(اللغة التي هي نظام إشارات مبني بناء ً اجتماعياً- هي نفسها واقع مادي)
ميخائيل باختين ( 1)
في معرض الإجابة عن سؤال يتعلق بالقصة القصيرة تحدثت إيزابيلا الليندي عن صعوبة كتابة هذا الجنس وعن تواشجه العضوي المتين بالشعر(2) ,وهو مايؤكدهكذلك كتّاب ونقاد آخرون ,( 3) وما يجدر التنويه إليه في مفتتح ومطلع قراءتنا لهذا النص .
ينتظم القصة صوتان ( لغويان ) متجادلان :الضوء والماء يتحاور فيهما التاريخ والإنسان , الفن والضرورة ,الواقع والمثال ,الذكوري والأنثوي,( القمر والبندقية ) فتنة الأرض وغوايتها وواجب الكفاح المقدس والتضحية .
في الصوت الأول يلتقي عنف الايديولوجيا بعنف اللغة عبر أحادية الصوت وطغيان صفته الذكورية الجمعية : (يخيّل إلي كأنه هدير جنود يزحفون إلى الهدف ,.. تناسوا كل شيء , حتى وجودهم , إنهم يندفعون , كل واحد يتشجع لأن آخرين بجانبه , لوكان وحيدا ً لفر ولكنهم جموع ,.. أتدري إنهم أكثر من شخص واحد.. ولكوننا مجموعة فنحن لانخاف ..إنه الحماس, تحدثت في الوطنية حتى مل الناس ,.. كثيرون قالوا لي تطوع , تطوع وتطوعت).
وعبر هيمنة الرؤية السردية الخارجية المؤكَدة بوثوقية الراوي وشمولية معرفته (4): (عشرون عاما ً ذقت فيها كل ّ شيء , .. ألا تلاحظ قمم الجبال المقابلة ؟ إنها واضحة كل ّ الوضوح , بكل ّ تفاصيلها , رأيت كل ّ البحار , وسمعت كل ّ الحكايات ..)
وعبر نمطية الصور المجازية وتقليديتها المعتمدة على المبالغة والأسطرة : (صمت خرافي .. , تلك آخر أسطورة كنت أتصوّر حدوثها , .. صوت الأمطار العذب يخيّل إلي ّ كأنه هدير جنود يزحفون إلى الهدف ,.. يمزقون الصمت والجبن ,.. والماء يمضي من تحتهم بعيدا ً , كثعبان أسطوري خرج من أعماق الجبال بعد سجن دام قرونا ً ..
في الصوت الثاني تجنح اللغة إلى التنسيب (النسبية) والتعدّد اللغوي والتأنث وتشرع في التخلّص من مطلقيتها الواحدة وعنفوانها البلاغي المؤسطر وكسر نمطيتها السردية من خلال رؤية سردية داخلية ذاتية مصحوبة بتقنيات ظاهرة الوعي الحديث(5) كالفلاش باك (التذكّر) والايجاز والحذف القائم على الفراغات النصية . تنهض هذه الرؤية على اعترافات (الأنا) وتعزيز حضورها الفردي ومحدودية معرفتها و على بوحها العاطفي وكشفها عن عوالمها الداخلية العميقة وسخريتها: (.. ماكان أغباني!, لعلّها تعتبرني بطلا ً , وتنتظر منّي أن أحكي لها أساطير عن بطولاتي , إنها لن تصدق بأنني أرتجف عند سماع طلق ناري , وكأن الرصاص ينغرس في أعماقي , أنت أكبر منّي , لقد رأيت عوالم فسيحة , ولعلّك تسخر منّي الآن ..أما أنا ..وضحك بحزن أنا مجرّد طفل .. لايجيد سوى الحساب والكتابة و.. التحدث عن الوطنية بحماس أجوف .. قال لي والدها لا تخف ,..أنا هنا ,.. وقال الأصدقاء , نحن هنا .. وها أنذا , كنت مستعجلا ً في قراري. – قاتلت من قبل , وربما أكثر من مرّة. ضحك البحار قائلا ً: ومع أكثر من جهة ,وبدون مبرّر,أما اليوم فأنا أحارب من أجل شيء .. ربما كان ذلك هو لون المطر وكان الوادي من تحتهما يمضي بعيدا ً وقد فقد قوته الأسطورية , كان هادئا ً ,لا أحد فيهم يعرف من أين يبتدئ ولا من أين ينتهي, .. فقدت رجولتي في أحضان امرأة صادفتها).
ومن خلال استقواء الناحية التصويرية والدرامية كالتشبيه: (إن ّ طعم الحياة أشعر به هنا على لساني.. عند كل طلقة رصاص ,.. شيء كانا يحسان بدبيب أقدامه يتقدم كنصل حاد يزرع الموت) والاستعارة التصريحية: (في يدي وريقات خضراء وحمراء) والكناية: (لم أكن قد بعت ذراعي لأحد), وكذلك نستطيع تلّمس البعد الدراماتيكي السردي في ارتباط مسار تحوّل الشخصيات من العبثي إلى الواقعي أو من واقع الاستلاب الجمعي إلى واقع التحقق الفردي بلحظة انجلاء الوهم (لحظة انفصام الأفكار عن العالم , وتحوّلها إلى أحداث نفسية , أي إلى مثل عليا . عندئذ تفقد الفردية طابعها العضوي الذي يجعل منها واقعا ً غير إشكالي , فتصير هي نفسها غاية نفسها , لأنها تكتشف أن ماهو جوهري, يوجد بداخلها) .(6 )
وتلمّس ذلك أيضا ً , وأثره التعددي اللغوي الناجع, في مسار التحوّلات أو التغيّرات الدلالية للدوال اللفظية ذات السمة أو النزعة البؤرية في النص؛ فـ(الغربة) لم تعد تقتصر دلالتها على الانتقال المادي في حدود المكان, بل صارت اغترابا ً وجوديا ً في الوعي وتغريبا ً دلاليا ً في اللغة (هل تعرف معنى الغربة؟ لم أكن أعرفها ولكني لقيتها على سرير تلك المرأة في تلك الليلة, قبلاتها كانت كاذبة) و(المطر) دخل نطاق تجربة التأويل الظاهراتي السيميائي.
فأصبح لديه (لون( موضوعي ) لا تشعر به إلاّ عندما توده), لون اللغة , الكلمات والأشياء حين تتجرّد من دلالاتها المعجمية وامتثالها اللا موضوعي وعاداتنا السلطوية التي ضاعفت عزلة اللغة واغترابها ولاواقعيتها وساهمت في أدلجتها , ( إن تقولب التعبير هو واقع سياسي ,وهو الصورة العظمى للايديولوجيا ) (7) . و(ازدهار الرواية (القصة) مرتبط , دوما ً بتحلّل الأنساق اللفظية الايديولوجية المستقرة , فاللغة التي كانت قديما ً تجسيدا ً لايجادل ,
ووحيدا ً للمعنى وللحقيقة , قد صارت أحد افتراضات المعنى الممكنة) .( 8 )
وبذلك تكون القصة قد حقّقت تعدّديتها الصوتية الحوارية , واستطاعت أن تعبّر عن الوعي الكُا ليلي للغة الذي (برفضه لمطلقيّة لغة واحدة ووحيدة , وتخلّيه عن اعتبارها بمثابة المركز الوحيد اللفظي والدلالي للعالم الايديولوجي , يقر ّ بتعدّد اللغات الإجتماعية وقابليتها لأن تصير لغات نسبية غيرية .) (9 )
الهوامش :
– قصة قصيرة ضمن المجموعة القصصيّة ( الأرض ياسلمى ) لمحمد عبد الولي , طبعة دار العودة ,بيروت 1986م الأعمال الكاملة .
1- النظرية الأدبية المعاصرة ,رامان يلدن ,ترجمة سعيد الغانمي المؤسسة العربية .
للدراسات والنشر 1996,الطبعة الأولى .ص 31و32 .
2- مجلة نوافذ ,إصدارات النادي الأدبي بجدة , العدد 40,محرم 1433ه ديسمبر 2011م,ص48ومابعدها .
3- تهجين الاتجاه في سرد ما بعد الحداثة ,د.آمنة يوسف ,المؤسسة العربية للدراسات والنشر ,الطبعة الأولى 2012م,ص 36و37 .
4- المرجع نفسه ,ص17و18 .
5- المرجع نفسه ,ص22 .
6- الخطاب الروائي , ميخائيل باختين ,ترجمة محمد برّادة ,دار رؤية ,الطبعة الأولى ص19 .
7- لذة النص ,رولان بارت ,المشروع القومي للترجمة الطبعة الثانية1998م ,ص46 .
8- الخطاب الروائي ,مرجع سابق ,ص242 .
9- المرجع نفسه ,ص . 236