لم تترافق حركة فنية في التاريخ الحديث كما ترافقت السوريالية مع المشاعر المظلمة والمزاج السوداوي واللاوعي المثخن بغرائبيته وكوابيسه، والكثيرون في بداية نشأة هذه الحركة، استشعروا التهديد وعدم الراحة للاهداف المبلبة والمشوشة كما ان الحلقات الأكاديمية والنقاد إعتبروها فكاهة، ورفضوا أن يعيروها اهتمامهم، وقوبلت باستمرار ببعضٍ من السخرية، كانت تصدر دائماً عن أشخاص غرباء عن الفن.. لكنها في النهاية نمت وتبوأت مكانتها الحقيقية باعتبارها أشد حركات الفكر والفن، ضرورة وحداثة وتجديداً، وذلك بسبب ارتباطها الدقيق بالشيوعية، من جهة، وبالقضايا الروحية للانسان المعاصر من جهة ثانية.
وقد أفرزت السوريالية الكثير من الشعراء والفنانين لكننا نكاد لا نعرف شيئا عن رائداتها من الفنانات، وقليلا ما سُلط الضوء او النقد عليهن، بسبب هيمنة صوت الرجل وما أحدثه من جلبة في المشهد الثقافي الباريسي الذي رافق نشوء هذه الحركة.
ولعل ميريت ابونيام هي الصورة الأكثر وضوحاً في سوريالية الانثى، وواحدة من أبرز شخصيات القرن العشرين الفنية السويسرية، ولدت ابونيام في برلين 1913 وتوفيت في بازل بسويسرا علم 1985. ترعرعت في جنوب المانيا حيث امتلك والدها الطبيب عيادة ريفية. تزوجت عمتها من هرمان هسه الروائي الشهير، وجدتها لأمها، التي تربّت في كنفها، روائية معروفة وكاتبة قصص للأطفال ومن الناشطات الأوائل في الدفاع عن حقوق المرأة في سويسرا. وقد أُعجبت الفتاة بجدتها أيما إعجاب وقررت في وقت مبكر عدم الزواج او على الأقل إرجاء الزواج الى وقت متقدم من حياتها. في طفولتها كانت ترسم في الكنيسة أثناء القداس وتخفي دفتر رسمها داخل كتاب التراتيل، وفي عمر السادسة عشر، رسمت أولى رسوماتها السوريالية الفطرية بعد رؤيتها لمعرض فني بوهيمي إقيم في بازل، وسرعان ما تركت الدراسة وبدأت تختلط باوساط الفنانين واشتغلت في التخطيطات التي امتازت بروح دعابة وسخرية. رحلت الى باريس بعمر الثامنة عشر بحثاً عن مناخ أكثر خصوبة لأفكارها ونزقها وانخرطت في دراسة الفن في احدى أكاديميات باريس الفنية، لكنها سرعان ما شعرت بالضجر مجدداً من الدراسة الاكاديمية وأنفقت وقتها بدل ذلك في مقاهي باريس ومعارضها الفنية وكتبت أولى قصائدها في مقهى (ذه دومب) حيث قابلت جياكوموتي عام 1933.
ومن خلال (جياكومويتي) تعرفت على (هانس آراب وماكس إرنست) حيث أصبح (جياكوميتي وآرب) معلمين ومرشدين لها، في حين صار (إرنست ومان راي) من عشاقها وانتشرت صورها الفوتوغرافية/ الإيروتيكية التي التقطها الفنان (مان راي/ المصور الفوتوغرافي السوريالي) وأسهمت في إضفاء إسطورة فنية لاحقة على اسمها، وسرعان ما انخرطت في الحركة السوريالية، حين شجعها جياكوميتي الذي اشتغل في نحت الاثاث والتحف الفنية، على صنع مجسمها السوريالي الاول، قطعة صغيرة منحوتة على شكل أُذن تسمى اذن جياكوميتي 1933. تلقت بعدها أول دعوة من (جياكوميتي وهانس آرب) للمشاركة في المعرض السوريالي في السنة ذاتها، وأصبحت من المواظبين على المشاركة في المعارض واللقاءات التي جمعت رواد السوريالية.
لكن ميريت ابونيام كانت تضجر من التصنيف، هي التي عنونت لوحاتها بأكثر من لغة كي توحي للمتلقين بأنها لا تنتمي لبلد محدد أو لغة ما، شعرت إنها لن تكون ذاتها لو صُنِفت ضمن مدرسة معينة، لم يكن يعنيها أن يُسجل اسمها بين رواد السرويالية، كانت تبحث عن ذاتها فقط وعبر كل أشكال التعبير الفني والشعري، لقد رسمت وجمعت التحف وأبدعت في نحت الأعمال الفنية المركبة التي تجمع بين النقائض بشكل مدهش وكتبت الأغاني والقصائد واشتغلت كموديل للمصورين والفنانين أيضا، لقد آمنت بشدة بأحلامها التي دونتها منذ سن الرابعة عشر، بتأثير من والدها الطبيب الذي قربها لنظريات التعمق النفسي وتحديداً لنظرية ( كارل يونغ). لذلك اعتمدت لاحقاً على خزينها الذاتي اللاوعي ورموزه، في الخلق الشعري والفني، وابتعدت عن وعيّها التام وعرفت كيف تجعل من أعمالها صدى لأحلامها النابعة من ارثها الفني وهذه هي اللغة الوحيدة التي أجادتها عبر فنها وقصائدها.
ولعل ميريت ابونيام أبرز من ساهم في رسم ملامح (الانثى/السوريالية) لعدة أسباب: روحها الطليقة وسلوكها الغرائبي، خيالها المبحر بعيداً بلا شاطئ وحلمها الذي يمارس سطوته القصوى في أعمالها الفنية وربما جمالها وشبابها، هذه المميزات خلقت منها، نموذج المرأة السوريالية المزدانة بالجمال والاستقلالية والحرية والابداع. ورغم هذه الهالة الخارجية لكنها واجهت الكثير من العوائق والحيرة والتساؤل المتواصل عن معنى الحياة والفن، في مسيرة بحثها الطويلة عن أسلوب تتفرد به للوصول الى النضج الفني.
و(كوب الفرو/عملها الاشهر) هو عمل نحتي مكون من كوب للشاي مع صحنه وملعقته ومغطى بفرو مأخوذ من غزال صيني، وهو احد مقتنيات معرض الفن الحديث في نيويورك، أصبح العلامة الفنية لميريت ابونيام، ليس لغرائبيته المدهشة فقط بل لانه يوحي للمتلقي بضرورة اختبار شيء مشعر ويقبع عميقاً في شاطئ المخيلة البعيد. وهو من جهة اخرى، عمل يستدعي بعض الذعر والخشية، كأنه وجبة إفطار ملطخة بقطرات الدم، وميريت ابونيام في هذا العمل، تحاذي ثقافة مهوسّة بالغذاء والعنف والجنس. أعمالها التي أخذت حيزها من هياج السوريالية الاولى، اعتمدت دائما على أشياء يومية صغيرة لكنها معزولة عن غرضها ومحتواها فهي، ومثل بقية السورياليين مولعة بتحويل مقتنيات الحياة اليومية الى اعمال فنية غريبة: خواتم ملفوفة بجلد الثعابين، قلادة تتكون من سلسلة من العظام الصغيرة، قبعة على هيئة رأس كلب بفك مفتوح ولسان يسيل منه اللعاب، كما انها من جانب آخر، ركزت على جنسانية الانثى ورحلة اكتشافها من قبل الرجل. أصالتها وجرأتها جعلتها – وبلا إرادة منها – من رواد السوريالية، هي التي آمنت بقوة الحلم العظيمة وبالحركة النزيهة للفكرة. ميريت ابونيام أعادت إكتشاف العلاقة بين المدنية والطبيعة، الرجال والنساء، الليل والنهار والحلم والواقع. وكل اعمالها هي نتاج مخيلة غنية وحاذقة في مزج الأشياء والأفكار لكن النقاد غالبا ما يقيسون إبداع إمراة فنانة بغيرها من الرجال، وترجح كفة الرجال غالبا.
ارتبطت أعمال هذه الفنانة أيضاً بالحركة الدادائية وما تميزت به من خفة الدم والفكاهة الحاذقة التي تشكل الهيئة الخارجية لاعمالها والتي غالبا ما يكون لها جذور في لاوعيها. ثمة روح أدبية خالصة قد سكنت ميريت ابونيام وعبر كل الاشكال الفنية التي انبرت لها باحثة بلا هوادة عن مهاوي الحلم، شاردة في تجوال أبدي بين الذات والآخر، يقظة على الدوام لهمهمات الوجود، فهي لعقود قد رسمت بإلهام من منابعها الذاتية، من أحلامها وأفكارها وحتى من سخريتها كما أنها تناولت مسالة التمييز الجنسي بين المرأة والرجل، وآمنت بقوة ان الفن بلا جنس ولا يعرف التمييز بين الانثى أو الرجل. هذه الفنانة، هي أول من ادخل تقنيات الملتي ميديا في الأعمال الفنية، الجانب الآخر لتنوع إنتاجها الفني، عدم وجود أسلوب معين أو مدرسة أو موعظة سوى حلمها واخلاصها لذاتها.
في منتصف الخمسينات استعادت ثقتها بنفسها وبفنها وبهدوء بدأت مرحلة جديدة ومختلفة في انتاجها الفني، من خلال إقامة المعارض الفردية والمشتركة في عدد من المدن الأوروبية، وعند نهاية حقبة الستينات وبعد فتور علاقتها بالسوريالية (بعد موت اندريه بريتون عام 1964)، كان هناك إعادة اكتشاف وتسليط ضوء جديد على اعمالها الفنية. تصف ميريت ابونيام نفسها كأنها مقياس ريختر للزلازل لكنها بدل أن تقيس إهتزازات الارض تقيس اهتزازاتها المتجذرة في الماضي والمستقبل لفضاء روحها، والتي تبقي ممر العبور نحو اللاوعي مفتوحا لها دائما، لقد كافحت من اجل خلق موازنة ووحدة أبدية لكينونتها وارتباطها بالآخر، امراة روحانية ورجل روحاني، هذا التوازن الذي انعكس حتى على مظهرها الخارجي وأحلامها في سنوات شيخوختها. لقد دعت الى إعادة الاعتبار للأنثى القديمة أم العالم، للوصول الى الإنسانية الناضجة، بعد أن تدنت مميزات الأنثى، في ظل النظام الأبوي، وحُط من قيمتها وتحولت الأنثى إلى إمرأة مقيد.
قضت سنوات حياتها الاخيرة بين بيرن في المانيا وبازل في سويسرا، انها امراة أفنت عمرها في الأخلاص لسوريالية ذاتها، التي مثلت لها قارة سوداء للحلم، لا تنضب.
مختارات من قصائدها(j)
فوق، هناك في تلك الحديقة
تقف ظلالي
التي تبرّد ظهري.
في تلك الحديقة، تقف
تقاتل من أجل كسرة خبز
وتتصايح مثل ديكة.
أريد أن أزورهم…
اليوم،
أريد أن أحييهم…
اليوم،
وأعدّ أنوفهم.
j j j
لأجلك، ضدك،
أرمي كل الأحجار خلفك
وأجعل الجدران فضفاضة.
لك، عليك،
لأجل المائة مُنشِد فوقك،
الحوافر تركض طليقة السراح.
فرحة في قوقعتي
أنا أول الساكنين بها
ولتكن الجدران فضفاضة.
j j j
أخيراً !
حرية !
السنارات تطير.
قوس قزح يفيض في الشوارع،
لا يطغى عليه سوى
طنين نحل عملاق بعيد
الجميع يخسر كل شيء
أو يوشك على الخسران
لقد طفح العبث
لكن: جينيفي:
متخشبة،
تقف على رأسها
مترين فوق سطح الارض
وبدون أن تستند على ذراعيها
ابنها، أمير الألم:
ملتف في شعرها،
نافورة صغيرة،
سأعيد:
نافورة صغيرة.
تصفر وتبكي في البعيد.
j j j
الكابتن الصادق
أخبرني،
دُلّني على المكان الذي
يفرش فيه السنونو جناحه،
بين الغيوم،
وادي الأمواج في شَعَرِ الآلهة،
الأضواء الخضر في الغابة.
هنا الليل
مكانس الشر تقتل
الكوبلدس(1)
ما من عجلة تدور
الظلام يتنصل من نفسه
وما من أحد يسأل
هي قبضة في قبضة
لا يتمكن المرء من رؤيتها
الهوامش
1- شخصيات متخيلة من التراث الالماني kobolds.
j ترجمة النصوص عن الإنجليزية.
فـيء ناصـــر
كاتبة من العراق تقيم في بريطانيا