الطائرة التي حملتني، مطلع السبعينات إلى باريس، كانت الآلة عابرة الزمن، أو هكذا حسبتها على الأقل: فهي نقلتني سحبة واحدة، ومن دون توقف، إلى المستقبل الذي ستصير إليه البلاد إن هي فازت بنضالها، أو إن تحققت أحلام لجيلي. وقل : لقد حملتني تلك الطائرة إلى المستقبل باختصار ومن يومها لم يفتأ هذا المستقبل يفاجئني: ففوق المظاهرة الأولى التي شهدتها، والتي غطّت تلك الشوارع الباريسية الفسيحة، كانت ترفرف يافطات بيضاء كبيرة كتب عليها بالحبر الأحمر: «لا للبطالة»، و«شغل – مترو – نوم.. لقد زهقنا»، و«من أجل أسبوع من ٢٤ ساعة عمل فقط»! وسوى ذلك من الغرائب.
يا إلهي! هل أقول لهم كم هو معدل ساعات العمل في البلاد التي آتي منها إليهم كما أتى رفاعة الطهطاوي وطه حسين من قبل؟ أأكون آتياً من مستقبلهم هم؟ أم تراني داخلاً من باب الخروج؟
تناقضي الصغير
كنت، وربما ما زلت، في سريرتي، أحسب أن تلك الأقوام سبقت أهل هذه البلاد وتغلبت عليهم وعلى سائر أهل المعمورة بإتقانها العمل، وحسبانه القيمة الأساس في حياة المدينة، وترتيبها العالَم وقيمه ابتداءً من نتاجه إلى حدّ جعل الحق في العمل بنداً في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن (ما الفرق بين الإنسان والمواطن؟!) في مقابل ترتيبنا العالم والمدينة على الرزق والاصطفاء والمقدّر. أو قل في مقابل ميلنا الوجودي إلى الكسل (ألم ينتبه إلى ذلك غابرييل غارسيا ماركيز في «مائة عام من العزلة»؟!). كان ذلك قبل أن أتعلّم الاحتيال على الأمر، وأضمّد «الجرح النرجسي»، بنسبة ذلك السبق وتلك الغلبة إلى الاستعمار والامبريالية وشبهة إبليس لعنه الله.
كنت تعلمت في المدارس التي أنشئت على صورة مدارسهم ومثالها، أن العمل أساس كل فضيلة وأن التبطّل منبت كل رذيلة. ولم أكن أعلم أن فروض الإنشاء هذه ستورطني بلا مردّ في التباس العلاقة مع المحيط القريب، وستدخلني، رويداً رويداً على ما يقال، في تلك الحيرة الكبرى مع الكون الكائن فيّ وبإزائي.
كانت صورة الفقير الهندي الذي هزأ من دعوة المبعوث الأوروبي له إلى العمل كي يجمع ثروة، وكي يتوسع فيها من بعد، ويزيدها أكثر من بعد، وكي يضاعف من قدراته الاقتصادية من بعد أيضاً، ليقعد ويرتاح في النهاية، كانت صورته وهو يجيب: ألا ترى يا ذا الوجه الشاحب، أني قاعد ومرتاح منذ الآن، فلماذا كلّ هذا اللف والدوران للوصول إلى الأمر نفسه؟ كانت صورة الفقير الهندي تختلط عندي أبداً بصوت ديوجين الذي ردّ عرض الاسكندر ذي القرنين المساعدة، بلا مبالاته العظيمة: أزح إفأنت تحجب الشمس عنّي.
وها أني أحس الآن أن انحيازي العميق إلى الفقير الهندي وديوجين لم يكن سوى انتقامي الصغير من سير أمور العالم الكبرى على غير ما أشتهي وأتمنى. إلاّ أنه كان عليّ أن أدفن هذا الإحساس في تلك الأعماق «الجمعية» السحيقة، كي لا يعيق «العمل التاريخي الكبير» المستضيء بنور العقل وقوانين العمران.
دروس الإنشاء
كان يجب، بفعل فروض الإنشاء تلك، أن يصير واضحاً، وبديهيًّا إذن، دور العمل في «تحويل القرد إلى إنسان». ألم يسبق لهيغل أن بيّن دور العمل في قلب العلاقة الأصلية ما بين السيد والعبد؟ حين شرح كيف يضطر العبد إلى أن يعمل لتلبية رغبات السيّد فيحوّل أشياء الطبيعة، في الانضباط ومخافة السيد، إلى موضوعات رغبة تلبي حاجة السيد؟ لكن تجعل السيد، في الوقت نفسه، عبداً لعبده الملبّي رغباته، وتجعل العبد سيّداً على الطبيعة بتحويله أشياءها إلى موضوعات رغبة، إنما سيد من نوع جديد، حرّ لا حاجة به إلى عبد آخر، وحامل معه مستقبل إلغاء العبودية واجتماع الأحرار. وحين بيّن أن مثل هذا التحرر لن يحصل إلاّ باقتران أمرين اثنين، «أوانين» على ما يقول: أوان المخافة والخدمة بعامة، وأوان الفعل المشكِّل. وأنه من دون انضباط الخدمة والطاعة تبقى المخافة صورية لا تترك أثراً يذكر على الوعي بالوجود. ومن دون الفعل المشكِّل تبقى المخافة جوانيّة وخرساء. ألم يصدّق الجميع هيغل؟ ألم يفسّر دفعة واحدة تقدم المجتمعات العاملة بفعل اقتران الأوانين، وبقاء الأخرى عميقاً وخارج التغيّر بفعل افتراقهما أو بفعل غياب الفعل المشكّل؟
ألم ندخل مع هيغل، وماركس من ثمّ، إلى «علم التاريخ» مغادرين بذلك فهم العمل بوصفه عقاباً إلهيًّا لآدم حين عصاه وأكل من الشجرة المحرّمة فطرده من جنّته، على ما جاء في سفر التكوين، قائلاً: بعرق جبينك تأكل خبزك؟
إلا أن نفهم العقاب الإلهي، إن لم نشأ المشاكسة، بوصفه تعييناً مسبقاً للمصير البشري، وربطاً محكماً لأنسنة الإنسان بالمعرفة والعمل.
«روح الرأسمالية»
هذا إذا لم نؤوله على نحو ما فعلت النسكية الكالفينية إذ تجاوزت قولة يسوع في الموعظة على الجبل: «ولماذا يهمكم اللباس؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو: لا تغزل ولا تنسج. أقول لكم: ولا سليمان في كل مجده لبس مثل واحدة منها… لا تهتموا فتقولوا: ماذا نأكل؟ وماذا نشرب؟ وماذا نلبس؟ فهذا يطلبه الوثنيون».
تجاوزت النسكيّة ذلك إذن وعادت لتركن إلى حكمة «العهد القديم» بالأحرى بالنظر إلى العمل بوصفه فرضاً إيمانيًّا، على ما يشرح ماكس فيبر في «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، حيث ينقل عنهم اعتقادهم أن لا المتعة ولا البطالة بل العمل وحده هو ما يسمح بتعظيم مجد الله حسب الإرادة التي أوحى بها من دون أي لبس ممكن. وإن تضييع الوقت إذن هو أولى الخطايا وأخطرها جميعاً، والعمر أقصر وأثمن من أن يضيّع في اللهو والثرثرة غير المجدية، أو في الترف. بل إن النوم ما يزيد عن حاجة الجسد (بين ست وثماني ساعات على الأكثر) هو أمر يستحق إدانة أخلاقية مطلقة. والوقت ثمين وثمين جدًّا لأن كل ساعة تضيع إنما تختزل من العمل الذي يسهم في مجد الله. إن التأمل غير الفاعل، وهو بذاته غير نافع، جدير بالذمّ والعقاب إذا تمّ على حساب العمل اليومي.
أليس مثل هذا السلوك ما يروى عن العمالة في اليابان، والانضباط العظيم والإقبال المنقطع النظير للعمال على العمل وحزنهم ليوم العطلة، وأشياء من هذا القبيل تُعزى إليها النهضة الصناعية الحالية في اليابان؟ ألا نتناقل أحاديث مثل هذه عن الألمان؟!
ألم يخلص ماكس ؟يبر إلى أن واحداً من المكوّنات الأساسية للروح الرأسمالي الحديث، وليس له فحسب بل للحضارة الحديثة، وهو السلوك الحياتي العقلاني القائم على فكرة المهنة، قد صدر عن روح التنسك هذا؟ ويعزّز بالقول: إن «عناصر الموقف الأساسية التي أسميتها «روح الرأسمالية» هي بالتحديد العناصر التي اعتبرناها جوهر النسكية الطهرية المهنية مع هذا الفارق: لقد فقدت الأساس الديني». ويضيف: إن فكرة، أن العمل المهني الحديث يحمل طابع النسكية، ليست جديدة، أما الاكتفاء بعمل تخصصي مع التخلي عن إنسانية فاوست الموسوعية، فهو «شرط كل نشاطية مثمرة في العالم الحديث. فالعمل والزهد أمران يشترط واحدهما الآخر».
كنا لا نزال نرى إلى العمل بجانبه الإيجابي، بوصفه محققاً للثروة والغلبة غير تطوير الأدوات والإنتاج الحربي. لم نكن نريد أن نرى المقلب الآخر ذاك الذي رآه ماركس وفيبر معاً. كنا نرى إلى قوة أوروبا وعظمتها لم نكن نرى إلى ما يعتمل داخلها: إلى تلك الضغوط الساحقة التي تمارسها المكننة والتقانة على نمط حياة الأفراد القائمين في «دواماته» على قول ماكس ؟يبر الذي يضيف: كانوا يرجون أن لا تنوء الثروات المتراكمة بثقلها على كاهل القديسين «إلا كمعطف خفيف الوزن يمكن خلعه في أي لحظة». غير أن القدر شاء أن يتحول هذا المعطف إلى قفص من فولاذ.
«الحق في الكسل»
لم أكن قد قرأت بعد غوته يودّع زمن الرغد والجمال الإنساني الذي فارق حضارة العمل إلى الأبد. لم أكن قد قرأت «الحق في الكسل» ذلك الكراس الصغير الذي كتبه بول لافارغ – صهر كارل ماركس شخصيًّا ورئيس الأممية الأولى. لم أكن أتوقع أن يأتي مديح الكسل من هذه الجهة على الأقل. ولذا فاجأني بول لافارغ، وحيّرني في إقامته في ذلك المستقبل الموعود: «العمل، في المجتمع الرأسمالي، هو سبب كل انحطاط أخلاقي، كل تشويه عضوي. من هي الطبقات التي تحب العمل؟ – الفلاحون المالكون والبرجوازيون الصغار. بعضهم يقوّسون ظهورهم في أراضيهم، والآخرون يقعدون في دكاكينهم، يحركون كالخلد في جحره الأرضي لا يرفعون الرأس قط ليروا إلى الطبيعة متى يشاءون. لكن البروليتاريا نفسها، الطبقة التي ستحرر منتجي كل الأمم المتمدنة… تخون غرائزها وتتجاهل دورها التاريخي وتترك نفسها تفسد بعقيدة العمل… فيا أيها الكسل أشفق على طول بؤسنا. ويا أيها الكسل! يا مصدر الفنون والفضائل الشريفة، كن بلسماً لأناغيص عيشنا».
وإذا كانت حكومة السوفييت وديكتاتورية العمال تحكم على المنشقّين عنها وعلى معارضيها بإعادتهم إلى صفوف العمال، فلا شك أن العمل هو ما نتمناه للمبغضين الآخرين، وليس لنا.
التفاني في العمل أم الزعبرة؟
فماذا نفعل إذن مع هذا المستقبل المحيّر؟! ألم أقل منذ البداية أنه لم يفتأ يفاجئني منذ لقيته وجهاً لوجه مطلع السبعينات؟ وها أنا الآن، أراني مع الجميع في الحيرة الكبرى. لا ندري إن كان يجب أن نعلّم أولادنا التفاني في العمل أم الزعبرة؟ ولا إن كان يجب أن نتمنّى لأوطاننا اقبالاً جديداً على العمل، وعصراً صناعيًّا، ثقيلاً أو خفيفاً، على غرار ما عرفت دول العالم المتقدم. لا ندري إن كان يجب أن نسعى إلى إحداث انقلاب في أخلاقيات الموقف من العمل بتمجيد شرف العمل والإشادة بفضائله الكثيرة. لا ندري إن كان يجب أن نتابع فروض الإنشاء نفسها في الوقت الذي توزّع فيه عائدات العمل على غير العاملين بالأحرى أو بنسب عكسية للمشاركة في العمل. في الوقت الذي «ينتهي» فيه العمل بانتهاء مفعول سحري، مثلما «تنتهي» الكتابة و«التاريخ» و«الفلسفة» وأشياء أخرى كثيرة فقدت بريقها الأخاذ وصارت نثراً منثوراً.
يقول هابرماس إن اليوتوبيا المتصلة بمجتمع العمل قد استنفذت اليوم قوة إقناعها. وهي فقدت بخاصة مرجعيتها في الواقع بفقدان العمل القدرة على إضفاء صورته على المجتمع والقدرة من ثم على فتح إمكانات المستقبل والسعي إلى حياة جمعية أفضل.
ويعزّز آخرون: يمارس العمل علينا سحراً يأسرنا منذ قرنين وعلينا الآن أن نفك هذا السحر. وفك سحر العمل للنظر إليه في حقيقته لا يكون بإضفاء صورة العمل على أنشطة شديدة التنوع، كما يتمنى السحرة المسحورون هم أيضاً. بل على العكس بتقليص سطوة العمل والسماح بتطور أنشطة مختلفة جذريًّا، أنشطة تكون مصدر استقلال وتعاون حقيقيين، مما يستدعي «البدء بتغيير جذري في تصوراتنا وفي الألفاظ التي تستخدم» فلفظ العمل صار يعني أكثر مما يجب ولم يعد يجدي نفعاً. والحاجة إلى علاقة جديدة بالوقت متوقفة على «قدرتنا على عقد سحر مساحات أخرى غير مساحة الإنتاج».
منذ ثلاثين ونيّف إذن يممت وجهي شطر المستقبل. منذ القرن ونصف القرن على الأقل نيمّم وجهنا شطر هذا المستقبل عينه بحثاً عن الترياق الشافي لما ينتابنا من تخلف وبؤس. ونحسبه قائماً في العمل وأخلاقيات العمل. وها نحن ندرك أن المستقبل نفسه يبحث لنفسه عن مستقبل آخر ، يعيد الاعتبار إلى ما كنّا تطيّرنا منه: إلى الكسل، وإلى أشكال التضامن الاجتماعي كافة. ولعلّنا نطرب لذلك أو نعود إلى الغَلّ في أصولنا. لكنّ التوقيت مختلف: فحنين الآخر إلى ما نحسبه قرباً منّا جزء من حنينه العام إلى الدعة ومغادرة العنف وترك المهارشة وكل أشكال المغالبة. فهل نريد ذلك حقًّا أم نريد النقيضين معاً؟»
موســى وهبــــة
مفكر من لبنان