النظرية (أو نظرية التفكيك فيما بعد جاك دريدا)
يرى إدوارد سعيد أن في النظرية ما يستدعي الاعتراض بصفة خاصة، وهو تعاطيها مع النَّصيَّة textuality وإبراز خاصيتها الأولى كزمانية مفكّكة الأوصال تُعرف بـ مركزية العقل logocentrism، ومركزية العقل الذكوري phallogocentrism، ومركزية الصوت phonocentrism، والمركزية بحد ذاتها؛ إنها زمانية لا تتيح أي حيّز للتاريخ، أو مجالا للفجوات وللاستعادات والانعطافات والانحرافات غير التزامنيّة. وكما هو موقف الناقد الثقافي الماركسي البارز تيري إيجلتون، فإن إدوارد سعيد أيضا لا يتمتع بالكثير من الصبر تجاه مقولة دريدا المأثورة الشهيرة ومفادها أنه ليس هناك خروج عن صفحات مركزية العقل: كل ما جرى هو مجرد تقليب للصفحات بطريقةٍ معيّنة. وكانت النتيجة أنه تم وسم النظرية وتحديدها بوصفها ممارسة عدم التَّدَخُّل. فالنظرية تظل تسوغ أبد الدهر “متوالية الحدث” تحت لافتة أولوية المستقبل الذي يكمن على الدوام في اقتصاد النَّصيَّة غير المحدود وغير القابل للتحديد.
هل هذا يعتبر نقدا تصحيحيّا لدريدا ونظرية التفكيك؟ ليس هذا بالسؤال السهل الذي يمكن الإجابة عنه. فمن ناحية، يُظهر السؤال أن دريدا وسعيد ينتميان إلى المدرسة الفكرية نفسها. وأن أيَّا منهما لا يؤمن بوجود انقطاعات إيبستمولوجية نقية عن النماذج المعرفية السابقة. على سبيل المثال، يحاجج سعيد محاجةً قوية أنه ليس من اللازم بالفعل وجود موقف نظري يعرف باسم ما بعد الإنسانوية post-humanism. ويبدو سعيد أكثر ثقةً بأنه من الممكن أن تكون الإنسانوية أفضل وأكثر إنسانية وشمولًا بالممارسة تحت اسم الإنسانوية على افتراض أن الإنسانوية بإمكانها أن تتعلم من أخطائها السابقة، وتعيد تشكيل نفسها استجابة لهذا التعلم. إن استراتيجية سعيد هنا، التي تتلخص في عدم التخلي عن الإنسانوية ذات المدى الطويل، تشبه إلى حدٍ كبير الاستراتيجية التي يتبناها جاك دريدا والمتمثلة في البقاء ضمن سلطة مركزية العقل ولكن بشكلٍ نقديٍّ وتعارضيٍّ. إن كلا من دريدا وسعيد يقدران أهميّة وجود تقاليد شاملة تعيد تشكيل نفسها على الدوام وتعيد تخيّل نفسها باعتبار ذلك نوعًا من الاستجابة الفعّالة تجاه تاريخها الجيد والرديء. ولكن عندما يتعلق الأمر بالمنهجية والممارسات الفعلية تبدأ الفوارق الحقيقية في الظهور بين الرجلين.
يشير سعيد إلى أن بدايات النظرية كانت تنطوي على إمكانية التدخُّل ونزعة التمرد في دراسة الإنسانيات humanities والعلوم الإنسانية human sciences، وذلك بتزامن تلك البدايات مع الحركات الاجتماعية للتغيير والاحتجاج والثورة، لكنها للأسف فقدت هذه القدرة وتحولت إلى رطانة وخطاب اختصاصي. إن عمليات النظرية العليا تعزل نفسها عن التاريخ الظرفي وتخلي مسؤوليتها من عبء التمثيل. ووفق رأي ريموند وليامز فإن النظرية باسم استغراقها الذاتي تفقد الفرصة المتاحة للعمل كمشروع مؤسسي في تحالفٍ نشط وحساس مع “الحركات” القائمة في عالم الواقع. حين تصبح النظرية احترافًا واستحقاقًا وشكلا للبراعة، تفقد ألقها النقدي بالإضافة إلى صوتها وتنحط إلى مجرد مدافع سوفسطائي عن الوضع القائم. تعلن النظرية في أكثر أشكالها نرجسيّة عن موت المؤلف، والصوت، والقصديّة، والتمثيل بحد ذاته، وبذلك فهي تكتب لنفسها تفويضا مطلقا للحديث عن نفسها في خطابها المصادق عليه مقدما. ويتبدى تشخيص سعيد الحاد في القول إن النظرية تخلق وتديم تعقيدات متكلفة أو زائفة لا تتعلق بشيء في الواقع. يميز سعيد دوما بين أنواع مختلفة من التعقيد؛ كتلك الأنواع التي تعتبر تعقيدات دنيوية وممثَّلة وتمثيلية، وتلك التعقيدات الناتجة عن التلفيقات الزائفة، أو لمجرد التشويش المقصود. وعندما تهيمن على النظرية رطانة التخصص الثقيلة للغاية والبلاغة المنفِّرة، فإنها تشبه إلى حد كبير الإمبراطور وهو في حالة عُري أو بملابس عصرية.
إن الإعلانات الكبرى التي تصدر عن النظرية تفتقر تماما إلى المحتوى، ودعاواها نرجسية، وليست دنيوية ولا تجريبية وغير تاريخية تماما. ومن المناسب في هذا السياق إيراد التعريف الذي قدَّم به ريموند وليامز كتاب إدوارد سعيد “العالم والنص والناقد”. يقول وليامز عن سعيد: “إنه لمن دواعي سروري أن أقرأ لشخص لم يدرس ويفكر مليّا فحسب، بل بدأ أيضا في اجتراح طريقة تفكير جديدة بالفعل، إنها طريقة متميزة عن الإعلان عنها”. فالتمييز الذي يصطنعه ريموند وليامز فعليا بين إثبات صحة ذلك التميّز وبين مجرد الإعلان عنه يمثل أمرا بالغ الأهمية في تحديد علاقة سعيد النقدية بالنظرية. إن ما يتطلع إليه سعيد ولا يجده في النظرية هو البرهان والجوهر؛ فما يجده هو شيء آخر مجرد مواقف متعالية وإعلانات ذات بعد وصفي وما إلى ذلك، أي مجرد وهم، وتكرارات متوقعة وصيغية عن النسق والمنهجية بدون أي رؤية حقيقية. كما تفتقر النظرية أيضا إلى أمرين مهمّين هما: التفكير التفاعليّ، والظهور الأصيل على شكل بدائل. فالنظريّة تخضع في النهاية لمهنية طائشة وجشعة يسعدها جدًّا عدم التخاطب مع العالم بأسره مفضلةً العيش في شرنقتها المحكمة. إن حكم سعيد الجوهري على النظرية بكونها حقيقيّة من ناحية نظرية، وبعبارة أخرى، حقيقيّة في عالمها الخاص وليس في عالم الظروف الواقعية والتاريخية. وإذا كان هذا هو ما تصلبت فيه النظرية، فإن سعيد ينخرط معها في الحجاج مدافعا عن قضية “الوعي النقدي المضاد” القادر على الممارسة والأداء الدنيويين.
انتقال النظرية
استطاع سعيد من خلال مقالته (انتقال النظرية) ذات التأثير والتوقيت الجيد أن يوضِّح بشكلٍ جيد عددا من القضايا حول “النظرية” ووضعها وادعاءاتها الحقيقة إزاء العالم والتاريخ. من الواضح أن النظرية جاءت عبر الأطلسي وقد جاءت لتظل في عالم الأدب والنقد الأدبي. لقد تحول النقد العملي إلى نظرية أدبية؛ ومن ثم إلى نظرية نقدية. وأخيرا، تحولت النظرية إلى مجال مستقل خاص بها. ولعل أحد أكثر الأسئلة أهمية فيما يتصل بالنظرية هو السؤال المتعلق بأصول النظرية أو مصدرها. فهل النظرية العليا بالضرورة غربية وأوروبية المركز؟ فعندما يتم الاعتراف بشيءٍ ما ويُثبّت بوصفه نظرية فهل يتحول بعد ذلك إلى مفهوم عالمي وسياقي وتاريخي؟ ويمكن القول من خلال التعبير العامي: “من أين تأتي النظرية؟ وهل من المهم معرفة من أين تأتي؟ هل الحداثة، مثلا، غربية بشكلٍ قاطع؛ وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن للمرء أن يقيم صلة للحداثة بغير الغرب؟ هل تكوين ميشيل فوكو تكوين فرنسي خالص بطريقة لا يمكن انتهاكها؟ وهل من الممكن جعل أفكار فوكو ونتائج أبحاثه تنتقل إلى أماكن أخرى مستجيبة للظروف المحلية؟ هل النظريةُ ثابتةٌ أم أنها غير قادرة على الانتقال في عالم تشكِّله كافة أنواع التدفقات والتأثيرات المتبادلة؟ هل النظرية معيارية، أو يمكن إعادة التفكير فيها بجدية، أو إعادة صياغتها أصلا استجابة لمواقف وسياقات جيوسياسية مختلفة ومتنوعة؟ إن أحد أهم الأسئلة هنا يرتبط بالعلاقة بين النظرية والتاريخ. فهل النظرية عرضية وظرفية، أم إنها تتجاوز التاريخ باسم حقيقتها النقيّة؟ ما الذي يحدث عندما تنتقل نظرية، كالتفكيك أو التحليل النفسي اللاكاني أو سيمولوجية رولان بارت، بعيدا عن أماكن نشأتها؟ هل تغدو أطوالها الموجية أضعف وأضعف عند قطعها مسافات طويلة بحيث عند نقطة ما لا يكون بالإمكان سماع شيء؟ هل هناك استخدام مثالي للنظريّة، أم إن النظرية نفسها لا تزيد ولا تنقص عن كونها عرضا من الأعراض في وقتٍ معين ومكان معين؟ هل تنتمي النظرية إلى مكانٍ ما بطريقةٍ أصيلة أو أن النظرية ليست أكثر من مجموعة ممارسات يتم تمييزها بشكل مختلف وفي مواقع وظروف تاريخية مختلفة؟ هذه هي الأسئلة التي سعى إدوارد سعيد إلى الإجابة عنها.
الواقع أن مقاصد سعيد واضحة إلى حدٍ كبير؛ فمحور اهتمامه يتركز في إزاحة النزعة الغنوصية hermeticism التي أحاطت بالنظرية وإعادة موضعة الأخيرة ضمن العمليات التاريخية كما تحدث هنا وهناك وفي كل مكان. بعبارة أخرى، ليست حقائق النظرية سياديةً ومتجانسةً، كما إنها ليست أصيلة في مكان معين بحيث يمكن تحديده كموطنٍ لها. وتتمثل رؤية سعيد المهمة هنا في أن كل النظريات متنقلة. وليس الأمر كما لو أن هناك نوعين من النظرية، أحدهما ثابت، والآخر متنقل. فالانتقال والحركة والتشتت والانتشار أمور تشكل عالمنا الذي لا يعدو كونه علائقيا في طبيعته، ولا يمكن أن تكون النظرية استثناء من هذا الواقع. قد يكون لما بعد البنيوية أصول أوروبية؛ لكنها ليست بأية حال من الأحوال أوربية بشكلٍ أساسي أو نهائي. وعندما تنتقل النظرية، فلا توجد هناك ضمانات ولا إجراءات حماية للتأكد من أن طفراتها ستحافظ على أصولها وتبقى وسيطة بحزم في الإشارة إلى موطنها الأصلي. فالنظرية لا تقتصر على تاريخها “الأصلي”، بل إنها تتعرض من خلال انتقالها لتواريخ وحقائق أخرى في العالم بطرق خاصة.
يعمد سعيد إلى تجزئة عملية انتقال النظرية إلى لحظات سردية مختلفة: “نقطة البداية”، و”المسافة التي تم قطعها”، ثم “مجموعة من الظروف….التي تواجه النظرية أو الفكرة المستوردة”، وأخيرا “تحول الفكرة التي جرى قبولها (أو دمجها) بواسطة استعمالاتها الجديدة وموضعها الجديد في مكانها وزمنها الجديدين” (العالم والنص والناقد، ص 226 – 227). وهذه الطريقة في النظر إلى النظرية تكتسب أهميتها الخاصة لدى نقاد ما بعد الاستعمار الذين عادة ما يكونون واعين بمرارة لظرف الاشتقاق الخاص بهم، وكذلك لدى مثقفي الأقليات والمثقفين المتحولين عموما الذين يشعرون بالضجر بسبب صيغة عدم امتلاك أدوات خاصة بهم. وبتعميم موتيف الانتقال والتأثير والاقتراض والاعترافات عبر الانقسام بين السيد والعبد والمستعمِر والمستعمَر، وفيما وراء هذا الانقسام، يتطلع سعيد نحو عالم متعدد الأطراف ومتعدد الاتجاهات من بدايته وحتى النهاية. وخلال ذلك، يسعى سعيد إلى حشد مواقع مختلفة، ليست أي منها صفحة بيضاء، استجابةً من بعضها لبعض في إطار عملية تغيير وإعادة تشكيل وتداخل مستمرة.
من الواضح تمامًا أن إدوارد سعيد لا يهتم بتقديم تعريف نظري شامل لـ “انتقال النظرية”، بل إنه مهتمّ بوضع المفهوم لاستخدامه بشكلٍ مقصود وجدالي وعملي لتعزيز مجموعة من الاهتمامات ولمواجهة أطراف معارضة أو انتقادها. في البداية يصر سعيد على إضفاء الطابع التاريخي على النظرية؛ وبعبارة أخرى، فالنظرية ليست مجرد دائرة مستقلة بذاتها. النظرية هنا هي اللجوء إلى تلك الكليشيهات المفيدة، لكن ما الذي تفعله النظرية؛ إن ما تقوم به النظرية لا يمكن أن يحدث إلا في عالم الظروف المتغيرة. فلا يجب أن تُعزل النظرية في شرنقتها الخاصة من المثالية بعيدا عن العالم وتدفقاته وطاقاته المتنوعة والمتناقضة. وفي إصرار سعيد على أن أجندة النظرية هي أجندة متنقلة أو حتى متأصلة، تأكيد على أن النظرية لا تتجذر في تربة واحدة، وتقاوم الزرع باسم المذهب الأصلي، أو الأصلانية، أو الجوهرية، أو بعض نظريات الميراث الطبيعي أو الإلهي. وبما أن العالم ماثلٌ في كل مكان، أي هنا وهناك، وفي أمكنة أخرى بطرق مختلفة دائما، فإن النظرية أيضا في حالة من التغير المستمر والتحول الذاتي. بعبارة أخرى، لا يوجد شخص واحد أو مجموعة أو مدرسة فكرية تمتلك النظرية كممارسة أو نظام معياري خاص بها. وإذا كان هناك من يقول بذلك، فإن سعيد يؤكد أن تحقق تاريخ النظرية الحقيقي والفعال من خلال تحولها في مواقع وأمكنة أخرى.
عندما تنتقل النظرية من تاريخ معين إلى مجموعة أخرى من الظروف، فإنها تكرّر نفسها، وفق تعبير جيل دولوز، على نحو غير مطابق. إن مسار الانتقال للمفهوم أو للنظرية يجعلنا ندرك كلا مما هو مشترك وما هو غير مشترك بين الحالتين. يعارض سعيد كلا من التمييز الصريح بين النظرية البحتة والنظريّة التطبيقيّة، والفهم البرنامجي لـ”تطبيقها” باعتباره تجسيدا ميكانيكيا للنظرية، فسعيد يفهم النظرية على أنها جزء لا يتجزأ من التاريخ و”الدنيوية” التاريخية للعالم. ويوضِّح سعيد، في قراءة ظرفية كلاسيكية لجورج لوكاتش ولوسيان غولدمان، الكيفية التي يتغير بها معنى النظرية أثناء انتقالها من وضعية تاريخية إلى أخرى. ولم يرد عن سعيد أي تلميح إلى ما إذا كانت نظرية لوكاش صحيحة وأصيلة وأن نظرية غولدمان مغلوطة وسيئة، أو العكس، بل أشار إلى أن الموقفين النظريين يمثلان شهادتين على سياقين تاريخيين مختلفين (إدوارد سعيد، تأملات في المنفى).