسية أطروحات هذا الكتاب "النقدي" بامتياز، سنتريث قليلا عند أهم الحصائل والنتائج التي تؤدي اليها بعد قراءته الاستبارية للمتن الشعري الحداثي. ينطلق هذا الكتاب من فرضية مركزية مؤداها أن المعركة التي دارت حول الشعر الحديث على امتداد الخمسينيات والستينيات، لم تكن معركة شعرية ونقدية بقدر ما كانت معركة "ايديولوجية" وبالتالي فان النصر الذي خرج به الشعر الحديث من هذه المعركة الكلامية، لم يكن نصرا شعريا محضا، يقول في فاتحة الكتاب: (ما يهمنا من هذه المعركة هو أنها لم تستخدم أسلحة النقد للدفاع عن شعرية الشعر، بل استخدمت أسلحة من خارج الميدان كالايديولوجيا (القومية – الوحدة) والصراع الطبقي والعقلانية ضد التخلف والجمود والغيبية وعبادة الماضي. واذن فإن النصر الذي خرجت به هذه الحركة من تلك المعركة لم يكن نصرا شعريا محضا، ولكننا معشر أنصار هذه الحركة والمنبهرين بها الى حدود التماهي والاستلاب قد اعتبرنا ذلك النصر نصرا شعريا خالصا الى درجة أن علاقتنا بها قد ألغت كل علاقة بماعداها من الحركات الشعرية السابقة عليها) (6).
وللاقتراب من أزمة الحداثة الشعرية واحتو ائها، وتفكيك عناصرها و أوالياتها لا يكتفي الباحث أحمد المعداوي بمساءلة المتن الشعري الحداثي وحده، بل يعضد هذه المساءلة المركزية بمساءلة موازية تتعلق بالمتن النقدي الذي كتب حول المتن الشعري. والبحث بذلك يفتح نار الكلمات على جبهتين، جبهة الحداثة الشعرية وجبهة الحداثة النقدية.
يقارب الكتاب مظاهر وأمائر أزمة الحداثة الشعرية من خلال ثلاثة أسئلة محورية تشكل قوام البحث ومناطة وهي:
1 – ماذا أضاف الشاعر العربي المعاصر الى ايقاع القصيدة العربية ؟
2- ماذا أضاف الى تركيبها اللغوي؟
3 – ماذا أضاف الى الدلالة فيها أو ما هي رسالته المتميزة الى جمهوره ؟
أما المحصلة التي يتأدى اليها الباحث بصدد السؤال الأول (الايقاع) فهي (أن البنية الايقاعية الجديدة لم تعد تحمل أي جديد، وأن حركة الشعر الحديث التي اعتمدت في شورتها الشاملة على الثورة في مجال الايقاع، قد وصلت الى الافق المسدود) (7).
والمحصلة التي يتأدى اليها بصدد السؤال الثاني (اللغة)، هي ( انه باستثناء محاولة السياب في النفس التقليدي، ومحاولة أمل دنقل وسعدي يوسف مع لغة الحديث اليومي، (…) فإننا لا نجد إلا النزعة التبسيطية التي أفرزتها الواقعية الاشتراكية، وهي محاولة تجاوزت البساطة الى الاسفاف بسبب سوقيتها وفقرها الى الكثافة المجازية، أما ما يمكن أن يعتد به في هذا الباب فهو اللغة التي تحكمها الصيغ الثلاث التي استرشدت بتنظيرات أدونيس، والتي انتهينا عن طريق تحليلها الى أنها قد وصلت الى الباب المسدود، رغم سيطرتها المطلقه على الساحه الا أدبيه) (8).
أما المحصلة الثالثة والأخيرة التي يتأدى اليها بصدد السؤال الثالث (الدلالة)، فيوجزها في العبارة التالية (لقد جرب الشاعر الحديث أن يتكىء في رسالته الشعرية، على تجارب الآخر (تجربة الغربة – تجربة الحياة والموت)، فوصل الى الطريق المسدود. وجرب أن يعتمد على نفسه، فوصل الى الطريق نفسه) (9).
لسنا متفقين، على طول الخط، مع هذا التشخيص القاسي لأزمة الشعر الحديث، وهذا التشريح الواصل حد التجريح. فللحداثة الشعرية محصلاتها ومنجزاتها الباهرة التي تتجاوز وتخالف هذه المحصلات العجاف.ولكن لا يمكن إلا أن نتفق على أن ثمة أزمة ترين بظلها على الحداثة الشعرية وتسم بمياسمها جزءا كبيرا من منجزها وعطاشها. وذيوع كلمة "الأزمة" في السنوات الأخيرة، آية على ذلك. واذا كان التشخيص الآنف، يطال في الاساس المتن الشعري لجيل الرواد والجيل الثاني الذي أعقبه، فان الأزمة تغدو مضاعفة ومستشرية بخصوص المتن الشعري الذي انتجه الجيل اللاحق أو بالأحرى الأجيال اللاحقة التي درجت من تخوم السبعينيات الى الآن. لقد أضحى الشعر على يد الأجيال الجديدة مشكلة، وأضحت الحداثة في مأزق، وكل محاولة لنفي هذا الواقع، هي بمثابة ذر الرماد في الأعين.
لا شك في أن الشعر الذي أنتج خلال العقدين الأخيرين يضاهي كل ما أنتج قبله من شعر. ولا شك في أن لائحة الشعراء قد استطالت واكتنزت عن ذي قبل. لكن الكثير من هذا الشعر والكثير من هؤلاء الشعراء، يصدق فيهما قول دعبل الفزاعي:
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا!
فقد كثر الشعراء، وقل الشعر، اسوة بقول شوقي "إذا كثر الشعراء، قل الشعر".
وكثرة الشعر والشعراء، قد تنم للوهلة الأولى، عن حيوية الابداع وخصوبته، لكنها تنم، في العمق عن غياب أو فتور المكابدة الشعرية وهشاشة المعايير الشعرية واستسهال القول الشعري وارتخا صه. وقد كانت الحداثة النظرية وراء هذا الباب المشرع.
فبدافع من المبدأ الحداثي الذي يقول (لا قوانين أو قواعد اذن يتبعها شعراؤنا ليدخلوا عالم الحداثة، لا منطق أو إيديولوجيا لها. انها قيمة، حالة، حرية في الفكر والفن). (10) أصبح حبل الشعر متروكا على غاربه، واصبح حماه مستباحا للواردين والقاصدين. أصبح الشعر باسم الحداثة، في حل من القوانين والقواعد والايديولوجيا. وذاك هو واقعه واشكاله، بالتحديد. ويدافع من المبدأ الحداثي الآخر الذي يقول (لا إبداع بلا حداثة ولا حداثة بلا إبداع) (11)، أصبح الشاعر يكتب الشعر وفق معايير ومواصفات الحداثة أولا، لا وفق معايير ومواصفات الشعر الخاصة. أي يكتب ليحقق ويرضي الحداثة لا الشعرية، ويغدو نصه لذلك، تمرينا في الحداثة أكثر منه إبحارا شعريا. أصبح الشاعر الحداثي في أكثر الحالات، يصفي بأذن الى وجدانه، ويصغي بأذن أخرى الى تعاليم ووصايا الحداثة، وفي تناوحه بين القطبين ضيع الحداثة وضيع الشعر.
هكذا يمكن اختزال أزمة الكتابة الشعرية الواهنة، في سقوط المعيار وانتفاء البوصلة، الفكرية والفنية والتاريخية الموجهة والهادية للا بحار الشعري. كما يمكن القول بأن الشعر، هو الغائب الأول والمسكوت الأول في هذه الكتابة الشعرية. وأن الرسالة الشعرية Me’sage Poe’tique هي الغائب الثاني والمسكوت الثاني في هذه الكتابة. وفي حدود قراءتي واستقرائي للسجل الشعري الحداثي الذي ينداح بين مشرق الوطن العربي ومغربه منذ طلائع الثمانينيات حتى الآن، وهو ما يشكل الحساسية الشعرية الجديدة بتعبير إدوار الخراط، تكشف لي هذا السجل كما تكشفت هذه الحساسية في منحاها العام والغالب عن جملة من الظواهر والأعراض، يمكن إيجازها فيما يلي (12)
أ – الشحوب اللغوي وتهافت الملفوظ الشعري، معجما وتركيبا وايقاعا ودلالة. واستعمل هنا كلمة الشحوب اللغوي تلطفا والا فان كلمة "التلبك اللغوي" هي الأوفى بالقصد في هذا السياق. ذلك أن كثيرا من النصوص الشعرية الحداثية التي ينتجها شعراؤنا، تكاد تخلو من الشعر، بسبب تخبطها تجاه اشكالية اللغة وعجزها عن ارتياضها والسيطرة عليها، وبالأحرى، خلق وتأسيس لغة جديدة متميزة تنزاح وتنفصل عن نواميس اللغة الاصطلاحية، وتستقل بذاتها ونواميسها جمرا طالعا من رماد. ومرد ذلك في رأيي الى فقدان أو كسل الاحساس باللغة، في ارقي مقامات اللغة مما يؤدي الى نضوب "الشعرية " وتهافت الصياغة والايقاع، فيصبح النص تلبكا لغويا يشي بعسر الهضم ورصا اعتباطيا ومتمحلا للغة. كما يؤدي تاليا الى نصول الخصوصية اللغوية والاسلوبية فتتماثل التجارب وتتماهى ويقع الحافر فيها على الحافر، وكأنها معزوفات على وتر واحد، ومن لهاة واحدة.
ب – ضمور الحس التراثي – القومي وغياب «النص الغائب » الذي يشكل دعامة وذاكرة كل نص شعري متميز. فقد تعامل معظم الشعراء الجدد مع الحداثة، باعتبارها قطيعة مع الذاكرة التراثية وخلقا على غير مثال ومقال. في حين أن الحداثة في بعض منطوقاتها المبكرة وحسب تعبير أدونيس ذاته (هي أن نعرف ما كنا، وما نحن، من أجل أن نعرف ما نكون). ومقولة الحداثة " ذاتها تشترط أن يكون هناك سياق تراثي – معطى تتنزل فيه هذه الحداثة وتنماز عنه. فالحداثة تستدعي ضمنيا مقابلها وقبلها، وهي القامة. ولا حداثة بدون تمثل واستيعاب هذه القامة. وليس من الحكمة أن تخرق القاعدة، قبل أن تتعلم كيف تتقيد بها، كما قال رائد الحداثة الغربية، إليوت.
ج – التغامض أو لعبة الاستغماية. أوثر هنا استعمال كلمة "التغامض " لأميزها عن مصطلح "الغموض " المتداول ولأحدد بها ظاهرة فاقعة وشائعة تدمغ النص الشعري الراهن وتشرب صفوه. إن الفرق بين الغموض والتغامض ببساطة هو فرق بين الرمز والمزورة،بين الانفعال الشعري العميق والافتعال الشعري. بين الحمل الطبيعي الذي يصاحبه عسر الولادة والحمل الكاذب، الذي يصاحبه صداع الرأس.
ان الغموض في أحسن حالاته، آية على عمق المعنى أو على "فائض " المعنى. والتغامض في أحسن حالاته آية على فوضى المعنى، وفي أسوأ حالاته، آية على اللامعني. وهذا ما نلقاه في نماذج غير قليلة من شعرنا الراهن. وكما يتهافت المصطلح الشعري في هذه النماذج نتيجة للتلبك اللغوي، يتهافت المصطلح الدلالي أيضا نتيجة للتلبك الفكري واقتسار التجربة والجنوح القصدي الى الاغرابية، وهذا ما يؤزم التواصل بين الشاعر والجمهور، ويستعيد دعوى الشاعر القديم:
علي نظم القوافي من معادنها
وما علي إذا لم تفهم البقر!
د – إفراغ النص الشعري الحداثي، من المحتوى التاريخي والايديولوجي والسياسي، بدعوى التعالي – الترانسندتالي عن هذه القيود الأرضية، وتقديم النص في عراء الكلمات والأشكال والاستيهامات الذاتية الخالصة، خلافا للحداثة الشعرية الأولى التي اصطلت بنار التاريخ والايديولوجيا وانصهرت في أتونهما وانقد حت شواظا من نار ونور. ومن ثم يبدو النص الشعري الراهن في حل من أي التزام ايديولوجي، وكأنه يتحرك على عواهنه، بلا قضية أو أطروحة، أو هاجس تاريخي محدد يقود خطاه ويوجه مسعاه. ومن ثم أيضا، تبدو ملامح الانسان والمكان والزمان، ناصلة ماحلة في هذا النص. ولعل هذا هو المسكوت الأكبر والأخطر في هذا النص.
ان هذه الظواهر والأعراض الأربعة على نحو خاص وأساس،هي التي تشف لنا عن بعض تجاويف المسكوت الشعري في هذا الشعر، وهي التي تكمن وراء الاشكال الراهن الذي نتوء به الحداثة الشعرية. وغير خاف أن هذا الاشكال، من قبل ومن بعد، هو جزء من اشكال الظرف التاريخي الراهن، ورشح من إناثه.والظواهر والاعراض الآنفة، ليست بعيدة عن "أوهام الحداثة " التي تطرق اليها أدونيس من قبل، وهو يرسل النذر الأولى للاشكال ويشير الى مزالق ومأزق الطريق. وظواهر الحداثة هذه وأوهامها هي التي تدعونا، كما ألمحت في مستهل هذه السطور، الى وقفة نقدية متأنية معها والى صحرة واقعية جديدة ترأب صدوع الحداثة وتعود بها الى السوية والهوية.
آن الأوان إذن وحق النداء في الظل الكالح للمتغيرات التعيسة التي طوحت بعالمنا العربي كما طوحت بأحلامنا وأوهامنا شذر مذر، كي نقوم بتأصيل وتفعيل هذه الحداثة دون أن نتنكر لمكاسبها ومنجزاتها.
آن لنا، هنا والآن وقبل فوات الأوان، أن ننتقل من "صدمة الحداثة " الى "صدمة الواقع " و«صدمة الواقعية » بمعناها الالتزامي والجمالي العميق.
فنحن سواء أهربنا الى الماضي عن طريق وهم الاصالة أم هربنا الى الامام، عن طريق وهم الحداثة، نحمل لحظتنا وتاريخنا فوق ظهورنا كما قال هيجل.
إحالات
ا – في سياق نقد الحداثة الغربية اشير هنا، على سبيل المثال، الى كتابين متميزين، ومما "مدخل الى الحداثة " لهنري لوفيفر، و"نقد الحداثة" لألان تورين.
2 – محمد مصمولي / لا حداثة بغير ابداع ولا ابداع بدون حداثة – مجلة الشعر التونسية – السنة الأول – العدد 4 – 19833 ص 38-39.
3- المصدر السابق ص 40.
4 – محمد بنيس / بيان الكتابة مجلة الثقافة الجديدة – السنة الخامسة – العدد 19. وانظر ايضا تعقيبنا المفصل هذا البيان بالعدد نفسه، تحت عنوان "اثبات الكتابة ونفي التاريخ".
انطون مقدسي/مقاربات من الحداثة – مجلة مواقف العدد 35- 1979 ص 5.
6 – أحمد المعداوي /ازمة الحداثة في الشعر العربي الحديث ط. 1 – 1993 منشورات دار الافاق الجديدة – المغرب ص 3.
7 – المصدر السابق ص 76.
8 – المصدر السابق ص 139.
9 – المصدر السابق ص 217
10 – نسيم خوري / الحداثة وحركة الخلق المسمرة – مجلة مواقف – العدد 35-1979-ص 119 – 120.
ا ا -محمد مصمولي / لا حداثة بغير ابداع ولا ابداع بدون حداثة. مصدر مذكور.
12 – سبق أن ناقشنا بعض مظاهر ازمة النص الشعري الجديد، كما تتبدى خاصة في المشهد المغربي، في كتابنا / جدل القراءة. ط. ا -1983. دار النشر المغربية – الدار البيضاء.
نجيب العوفي ( كاتب واستاذ جامعي من المغرب)