أحاطت روايات كثيرة بحياة جورج سيمنون (1903 – 1989), وكل ها, في وقت معا, صحيحة ومزيفة. وهو قد أسهم, في مراحل حاسمة من حياته, برفد هذه الروايات بما تحتاج إليه من إثارة وغموض. ففي سن مبكرة استطاع أن يقنع ادارة تحرير صحيفة »غازيت دو لياج« (البلجيكية) أن تضمه الى طاقم العاملين فيها بصفة »كاتب تحقيقات متمرن«, وكان آنذاك لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره, وهذا أمر أقل ما كان يقال فيه (ويقال فيه اليوم) أنه نادر.
عام 1919 صار صحفيا متمر نا, وبقي صحفيا محترفا القسط الأوفر من حياته الزاخرة بالتنقل ( بين بلدان أوروبا, خصوصا بلجيكا وفرنسا ولوزان في سويسرا حيث أمضى السنوات الأخيرة من عمره , وبين الولايات المتحدة التي أقام فيها, في عز شهرته, ردحا من الزمن, وبلدان أفريقيا حيث كتب تحقيقات كثيرة).
عام 1922 كانت بدايته في مجال الروايات الشعبية, وقد حظي, لبراعته, برعاية عملاقين من عمالقة الأدب والنشر الفرنسيين: أندريه جيد; وغاستون غاليمار صاحب الدار العريقة التي تحمل اسمه.
كتب مئتي رواية, واستخدم على الأقل سبعة عشر اسما مستعارا قبل أن يبدأ بسلسلته الشهيرة التي تروي مآثر المفت ش ميغريه بدءا من العام 1931 والتي سيوقع أغلفتها باسمه الصريح : جورج سيمنون. وسيواصل اصدارها تباعا حتى العام 1972 عندما قرر التوقف عن كتابة الرواية البوليسية; وكان »ميغريه« قد أصدره ويحمل عنوان »ميغريه والسي د شارل«.
كان ينجز تأليف رواية في 13 يوما, لكنه أحيانا كان ينجزها في غضون سبعة أيام بمعدل ثلاث ساعات ونصف الساعة يوميا من الكتابة بين السادسة والتاسعة والنصف صباحا.
بين 1972 و1984, تاريخ توقفه النهائي عن الكتابة, أصدر سيمنون نحو عشرين جزءا من سلسلة أسماها »املاءات« بالاضافة الى عدد من الكتب التي تعتبر اليوم من أفضل أعماله, في مجال الأدب غير البوليسي ونذكر منها : »رسالة الى أمي« (1964) و؛مذكرات حميمة »يليه كتاب ماريـجو« (1982) وهو كتاب سيرة ذاتية في مجلدين (نحو 1400 صفحة) كان الدافع الرئيسي لتدوينه وفاة ابنته ماريـجورج منتحرة وهي في الخامسة والعشرين من عمرها.
اخترنا من »مذك رات حميمة« أوراقا تتصل بالعلاقة الحميمة التي كانت تربط جورج سيمنون بابنته المنتحرة ماريـجو, خلال الأيام الأولى التي تلت انتحارها والتي تكشف وجها للكاتب شديد الاختلاف عما اعتاده قر اؤه, خصوصا الذين لم يعرفوه الا بوصفه مبتكر شخصية المفت ش ؛ميغريه«. الأحد 12 آيار (مايو) 1978
أمس, عند السابعة مساء, بلغني عبر اتصال هاتفي من ابني البكر ان ابنتي ماري-جورج قد ماتت.
السبت 27 آيار (مايو) 1978
بنيتي الغالية ماريـجو,
كان يوم السبت الماضي اليوم الأكثر مأسوية في حياتي. الأسبوع كله أيضا كان مؤلما وكان يخيل الي انني أختنق.
اليوم صرت بيننا, صرت في دارك, في حديقتنا الصغيرة, على مقربة من الأرزة التي تعرفينها جيدا ومن جنبة ليلك مزهرة. أمس رمد جثمانك الكبير الذي كان لم يزل جثمان طفلة, واليوم, تحت شمس رائعة, نثرنا رمادك على عشب جنينتنا انفاذا لوصيتك الأخيرة.
نراك من خلال واجهة الزجاج الكبيرة. نستطيع أن نتحد ث اليك. نعلم انك ارتحت وانك شفيت من القلق وما عدت تخشين أن تجدي نفسك في مكان »مغلق«, كما قلت.
الشمس تدفئك. وكل العصافير تزقزق مبتهجة لاستقبالك وما عدت أشعر بالقهر بل بشيء من الحبور لأنني أشعر بأنك أخيرا, والى الأبد, بقربي.
الأرجح أنها ستكون رسالة طويلة جدا هذه التي سأكتبها لك على هذا النحو ولكن ي سأكتبها شيئا فشيئا خلال الأيام المقبلة.
اليوم, انما أردت أن أسر اليك بفرحي, بلى فرحي, لأني أعلم أنك مبتهجة أنت أيضا, ليقينك من أنك بلغت غايتك.
صباح الخير يا ابنتي الصغيرة. فمن الآن وصاعدا سوف تقاسميننا حياتنا التى ستكونين جزءا منها.
أنت حاضرة في الهواء الذي ننشق, في الضوء الذي ينيرنا, في رعشة الكون ولذلك تتسربين الى ذواتنا من كل صوب.
عمي صباحا يا ماريجو.
الأحد 28 آيار (مايو) 1978
صباح الخير يا ماري-جو.
أول ما فعلته هذا الصباح هو أني جئتك لأقول لك صباح الخير في الجنينة حيث كانت الشمس ساطعة أكثر مما كانت عليه أمس. كأنك, أنت, جلبت لنا أخيرا الربيع الحق الذي طالما انتظرنا قدومه.
أحسست بحضورك قويا حتى أني توق عت, وما زلت أتوقع, أن تكل ميني.
لقد قمنا بنزهتنا الصباحية المعتادة في الجوار, غير أني اختصرتها قليلا لكي أستعجل مجيئي اليك فأحد ثك. أفكار كثيرة تتزاحم في رأسي; كثير من الأمور التي أود أن أحكيها لك ولا أدري من أين أبدأ. ذلك أشبه بسعي الأوركسترا لدوزنة الآلات أو بما تفعلينه أنت حين تداعبين أوتار الجيتار بأصابعك قبل الشروع في عزف لحن ما.
تلح علي ذكرى منذ بضعة أي ام. ذكرى حادثة ترقى الى طفولتك الأولى ولا أدري اذا كان قد أتيح لي فيما بعد أن أحد ثك عنها. كان ذلك خلال فترة اقامتنا في مزرعتنا »شادو روك فارم«, في »كون يكتيكوت«. ولا بد أن عمرك آنذاك لم يكن ليتجاوز العام والنصف أو العامين. الأرجح أقل من عامين. في كل صباح كانت مربي تك تصحبك في نزهة وأنت في عربتك الصغيرة التي ما عادت آنذاك عربة رضيع.
في مثل ذلك الوقت من النهار لا أكون عادة قد رأيتك بعد لأني أنهض عند السادسة صباحا لأختلي في غرفة مكتبي أمام الآلة الكاتبة. وعند التاسعة والنصف, حالما أنهي الفصل الذي أكون منهمكا في تأليفه, أهرع الى سيارتي للذهاب الى مركز البريد لأحضر بريدي اليومي. وكما لو أن ها مصادفة متكررة كنا دائما نلتقي تقريبا في المكان نفسه, على بعد خمسين مترا من الطريق الفرعي الذي يؤدي الى دارتنا. وفي معظم الأحيان كنت لا أراك جالسة في العربة, بل واقفة وراءها تدفعينها سيرا على الأقدام ومرب يتك تعينك خلسة على ذلك.
كنت أركن سيارتي. وأهرع اليك ثم أرفعك عن الأرض لأقب لك بقوة, وبعد ذلك يتابع كل منا طريقه, أنا الى مركز البريد وأنت الى البيت.
ذات صباح, فوجئت في اللحظة التي كنت أهم فيها بالتوقف بقربك, بأن عبرت سيارتان أخريان في الاتجاه المعاكس فلم أتمكن من التوقف وتابعت طريقي مجتنبا اصطداما كان محت ما.
عندما عدت الى المنزل بمضي عشرين دقيقة, كان الجميع في حال من التأثر وكانت الأجواء مضطربة. أخبروني بما جرى. فعندما تجاوزت عربتك مكتفيا بايماءة من يدي من دون أن أتوقف, خارت ساقاك وعجزتا عن حمل جسمك الرقيق فحملتك مربيتك على الفور وأعادتك الى البيت.
كان جسمك رخوا مثل دمية قماش. وكانت عيناك مغمضتين, ووجهك فاقد اللون. لا تبصرين شيئا; ولا تبكين. حتى بدوت أنك لا تسمعين.
سارعت الى استدعاء صديقنا الدكتور وايلر الذي هرع دونما ابطاء. واذ عاينك الطبيب بدا حائرا ولم يخف علينا قلقه.
– لابد أنها تعر ضت لانفعال شديد, خاطبنا قائلا.
ثم عندما أخبرناه بما جرى, أشار علي بأن أحملك بين ذراعي وأن أضم ك الى صدري بقوة وأن أتحدث اليك برقة.
طبعا فعلت ما أشار به, وجعلت وجهي لصق وجهك ورحت أنظر اليك بقلق منتظرا شارة منك. بمضي دقائق معدودة فتحت عينيك قليلا والتقت نظراتنا. واذاك حدث ما لا يمكن وصفه. ولذهولي الكبير لمحت طيف ابتسامة, مجرد طيف ابتسامة غامضة يرتسم على شفتيك. كأن ك كنت مدركة تماما ما جرى, حتى أني تساءلت في سري ان لم تكن في تلك الابتسامة شبهة سخرية.
بمضي خمس دقائق, عادت الحياة اليك وكنت لا تزالين بين ذراعي , ومضى ما تبقى من اليوم كأن شيئا لم يكن.
لم يستطع الدكتور وايلر أن يفسر لنفسه ما جرى. وأنا أيضا لم أدرك حقيقة الأمر الا فيما بعد, عندما اعتدنا أن نتنزه سويا, يدي في يدك طوال الوقت.
كنت فتاة صغيرة جدا, وما زلت صغيرة جدا لم تتغير كثيرا,وان كبرت, تلك الفتاة التي تغفو اليوم في حديقتي الصغيرة.
أود أن أتابع حديثي معك على هذا النحو طوال النهار, ولكن بعد دقائق سيصل مارك وميلان. ومع ذلك أرجو أن يتركوا لي, في فترة ما بعد الظهر, بعض الوقت لنتابع حديثنا. فعندما أتحد ث اليك على هذا النحو, أشعر حقا انك تصغين الي وأنك أحيانا تتحد ثين الي . مع انك تعلمين جيدا انني لست متصوفا ولا مؤمنا.
لكن هذا لا يحول دون أن تكوني هنا بطريقة ما أكاد أقسم أنها واقعية.
أراك بعد قليل يا صغيرتي.
الاثنين 29 آيار (مايو) 1978
(…)
مارك غادرنا للتو بعد أن أمضى ثلاثة أيام في »الكارلتون« عائدا الى باريس وهذا المساء سيحل محله جوني.
أتدرين أن مارك هو الذي عثر عليك بمحض الصدفة ? فقد حاول مارتينون الذي كان اتصل بك هاتفيا قبل ذلك ببضعة أيام, أن يتصل بك مجددا, وحاول تكرارا من دون جدوى. ولما كف عن سماع صوتك عبر المجيب الآلي, اتصل بمارك و أخبره انه قلق بشأنك. هرع مارك الى باريس فوجد الباب مقفلا بالمفتاح من الداخل. لن أذكر لك التفاصيل اليوم. وصلت الشرطة الخ… الخ. فهذا أمر ما عاد يعنيك كثيرا.
حالما بلغني الخبر من مارك أردت أن أذهب فورا الى باريس, ولكن الدكتور كوشو حال دون ذلك. عندها أوفدت آيتكن ليحل مكاني لانجاز كل الاجراءات والأوراق اللازمة, ما استغرق أسبوعا كاملا.
في تلك الأثناء لم يبلغ الصحف النبأ, ولكن منذ يوم الجمعة لم تكف عن التحد ث عنك, وتصلني برقيات لا تحصى بعضها من ألمانيا وايطاليا وهولندا… الخ…
من غير المجدي أن أقول لك إني رفضت أي مقابلة صحفية, وما زلت الى اليوم أرفض استقبال الصحفيين.
كان أسبوعا أشبه بكابوس يقظة ولم تعد الي الحياة الا منذ حلولك في حديقتنا. مع أن رسالتك المكتوبة والرسائل الأخرى المسجلة كانت قد جعلتني مطمئنا وحسبت انك رحلت بدعة وصفاء سريرة. تلك الرسالة لم يطلع عليها أحد سواي, وكذلك الأمر بالنسبة للرسائل المسج لة.
لقد أدركت منها انك اتخذت قرارك بهدوء منذ بضعة أسابيع, وأن رحيلك كان بالنسبة لك خلاصا.
لقد تخل صت أخيرا من (كدت أقول صديقك) من رفيقتك التي كانت تلازمك ليل نهار وتطالعك أينما اتجهت. »السيدة حصر« كما كنت تسمينها اذ تتحدثين عنها بوصفها رفيقة تتبعك حيثما ذهبت.
بدم بارد تخل صت منها بالوسيلة الوحيدة الممكنة. البروفيسور دوران الذي جاء لزيارتي وتحد ث الي طويلا يوم الأحد, معجب بك كاعجابي بك تماما. لقد تلفظ أمامي بعبارة أثلجت قلبي ومن المؤكد انك تريدين سماعها أنت أيضا :
– ماريجو كانت فتاة تتميز بصفاء مذهل. وأحسب أن القرار الذي اتخذته كما الوسيلة التي وضعته بها موضع التنفيذ, ينم ان عن رفعة.
الصحف لا تدرك ذلك, كما أم ك لا تدرك ذلك أيضا. غير اني أتلقى سيلا من الرسائل والبرقيات ليس مصدرها أصدقائي أو معارفي فقط بل أيضا من مجهولين أصبحت في أعينهم أشبه بالبطلة. يوم الجمعة نشرت »فرانس سوار« مقالة في صفحتها الأولى وبعنوان عريض. ويوم السبت, أيضا في الصفحة الأولى, نشرت صورة كبيرة لك تحمل توقيع جيان كارلو بوتي. أعطاني مارك رقم هاتفه واتصلت به هذا الصباح لأطلب منه أن يبعث لي بكل الصور التي التقطها لك.
يو الأربعاء, حين يغادرنا الجميع ونصير وحدنا سيحضر لي آتكن حقيبة كبيرة فيها كل دفاترك وكل أوراقك وكتبك التي دو نت على هوامشها ملاحظاتك والتي أريد الاحتفاظ بها. سوف أحد ثك عنها بعد أن يتاح لي قراءتها كل ها. والآن أقول لك عمي مساء يا بني تي, لأن ك تعرفين جي دا وتائر عيشنا اليومي. سأذهب لأغلق درفتي النافذة, وسنجلس الى مائدة العشاء بعد عشرين دقيقة. أقب لك بقوة, بقوة شديدة وبرفق, لك كل حناني.
الأربعاء 13 آيار (مايو) 1978
ماريجو الجميلة,
ذات صباح كنا في المدينة سويا نشتري ما نحتاج اليه, ما تحتاجينه على الأرجح, ثوبا لك, حذاء, لست أدري.فجأة توق فت أمام واجهة صائغ, أعلى شارع سان فرنسوا. عدد من خواتم الزواج كانت معروضة, فأشرت اليها قائلة :
– ألا تريد أن تشتري لي واحدا منها ?
كنت في العادة أشتري لك, خلال تجوالنا في أسواق لوزان, حليا للفتيات الصغار, عقد لآلىء صغيرة; خاتما بفص ملون; سوارا, الخ…
لا أعتقد انك حينها كنت تدركين معنى خاتم الزواج. فاكتفيت بأن أجبتك قائلا أننا على الأرجح لن نجد خاتما بمقاس أصابعك المشيقة. ومع ذلك دخلنا الى المحل . أحضرت البائعة أصغر خاتم لديها لكنه كان أكبر من أصابع يدك.
فتدخ ل الصائغ الذي يعرفني جي دا.
– بامكاننا أن نجعله بمقاس اصبعها.
وهكذا صرت, في الثامنة أو التاسعة من عمرك, تزينين بنصرك بحلقة من ذهب.
ذات يوم قلت لي وأنت تضعين يدك بقرب يدي :
– انه مثل خاتمك.
وعندها فقط ارتبت على نحو غامض بأنك رب ما كنت تعرفين عن معنى خاتم الزواج أكثر مما أظن .
مع مرور الأعوام كان علينا أن نوس عه مرتين أو ثلاثا, لأن ك كنت تصر ين على ابقائه في اصبعك. ومؤخرا حين تلقيت الرسالة التي ضم نتها وصيتك الأخيرة, علمت أنك تريدين أن يرم د جثمانك مع الخاتم.
أعطيت التعليمات اللازمة انفاذا لوصي تك, والآن صار في حديقتنا زهد من الذهب ممزوج برمادك.
ما يذك رني بأمر آخر يرقى هو أيضا الى عهد بعيد جدا.فعندما كنت تضطرين, لسبب أو لآخر, أن تنزعيه من اصبعك, كنت ترفضين أن تعيدي لبسه بنفسك وكنت تطلبين مني أنا أن أضعه لك.
مازلت أتلقى رسائل وبرقيات, ويتضح لي كل يوم أن مصدرها أبعد فأبعد. صرت أتلقى رسائل مصدرها الولايات المتحدة الأميركية بانتظار أن تصلني أخرى من روسيا أو اليابان. بعضها من أناس أعرفهم وبعضها الآخر من مجهولين. كل الذين يراسلونني تقريبا يعتقدون أن رحيلك قد حط مني; محط ما, مشدوها, لبثت كذلك طيلة أسبوع وكنت لا أهم بالنطق حتى يغلبني البكاء. غصة مقيمة في حلقي, الى أن جاء يوم السبت وتمك نت أخيرا أن أعثر عليك بنثري رمادك في حديقتنا الصغيرة.
وما صب رني أيضا, أشرطتك المسج لة التي كنت قد أرسلتها لي الشهر المنصرم, والشريط الأخير الذي وجدوه في مسجلتك. شعرت لدى سماعها بدعة, أو في الأقل بشيء من الخلاص وما كنت لأقبل بأن أبدو أقل شجاعة منك.
هناك تفصيل أثر في على نحو خاص. مارك الذي كان أول الداخلين الى شق تك بعد أن خلع الباب على يد رجال الشرطة, لاحظ ان كل شيء فيها موضب ومرتب كما لم يسبق له أن رآها من قبل. كل شيء في مكانه, وما من شيء مهمل أو متروك على الأرض, لم يكن هناك حتى عقب سيجارة. لا بد أن الأمر استغرق بضع ساعات لكي تلم عي الأثاث والأواني, وتغسلي البياضات, وتكويها وترتبيها بعناية فائقة في الخزائن.
عندما حد ثتني عبر الهاتف يوم الجمعة, كان صوتك عاديا ككل يوم ولم تحد ثيني عن خط تك برغم أنك كنت قد أعددتها بدقة منذ شهر على الأقل.
لا لم أعد محط ما. أعتقد بأني فهمت, والآن وقد أصبحت حيث أردت أن تكوني, فسوف يؤلمك أن أبكي أكثر.
من غير المجدي أن أجيب بهذا عن التعازي التي أتلق اها. لن يفهمني أحد أو سيحسبون أني قاسي القلب وقلبي لم يكن يوما مفعما بمثل هذا الحنان.
الخميس أو ل حزيران (يونيو) 1978
قبل القيلولة كنت قد قطعت عهدا على نفسي أن أستعيد ذكريات رقيقة ومشرقة, تلك التي عشتها في بورغنستوك.
لقد فجعت بقراءة مقابلة صحفية جديدة أجريت مع والدتك التي لا تكف عن اجراء المقابلات ما أشعرني بمزيد ومزيد من القرف. لا أدري اذا كانت تجول على ادارات الصحف طارقة أبوابها, لكن ها, بأية حال, تبذل طاقة هائلة لكسب سبق أكبر عدد من المقابلات. فعلاوة على ما ترويه الآن لكل راغب من الصحفيين, يبدو كتابها كأنه مكتوب بحبر الورد. انها لا تكف عن الكذب, وعن تشويه الحقائق, وما عادت توفر أحدا. بعض الصحفيين يردد أقوالها دونما تعليق, ولكن لحسن الحظ أن بعضهم الآخر يتعاطى مع كل هذه الترهات بكثير من الحذر والتدقيق ويعيد الوقائع الى نصابها.
في البداية ما كنت لأعير الأمر انتباها, ولكن عندما يزيد الأمر عن حده, يوما بعد يوم, يصبح مثيرا للغثيان.
ما زلت لا أرد على مزاعمها, لا تقلقي. فأنا لا أريد, بأية حال أن أمنحها هذا الشرف. واذا تابعت على هذا المنوال فسوف تضطر من دون شك أن تعود الى استشارة طبيبها النفسي, من دون أن يكون بامكانها, هذه المرة أن تتهمني بالتآمر عليها مع طبيبها.
ولكن دعينا من هذا. أعتذر لأني أطلت في الحديث عنها, ولكني ليس لي سواكما, أنت وتيريزا, وحدكما تتفه مان ما أقول.
(في اليوم نفسه, ذكر ذلك المأتم الذي أعقب عودتك الى لوزان, في احدى ردهات مؤسسة دفن الموتى.)
كان هناك مجموعتان من الكراسي. في الأولى, جلست أنا ومعي اخوتك الثلاثة. خلفنا كان هناك ميلان, وبول وكارول, ثم تيريزا وأخيرا كيم وجيرار.
لجهة اليمين, عند الصف الأول, والدتك وامرأة لا أعرفها. خلفها كان هناك قسيس كنت نبهته الى أني لا أريد لا موعظة ولا شعائر. وأخيرا في الصف الثالث شخصان آخران لا أعرفهما أيضا.
لم يحي أحد من مجموعتنا أيا من المجموعة الأخرى.
وفي اليوم التالي, أخيرا, وقبل أن يصل اخوتك الى منزلي, تمك نت من نثر رمادك في الحديقة فيما كانت تيريزا تزرع بذور الخضير.
خلال واحدة من مخابراتك الهاتفية الأخيرة, في الفترة التي كنت فيها ترسلين لي الاشرطة التي تسجلينها, بعضها لأغان بصوتك مصحوبة بعزف الجيتار, وبعضها الآخر لأحاديثك الموج هة لي, كنت تقولين لي :
– سوف ترى كم هي عملية هذه الطريقة. أرسل لك شريطا وترسل لي شريطا. وعندما أشعر بالرغبة في التحد ث اليك لن يكون علي الا أن أضغط على زر لكي أجدك في شقتي. وعندما تريد أن تسمع صوتي لن يكون عليك الا أن تفعل مثلي.
للأسف لم تتركي لي متسعا من الوقت ريثما أسج ل لك شريطا. غير أنك الآن هنا, بقربي, فأستطيع أن أخاطبك مباشرة.
أما أنت, فلدي شعور يتعاظم كل يوم بأني أسمعك, من دون حاجة لأن أسمع صوتك.
صباح الخير يا ابنتي.
السبت 3 حزيران (يونيو) 1978
صباح الخير يا ماري-جو.
أو ل ما أفعل عند نهوضي من النوم, أصب حك أنت, وأمس يك عندما أغلق مصراعي شب اكي.
ولكن عند عودتي من نزهتي الصباحية, تحدوني الرغبة في أن أصب حك مرة أخرى. فأنا لا أطيق البقاء منعزلا في غرفتي لأن ذلك يشعرني بالقهر. عندما عدنا من نزهتنا, منذ بضع دقائق, قالت لي تيريزا :
– اني واثقة من أن ك لم تتوقف لحظة واحدة, خلال نزهتنا عن التفكير في ما ستكتبه.
ليس صحيحا ما تقول, لكنه صحيح أيضا. غير صحيح بمعنى أني لا أعد مسبقا ما سأقوله لك. لكن ه, من وجه آخر, صحيح, لأني أبقى من الصباح الى المساء على صلة بك.
أمس تجرأت على تقليب ألبومات الصور التي أحضرها لي آيتكن من باريس. لا أدري اذا كنت أخبرتك بذلك لكن ها رافقتك الطريق كله. بقي أن أقرأ دفاترك وكل الأوراق التي تركتها, ورب ما أن أستمع الى الاشرطة المسج لة? كم أتمنى أن أتحلى بالشجاعة الكافية لكي أفعل بعد ظهر اليوم. فالى الآن لم تتوافر لدي لا الشجاعة ولا القوة لكي أفعل.
أي ابنة جميلة كنت ! كم أندم لأني لم ألتقط مزيدا من الصور لك, وكم أندم لأن القليل منها يجمعنا سويا, ذلك أني كنت مجبرا على لعب دور المصور.
كان اكتشافي لك وقد أصبحت فتاة صبية وكنت أجمل من أي وقت مضى, ولكن يبدو لي أن عينيك كانتا دائما تكتمان نظرة يشوبها القلق.
عندما جاء دوران لزيارتي ذك رته حزينا بالعبارة التي قلتها لك عبر الهاتف :
– في هذا العام يصادف أنك عشت ربع قرن فيما أنا قد أفنيت ثلاثة أرباع القرن.
فأجابني دوران :
– الأرقام دائما خادعة. في الخامسة والعشرين عاشت ماري-جو حياة كاملة.
اني واثق من ذلك ولكني أسأل في سري متى جاء ذلك »الآخر«, والذي تصرين, بشيء من السخرية والصفاء, على تسميته في أحد تسجيلاتك »السيدة حصر«, كما لو أنه اسم, ليحل في حياتك.
الأرجح ان ك كنت في الثالثة عشرة من عمرك حين غدا الحصر, على نحو ما, رفيقا لك. كان يتبدى بعلامات ما زالت حيي ة. مثلا, كنت تشعرين بالحاجة لأن تغسلي يديك أربعين أو خمسين مرة في اليوم الواحد. وعند المساء, قبل أن تأوي الى فراشك, تعمدين فجأة الى تبديل الشراشف التي وضعت في الصباح نفسه, كما كان علينا أن نتحرى بدقة عما يوجد تحت سريرك.
صحيح أنك كنت منهوكة القوى لأنك, في ذلك الوقت, ما كنت لتتقبلي علامة مدرسية أقل من عشرة.
استقدمنا من باريس طبيبة مختصة بالتحليل النفسي وباضطرابات الطفولة, واثر زيارتها طلبت أن تقضي بضعة أسابيع في مصحة فاتنة حيث كنت تشعرين بأنك على سجي تك. كان اسمها جميلا : »لو بركاي« (بيت الأسرة). عدت منها أكثر استرخاء, لكن والدتك كانت قد بدأت تظهر عليها سمات اضطراب أشد خطورة وكانت تتابع علاجا, منذ سنتين, في عيادة »برانجان«.
الأرجح أن ذاك الاضطراب الذي شهدت تفاصيله هو الذي سبب لك الاضطراب.
بعض المشاهد رب ما كانت بالفعل بالغة القسوة بالنسبة لفتاة صغيرة مثلك, مرهفة الأحاسيس.
أعتقد, وهذا رأي الأطباء أيضا, أن نشأة السيدة حصر بدأت من هنا.
يبقى أن ك بعد ذلك بسنوات, بسنوات قليلة, أردت أن تقضي فترة استشفاء, أنت أيضا, في عيادة ؛برانجان ؛. هناك راح البروفيسور دوران يتابع حالتك يوما بيوم ولمدة سنتين وذات يوم كانت تجربة فرارك الأول الذي لم يؤد بك الى مكان بعيد لأنك لحقت بنا الى لوزان. وذات مساء, بعد عودتك الى »برانجان« ثم مجيئك الى »ايبالنج«,- بموافقة دوران, نهضت من دون أن تحدثي أي صوت, وذهبت, حاملة حقيبة صغيرة, بواسطة القطار الى باريس. مع انك كنت قد أمضيت الاجازة معنا في »لابول« وبدا لي أنك ما عدت تحتاجين الى البقاء في العيادة.
لم تتركي, ذاك المساء, سوى رسالة غامضة المضمون تعتذرين فيها من دون أن تأتي حتى على ذكر باريس.
لم تتصلي بي الا مساء. لقد بقيت لساعات تجرجرين حقيبتك وراءك بحثا عن غرفة في فندق, حتى انتهى بك المطاف في نزل صغير كنت تجهلين أنه نزل للقاءات الغرامية العابرة.
في اليوم التالي تدب رنا لك فندقا آخر, وبما أنك كنت قد صرت فتاة ناضجة في الثامنة عشرة من عمرك, تركت لك, بموافقة دوران, حرية التصرف.
لطالما أتحت لأولادي جميعهم حرية التصر ف ولا أذكر أني وبخت أحدا منهم بعنف.
استأجرت شقة صغيرة في مونبارناس, وشرعت في متابعة دروس فن التمثيل في ؛كور سيمون ؛. لم يحل ذلك, بأية حال, دون مجيئك دائما لزيارتي لتحد ثيني, بصراحة, عن حياتك هناك وعن خططك للمستقبل.
أترين يا بني تي, اني لا أقول هذا لأني والدك وفخور بك فهذا رأي الجميع, كلنا كنا نرى أن ك فتاة ذات موهبة. لم يكن أمامك سوى أن تختاري المهنة التي تودين مزاولتها لأنك كنت قادرة على أن تكوني, بالمهارة نفسها, كاتبة أو عازفة موسيقى أو ممثلة; كما أن أغنياتك التي كنت تنشدينها وتصاحبي غناءها بعزفك على الجيتار وترتجلين كلماتها, قد أعجبتني وأثرت في الى حد كبير حتى أني منذ ثلاثة اسابيع, أو ربما أقل, اتصلت بك لأقول لك ان هذا المجال رب ما كان مستقبلك المهني الحق.
أعذريني اذا كنت لا أستطيع أن أكتب لك أكثر هذا الصباح. فحديثي اليك أثار مشاعري كل ها وأشعر بأني عاجز عن المتابعة.
ألأن ك كنت كثيرة المواهب اختارت السي دة حصر أن تقتفي خطاك ?
اليوم أشعر بأن روحي حزينة يا غاليتي, فأقب لك بكل حناني الذي صار هرما.
الأحد صباحا 4 حزيران (يونيو) 1978
ماري-جو يا طفلتي الصغيرة.
كان ينبغي أن أقول :
– يا طفلتي الصغيرة ويا ابنتي الكبيرة في الوقت نفسه.
أمس, قرأت أخيرا, بشيء من الخشية, حفنة من الأوراق التي تركتها واذا بي أنتقل من اكتشاف الى آخر, حتى أن يدي راحتا ترتعدان رغما عني.
أعلم أنك تأل مت معظم حياتك, غير أني ما كنت أدرك قسوة ذلك العذاب وأسأل نفسي اليوم كيف أمكنك أن تتحملي كل هذا الوقت.
حسبما فهمت هو أن الأشهر التي تلت اتخاذك القرار كانت هي الأكثر قسوة, حتى بلغت, خلال الشهر الأخير, حالة من الدعة في خضم اليأس. كلمتان متناقضتان في الظاهر, ولكن ك تدركين ما أحاول تفسيره لنفسي.
منذ صباك المبكر وأنت مثالية النزعة وفي الوقت نفسه كائن مقبل على الحياة بشراهة ومتطل ب بشغف للحنان.
كثيرون خانوك, والبعض أكثر من سواهم, لأنه أقرب اليك, دفعك الى فعلتك النهائية (أسأل نفسي لم أكتب في صيغة الجمع).
طيلة ما بعد ظهر أمس تأل مت معك, لأجلك, وأكثر من أي وقت مضى أدرك أنك اتخذت قرارك منذ زمن بعيد, لأنك كتبت لي منذ سنوات عدة أنك تريدين أن تستريحي في حديقتي الصغيرة.
ولكن أن يعيش أحد, الفترة بعد الفترة, ما عشته أنت, فهذا أشبه بدرب الصليب; ما لا يحتمل.
ذهبت هذا الصباح لأقول لك صباح الخير كما اعتدت أن أفعل وكما سأفعل دائما. ولكني أسأل نفسي اذا كنت في الأيام المقبلة سوف أقوى على أن أفعل ذلك كل يوم.
لا تحقدي علي . فأنا أب عجوز جدا. لقد كنت أيضا صديقك وحاولت أن أكون النجي الذي تحتاجين.
ولكن لسوء الحظ لا أتمت ع بحياد النجي المحترف.
بعد قليل, وبعد نزهة قصيرة, سأستأنف القراءة, لأني أتحر ق, ما دمت أمتلك القوة, لأن أصل الى ختامها.
حتى ألبومات الصور أتصف حها بمزيج من الاعجاب بابنتي الصغيرة ومن الحنق حيال الذين لم يعرفوا كيف يمدون لها يد العون, هذا ان لم يتسب بوا هم في مقتلها.
سامحيني, ماريجو, أغفري لي مرارتي هذا الصباح. واحسب أنها ستكون أعنف هذا المساء وفي الأيام المقبلة, لأن أمامي الكثير بعد مما ينبغي أن أقرأ ومما ينبغي أن أعلم.
سيبقى لك حناني الذي طالما بذلته لأجلك. ليس بالأمر الكبير. كنت تحتاجين الى حفنة من المطلق لم يتمكن والدك أن يمنحك اياه.
أقب لك يا صغيرتي الكبيرة ماريجو, وعزائي الوحيد علمي بأن ك ما عدت تتألمين.
الاثنين 5 حزيران (يونيو) 1978
يا صغيرتي الأليمة,
لقد قضيت يومين في قراءة واعادة الاعترافات التي كتبتها من أجلي منذ سنوات والتي لم أعلم بوجودها من قبل. كانت تلك القراءة بمثابة كابوس, كما كان قسط كبير من حياتك أشبه بكابوس أشد قسوة فيما كنت تصارعين, ببسالة, ضد أشباحك.
لطالما سألت نفسي »كيف« بدأ كل هذا. كانت لي شكوكي ولكني لم أهتد الى يقين واحد ولم أسألك يوما عن هذا الموضوع.
كانت أمك قد غادرت لتوها, بصفة موقتة, عيادة »برانجان« واصطحبتك لقضاء اجازة لأقل من شهر في »فييار«. ولما عدت بدت عليك أولى علامات الوساوس. الآن أعرف ما السبب.
بعد ذلك اصطحبتك الى »كان«, الأمر الذي لم يجد نفعا بل على العكس.
لن أقول المزيد. فلن أسرد عليك حياتك كما عشتها أنا, ذلك أنك تعرفينها أكثر مني وسوف أحتفظ لنفسي بالأسرار الصغيرة والكبيرة التي كنت تسر ين بها الي .
أن أعلم كل ما علمته الآن لن يجعلني الا أكثر حبا لك وبقدر أكبر من الحنو , واعجابي بك لأن ك تحم لت كل هذا الوقت.
بقي لي أن أقرأ الملاحظات التي دونتها على هوامش ؛عصفور للهر ؛. الحقيقة أن العصفور الضحية هو أنت ولم أكن أنا الهر , لقد أدركت ذلك.
انجو من اليومين السابقين حائرا ولكني أشعر بأني صرت أقرب اليك من أي وقت مضى لأنه كما تقول أغنية غابان :
– الآن أعلم.
احب ك يا ابنتي الصغيرة وأنا سعيد لأن ك أخيرا اهتديت الى الدعة.
والدك
يبقى أن أقول لك يا ابنتي ان الأختام ما زالت موجودة على باب شقتك (…)
وأنت ما زلت حديقتنا حيث سألحق بك ذات يوم.
الى اللقاء يا ابنتي التي أحب . (…)
ترجمة: بسام حجار شاعر ومترجم من لبنان