حوار: نورمان بيرون-ناقد كندي
تقديم وترجمة: أحمد الويزي-كاتب ومترجم مغربي
لن أغامر بتقديم ميلان كونديرا للقارئ العربيّ، لأنّ محاولة مثل هذه ستكون بلا شكّ ضربا من العبث المجّاني، ما دام اسم هذا الرّوائي متداولا على نطاق واسع اليوم، وجلّ أعماله مترجما للعربيّة، ومتداولا بين القراء على نحو كبير. لكن، ما أتوخّاه في هذا المقام، هو التّأكيد على أهميّة هذا الحوار بالذات، بحكم أنّه ظلّ من بين الحوارات الأولى، التي استطاعت الصّحافة الأدبيّة انتزاعها من كونديرا، المعروف بعزلته وهروبه من دوائر الضوء دائما؛ بعد أن استقرّ به المقام بفرنسا، في سبعينيّات القرن الماضي. وتتجلّى أهميّة الحوار، في كونه يسمح لكونديرا بتصحيح بعض الآراء والمغالطات، التي رافقت عملية تلقّي نصوصه فرنسيّا، كما يتيح له الفرصة للكشف عن جوانب غير معروفة ضمن مساره الإبداعي، بالإضافة الى أنّه يعدّ مناسبة سانحة، يبيّن فيها كونديرا طبيعة اختياراته الأدبيّة، ومجمل البواعث والأسباب التي جعلته يقتنع بأهمّية الرّواية، مفصحا في خضم ذلك عن بعض الجوانب النّظرية والتّقنية والاستطيقيّة، التي شكّلت قناعته ومرجعيته في كتابة هذا الفنّ السّردي (المترجم).
* قبل التّحدث عن مؤلّفاتك، التي عاينتَ ترجمتَها إلى الفرنسيّة، أظنّ بأنّك جئت إلى الكتابة بنشر بعض القصائد؟
– أجل. كتبتُ الشّعر، لكنّي لم أعد أحبّه.
* ما عدتَ ترى بأنّ قصائدك جيّدة؟
– من بينها ما هو غير رديء، لكنّ الأمر يتعلّق بحكاية أخرى. إنّ الانتقال من الشّعر إلى النّثر لم يكن بالنّسبة لي، مجرّد انتقال من جنس إلى آخر، وإنّما قطيعة حقيقيّة. أنا لم أنفصل عن الشّعر، وإنّما خُنته! الشّعر الغنائيّ بالنّسبة إليّ، ليس مجرّد جنس أدبيّ، وإنّما هو -قبل كلّ شيء- تصوّرٌ للعالم، وموقف إزاء العالم. وقد انفصلتُ عن هذا الموقف، كما يرتدّ المرء عن ديانة معينة.
* لكن، أهناك موقف لا غنائيّ، أو مضادّ للغنائيّة؟
– الغنائيّ يتماهى دوما مع عواطفه. أمّا الموقف المضادّ للغنائيّة فهو الارتياب حيال الأحاسيس والمشاعر الخاصّة، وحيال أحاسيس الآخرين ومشاعرهم. إنّ الموقف المضادّ للغنائيّة هو الاقتناع بأنّ ثمّة مسافةً لا نهائيّة، بين ما نتمثّله عن ذواتنا، وبين ما نكونه حقيقة في الواقع؛ مسافة لا نهائيّة بين ما تهفو الأشياء إلى أن تكونه، أو تتصوّر بأنّها عليه، وبين ما هي عليه بالفعل. والقبض على هذه الإزاحة الفارقة هو فنّ السّخرية L’ironie، والسّخرية هي المنظور الرّوائي.
* “خيانتك” للشّعر لم تتدرّج بشكل منطقيّ، لأنّك عملت على نشر أنطولوجيا شعريّة مهمّة لأبّولينير سنة ١٩٦٥، بترجمتك الخاصّة ودراسة تحليليّة مطوّلة، قدّمتها بها؟
– أجل، وقد نُشِرت هذه الأنطولوجيا في براغ، ضمن عملية سحب ضمّتْ خمسة وخمسين ألف نسخة، نفدت جميعها من السّوق، في ظرف أيام معدودة. وإذا كنتُ أنا لا أرغب في كتابة الشّعر، فإنّ هذا لا يعني بأنّي لا أحبّ أعمال الآخرين الشّعرية. ثمّ إنّ شعر أبّولينير ظلّ دوما، بمثابة عشقي الكبير!
* لكنّنا يمكن أن نعثر في رواياتك، على مقاطع تتّسم بخيال شعريّ في غاية التّكثيف!
– المدرسة “الغنائيّة” ضروريّة بالنّسبة للرّوائي المعاصر. وعلينا ألاّ ننسى بأنّ الشّعر الغنائيّ، هو الذي قدّم للأدب الحديث أكبر التّجديدات والابتكارات، بدءا من بودلير Baudelaire وإلى غاية السّورياليين. ويتعلّق الأمر بالخيال المجنّح، والتّعبير المكثّف، والقدرة على الإيحاء والتّأثير، بصورة شعريّة واحدة. ولكَمْ أتوق إلى أن يكون كلّ فصل من روايتي، مركّزا ومكثّفا وبالغ التّعبير، وكأنّه مقطوعة شعريّة! لكنّ المحدّد الحاسم عندي، هو المنظور المؤطّر للكلّ، والذي يتضمّن منظور السّخرية، ومنظور تبديد الأوهام démystification، ومنظور التّنْسيب relativisation الذي تخضع له الحقائق، والمشاعر، والمواقف. إنّه باختصار، الموقف الذي أراه مضادّا للبُعد الغنائيّ.
* بعد مرحلتك الغنائيّة، ألّفت كتابًا نظريًّا بعنوان: فنّ الرّواية، فهل تؤمن بمستقبل الرّواية؟
– ظلّت الرّواية، خلال مسار تاريخها برمّته، موضوعَ جدال وتنازع، وذلك من طرف أكبر مبدعيها شأوا. وأنْ تُنازع الرّواية ذاتها، فإنّ هذا بات ينتمي سلفا إلى طبيعة التّقليد الرّوائي نفسه. فرواية جاك القدريّ لدينيس ديدرو Diderot، هي استهزاء مستمرّ بالجنس الرّوائي، وهي في ذات الآن إحدى الرّوايات الكبرى في تاريخ هذا الجنس. ولا يخلو هذا من دلالة: إذ الرّواية هي الجنس الفنّي الوحيد، الذي يقوى على السّخرية حتّى من نفسه! وكان إميل زولا Zola يسخر من الرّواية، ولا يرغب في أن تعدّ كتبُه روايات! وفي القرن العشرين، يتحدّث الجميع عن الرّواية حديث نعي: السّورياليون، والطّليعة الأدبيّة الرّوسية، ومالرو Malraux بالذات الذي أكّد بأنّ الرّواية ماتت، منذ أن لم يعد يكتب روايات… الخ.
وها أنتذا ترى، بأنّ الأمر غريب، حقّا. لا أحد يتحدّث عن موت الشّعر، ومع ذلك…! منذ جيل السّوريالية الكبير، لم أعد أرى في الحقيقة، أيّ تأليف شعريّ كبير ومجدّد. لا أحد يتحدّث عن موت الفنّ التّشكيلي، ولا أحد يتحدّث عن موت المسرح، ولا أحد يتحدّث عن موت الموسيقى، ومع ذلك، فالموسيقى منذ شوينبرغ Schoenberg انفصلت عن التّقليد القديم، الذي تأسّس على صرح المقامات، وسُلَّم الأنغام، والآلات الموسيقيّة. وكثيرا ما أحببتُ ڤاريز Varèse وكزيناكيس Xenakis؛ لكن، أما تزال هذه موسيقى؟! ڤاريز يصف تآليفه بأنّها مجرد تنظيم للأصوات! ولربّما تكون الموسيقى ماتت منذ عدّة عقود، دون أن يتحدّث عن موتها أحد! لذلك إذن، أعتقد بأنّ الرّواية هي من بين سائر الأجناس الأخرى، الجنسُ الأقلُّ عرضة للموت.
* ألم تكن تروم (المُزْحَة) روايتك الأولى، وصفَ الأجواء العامّة لجيل معين، وتقديمَ سيرةِ حقبةٍ ما؟
– لا، لم يكن في نيتي أن أكتب سيرة أيّ حقبة. لكنْ، وبما أنّه لم يكن هناك الكثير من الكتب، التي من شأنها تقديم شهادة بخصوص تاريخ بلادي، خلال العقود الثلاثة الماضية، فقد اضطلعت (المزحة) أيضا بهذه الوظيفة المتمثّلة في تقديم الشّهادة التّاريخية. اضطلعت بها على الرّغم عنها، وتقريبا على مضض! بينما الذي كان يهمّني، ليس هو الوصف التّاريخي، بقدر ما هي القضايا الميتافزيقيّة -إنْ شئتَ- والوجوديّة والأنثروبولوجيّة، وما يُسمّى اختصارا -وها أنت ترى بأنّي بالكاد أعثر على الكلمة المناسبة!- بالقضايا الخالدة، التي ترتبط بالإنسان، وقد أضاءها إسقاط ضوئيّ مرتبط بوضع تاريخيّ ملموس.
* مثلا؟!…
– تدور الرّواية كلّها مثلا، حول سؤال الانتقام. فلودفيك Ludvik يلتقي بزوجة شخص، تسبّب له في مأساة، منذ خمسة عشر عاما خلت: مأساة فصله من الحزب، وقضائه ستّة أعوام في الأعمال الشّاقة، وإنهاء مساره العلمي. وبدافع الكراهيّة، انجذب نحو هذه المرأة، وانتهى بممارسة الجنس معها، بُغية إلحاق الإهانة بذلك الغريم.
* ألا توضع شخصيات هذه الرّواية في الأغلب الأعمّ، ومعها كذلك بقية شخصيات رواياتك الأخرى أمام بعض التّناقضات؟
– ليس انتقام لودفيك مجرد تناقض في حدّ ذاته (معاقبة شخص ما بدفع زوجته إلى بلوغ ذروة الانتشاء الجنسي!)؛ وإنّما هو كذلك بنهاية ذلك الانتقام بالذات، لأنّ لودفيك سيدرك في وقت متأخّر جدّا، بأنّ زوجة غريمه سبق لها الانخراط في مسلسل تدبير طلاقها من ذلك الزّوج، وهو ما يعني بأنّ انتقامه لم يكن في النّهاية، سوى مزحة عبثيّة!
* أليس موضوع المزحة الرئيس هو المزحة؟
– أجل: كيف تصبح المزحة شؤما، وكيف يتحوّل القدر المشؤوم إلى مزحة. وحتّى التّاريخ نفسه، ألا يمزح؟ هناك في الرّواية، قصّة حبّ أخرى: كان لودفيك في شبابه، يحبّ فتاة متواضعة لم ترغب في ممارسة الجنس معه، لأنّها شعرت -وهي تتعرّض للاغتصاب، في حداثة سنّها- بصدمة. ولهذا، فإنّ الممارسة الجنسيّة ترتبط لديها بالقسوة، بينما يقع الحبّ الحقيقيّ عندها في منطقة أبعد من الجسد؛ لأنّ الممارسة الجنسيّة صارت بالنسبة لها، قيمة كابيّة ومرذولة.
وكان لودفيك من جهة أخرى، يحبّ سابقا حلمه الاشتراكي الطوبويّ. إلاّ أنّ تحقّق هذا الحلم الطوبويّ سرعان ما بدا عنيفا ودمويًّا، فيما بعد. إنّ اليوتوبيا الاشتراكية بدتْ للودفيك قيمة طالها الخراب. لذلك، امتلأتْ نفسيته بالكراهية حيال حلمه القديم؛ لكنّه ظلّ يعلم في ذات الآن، بأنّ هذه الكراهية ليست سوى خطأ إضافيّ آخر، سوى جور جديد. أينبغي للمرء كراهية هذه القيم البائرة، أم التّرافع لأجلها طالبًا الرّأفة بها؟
وها أنت ترى، بأنّ كلّ شيء مقلوب في هذه الرّواية. إنّها رواية حول هشاشة القيم الإنسانيّة، وليست رواية تروم الاحتجاج على نظام سياسيّ معين. إنّ طموح الرّوائيّ هو أن يحقّق شيئا يكون أكبر نسبيّا، من مجرد استهداف نظام سياسيّ سريع الزّوال.
* وماذا لو تحدّثنا عن كتابتك المسرحيّة، وتحديدا عن مسرحيتك الموسومة بعنوان: أصحاب المفاتيح. أليس موضوعها الأول هو مقاومة الاحتلال الألماني؟
– نعم، بالطّبع. تجري أحداث المسرحية تحت فترة الاحتلال الألماني. ولعلمك، فإنّ هذا قد شكّل عائقا، بالنّسبة لهذه المسرحية.
* لماذا؟
– هناك في أوروبا، مئات المسرحيّات المكتوبة عن الاحتلال النّازي (على سبيل المثال مسرحيات سالكرو Salcrou!)، وخاصّة في أوروبا الشّرقية. أمّا الخطاطة المعتمدة فيها، فهي دائما نفسها: هناك المقاومون من جهة، وهناك الجبناء الذين لا يرغبون في مناهضة المحتلّ، من جهة أخرى. وثمّة بينهما دائما من يتردّد بين موقف الجبن، والانخراط في الصّراع. كلّ هذا صحيح، إلاّ أنّه أكْليشيه رهيب! أمّا الحكاية التي تحكيها مسرحيتي، فتدور أطوارها تحت فترة الاحتلال، وتنقسم شخصياتها كذلك بين فريق الجبناء والمقاومين؛ لكنّ الموضوع الحقيقي لهذه المسرحيّة مختلف تماما: فموضوع الاحتلال ليس ضمنها سوى ذريعة، أو حيلة فنّية. إلاّ أنّ هذا لم يمنع الجميع، من استيعاب هذه المسرحية على أنّها تنويعة على مسرحيات المقاومة.
* لكنّ مسرحيتك لقيت نجاحا كبيرا، وفي العالم قاطبة!
– الأمر كذلك، بالطّبع. لكنّها لم تلق هذا إلاّ لأنّه تمّ استيعابها تحديدا، على نحو خاطئ. وغالبا ما يحدث مثل هذا، على ذلك النّحو: إذ نوشك أن ندين بنجاحاتنا دائما، لسوء الفهم!
* أليست الأهمّية القصوى التي يوليها سكّان الشّقة لحادثة فقدان حزمة المفاتيح، هي بمثابة ثيمة جديرة بمسرح يونسكو؟
– هذه المسرحية أقرب بكثير إلى مسرح يونسكو منها إلى المسرح السّياسي. إنّها من المسرح العبثيّ، الذي يقع على صرح واقعة تاريخيّة ملموسة، حيث لا يتجاوز العبث حدود الممكن. زد على ذلك، أن يونسكو هو أحد كبار الأدباء، الذين أقع في عشقهم؛ ويحلو لي كثيرا أن أشير إلى هذا، بنفس القدر الذي أسمع فيه اليوم، الحديث عنه بنوع من الازدراء. وبمقدوري أن أقايض جميع مؤلّفات بريخت، بمسرحية واحدة من مسرح يونسكو!
* حين نقوم بتحليل اللّعب المشهديّ في هذه المسرحيّة، بالإضافة إلى الحركات والتّكرارات والحوارات، نفكّر في اللّعبة البوليفونيّة. فهل تتّفق مع هذا الطّرح؟
– ولماذا لا أتفق معه؟ أصحاب المفاتيح مسرحيّة مُعدّة إعدادا بالغ الدّقة، وتقريبا على نحو مفرط؛ كلّ الموتيفات فيها تتكرّر وتتغيّر. والمسرحية برمّتها تبدو وكأنّها لعبة مرايا. وهذا ناجم عن تأثري ربّما، بالتّربية الموسيقيّة.
* وماذا كانت تربيتك الموسيقيّة؟
– إلى سنّ العشرين، كنتُ أتردّد -وأنا محتار البال- بين الموسيقى والأدب. وبالإضافة إلى البيانو، درست التأليف الموسيقيّ أيضا.
* ضمن أيّ اتّجاه يمكن لهذا أن يؤثّر في عمل الكاتب؟
– ثمّة فرق جوهريّ بين البناء الموسيقيّ والبناء الملحميّ. وعادة ما يُقرّ أغلب الكُتّاب بأنّهم لا يعرفون، في اللّحظة التي يبدأون فيها الكتابة، كيف ستؤول نهاية محكياتهم. فأراغون Aragon مثلا يقول بهذا، ويقرّ به أندريه جيد A. Gide أيضا، في (مزيّفو العُمْلة). بينما لا يمكن للموسيقي ألاّ يعرف كيف سينتهي تأليفه. فحين ينخرط بيتهوفن في تأليف ثيمته الأولى، سواء في الرّونْدو Rondo، أو التْرِيّوTrio، أو في المونْيي Menuet، فإنّ عليه أن يعرف الخطوات القياسيّة النّهائيّة لكلّ ذلك، لأنّ الرّونْدو والتْرِيّو وكذا المونْيي أشكال موسيقيّة، تنتهي دائما بنفس الثيمة التي بدأت بها. إنّ البناء الموسيقى يقوم على أساس التّنويع والتّكرار. أمّا أساس البناء الملحميّ فمختلف. إنّ الحكاية الرّوائيّة تخضع للتّطور وفق منطق التّتابع السّطري للكلمات؛ بحيث عادة ما يستدعي حدث ما حدثا آخر، فلا يتكرّر شيء.
وأنا أحاول دائما مضاعفة المبدأ الملحميّ، بالمبدأ الموسيقيّ. لنأخذ على سبيل المثال، رواية: (فالس الوداع). ففي الطّابق الأرضي منها، تجري قصّة ملحميّة ذات تشويق. وفي الطّابق الأول، ثمّة تأليف موسيقيّ يعتمد على بعض الموتيفات التي تتكرّر، وتتغيّر، وتتحوّل، ثمّ تتمّ استعادتها. وليس هناك تقريبا، أيّ جملة ليس لها انعكاسها، ولا متغيّرها، ولا مضاعفها، أو جوابها في مكان آخر من الرّواية.
فإذا أخذنا موضوعة الولادة في (فالس الوداع)، نجد أنّ الديكور الذي تجري فيه هذه الثيمة، هو منتجع استحمام طبّي مخصّص لمعالجة العُقْم. وجميع شخصيات الرّواية تواجه هذا المشكل: فكليما Klima مُهدّد بأن يصير أبًا رغم إرادته، وروزينا Ruzena حامل، وسكريتا Skreta الطّبيب المختصّ في أمراض النّساء والتّوليد، يعالج الوافدات على عيادته قصد العلاج، بمَنِيّه الخاصّ؛ ويعقوب Jakub لا يُحبّ الخِلفة، فيُنْشئ قصّة حول هيرود Hérode، الذي يريد تحرير العالم من سطوة البشر. وفي رواية: (الحياة في مكان آخر)، هناك موضوع فصل الشّتاء والبرودة. فجاروميل Jaromail يموت من شدّة البرد، والحبّ الذي يحلم به كزافييه Xavier يقتله البرد: ومن ثم، يترافق موتيف البرد مع جميع مكونات الرواية، وهلمّ جرّا.
* ذكرتَ أراغون الذي لا يعرف كيف ستنتهي روايته، بالمرّة. فهل تعلم أنت دائما كيف ستنتهي رواياتك؟
– ممّا يدلّ على تحقّق الموهبة الملحميّة الفطريّة، ألاّ يعرف الكاتب نهاية رواياته. والفكرة الأولى التي يكوّنها الكاتب عن عمله -وأنا بالطّبع أُبسّط الأمور الآن- هي رسم الملامح الخاصّة بالشّخصية، أو الشّخصيات التي ستصير في ما بعد مستقلّة إلى أبعد حدّ، حتّى إنّها لتقوى على فرض ذاتها على مسار تطوّر الحكاية، فتفاجئ الكاتب نفسه بذلك! وعليّ أن أقول بأنّي أكون شخصيّا، على معرفة نسبيّة بنهاية رواياتي. وهذه طريقة موسيقيّة في التّفكير. وتتضمّن الفكرة التي أكوّنها عن الرّواية دوما، توزيعا ما لبعض النِّسَب الاطّرادية. فحين بدأت بكتابة المزحة مثلا، كنت أعرف منذ البداية، بأنّها ستنقسم إلى سبعة أجزاء، تروي الشخصية الرّئيسة: لودفيك، أجزاؤها الأول والثالث والخامس، بينما الجزء الثّاني والرّابع والسّادس فسترويها شخصيات أخرى، أمّا الجزء السّابع فسيكون بوليفونيّا، ترويه ثلاث شخصيات بالتّناوب.
إنّ فكرة البناء بالنّسبة لي، لا تقوم على حساب عقلاني، وإنّما هي عندي بالأحرى هاجس، ينبثق من شعوري الباطنيّ. ويقوم البناء الذي تخضع له رواية الحياة في مكان آخر، على بناء مماثل للمزحة تقريبا: فهي أيضا مقسّمة الى سبعة فصول، الأول والثالث والخامس فصول ملحميّة طويلة، تروي حياة الشّخصية الرّئيسة، بينما الثاني والرّابع والسّادس ففواصل بينيّة لتلك المطوّلات، أمّا السّابع والأخير فتركيبة بوليفونيّة.
* إنّك منجذب لرقم سبعة!…
– نعم، بالتأكيد. أفضّل دوما الأعداد الفرديّة بدل الأعداد الزوجية. ومن بين ما هو فردي منها، أجد نفسي أفضّل الأعداد الأولى، لأنّها غير قابلة للقسمة. فـ(فالس الوداع) مثلا، مقسّمة إلى خمسة أجزاء، و(المزحة) كما (الحياة في مكان آخر) مقسّمتان معا إلى سبعة فصول، بينما (غراميّات مثيرة للضّحك) فتتضمّن سبع قصص قصيرة.
* هل يتعلّق الأمر عندك بسحر الأعداد؟
– أعرف بأنّ كلّ هذا قد يبدو لك غريبا. لكن، دعني أقول لك بأنّ الأمر من ناحيتي، يتعلّق بلعبة فقط. كأنْ تُجهد نفسك، وأنت تخرج من الشّقة في الصّباح، لكي تضع القدم اليسرى في المقام الأول دائما؛ وأنت تدرك بأن هذا يدخل ضمن نطاق التّطير، فتشارك مع ذلك في اللّعبة! لكن، قد يكون الأمر عندي، أعمق نسبيّا من هذا، على أية حال. ليس للأعداد دلالة سحريّة، وإنّما عقلانيّة على نحو تام. فإذا قسّمنا رواية ما إلى شطرين، أو إلى أربعة أشطر، أو حتى إلى ثمانية، فإنّها ستميل إلى الانشطار إلى نصفين، أو أكثر. ولا تكون هذه الأشطر مترابطة، ولا موحّدة، أو متماسكة. لذلك، وحتّى نخلق وحدة بناء حقيقيّة، يتعيّن ألاّ يكون هذا البناء قابلا للتقسيم. وهذه هي دلالة اختياري للأعداد الفرديّة. فلا (المزحة) ولا (الحياة في مكان آخر)، يمكنهما الانقسام إلى نصفين أو ثلاثة؛ ما يجعل بناءهما مترابطا ومتماسكا. وهي مسألةُ تناسُبٍ أيضا، ومسألةُ أعداد. وأقرُّ بأنّ هذه الطّريقة في تصوّر الشّكل، هي بالأحرى طريقة خاصّة بالتأليف الموسيقي، أكثر منها طريقة الرّوائي.
وثمّة شيء آخر، لا بدّ من ذكره: وهو أنّ التّأليف الموسيقي توزيع للإيقاعات! وأنا ميّال دوما لوضع العناوين الفرعيّة لبعض الفصول، بناءً على إشارات موسيقيّة من قبيل: أليغريتو، موديراتو، بريستو… إلخ. فإذا أخذنا (الحياة في مكان آخر) كمثال، نجد أنّ الجزء الأول منها سردٌ ملحميّ كلاسيكيّ، الأمر الذي يتعلّق بالموديراتو. في حين أن الجزء الثاني حُلُميّ، وبذلك فهو فيفاس (سريع). أما الثالث فسرد شذريّ: أليغريتو. بينما تركيب الفصول في الجزء الرّابع فقصير جدّا: إنّه البريستيسيمو. ويأتي فيما بعد الموديراتو، واللينتو، ثمّ البريستو في السّابع.
* أتظنّ بأنّ القارئ يدرك هذه الحِيَل اللّطيفة، ويتأثر بها؟
– ربّما وقع منه ذلك بشكل لاواعٍ، ولكن لا يمكنه ألاّ يتأثّر بهذا. إذ ثمّة نجاعة كبرى في تناوب الإيقاعات. لكنّ النّقد الأدبي لا يدرك هذا، وهذه مسألة أخرى. فهو إمّا أيديولوجيّ، أو يتبنّى نزعة بنيويّة مبهمة وعقيمة، على نحو تامّ.
* لنعد إلى الحديث عن مسرحياتك.. بعد (أصحاب المفاتيح)، ألّفْتَ سنة ١٩٦٧ مسرحيّة الـ(سّوتي) Sotie.
– كتبت (أصحاب المفاتيح) في عامين، وبذلك فهي تعدّ مسرحية كاملة النّضج والإعداد. بينما الـ(سّوتي) فكُتبَتْ في ظرف أسبوع واحد، وهي بسيطة جدا، بسيطة على نحو تحريضي، وأحبّها بشكل خاص أكثر ممّا أحبّ (أصحاب المفاتيح). لكن، لا أحد يشاطرني الرأي تقريبا في هذا، للأسف.
* وهل تمّ عرضها في الغرب؟
– لا.. ولكنّها لقيتْ نجاحا كبيرا في يوغوسلافيا.
* وما موضوعها؟
– يرسم مدير مدرسة على إحدى الطّاولات، حتّى يتلهّى بحكم أنّه كان وحيدا، عضوا جنسيّا أنثويّا. يرسم معيّنا، يخترقه خطّ قصير من الوسط.
* هل المعيّن عضو جنسي أنثويّ؟
– أجل. كلّ مبْولات أوروبّا الوسطى يغطّيها هذا الرّسم، أي هذه العلامة التي يقال إنّها فاحشة، ومخلّة بالحياء!
* عندنا، لا وجود لهذه المعيّنات!
– أعرف، وقد شعرتُ بإحباط شديد، حين علمت بأنّ هذا الرّمز مجهول، خارج نطاق أوروبا الوسطى. اعتقدتُ دائما بأنّه الرّمز الوحيد، الذي يمكن للإنسانيّة جمعاء، أن تتواطأ عليه؛ لكنّي كنت مخطئا!
* طيّب، وماذا جرى بعد أن رسم المدير المعيّن؟
– بعدها، تتعقّد الحكاية على نحو غريب: يُفتح تحقيق، ويقرّ أحد الطّلبة بتورّطه، فيتكلّف المدير بقطع أذنيه…
* أهذه هي النّهاية؟
– نهاية المشهد الأول، فقط، وبعدها، يستمرّ التّعقيد. لكنّ المسرحيّة التي أفضّلها من بين سائر مسرحياتي، هي التي اقتبستها عن رواية ديدرو: (جاك القَدَريّ). وهذه الرّواية هي المفضّلة عندي. لقد هِمْت بحبّ هذه الرّواية دائما، وبذهنيتها المتحرّرة، والعقلانيّة، والمتهكّمة، والسّاخرة؛ ذهنيتها الواضحة والمحتجّة!
* ومتى أنجزت هذا الاقتباس المسرحي لـ(جاك القَدري)؟
– كنتُ مثلما تعلم، حاصلًا على الإجازة من جامعة براغ بعد ١٩٦٨، ومحروما من كافّة الإمكانيات التي من شأنها، أن تمكّنني من نشر أيّ شيء في بلدي، أو كسب قوت عيشي بأيّ عمل فكري. وكان هناك عدّة أصدقاء، ممّن يريد مساعدتي. فجاءني مسرحيّ من سلوفاكيا في تلك الأثناء، يحمل معه رواية لدوستويفسكي، واقترح عليّ أن أقوم باقتباسها للمسرح، وبما أنّي لم أكن أستطيع نشر أيّ شيء باسمي وقتها، أضاف بأنّه مستعدّ ليقرضني اسمه، وهو ما كان من جهته، في منتهى النّبل والجرأة أيضا. ومن ثمّ، شرعت في إعادة قراءة تلك الرّواية، لكنّي أدركت منذ البداية، بأنّي لن أقوى أبدا على اقتباس دوستويفسكي للمسرح؛ الكاتب الذي لم أكن أحتمله.
* هذا رأي مفاجئ! خاصّة أنّ دوستويفسكي هو بمثابة الإله، بالنّسبة لكُتّاب الشّرق!
– أنا لستُ كاتبا شرقيّا. وبراغ لا تقع في الشّرق، بل هي مركز أوروبا تحديدا! أما ما يتّصل بدوستويفسكي، فأنا لا أريد التّنكر مطلقا لعظمته، وإنّما أريد الاعتراف بنفوري الشّخصي منه فقط، وهو نفور فوجئتُ به، أنا أيضا. إذ ثبت لي حينها، بأنّ ذلك الكون الرّوسي، بهستيريّته وتقديسه لكلّ ما هو غير عقلاني، وتمجيده للمعاناة والعاطفة وظلمة الدّواخل، بقي غريبا بالنّسبة لي، على نحو عميق. فشعرت بسبب هذه القراءة، بأنّي في غاية المرض، وبأنّي بحاجة ماسّة الى معالجة نفسي بترياق. فوجدتني أرتمي على كتاب ديدرو.
وإلى جانب هذا، كانت تلك السّنوات من أحلك أوقات حياتي، التي لم يسعفني فيها سوى الفرنسيّين، أصدقائي بفرنسا، ومقروءاتي بفرنسا، ومترجم أعمالي، وناشرها، وزملائي بفرنسا، ومن بينهم ديدرو الذي أمدّني حينها بالعون والمدد، ولن أنسى هذا أبدًا.
* لكن، يبدو لي بأنّك تشيد بديدرو وبقرن الأنوار كلّه، ليس في مسرحيتك وحسب، وإنّما في مجموعتك القصصيّة أيضا، التي تحمل عنوان: (غراميّات مثيرة للضّحك)، وفي روايتك (فالس الوداع)، فهل تتّفق معي، في هذا؟
– أجل.
* ألم تستعِدْ بعد عشر سنوات من ذلك التّاريخ، ثيمة دونْ جوان وغبطته التراجيديّة، في قصّتيْ (النّدوة) و(الدكتور هافيل)؟
– تماما. لكنّ البعد التراجيديّ لدونْ جوان اليوم، يكمن تحديدا في عدم قابليته للوصول إلى ما هو تراجيديّ! إنّ مأساة دون جوان اليوم، تكمن في استحالة قدرته على أن يكون حقّا دون جوان! ففي عالم يُسمح فيه بكلّ شيء، عالم تسوده الثّورة الجنسيّة، يتحوّل غازيّ القلوب القديم الذي كانه بحقّ دون جوان، إلى مجرّد هاوٍ يجمع النّساء من حوله، اليوم. لكن، شتّان ما بين غازٍ للقلوب كبير، وبين مجمّعٍ كبير! إنّ دون جوان القديم كان ينتهك الأعراف والشّرائع، بينما ينضبط المجمِّعُ الكبير للقوانين، ويمتثل للأعراف، لأنّ جمع النّساء صار جزءا من الذّوق العام! وقد صرنا تقريبا، مضطرين لجمعهنّ! لذلك، فإنّ دون جوانات محرومون اليوم، من البعد التراجيدي، لأنّ تحرّرهم فَقَد خاصّية التّحدي، فغدت مغامراتهم مثيرة للسّخرية!
* في مجموعتك القصصيّة (غراميّات مثيرة للضّحك)، نعثر على هذه الجملة المستمدّة تحديدا، من قصّة (إدوار والرّب) التي تقول: “أنا أجد نفسي -لعلمك- مضطرّا للكذب، حتّى لا أحمل على محمل الجدّ ما يصدر عن المجانين، وحتّى لا أصير أنا نفسي مجنونا!”. ألا تلخّص هذه الجملة، الأجواء العامّة التي تدور في كافّة هذه القصص؟
– إذا أدركت بأنّ العالم المحيط بك، لا يستحقّ أن يُحمَل على محمل الجدّ، فإنّ ذلك يقود الى خلاصات مدوّخة! إنّ الصّراحة تصير عبثا. ولماذا يتعيّن على المرء أن يكون صريحا مع شخص لا يحمل أيّ شيء على محمل الجدّ؛ مع شخص مجنون؟! لماذا ينبغي قول الحقيقة؟ لماذا التّحلي بالفضيلة؟ لماذا يتعيّن العمل بجدّ؟ وكيف يمكننا أن نحمل أنفسنا على محمل الجدّ، في عالم لا يستحق الذكر؟ فقد يكون هذا ذروة المسخرة! إنّ الشّعور بعدم إمكانيّة أخذ العالم على محمل الجدّ، هو بمثابة جُرُفٍ هارٍ. وغراميّات مثيرة للضّحك هي قصص طريفة، تحدث على حافة هذا الجُرف!
* لنعد الآن إلى (الحياة في مكان آخر)، الرّواية التي استحقَقْتَ عليها التّتويج بجائزة ميديسيس سنة ١٩٧٣. لماذا اخترت هذا العنوان: الحياة في مكان آخر؟
– هذه العبارة التي قالها رامبو Rimbaud. وكتبها الطّلبة المحتجّون على الحيطان، خلال انتفاضة مايو ٦٨ بباريس، وكأنّها شعار المرحلة. إنّ الحياة في مكان آخر هي وَهْم الشّباب الأبدي، وَهْم الذين لم يصلوا بعد إلى مرحلة الرّشد: إنّ هذه الرّغبة الجامحة في الدّخول إلى مملكة الحياة الحقّة، تقود سلوك الشّباب الثائر والشّعراء الشّباب!
* أليس جاروميل، في مستوى أول، وهو الشّخصية الرّئيسة في الرّواية، ضحيةَ أمّ مسرفة في القسوة، أفرطتْ في حمايتة والذّب عن حياضه؟
– قبل أن أكتب هذه الرّواية، قرأت الكثير من سِيَر الشّعراء. ولاحظتُ بأنّها جميعا، تتميّز بخصّيصة غيابِ أبٍ قويّ. إنّ الشّاعر يخرج من بيت النّساء! وهناك نسوة مفرطات في حماية شعرائهنّ اليافعين، مثل أمّ ألكسندر بلوك A. Blok، أو والدة ريلكه Rilke، أو أوسكار وايلد O. Wilde، أو مثل أمّ الشّاعر التشيكي الثائر وولكر Wolker، الذي ألهمتني سيرته بشكل كبير. وثمّة أمّهات محايدات، ولكن لسْنَ غير مسرفات في عنايتهنّ، مثل أمّ رامبو. وبهذا، خلصتُ إلى تعريف مبتكر للشّاعر، أورده على النّحو التالي: إنّ الشّاعر هو الشّاب الذي يتفاخر -بإيعاز من أمّه- أمام العالم، الذي لا يعرف أن يلجه!
* ألا يجسّد جاروميل، في مستوى ثانٍ، الأسطورة الرّامبويّة للشّاعر، ولكن على النّحو الذي تكون عليه الوضاعة هذه المرّة، هي الشّعر؟
– لا، ليست هناك أيّة وضاعة! بطلي جاروميل الذي مات في العشرين من عمره، وعلينا ألاّ ننسى هذا، لم يكن وضيعا؛ على العكس، هو شخصيّة موهوبة إلى أقصى حدّ، ويتصرّف بنفس الطّريقة التي يتصرّف بها عدد غفير من الشّعراء الكبار جدّا. والذين يقولون إنّه محدود الموهبة، لا يعرفون كيف ينبغي الانفكاك من أسْر الأسطورة الأوروبيّة الكبرى، التي تتّصل بالشّعر في معناه الباذخ. فالمرء بإمكانه أن يكون متمرّدا، وعلى استعداد ليبصق على الرّموز والأعلام الوطنيّة، لكنّه يبقى في نفس الوقت أسيرا على الدّوام، للأساطير التي لا تقبل المسّ، من قبيل أسطورة الثورة، وأسطورة الشّباب، والأمومة والشّعر. ولتفهمني جيّدا: أنا لستُ ضدّ الثورة، ولا ضدّ الأمومة، أو الشّباب أو الشّعر، ولكنّ بي رغبة لا تقاوم في تقويض أساطير معينة. والشّعر وفقا لهذا الفكر الأسطوريّ، هو قيمة مطلقة. ومن ثمّة، يُعتقَد بأنّ الشّاعر لا يمكنه أن يكون أبدا جاسوسا، ولا واشيًا مثلما هي حال بطلي جاروميل. وما على القارئ إذن، إلاّ أن يرفض كتابي، بوصفه مهاترة قدحيّة، أو تمثّل جاروميل على أنّه شاعر مزيّف.
وهأنتذا ترى، أنّ بإمكاننا أن نتحمّل تعاطف فيلسوف كبير مع الفاشستيّين، دون فضيحة كبرى، وأن نتحمّل تحوّل محارب عتيد إلى مجرّد نذل، دون فضيحة كبرى، أو أن نتحمّل أن يصير عالم عبقريّ مجرد جبان؛ لكنّنا لا نستطيع تحمّل أن يكون شاعر كبير وأصيل، مجرد واشٍ يُبلّغ عن الآخرين. ومع ذلك، فإنّي رأيتُ -وعن كثب!- شعراء كبارًا، يقومون بفظاعات كبرى للغاية، أكبر بكثير ممّا قام به المسكين جاروميل! ولم يقم هؤلاء بما قاموا به، على الرّغم من عبقريّتهم الشّعرية، وإنّما استنادا إليها. وعلينا استيعاب هذا. إنّ بطلي جاروميل سيشي بأخ حبيبته، ليس من منطلق كونه وغدا بغيضا، ولكن من منطلق حماسة الشّاعر الأصيل. إنّ عبقريته الشّعرية قد ساهمت بشكل تامّ، في عملية التّبليغ هذه. ولا تنس أنّ أكبر الجرائم المرتكبة في التّاريخ، ظلّت ترافقها أنغام الموسيقى، وأبيات الشّعر الحماسيّ! إنّ كلّ صفة إنسانيّة، وكلّ فضيلة بشريّة، تنتمي في نفس الآن -إذا سمحتَ لي بالاستعانة بهذا المعجم الدّيني- للجنّة والنّار، للملائكة والشّياطين؛ وكذلك الأمر مع الشّعر!
* فهل ما كتبته إذن، هو بمثابة أُهْجية للشّعر؟
– لا، بالمطلق. ليس أُهجِية ولا مذمّة شاتمة. ليس هناك في الرّواية، شيء مبالغ فيه. إنّها بالأحرى محاولة تستعين بالوسائل المعتمدة في كتابة الرّواية، لوصف ما هي عليه الوضعيّة الغنائيّة والتّصور الغنائيّ للعالم، وصفًا فينمونولوجيّا.
* لكن الحالة مع ذلك هنا، لها خصوصيّة نسبيّة. فقد صار جاروميل شاعرا رسميّا، يكرّس فنّه لخدمة نظام بوليسيّ. إنّه وصولي.
– ليس جاروميل انتهازيّا، بالمطلق. لقد صار شاعرا رسميّا، ليس لأنّه أراد أن يصنع لنفسه مسارا متميّزا، ولكن لأنّ النّظام الرّسمي كان يمثل له الثورةَ والتّغييرَ الرّاديكالي، والتّجديد، والحياةَ الحقّة التي حلم بها. إنّه يتصرّف بالطّريقة نفسها، التي يتصرّف بها عدد غفير من الشّعراء الكبار، الشّعراء الكبار حقًّا الذين صاروا في نفس الحقبة، وبفضل الدّواعي والأسباب نفسها، شعراء رسميّين. أتظنّ بأنّ إلوار Eluard، لو عاش في تشيكوسلوفاكيا، لن يصبح شاعرا رسميّا؟ أتظنّ بأنّ كلّ هؤلاء الشّباب المتعاطفين والمحتجّين، لن يصيروا في دولة ثوريّة وفتيّة، شعراء رسميّين، ولن يتمكّنوا من بلوغ نفس النهاية، التي انتهى إليها جاروميل؟! أتدري بأنّنا نعيش، رغم انقسام أوروبا إلى نصفين، نفس القضايا، ونفس المشاكل، ونفس الخصومات، ونفس المصائر، وبأنّ أوروبا ليست سوى واحدة؟!
* وماذا لو تسمح لنا الآن، بالعودة إلى الحديث عن روايتك حديثة الصّدور: (فالس الوداع)، ألا يلخّص جاكوب، الذي هو في نظري شخصية مؤلّفك الرّئيسة، جوهرَ الرّواية بهذه العبارة: “أليست للمضطهَدِين قيمةٌ تفوق المضطهِدِين؟”.
– هناك ناسٌ يقال إنّهم من اليسار، يضطهدهم ناسٌ يقال إنّهم من اليمين، وهناك ناسٌ يقال إنّهم من اليمين، يضطهدهم ناسٌ يقال إنّهم من اليسار. أنا لا أعتقد بأنّ أحد هذين الاضطهاديْن يفضل الآخر. ففي عالمنا المانويّ، الذي ينوء بأيديولوجيّات متعارضة، يتلهّف المضطهَدون على أن يصيروا مضطهِدين. وهذه تجربة جاكوب السّوداء!
* وهل تتماهى معه؟
– أنا لا أتماهى مع أيّة شخصيّة من شخصياتي. أكره الرّوايات السّيرذاتيّة.
* أوَليس ثمّة أيّة رواية سيرذاتيّة، من بين كافّة رواياتك؟
– ما الرّواية السّيرذاتية؟ إنّها المؤلَّف الذي يريد كاتبه أن يفسّر لنا حياته ومواقفه من خلال شكل أدبيّ، يندرج ضمن نطاق الرّواية. إنّ هذا شأنٌ عديم الفائدة ومثير للضّحك. إذ يجدر به أن يكتب مذكراته، فيغدو هذا عملا مناسبا. ومن الطّبيعي -وهذا مشكل آخر- أن يستثمر الرّوائي تجاربة الذّاتية دائما، لكن ليس لجعل حياته عرضة للأنظار، وإنّما لخلق عالم تخييليّ مستقل.
* حظيتْ رواياتك في البداية، بالتّرحيب في بلدك، لكنّها لقيت بعد ذلك مصير المنع. ألم تلق ما لقيته لأنّها اعتبرت روايات ملتزمة، وحتّى سياسيّة؟
– أنا لا أحبّ الرّوايات التي تُنعَت بالسّياسية. إنّها نوع شديد الرّداءة، دائما. لكن، صحيح أنّ جمهور حقبتنا المعاصرة المُسيَّس إلى أبعد حدّ، يملك حساسيّة قصوى حيال ما هو سياسي، من كلّ ظاهرة. وهنا، سأستعين بك، أنت، كنموذج. فقد ذكرتَ قبل قليل بأنّ جاكوب هو الشّخصية الرّئيسة لروايتي. لكنّ هذا غير صحيح! إنّه على نفس الأهمّية من بقية الشّخصيات الأخرى. إنّه بنفس أهمية بيرتليف مثلا، أو الدكتور سكريتا. لكن، لماذا وجدت أنت، بأنّ له أهمية أكثر من غيره؟ لأنّه الشّخصية الوحيدة التي تملك دلالة سياسيّة، ومصيرا سياسيّا. وقد جعله هذا، من منطلق تصوّرنا المسيّس، أهمّ تلك الشّخصيات. إلاّ أنّ هذا التّصور خاطئ.
* هذا بالتأكيد، صحيح. لكن، هل الحياد في الأدب ممكن؟
– إذا كانت الرّواية ترفض مماشاة إحدى الأيديولوجيّات السّياسية السّائدة في عصرنا، وترفض المشاركة في التّبسيط الأيديولوجيّ المندرج أكثر فأكثر في الابتذال، فذلك لا يعني حيادا، وإنّما تحدّيا. لأنّ الرّواية تقلب بهذه الكيفية، نظام القيم المقبول، والتّأويل المقبول لكلّ ما هو طبيعيّ، وللنّظام العام، وللأفكار التي يتمّ تلقّيها. فأنْ تكتب رواية، هو أن تخلق شخصيات. وكثيرا ما أستهين بهذه الممارسة، لكنّها مع ذلك لعبة مفيدة. فهي تعلّمنا أن نفهم حقائق الآخرين، والطّابع المحدود لحقيقتنا الخاصّة؛ وتعلّمنا أن نفهم العالم بوصفه سؤالا متعدّد الأوجه. لذلك، فإنّ الرّواية فنٌّ مضادٌّ على نحو عميق للأيديولوجيا، لأنّ الأيديولوجيا تقدّم لنا العالم دائما، من خلال وجهةِ نظرِ حقيقةٍ واحدة؛ تقدّمه لنا على أنّه رسمٌ توضيحيٌّ لهذه الحقيقة! لذلك، أكرّر بأنّ الرّواية هي فنٌّ مضادٌّ للأيديولوجيا، وهي ضروريّة ضرورةَ الخبز، في عالمنا المؤدْلج على نحو مجنون!
* قدّمتَ (فالس الوداع) على أنّها رواية ظريفة ومضحكة، بينما هي رواية سوداء…
– أنا لستُ روائيّا هزليّا. زد على ذلك، أنّي لا أحبّ الأدب الذي يُنعَت بالهزليّ. إنّه ضربٌ من الاحتيال الشّائن. إنّ العالم لا ينقسم إلى نصف حزين ونصف مرح، إلى شطر كوميدي وشطر آخر مأساوي. وإنّما المأساويّ والملهاويّ مرتبطان ببعضهما، على نحو يتعذّر الفصل بينهما. وكلّ وضع إنسانيّ له جانب مأساويّ، وجانب ملهاويّ. وفي (فالس الوداع)، كلّ شيء ملهاويّ وكلّ شيء مأساويّ. لكن، بما أنّنا نفتقد اليوم، «في قرننا العشرين» الحزين، إلى كلّ حسّ ملهاويّ، فإنّي أجد نفسي مكرها على لفت الأنظار، إلى الجانب الكوميديّ في أعمالي!
وأعتقد بأنّ هذا البُعد الكوميديّ كلّي الحضور ضمن ما هو مأساويّ، قد تحقّق في فالس الوداع، على نحو أفضل ممّا تحقّق في بقية رواياتي. إذ يقع كلّ السّرد فيها على حافة التّخْم الدّقيق، الذي يفصل بين الجادّ وغير الجاد. لذلك، فهي روايتي المفضّلة.
* ألا ترى في عدم تمكّن مواطنيك من قراءة أعمالك [بلغتها الأصليّة]، باعتبارك كاتبا تشيكيّا، مصيرا صعبا؟
– هذه على كلّ، وضعية فريدة إلى حدّ ما. تخيّل أنّي أكتب رواياتي بالتشيكيّة، لكن بما أنّ أعمالي قد تمّ إعدام وجودها في موطني، منذ 1969، فإنّ ما من أحد يمكنه قراءتها بالتشيكيّة. فهي تترجم إلى الفرنسيّة أولا، ثم تنشر في فرنسا، وبعدها في بلدان أخرى. إلاّ أنّ النّص الأصليّ التشيكيّ يبقى في درج المكتب، وكأنّه قالبُ صياغة!
أمّا بشأن ما إذا كنت أجد الأمر صعبا، فلا أعرف. ما زلتُ شديد الاندهاش بهذا الوضع الغريب، إلى حدّ أنّي غير مستعدّ حتّى للحكم عليه. على أيّة حال، أنا محظوظ كثيرا بالعثور على مترجم ممتاز، وهو في نفس الآن صديق كبير لي، وشاعر حقيقيّ. إنّه فرانسوا كيريل F. Kerel، الذي ترجم رواياتي الأخيرة، بطريقة تعادل صيغتها الأصليّة، معادلة تامّة!