فاروق يوسف
كاتب وفنان تشكيلي عراقي
في كل الأحوال فإن الرثاء لا ينفع في وصف تجربة فنان، سيكون على الأجيال الفنية القادمة من المستقبل أن تراها كما لو أنها تسعى إلى التوصل إلى خلاصاتها.
الرسام العماني موسى عمر الذي غادرنا منذ وقت قصير كان يراهن على شيء من ذلك القبيل. لم يكن معاصرا تماما لأن عينه ظلت مصوبة على جماليات الصناعة اليدوية الشعبية ولم يكن تراثيا تماما لأنه استعمل المواد التي يستعملها الفنانون الشعبيون لكن بتقنيات مختلفة وهو ما مكنه من إنتاج صور مختلفة.
“أعدك بالرسم ولكني لم أنته من الصناعة” كان يقول لي وهو يقصد أن خياله لن يذهب أبعد مما تفعله يداه وهما يدا الصانع.
الرسام في غبطة حرفته
تربى موسى عمر لكي يكون صانعا محترفا. تلك كانت حرفته. الكثيرون ممَن أعجبوا به وبأعماله لم يكونوا يعرفون شيئا عن مصادر رزقه. بالتأكيد لم يكن الرسم أحد تلك المصادر. ولكن الرسام العصامي عرف كيف يزاوج بين الواقع وحلمه في أن يكون رساما. وكما أعتقد فإنه استخرج من طينة مهنته مادة لخيال موهبته.
على المستوى العربي كان موسى عمر فنانا تجريبيا غير أنه وكما عرفته لم يكن ينظر إلى تجربته بعيدا عن سياقاتها التاريخية. يعرف أن لا شيء يمكن تسميته بالرسم العماني غير أنه كان في الوقت نفسه يثق في أن كل فكرة يستعيرها من أيدي الصانعين هي نوع من الإلهام.
علاقة مرتبكة بمرجعياته وأيضا بما يتبقى من أثر في الحاضر قبل أن نتحدث عن المستقبل.
زمن عماني في الساعة العربية
الكتابة عن تجربة الرسام الراحل موسى عمر لا تتوقف عند حدود النظر إلى معالجاته الشكلية والتقنية وسبل استعماله للمادة التي كانت مجموعة من المواد المتآخية بل تذهب إلى التعرف إلى مصادره التراثية والشعبية والتعريف بمفرداتها المتناثرة على سطوح لوحاته. فالرسام عمر كان باحثا ومنقبا ومستكشفا بقدر ما كان رساما يلتقط صورا خيالية يملأ بها فضاء لوحاته. فهو من زاوية كونه رساما رأى ما لم يره الآخرون في الصناعات الفنية التي كانت قيد التداول شعبيا. وهو إذ مزج بين تلك الصناعات والتراث الجمالي الذي تتميز به بلاده “عُمان” كان يعي جيدا وقع القيمة التعبيرية التي أنزلت مفردات التراث من عليائها وارتفعت بالمفردات الشعبية من فضائها السوقي. كان فنه محاولة لخلق مزاج بصري عماني لن يعثر عليه المتلقي خارج سياق التجربة الجمالية العمانية. تلك مهمة عسيرة، حاول عمر أن يتحاشى السقوط في فخ تسويقها سياحيا، وهو ما كان مجتهدا في التصدي له، بعد أن تسنت له فرص عديدة لعرض أعماله في ملتقيات فنية عربية عديدة. كان الأكثر عمانية بين الرسامين العمانيين. سواء مَن سبقه أو مَن جايله أو مَن ظهر بعده. تلك صفة هي أشبه بالمجازفة. ربما انزلق الرسام من خلالها إلى التغاضي عن الجانب النقدي في علاقته بالتراث الجمالي والاكتفاء بما يُريح عين المشاهد. موسى عمر كان خشنا في التعبير عن نفوره من موقف حيادي، لا ينسجم مع طريقته في التفكير في الفن. لم يكن يرى في فنه سوى مصفاة لما تعلمه من قيم جمالية في طفولته، يوم كان يُرى منتشيا بصفاء النتائج الجمالية واكتمالها، وفي شبابه يوم صار يقارن ما عاشه بصريا بما صار يراه من تجارب الرسم العالمي الحديث. في تلك اللحظة قرر أن يكون العماني الآخر الذي يُخضع كل ما رآه لتجاربه الشخصية. في الحياة والفن على حد سواء.
كان موسى عمر مفاجئا في عروضه العربية. لقد أحبه الكثيرون لروحه المتسامحة الطيبة وهي سمة عمانية غير أنه في فنه كان جديدا بالرغم من أنه استعار الشيء الكثير من تقاليد الفنون الشعبية العمانية وسعى إلى أن يكسبها لمسة حديثة. لقد نقلها من حيزها الاستعمالي إلى فضاء، صارت فيه مصدر إلهام بصري. لذلك يمكن اعتبار فن موسى عمر نقلة كبيرة في تاريخ الفن التشكيلي في عُمان. فهو رسام لم يفارق محليته غير أنه في الوقت نفسه أضفى على تلك المحلية الكثير من سمات الفن العالمي. ذلك لأنه اكتشف في محليته شروطا جمالية عرف كيف يطورها من خلال اطلاعه على تجارب فنانين عالميين معاصرين. عرف عمر كيف يكون وسيطا بين حضارتين. في كل مكان عرض فيه أعماله كانت تلك الأعمال تحظى بإعجاب منقطع النظير. كان فنانا معاصرا بمواده وتقنياته وطريقة تفكيره في الفن.
ما قام به موسى عمر على مستوى تقديم الشخصية الجمالية العُمانية إلى العالم العربي يدخل في إطار المهمات الثقافية الصعبة. لا لشيء إلا لأن الرسم في عُمان (باستثناء تجربتي نادرة محمود وحسين عبيد) لم يفارق مرحلة الإعجاب بالتراث والفنون المحلية. أما الفنان عمر فقد اختار أن يمضي بتجربته خارج تلك الحدود في اتجاه تجهيز مفهوم معاصر يستمد طاقته الجمالية من تفكيك بنية الجمال الجاهز وتحويلها إلى قوة خلق تحتفي بتجددها. لم يكن ذلك ممكنا إلا بعد خبرة عملية اكتسبها الفنان من ممارسته اليومية في تزيين القصور السلطانية. كانت المفردات التراثية تفتح أمامه خزائنَ قيمُها جمالية من غير مشقة بعد زمن طويل من المعايشة.
الحرفة التي استضافته رساما
ولد موسى عمر في ولاية مطرح عام 1971. مثل سواه من فتية تلك المرحلة انتمى عمر إلى مرسم الشباب وهناك تعلم أصول الحرفة وطريقة التعامل مع المواد. وبالرغم من أنه لم يتلق الفن عبر دراسة أكاديمية منتظمة وممنهجة فإنه نجح في أن يقتحم المشهد الفني العربي ويكون ممثلا لبلاده في الكثير من المحترفات واللقاءات الفنية.
عمل في القصور السلطانية، ومن خلال عمله اهتدى إلى الكثير من أسرار جماليات الموروث المحلي والعربي وبالأخص في مجال الزخرفة التي صار يتبع إيقاع تأثيرها في المباني والثياب وهو ما انعكس على أسلوبه الذي كان في جزء عظيم منه محاولة لجعل الطرق سالكة بين الموضوعات اليومية والمعالجات الخيالية.
وما الملمس الخشن لسطوح لوحاته إلا نوع من النفاذ بتلك المحاولة من طابعها النظري إلى طابعها العملي. ففي مهنته كانت العلاقة بين الناتئ والغائر تجسيدا لبعد خفي يمكن اعتباره شيئا وهميا. وهو ما يزيل الحواجز بين المرئي واللامرئي بحيث يتعامل معهما الرسام كما لو أنهما الشيء نفسه.
استفاد موسى عمر كثيرا من مهنته. كان عليه دائما أن يعتبر نفسه رساما ضيفا في المواقع التي يعمل فيها وعاملا ضيفا في مرسمه. هذه الازدواجية خدمته وقربته من مفهوم الاحتراف. كما أنها فتحت الطريق أمامه للتعرف برويَّة على عبقرية الإنسان العماني عبر العصور والتي تجلت من خلال الصناعات الجمالية التقليدية.
نعومة الملمس وخشونة المعنى
مزج الرسام موسى عمر الأشكال بموادها فكانت لوحاته نسيج خيال يستمد قوته من صلته الخفية بالواقع. في كل لوحة من لوحاته حاول عمر أن يستدرج خياله إلى ممرات حياة خفية لم يعشها شخصيا غير أنه حرص على أن يرى نتائجها في متاهات الزخارف المحلية وإيحاءات أزياء النساء المحتشمة. كانت عمانيته تغادر الحاضر ذاهبة إلى الحكايات الأسطورية بكل ما انطوت عليه من أفكار تتنقل بين النعومة والخشونة. نعومة المعنى المترف وخشونة الملمس في محاولة منه لكي تستقل لوحته بعالمها بمعزل عن مرجعياتها التي لا تعود إلى زمن بعينه. خلق الرسام العُماني زمنه الخاص الذي عبر عنه من خلال طبقات من السطوح التي تتجاور عن قصد فيما هي في حقيقتها يخفى البعض منها البعض الآخر لتصل إلى عجينة خلقها. وهي المادة التي صار عمر يستخرج منها أشكاله بيسر وعفوية، هي انعكاس لطريقته في التفكير وأسلوبه في التعبير عن أفكاره.
هو وصديقه في رحلة حياة وإبداع
لقد قُدر لي أن أتعرف على عمر من خلال رفيق رحلته الفنية الرسام حسين عبيد. كان الاثنان متجاورين في الصداقة فقط، لا تجمع بينهما تقنية ولا أسلوب ولا فكرة فانتهيا إلى خلق عالمين لا يكمل أحدهما الآخر بالرغم من أنهما استلهما الواقع المحلي نفسه. ولعُ عبيد بالطبيعة دفعه إلى خلق عالم تجريدي هو مرآة لقلق الطبيعة في ترددها بين البحر واليابسة فيما كان خيال عمر مستغرقا في البحث عن ضالته في جماليات الحرف والصناعات اليدوية التقليدية. كانت المسافة بينهما تتسع مع مرور الوقت. ولست متأكدا من أن موسى عمر كان على معرفة من أن علاقته بمرجعياته صارت أكثر قوة في نهاياته مما كانت عليه في بداياته. بعكس ما حصل مع رفيقه حسين عبيد الذي انفصل عن مرجعياته الطبيعية وصار ينتج العمل الفني لذاته ومن خلاله خالقا عالما متحررا برؤى يغلب عليها طابع التأمل. إلى آخر أعماله ظل موسى عمر مستغرقا في النبش بين طبقات جمالية كانت جاهزة بحثا عن ذاته التي وزعها بين أشكال تركيبية هي التعبير الأمثل لمزاجه التعبيري.
انتهى موسى عمر إلى مجموعة من الخلاصات الجمالية التي سيكون لها أعمق الأثر على طريقة تفكير فناني بلده في ما يتعلق باستلهام التراث الشعبي جماليا. تلك خلاصات يمكن استخراجها من أعماله التي سعى من خلالها إلى التعبير عن وقع المرئيات بكل حمولتها النفسية على طريقة تفكيره في الفن. وهي طريقة لا تغفل أهمية المادة المحلية المستعملة ولا تبقى في حدود الشكلانية الجاهزة. أقام الفنان حوارا خفيًا بين مواده والأشكال التي استنبطها ليصل إلى أسلوبه في التعبير الخام.
فنه وصية
ما الذي ستتعلمه الأجيال الفنية القادمة في عُمان من تجربة الفنان موسى عمر؟ ذلك سؤال جوهري يسلط الضوء على خلاصات تلك التجربة. لم يمس عمر شيئا من مفردات التراث الجمالي والصناعات اليدوية المحلية إلا وحوّله إلى قيمة رمزية. كان يشعر بهيبة الأشياء التي يرسمها ولم يكن في إمكانه تجسيدها إلا في إطار ملكتها الجمالية بالرغم من أنه سعى إلى إزاحتها عن دلالاتها الأصلية. مَن يتتبع مسيرة الرسام لابد أن تدهشه الانتقالات في المفهوم هذا رسام يهمه التعبير المعاصر أكثر مما يهمه تجسيد المعاني المستلهمة من التراث. لن تروي لوحاته حكايات بالرغم من أنه شخصيا كان ماهرا في سرد الحكايات. كل ما كان يرسمه يستند أصلا على حكايات ولكنها حكايات ليست بصرية. لولا خياله ما كانت كذلك. ذلك ما يمكن أن يشكل جزءا من درسه في الرسم. وهو درس معقد.
كان موسى عمر يفكر بالطريقة التي يحلم بها. ربما لأنه لم يكن تجريديا خالصا فقد وجد في المواد ضالته التي تعيده إلى الواقع. غير أنها مادة جعلته يبحث عن التجريد مضطرا في ما يستعمله. لقد اكتشف أنه يقلد أصلا، كان في جوهره تجريديا. ذلك ما جعله ينسج خيوط علاقة مضللة بين الواقع والتجريد. فصار تجريديا بشروط واقعية وواقعيا بما ينسجم مع شروط التجريد.
ما الذي يبقى بعد الموت؟
يصعب عليّ أن أطرح سؤالا من نوع “ما الذي سيبقى من موسى عمر؟” أولا لأنه كان صديقي، والناقد أو المؤرخ مهما كان نزيها ومنصفا فإنه يقع تحت تأثير الصداقة وثانيا لأنني لا أستطيع أن أفكر نيابة عن الرسامين الشباب العمانيين الذين لهم حصة في موسى عمر أكثر من حصتي.
غير أن الأمر لا يثقل عليّ حين أقول إن فن موسى عمر لم يكن حدثا عابرا ولن يُمحى أثره إلا إذا تم تطوير تجربته بطريقة تجعل منه أيقونة لأجيال لا تنسى تجربته الفنية. هناك الكثير من الاكتشافات الجمالية ما كان لها أن تحدث لولا ولع الفنان بالتفتيش في خزانة الجمال العُماني. وهي خزانة غاصة بالمفردات التي لم يتم استلهام جمالياتها بعد. ما فعله عمر يتجاوز مسألة العثور على تلك المفردات واستعمالها في لوحاته من خلال إضفاء طابع معاصر عليها. ذلك ما فعله فنانون عرب كثيرون، بعضهم لم يفارق الأساليب التقليدية. ما يميز موسى عمر عن سواه أنه سعى إلى إزاحة تلك المفردات من واقعها من غير التخلي عن خيالها. بمعنى أنه أجرى تحديثا عليها مندفعا بقوة إلهامها إلى فضاء هو ليس فضاؤها. فضاء ستستقر فيه كما لو أنها لم تغادر عالمها. ولم يكن ذلك ليقع لولا ذكاء الفنان في استعمال المواد المحلية التي أضافها إلى قائمة المواد الفنية الجديدة.
التفكير في معنى الفن
في وقت قياسي انخرط موسى عمر في المحاولة العربية لفهم فكر ما بعد الحداثة رغبة منه في تثوير العمل الفني والزج به في عالم معاصر، لم تكن الأساليب الجمالية عموده الفقري بل استند أصلا على طرق استعمال المواد واستخراج حيوية فكرية غير محتملة منها. وهبته مهنته الكثير من الجرأة في تقصي حدود الطاقة التخيلية التي تختزنها المواد المحلية التي لم يكن أحد ليلتفت إليها باعتبارها موادَّ صالحة للاستعمال في صناعة عمل فني.
ولقد فوجئ الكثيرون ممَن تابعوا تجربته بذلك التحول الذي طرأ عبر السنوات العشر الأخيرة من حياته. كان عمر قبلها نموذجا للفنان الذي امتزج بترف التراث الجمالي المحلي وصار يستلهمه بطريقة غنائية. وهو ما جعلني شخصيا لا أتوقع لتجربته الفنية أن تخرج من تلك الحدود الضيقة التي ترضي كل من يحلو له النظر إلى لوحة جميلة. غير أن ما حدث فيما بعد كان مفاجئا بل صادما. لقد أهمل عمر كل الاعتبارات التي تجعل منه صانعا للوحة جميلة وصار يقدم لوحات، يغلب عليها طابع التفكير.
ربما أتخم عمر لوحاته الأخيرة بالمواد. لم يكن على قدر من الاسترخاء بسبب سعادته وهو يعثر على ممر يخرجه من عالمه القديم. فهو حين شعر أن في إمكانه أن يجدد عالمه أو بالأحرى ينتقل إلى عالم جديد، عالم واسع لا يمكن رؤية حدوده وليس لاحتمالاته من نهاية صار يغرف من ذاكرته البصرية بقدر ما يستطيع، ذلك واحد من أخطائه، لكنه خطأ لم يحبطه ولن يكون سببا في شعور المعجبين بفنه بالخذلان والخيبة.
لم تكن المسافة التي تفصل بين حياته العملية وحياته الفنية طويلة. لذلك كان من الصعب عليه أن يسترخي. مَن أتيحت له فرصة رؤية أعماله الفنية الأخيرة التي عرضها في العديد من اللقاءات العربية لابد أن يكون قد لاحظ كم كان متوترًا وكم كان يسعى إلى نسيان ماضيه الجمالي. ففي لحظة ما انفصل الفنان عن نفسه وصار يبعث برسائل إليها، ما من شيء فيها يمت إلى التعبير بصلة. لقد استدرك زمنا كاملا من الأخطاء الجمالية بالتفكير في معنى الفن.