لؤي حمزة عبّاس
“يبسط الزمن، بطريقة مفاجئة، برزخه بين الحياة وذاتي”
كلود ليفي شتراوس
(1)
للكتابة عن سيرة الكاتبة مي مظفر مع رفيق حياتها الفنان رافع الناصري، الموسومة (أنا ورافع الناصري، سيرة الماء والنار)(1)، أبدأ من مفتتح نصٍ قصصيٍّ قصير بعنوان (المعارج) من مجموعتها (بريد الشرق) الصادرة في العام 2003، وهو يحمل، بتصوري، رصدًا لطبيعة العلاقة بين المبدِعَين وإضاءةً لرؤية مي لوجود رافع الإنساني والإبداعي ولمنزلته في نفسها، في حالَي الحضور والغياب:
“في غمرة تخبّطي وبحثي المتواصل، أحسست أن عليّ أن أبني سُلّمًا كي أرتقي لعليائك. كان لدي يقين بأنك موجود في مكان لا تطوله يدي، وأن الطريق إلى آفاقك لن يتحقّق إلا بارتقاء معارج السماء”(2).
يحمل نص المعارج، مثل الكثير من نصوص مي مظفر القصصية والشعرية، بذرة كتاب السيرة الذي استغرق العمل فيه، بين التفكير والكتابة، زمنًا طويلًا حافلًا هو الحياة المشتركة بينهما، هذه البذرة التي طالما اكتنزت بفصول العلاقة وتغيرات محطاتها، داخل العراق وخارجه، وهي تنفتح على العام في استعادتها الخاص والعناية بتفصيلاته، فتقدّم منظوراتها للحياة العراقية وتحولاتها المؤثرة لما يتجاوز الأربعة عقود، من سنوات الارتباط الأولى مع بواكير العقد السابع من القرن الماضي، حتى رحيل الفنان رافع الناصري في 2013، بوصفها إطارًا حياتيا يحمل اشتراطاته التاريخية ومواضعاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لتكون السيرة، بالنتيجة، مؤشرًا لزمانها ومعبّرًا موضوعيًا عن منعطفات تاريخها، وهي بمقدار ما يميزها من شفافية وصدق، تُنتج أقوالًا مؤثرة بصدد الحياة العراقية، هذه الأقوال التي كشفت عن وعي مي وعوامل تشكله الطبقية والتربوية والثقافية، إذ تجتهد السيرة، ذاتية وموضوعية، في استعادة حياة صاحبها التي لم تكن إلا نتاج مجتمع معلوم في زمن محدّد، ولا يكتمل الحديث عن حياة الفرد، صاحب السيرة، بمراحلها المختلفة، إلا بالحديث عن طبيعة المؤثرات التي بلورت وعيه وأسهمت بنشأته وتكوينه، ولا يمكن مراجعة السيرة والوقوف على ما تتضمنه من أقوال بغير النظر إلى فاعلية الإطار التاريخي الذي تشكّلت فيه، وهو ما تبدو معه سيرة مي مظفّر على نصيب وافر من الأمانة والمسؤولية في التعبير عن مؤثرات زمنها، المعرفية منها التي أسهمت بتكوين الفنان رافع الناصري، أحد أهم مبدعي جيل الستينيات في الحركة التشكيلية في العراق والوطن العربي، ومي مظفّر، الكاتبة والمترجمة والناقدة التشكيلية، فضلًا عن العوامل الأخرى، سياسية واجتماعية واقتصادية، التي حدّدت مسار حياتهما المشتركة، منذ اللحظة التي استوقفت مي فيها لوحةُ رافع المعلّقة في مدخل دار جبرا إبراهيم جبرا، ذات يوم من عام 1971 ، وقد تسمّرت أمام جمالها الأخاذ، وسؤالها عن صاحب هذا العمل، حينها رد جبرا مستغربًا: رافع الناصري، كيف لا تعرفينه؟ حتى رحيل رافع في السابعة من صباح السبت السابع من كانون الأول 2013، وهي دقّة تحرص السيرة على تثبيتها، لتحدّد علامتين زمنيتين تمتدُّ بينهما سرديتها، لا على سبيل البدء والانتهاء، فالعلاقات الإنسانية الأثيرة لا تتحدّد بزمنيتها ولا تنقضي برحيل أصحابها، بل إنها تحقّق سيرورتها في ذوبانها بالمعنى الكلي، السامي والرفيع، للعلاقة الإنسانية، مثلما تحافظ العلامتان على تأثيرهما في حياة كلٍّ من مي ورافع على السواء، فهما لم تكونا لحظتين منفصلتين، بل إنهما تتخذان أهميتهما، في السيرة والحياة، من كونهما لحظتين فارقتين في حياة الثنائي التي تشكّلت هي الأخرى بوصفها علامة عراقية في إشارتها لمدنيّة الحياة وتحضّرها، على هذه البقعة من العالم.
(2)
تفتتح مي مدخل سيرتها بمبحث يحمل عنوان (رسالة إلى رافع)، يُفتتح بدوره بالجملة التالية: “ترك رحيل رافع عن أرضنا فراغًا مهولًا ما كان لأي شيء أو أحد قدرة على انتشالي من هوّته السحيقة سوى الحفاظ على وجوده حيًّا معي”.
وهو مفتتح يتركّز في معنيين: الفراغ الذي تركه غياب رافع، وملء الفراغ بالعمل على استعادة رافع من خلال سرد الجانب الأثير من حياته الذي بدأ، من منظور مي، مع صلته الأولى بها، وتوطّد بشراكتها رحلة الحياة والإبداع. إن الفراغ، بهذا المعنى، نداءٌ من أجل استرداد حياة يستحيل استردادها إلا بالقوة السحرية للكتابة، وما السؤال الذي وجدت مي مظفّر نفسها في مواجهته “كيف سأكمل الرحلة من غيره؟”، وقد انطلق حالما انتهت مراسيم التشييع وغادر الأهل والأصدقاء، إلا التحدي الأكبر الذي عليها مواجهته، وهو، في الوقت نفسه، المحفّز على العمل من أجل استمرار ثنائية الحياة الفريدة التي اتسمت، بتعبيرها، “بتكامل قد يندر وجود مثيل له في الأوساط الثقافية”.
من هنا، حملت السيرة مع مفتتحها ميثاقين ووعدًا، يتمثّل الميثاق الأول في التعبير عن تكامل الرحلة المشتركة الذي تحقّق بتحقّق الحياة الفريدة التي عاشها الثنائي، والميثاق الثاني الذي يمكن له أن يملأ الفراغ، هو الانتقال من الوجود الفعلي لرافع إلى وجوده المعنوي الذي يتعمّق بفهم منجزه الإبداعي الخاص، يُغنيه ويغتني به. في حين يتمثّل الوعد فيما ألزمت مي نفسها بكتابته من تاريخ الحياة المشتركة، وهو الوعد الذي أبلغت رافع به في مراحل مرضه، وقد استعاد بعض عافيته، فانفرج وجهه السمح وقال بصوت خافت: “يا ريت”. وبقي هذا الوعد مستذكرًا على امتداد السيرة وفي تضاعيفها، كررته مي في أكثر من مناسبة، “حديثي معك لن يتوقف وصورتك لن تغيب وسأستعيد حكايتنا هنا كما وعدتك”(3)، ميثاقان ووعدٌ يتخللان السيرة ويعمّقان حضورها في الحديث عن الحياة المشتركة واستعادة روعة الزوج والفنان الغائب استعادة تتأمل أثريه العميقين، الإنساني والإبداعي، في حياة مي وفي مشهدي التشكيل العراقي والعربي. إن أهمية رافع، بتصوّر مي، لا تكمن في كونه رفيق الحياة المثالي فحسب، بل في عبقريته الفردية التي أدركتها منذ لحظة تسمّرها أمام لوحته في بيت جبرا إبراهيم جبرا، وهي لحظة فاصلة في السيرة وفي الحياة، على أكثر من اعتبار، يكون لزامًا على مي، الحبيبة ورفيقة الرحلة، بهذا المعنى، أن تفسح المجال لمي الكاتبة لتتلمس مداخلَ جديدةً لفهم عبقرية رافع الناصري، وتجديد فهمها للفن عمومًا غير المداخل التي أنجزتها في مجمل دراساتها النقدية لفنّه، إنها مداخل الحياة بتعدّدها واتساعها وشمولها، وهو الفهم الذي يظل ناقصًا بغيرها، فالحياة هي المرجع الأساس والأهم لكلِّ مبدع ولكلِّ إبداع، مثل انتباهتها للتجريد بوصفه طبيعة متأصلة في شخصية رافع، الفكرة التي حافظت السيرة على حضورها وتأثيرها في تصورات مي وفي تذوقها، فالفكرة التي تصادفنا في الفصل الخامس (السنوات العشر الأولى) في إشارتها لارتباط التجريد بشخصية رافع “فالتجريد في التعبير جزء من طبيعة متأصلة فيه سواء أكان في الكلام أو في العمل الفني”(4)، تعود لتتعمق في الفصل الأخير، الثاني عشر، عبر تأكيدها على أن “الاختزال متأصل بطبيعته يعتمده في كلِّ شيء. حين ذهب إلى البرتغال للمزيد من الخبرة في مجال الطباعة استهواه الأسلوب التجريدي وسرعان ما تبناه ببصمته الخاصة في الطباعة كما في الرسم منذ 1968. فالتجريد شديد التلاؤم مع تكوينه النفسي والذهني”(5).
في خاتمة المقدمة تتحدّث مي عن الاستعادة والملء بوصفهما مقابلين ضديين للفقد والفراغ، استعادة وجود رافع المعنوي الذي يبدو معه شابًا متأمّلًا، متفاعلًا مع الوجود، وهو النموذج الذي تصرّح مي، شريكة الحياة والناقدة، بأن عليها أن تمتلئ به مرّة أخرى، في حال غيابه، كما امتلأت به أول مرّة، في حال حضوره: “أجدني اليوم أستعيد صورة ذلك الشاب المستغرق في نفسه وأفكاره وتفاعله مع الوجود، فأراه النموذج الذي ينبغي لي حذوه، فأملأ الوقت والنفس بك”، وهو الامتلاء الذي يقول الكثير عن التكامل في الاختلاف بدءًا من العنوان، فاختلاف الماء والنار، الذي تشكّل منه عنوان السيرة ووجّه سرديتها، وجه أمثل لتكامل الحياة وديمومتها، الحياة التي لا تكون بالماء وحده، كما لا تكون بالنار وحدها، إن اختلاف العنصرين، وضرورة وجودهما معًا، سرٌّ من أسرار الحياة، إذ ترنو النار، أبدًا، إلى الماء، ويتطلّع الماء إلى النار، ففي قاع كلٍّ منهما مرآة الآخر ووجهه الخفي، المياه مبدأ الأشياء ومنتهاها، وهي رمز الأم العظيمة، وينبوع الحياة، والمعادل السائل للنور، جوهر النار وخلاصتها.
في حديثها عن أسرتها، تذكر مي أخاها نميرًا، المختلف عنها في كلِّ شيء إلا في حبِّ أحدهما الآخر، وتصف كلًا منهما معبّرةً عن علاقتهما بـ”السالب والموجب”(6)، مقدّمة منظورًا آخر للتباين والتقارب، فالسالب والموجب، في قانون التجاذب والتنافر، يتقاربان ويتجاذبان، لكن الماء والنار هما العنصران المتصارعان اللذان سيخترق أحدهما في النهاية الآخر ويتوحّدان، ذلك ما يحدّثنا به مبتدأ الخليقة وأحوال عناصرها(7)، وذلك ما يقود سردية السيرة لمواطن بعيدة في نفس كلٍّ من مي ورافع وفي ذهنيهما، وهي تتحدّث عن ولادة العلاقة ونموّها وتكاملها، كما لو كانت تتحدّث عن كينونة طبيعية لا تكون إلا بلقاء عنصريها، مثلما يكون الحب، في سيرة الماء والنار، بحث كلّ من مي ورافع عما يكملهما، وهو، بالضرورة اكتمال يحمل معنى سقراطيًا في التوق إلى امتلاك الخير، المعنى الأبعد للاستكمال، فللخير في سيرة مي، معانٍ متعدّدة، يُضيء كلٌّ منها وجهًا من وجوه العلاقة وفصلًا من فصولها، وصولًا للحظة التي لا يتحقّق فيها وجود مي إلا بتحقق وجود رافع، ولا يتحقّق وجود رافع إلا بتحقق وجود مي. سيغذّي وجود كلٍّ منهما وجود الآخر ويمنحه قدرةً مضاعفةً على الخلق والابتكار، إذ تنتظم حياة مي ووجودها بحياة رافع ووجوده الذي “شكّل الفن لديه نمط حياة وسلوكًا وإبداعًا، وله شروطه التي لم يتنازل عنها قط”(8)، وهو الذي منح مي شعورًا بالقدرة على تجاوز الصعوبات مهما كانت، لإحساسها أنها مع رافع، كما في ليلة 16/ 17 من كانون الثاني 1991 المصيرية التي ابتدأ فيها التحالف هجومه الصاروخي المزلزل على بغداد، “ارتديت بلوزة حمراء وسرّحت شعري، فانتابني إحساس غريب مليء بالجرأة والاستعداد لمواجهة المصير أيًا كان وفي أية لحظة: أنا مع رافع وهذا يكفي”.
(3)
في الفصل الحادي عشر من كتاب (نصيّات، بين الهرمنيوطيقا والتفكيكية) لـ(ج هيو سلفرمان)، يستعيد سلفرمان جملة كلود ليفي شتراوس في (المدارات الحزينة): “يبسط الزمن، بطريقة مفاجئة، برزخه بين الحياة وذاتي”، مؤكدًا أن الزمن في السيرة يقع بين الذات والحياة التي ترويها، إذ “يتموقع الزمن، في مكان السرد، وعند تواشج الذات والحياة التي تزعم هذه الذات أنها شيء يخصّها، وهذا الزمن هو ما سوف يدعى زمن السيرة الذاتية، بما أنه يبني ويحدّد النصية السيرية”(9)، ومن المهم بالنسبة لقارئ سيرة مي مظفّر أن يتبيّن الطبيعة الزمنية التي تستجليها السيرة وتسرد من خلالها وقائع حياتها، فالكتابة السيرية تُنجز الحياة بوصفها نصًا، بتعبير (هيو سلفرمان)، والنصية السيرية لسيرة مي، تتحقّق باستعادة تجارب حياة مي منفردة، وتجاربها المشتركة مع رافع، فتُستحضر السيرة بوصفها تخييلًا ثقافيًا يُبنى في إطار مروية وطنية تنتظم فيها نظرة مي لحياتها وحياة أسرتها، مثلما تنتظم فيها نظرتها لحياة رافع وحياة أسرته، ضمن مجال عام ذي مرجعية تاريخية، ولا يتحقق ذلك بغير حضور العلامة الثقافية ومدلولاتها التي أسهمت بتشكيلهما ذاتين إبداعيتين في مجالين مختلفين، مجال الكتابة ومجال التشكيل، وإذا كانت السيرة تتحقّق بوصفها نصًا تبنيه وتشكّله تجارب حياتية مختلفة، من أهمها وفي مقدمتها، في (سيرة الماء والنار)، تجارب المعرفتين الأدبية والتشكيلية التي أسهمت بتكوين مي ورافع، كلًا منهما على حدة، ومن ثم طوّرت موهبتيهما مجتمعين، وهي معرفة تُسبق، بالضرورة، بمعرفة الحياة وتتأسس عليها.
إن عوامل التربية والنشأة تلعب أدوارًا حاسمة في توجيه الموهبة وإعداد الوعي، وهو ما يقوله بوضوح الفصل الرابع المخصّص لمي، العائلة والنشأة وملامح الوعي الأولى، في حين تتخلّل إشارات نشأة رافع وملامح وعيه المبكر السيرة بمجملها ولا يُخصص لها فصل بذاته، ولذلك دلالته بلاشك، فليس سوى الذات من تُحسن استعادة تجارب نشأتها والحديث عن السبل المبكّرة لبلّورة وعيها، فضلًا عن صعوبة استعادة رافع الطفل وعائلته في فصل خاص، بل إن حديث مي عن عائلة رافع تأخّر حتى اقترانها به ومعيشتهما، في المرحلة الأولى من ارتباطهما، مع العائلة باقتراح منها يكشف جانبًا آخر من شخصيتها، “وضعني المرسم أمام صورة حياة مستقبلية هانئة وهادئة. قلت: لماذا لا نسكن فيه بدلًا من تأجير سكن؟ استغرب: وتقيمين مع أهلي؟ قلت ولم لا سيكونون أهلي أيضًا. بإمكاننا أن نستقلَّ وننظم حياتنا كما نريد من غير أن نتطفل على حياتهم وفي الوقت نفسه نكون معهم ونوفر تكاليف تأجير بيت”(10).
(4)
يُفتتح الفصل الرابع بمشهد حلمي ترى فيه مي الطفلة أباها ينسلُّ من البدر الساطع إلى سطح دار جدتها، في ليلة مقمرة في بغداد، عقب انتقال العائلة للسكن في بيت الجدّة المتوفاة، بعد وفاة الأب في شباط 1949. رفع الأب رأسه المتعب بمشقّة وغمر ابنته بنظرة سحقتها آلام المرض وقال: سأظل أحميك،(التشديد من السيرة)، الأب المتعب العليل يعاهد ابنته على البقاء حاميًا لها، تاركًا ظله المديد عليها، وعبر افتتاحية طيف الأب ومن خلالها، تسرد مي قصة العائلة بدءًا من جدّيّها، جدِّها لأبيها، صاحب العِلم والمكتبة التي داهمها جيش الاحتلال البريطاني وصادرها، وجدِّها لأمِّها محمود بصري، زميل نوري السعيد، الضابط العثماني الذي “التحق برجال الثورة العربية مع تأسيس الدولة العراقية، وتوفي خلال عرض للخيالة تعرّض فيه إلى ضربة بالرأس من الحصان في 1924 ولم يتجاوز عمره الأربعين، وكان قد هرب من الجيش العثماني واصطحب عائلته في رحلة طويلة مليئة بالمخاطر من تركيا إلى العراق، ومن شدّة حماسته للثورة أضاف لنفسه لقب (البصري)”(11)، تروي الخالة قصة الجد في المساءات الصيفية بأسلوبها المشوّق المنسوج من خيوط الحقيقة والخيال، لتكون المؤثر السردي الأول في حياة مي.
تذكر مي أنها لا تكاد تعرف عن أبيها الشيء الكثير سوى مواقفه الرقيقة الحنون، لكن لن يكون من الصعب على متأمل سيرتها أن يُلاحظ أثر حضور الأب في توجيه ابنته، وهو التوجيه الذي يتجاوز، أحيانًا، القصد والمباشرة إلى الحضور المحض، إلى جانب بنائها العاطفي، فهو بقدرته اللغوية وبمعرفته التركية والعربية والفرنسية، وقد عُيّن في يفاعته مترجماً في البلاط الملكي، قد وجّه ابنته، على نحو غير مباشر، نحو وعي اللغة الأجنبية والشغف بتعلّمها، مثلما حملها على التعرّف على فضاء الثقافة العراقية في زمن مبكّر من حياتها، بحكم صداقته المقرّبة من الرسامين والمسرحيين والموسيقيين، فضلًا عن اهتمامه بالسينما وإجادته العزف على آلة القانون وأداء المقام العراقي وله رسوم وتخطيطات بالحبر الأسود، كما كان على صلة شخصية بالشعراء والفنانين والخطاطين، مولعًا بالمسرح وصديقًا شخصيًا لحقي الشبلي وعبد القادر الرسام ومحمد صالح وغيرهم(12)، ومثلما أشرنا لمنبع الحكايات في حياة مي، نشير للأب بوصفه منبع الوعي الثقافي والموجّه الأول والحاسم في حياة ابنته. إن الجانب الأعمق تأثيراً في حياة مي وفي بناء ذائقتها يمثله اهتمام الأب الفني، وولعه بفن الرسم خاصة، بما يمثله وجود اللوحات الأوروبية والعراقية في بيت الأسرة، فضلًا عن تخطيطاته لكنيسة الكرمليين حيث كان الأب أنستاس ماري الكرملي (1866 ـ1947) يقيم مجالسه الدورية. إن حضور تخطيطات الكنيسة وشخصية الكرملي، في حياة الأب وممارساته الثقافية، ومن خلاله في حياة الأسرة ووعي أبنيها(13) ، يتعدّى الجانب الثقافي المحض إلى طبيعة التعايش العراقي في النصف الأول من القرن العشرين، من الثقافة النصيّة إلى الثقافة بوصفها فعلًا يوميًا وممارسة حضارية.
تؤكد مي تأثير ذلك في بناء وعيها ونضج شخصيتها، في مفتتح مبحث بعنوان (علاقتي بالفنون البصرية) ضمن الفصل نفسه: “على الرغم من كوني لا أُحسن أداء أيِّ نوع من الفنون البصرية عمليًا فإنني شديدة التأثر بما أراه من صور فنية”(14)، وهو ما يبدو جليًا في تدرّج معرفتها التشكيلية من قراءة الكتب الفنية بما فيها من لوحات مستنسخة، إلى الاهتمام باللوحات المعلّقة في المنزل، لفنانين أوروبيين وأخرى لفنانين عراقيين، حتى التلقّي المباشر للأعمال التشكيلية مع أول رحلة لها لأوروبا وزيارتها المتاحف اللندنية. لكن أول مدخل ساحر، بالنسبة لها، للتعرّف على الحركة التشكيلية الحديثة في العراق هو معرض الفنان شاكر حسن آل سعيد المعنون (معارج)، الذي أقيم في المتحف الوطني للفن الحديث ببغداد 1969، ولنا أن نتبيّن أثر هذا المعرض في وعيها وفي لا وعيها، إذا ما تذكّرنا عنوان النص القصصي الذي افتتحنا به القراءة، المنشور في العام 2003.
سوى شخصية الأب، تستحضر السيرة شخصيات عديدة، عراقية وعربية، أسهمت في بلورة وعي صاحبتها ونظّمت منظورها للفن والإبداع، الأدبي والتشكيلي، وهي شخصيات تكشف في مجمل سلوكها المتحضّر وعلاقتها الرفيعة مع المرأة، جانبًا مهمًّا من الممارسة المدنية في العراق، مثلما تشير إلى طبيعة الحياة الحافلة بعلاقات التفاهم والرعاية بين المعنيين بالثقافة من مختلف الأجيال. وأول ما يصادف قارئ السيرة هو الأديب والمترجم والفنان، الفلسطيني العراقي، (جبرا إبراهيم جبرا) (1920 ـ 1994) الذي خصّته مي مظفّر بشهادة مؤثرة بعنوان (جبرا إبراهيم جبرا، المبدع لا ينتهي)، نُشرت في الكتاب الاحتفائي (جبرا إبراهيم جبرا، أديبًا وفنانًا)(15)، تحدّثت فيها عن الدور الذي لعبه جبرا في الثقافة العراقية منذ الخمسينيات، وفي رعاية وتوجيه موهبتها الكتابية، تستذكر بعده (نجيب المانع) (1926 ـ 1992)، الأديب والمترجم والمتذوق الموسيقي اللامع، وما لعبه من دور فاعل في حياتها وتطوير موهبتها بشخصيته الرفيعة وثقافته الاستثنائية، وقد صادف أنه نُسّب، أواخر الستينيات، للعمل في شركة إعادة التأمين على الحياة حيث كانت تعمل، إن حديثها عنه يكشف شخصية فريدة في ثقافتها وسلوكها ويرسم له صورة قلمية استثنائية، وقد كان “عقلًا جبارًا. أسئلته الوجودية لا قرار لها كعطائه الباذخ. شغفه بالثقافة مخيف بحجمه ومعدٍ بالتّماس معه. حين يتحدّث عن قصيدة أو نص نثري بليغ أو قطعة موسيقية يضطرب ويمسح من عينيه الدموع ثم يتمتم مداريًا خجله: آسف.. آسف.. فتشعر بأن هذه القامة الممتلئة المديدة قد تحوّلت إلى ذوب خالص من المشاعر. قد يكركر ضاحكًا: “الضعف البشري ليس عيبًا”. أقول له: “بل هو جوهر الإنسانية” يرتاح لردّي ويتمادى في الكشف عن معاناته الشخصية. كان يثور بقسوة على الابتذال وتفشّي القبح في الحياة اليومية ويرى أن تداعي الأمة نتاج انهيار نثرها العربي ثم يجهش بالبكاء”(16)، كيف لشخصية كهذه أن لا تكون موجهةً برهافةٍ ومؤثرةً بعمق فيمن حولها من المواهب الجديدة؟ فضلًا عن حديثه عن براعة رافع وثبات يده في السيطرة على المساحة الكبيرة للوحته، (وقد) شاهده وهو يعمل على جداريته، في الطابق التاسع من مبنى الشركة(17). إن أهمية المانع في حياة مي تتعدى الجانب التوجيهي والثقافي إلى المساندة الحياتية المباشرة التي شعرت معها وهي في بيروت “بأن لدي من يسندني ويبدّد وحشة المكان”(18)، إن شعور مي بتأثير شخصية المانع، الصديق والأستاذ، دفعها لإفراد مبحث باسمه في سيرتها. الشخصية الأخرى التي أدّت دورًا تعليميًا فاصلًا في بناء شخصية مي وتطوير معارفها، مع تنامي شعورها بأن ثمة نقصًا في ثقافتها العربية لغةً وفنونًا، هي شخصية الشيخ جلال الحنفي (1914ـ 2006) المنفتحة والأريحية، وقد كان وقتها يُلقي دروسًا في معهد الدراسات النغمية في التجويد والعروض ونظام الأصوات، وعلى يده رغبت مي بتلقي علوم العربية بالطريقة التقليدية، وأدّت بتوجيهه أولى تجاربها في تعلّم أوزان الشعر(19)، الشخصية الرابعة هي شخصية زوج الخالة بهاء الدين نوري، السفير والأديب المثقف الموسوعي الذي يتقن سبع لغات شرقية وغربية. كان سفير العراق في الأردن وبعد 14 تموز 1958 اتخذ قرارًا بعدم العودة إلى العراق فمُنح الجنسية الأردنية تقديرًا لمكانته وخبرته وعلمه، وعُين سفيرًا فوق العادة في الخارجية الأردنية. كما أشارت مي للدكتور أحمد مطلوب والدكتور إبراهيم السامرائي، من بين معلميها في الدرس الجامعي، لكن الحديث الأهم إلى جانب حديثها عن المانع، هو حديثها عن الشاعر العربي نزار قباني الذي أفردت له مبحثًا خاصًا هو الآخر، وقد التقته في العام 1962، وكانت وقتها تبلغ الثانية والعشرين من العمر، حين كان في زيارة (خاصة وعامة) إلى بغداد، وكان صديقًا مقرّبًا من السيدة أديبة خضر إحدى صديقات والدتها التي طلبت من الشاعر أن يُخصص ساعة من وقته للقاء الكاتبة الشابة والاطلاع على تجاربها الشعرية، ووجدت مي فيه صدق المعلّم ومسؤوليته، وقد وجّه اهتمامها إلى نقاط فاصلة في الكتابة الشعرية، مثل ضرورة احتواء الصورة على مدلول ذهني، وعدم السماح لمشاعر الحزن بالسيطرة على ما نكتب بل استثمار ما يمثله الحزن من شفافية وعمق، ونصحها أخيرًا بالإكثار من التجارب الكتابية قبل عرض النتاج على الآخرين، لكن الحديث عن نزار لا يكتمل بغير التطرق لزوجته العراقية بلقيس الراوي، صديقة صبا مي، وقد عاشت بروحها البغدادية مع نزار ذي الروح الدمشقية حياةً وارفةً جمعت أجواؤها الثقافتين. بالمقابل من البناء المتدرّج لصاحبة السيرة، يولد رافع مكتملًا، ولا يمرّ بأدوار تطور الوعي ومراحل النضج، إنه بتعبير مي “مارد صغير شقَّ القمقم وانطلق”(20)، إن حضوره الأول يتمثل بصدمة التلقي التي عاشتها مي أمام لوحته المعلّقة في بيت جبرا إبراهيم جبرا، اللحظة التي تكتمل، بالنسبة لها، بسماع اسمه للمرّة الأولى، وهي اللحظة التي ظلت حاضرة في ذهن الحبيبة والناقدة التشكيلية، تستذكرها الحبيبة بوصفها لحظة اللقاء السحري برافع، وتستحضرها الناقدة التشكيلية بوصفها مفتاح تلقيها لأسلوبيته وتبيّن خصوصيته في فن الرسم(21). إن الاستعادة الأولى لرافع التي تستحضرها السيرة تتحدّث عن “الشاب المستغرق في نفسه وأفكاره وتفاعله مع الوجود”(22)، لكن اللقاء الأول يتجسد في محاولة مي استحضار رافع فلا ترى “سوى ذلك الشاب الوسيم يختلس النظر من بين اللوحات المعلّقة في قاعة المتحف الوطني للفن الحديث (كولبنكيان) في مطلع 1971. لم أكن قد رأيتك بعد. تساءلت يومها عمن يكون ذاك الذي يلاحقني بنظراته السرية ولماذا لا يكلمني مباشرة! ثم عرفت من ضياء أنك الفنان الذي سحرتني لوحاته”(23)، إن الحضور المعرفي لرافع يتحقّق عبر حضوره الإنساني الزاخر ويتوحّد معه
(5)
تقدّم السيرة بوصفها جزءًا من تاريخ الإنجاز الثقافي، جانبًا أساسيًا من قراءة الظواهر الفاعلة في المجال العام، لما تحمله هذه الظواهر من عوامل تتخلّل التجارب الشخصية وتؤثّر فيها، لتمثّل موجهات تاريخية لسرد السيرة مثلما كانت مؤثرات فعلية في حياة صاحبها، ويمكننا النظر بالنتيجة إلى السيرة بوصفها أثرًا ثقافيًا من بين آثار تلكم الظواهر وصدىً مستعادًا من أصدائها، وبذلك يمكن أن تُدرج الظواهر وآثارها المشار إليها في السيرة، ضمن الزمن التاريخي للنصية السيرية الذي اقترحه سلفرمان، إذ إن “كلَّ زمن تاريخي معيّن لسيرة ذاتية يحدث ضمن مجال أرحب يمكن أن تظهر فيه، أو تظهر فيه فعلًا، كتابة المرء حياته الخاصة”(24)، ومن الضروري الإشارة إلى عدم قدرة الظواهر وتأثيراتها على تقديم تفسيرات كلية مقنعة ونهائية لمجمل أفعالنا، لكنها تملك أن تؤثر فيها وفي مجمل حياتنا، بشكل ظاهر أو خفي. تدعونا هذه الفكرة لمواصلة قراءة (سيرة الماء والنار) في ضوء ما تخلّلها من إشارات، وأهمها وأشدّها وضوحًا الإشارات للظاهرة السياسية التي يواجهنا حضورها في معظم الفصول، وهي الإشارات التي أكدت القراءة قدرتها في الكشف عن وعي مي وعوامل تشكله الطبقية والتربوية والثقافية، كما نلمس أثرها في الحياة المشتركة لمي ورافع وفي اختياراتهما، ذلك ما ندركه مع أول فصول السيرة المعنون (البداية)، حيث يغدو سؤال الوطن جزءًا فاعلًا من سؤال الحياة التي تعني لرافع فن الرسم وهو يُصبح حلمًا قريبًا بعيدًا، بعد تفشي المرض في جسده، فيكون الوطن، في المشاهد الختامية من حياة رافع، معادلًا كليًا للحياة بمختلف تجلياتها وبمعانيها التي لا تُعدّ:
“متى سأعود للرسم.. هل سيظلُّ هذا الوهن يرافقني ويشلُّ قواي؟
قلتَ ذلك مع أنك -على الرغم من الوهن الذي استشرى سريعًا بقواك- كنت قد أنجزت أنقى أعمالك اختزالًا وصفاءً وشفافيةً بعنوان “بجانب النهر”، في آخر محاولاتك لإيجاد وطن بديل”(25). لكن سيرة الماء والنار، بجملة واضحة، لم تتأسس على فكرة البحث عن (وطن بديل) ولم تكن تعوّل عليها، بقدر ما سعت للنظر إلى الحياة في الوطن بوصفها الحياة المثلى، على الرغم من مختلف العوامل المؤثرة والمتغيرات، لذلك لن يبدو غريبًا أن تتحدث السيرة بوضوح عن الصعوبات السياسية في الفصل الثالث المعنون بـ (الكوخ) وهي تفصّل في بناء البيت الأول في حياة مي ورافع، مثلما تفصّل في الإشارة لمؤثرات المرحلة السياسية في العراق: “المرحلة التي قُدّر لنا أن نتزوج فيها كانت واحدة من المراحل الصعبة في تاريخ العراق الاقتصادي. فغداة صدور قرار تأميم شركات النفط العالمية في حزيران 1972 مرّ العراق بمرحلة ركود اقتصادي ضاعف من الحالة التي كانت قائمة قبل ذلك”(26)، انعكس الركود خلال عقد السبعينيات على مجمل الحياة الاقتصادية في العراق، وعلى المشاريع الخاصة الطموحة بشكل خاص، مثل مشاريع (حسو أخوان) التي مثّلت على امتداد عقود مراكز تسوّق الطبقة العليا العراقية وأعداد متزايدة ممن ينتمون للطبقة الوسطى التي بدأت بالنمو في الحياة البغدادية منذ الخمسينيات وظهر إسهامها واضحًا في التعليم والإدارة والتجارة.
إن الحدث السياسي الأهم الذي تتناوله السيرة وتتحدث عن انعكاساته النفسية على بعض من أقرباء مي، هو حدث تموز 1958 المؤثر الذي أُفرد له مبحث في الفصل المخصص لطفولة مي ونشأتها، وقد بلغت الثامنة عشرة من العمر. تحكي في البداية عن ذهابها برفقة خالتها فضيلة “إلى الأردن حيث انتهت مهمّة زوجها بهاء الدين نوري سفيرًا عقب الإعلان عن الاتحاد الهاشمي بين الأردن والعراق، وينتظر قرار نقله إلى موقع آخر”(27)، سيمنح السفر إلى خارج العراق مي فرصة لسرد الوقائع الدموية بوصفها أخبارًا وملاحظة ما يترتب عليها من آثار على أقاربها، وعلى زوج الخالة السفير على نحو خاص، وهو الأديب المثقف الموسوعي الذي يتقن سبع لغات شرقية وغربية، الذي يمكن عدّه من معلمي مي، يقدّم صورة مثلى لمؤسسي الدولة العراقية الحديثة. إن وصول رئيس أركان الجيش الفريق الركن رفيق عارف واستضافته في بيت السفير بدعوة عشاء، تقرّب مي مما يدور في العراق وهي تستمع إلى نقاش الرجال حول ما تسرّب من أخبار عن احتمال قيام الجيش بانقلاب ضد النظام الملكي، لكنها تؤكد عدم معرفتها بما كان يجري في بغداد صبيحة الرابع عشر من تموز، وتستبدل الحديث المباشر عن الوقائع بالحديث عن انعكاساتها على السفير الذي يُدرك بطبيعة الحال الوقائع ويتحسس أهوالها، وهو العسكري الذي يرى أن “من الصعب عليه تقبّل المساس بهيبة الدولة وقدسيتها”(28)، لينتهي به المطاف بعد عام ونيف، “إلى الموت كمدًا على مقتل سليل الهاشميين وعلى مصير العراق الذي رأى يقينًا أنه ماض إلى المجهول”(29).
(6)
مع الفصول الثلاثة الأخيرة (الخروج من بغداد، السنوات العشر الأخيرة والعودة إلى عمّان، مرحلة المرض)، تشهد السيرة أعلى تحققات شعريتها وهي تعمل على استغوار دواخل مي ورافع على السواء، بتأثير ما تسرد من وقائع درامية الطابع، خاصة أو عامة، فتغدو اللغة أكثر شفافية وسطوعًا وأعمق دلالة، وهي الفصول التي تغادر السيرة فيها وصفيتها على نحو جزئي معوّلةً، في فصلها الأخير خاصة، على إضاءات الشعر وعلى الجمل التأملية في أداء محمولاتها، فنكبة الوطن والشعور بالمرض، مرض أحبائنا أو مرضنا الشخصي، يخفّفان عن كواهلنا الكثير من ثقل اليومي ويخرجاننا من الانهمام بشواغلنا المعتادة، ويجعلاننا أشدَّ رهافةً وأكثر استعدادًا لالتقاط إشارات الكون وأصواته التي لا يسعنا إدراكها في أحوالنا العادية، الأمر الذي هيأ لرافع اقترابًا من ذاته، والرسم جزء أصيل منها، وقد بدأت هذه المرحلة في سنتيه الأخيرتين بقراءة (الزن) و(التاو)، والاقتراب من عوالم الفلسفات الشرقية من جديد، بعد أن عاش في عوالمها أربع سنوات في شبابه عندما اختار الأكاديمية المركزية للفنون الجميلة في بكين لدراسة الرسم وفن الغرافيك خاصة، مما أسبغ على أسلوبيته طابعًا كونيًا مميزًا يقيم فيه “تكوينه الجامع بين الفضاء والكتلة، وبين الحركة والسكون، لتحقيق التوازن الروحي والبنائي في اللوحة، فلدى التطلّع إلى التكوين ووضعه في سياق متكامل يُصبح من الممكن استقراء نظام كوني يحتكم مساره إلى حساب زمني دقيق يمتدّ من نقطة الحاضر حتى أغوار الزمن السحيق”(30)، بتعبير مي التي تنقل تأويلاتها من فضاء اللوحة إلى فضاء الحياة اليومية وهي تقترب أكثر فأكثر من رافع بتأثير مرضه لتتماهى معه في “وجود في الراهن”، يعيد صلته بمفاهيم الحياة الأساسية، عناصرها الأصلية ومفاتيح ديمومتها، ويؤمّن منظورًا شخصيًا للتراتبية الزمنية فـ”ليس للمستقبل وجود، والماضي لا هنا ولا هناك، اللحظة الراهنة هي كلُّ ما نملك”، كما كتب رافع في تقديم معرضه الأخير(31)، وقد بدأت الفصول الثلاثة بالتّماس مع هذه الموضوعات بالوقوف عند سنوات التسعينيات وما شهده العراق فيها من حصار قاسٍ عمّق الشعور بالرثاء لما آلت إليه الحياة بوعودها الحافلة، “وقعنا في حيرة من أمرنا. عادت الحياة في بغداد إلى مجراها. كلٌّ عاد إلى مجال عمله. لكن الحياة لم تعد حياة تحت الظروف الاجتماعية والاقتصادية الخانقة التي وجدنا أنفسنا فيها من جرّاء أقسى حصار فُرض على العراق. العالم كلُّه تحدّث بلا جدوى عن لا إنسانية القرار الدولي الذي لا سابقة له في التاريخ، بل المدّمّر الأكبر للبنية الاجتماعية، ناهيك عن الاحتلال اللاحق الذي مازال ينتهك جسد البلد وناسه بلا رحمة”(32)، إن من أهم انعكاسات الحصار وتأثيراته السوسيوثقافية في العراق هو الهجرة التدريجية لكثير من المشتغلين في الحقل الثقافي، تتحدث السيرة بنبرة شجن واضحة، في فصلها العاشر (الخروج من بغداد) عن الكثير من المحاولات المهينة والمغامرة التي وجد المثقف العراقي نفسه في خضمها رغبةً منه بالانفلات من مأزق الحصار وجور السلطة التي لم يحدّ القهر الدولي من طغيانها على شعبها. وفي الوقت الذي كان العراق يعاني الويلات ويتراجع دوره الثقافي على نحو سريع، شهدت مدن عربية ازدهارًا تشكيليًا لافتًا جرّاء تحوّل الخبرات العراقية للحياة والعمل فيها، ففي السنوات الأولى من التسعينيات شهدت عمّان، بوصفها المحطة الأولى للمغتربين العراقيين، حركة تشكيلية غير مسبوقة، توالى خلالها افتتاح قاعات فنية عديدة لاستيعاب حضور الفن العراقي الوافر كمًا ونوعًا مثل دارة الفنون، أبعاد، الأورفلي، أربعة جدران، ونبض، وازدهرت “سوق الفن بتدفق سيل من الأعمال الفنية العراقية التي طغى على معظمها الطابع التجاري إلى جانب الأعمال المزوّرة لكبار الفنانين، مع تسريب أعمال فنية مهمّة سرعان ما كانت تكمل مسارها بعيدًا”(33)، كانت حضارة العراق، خلال سنوات الحصار، تتهدّم على نحو سريع، ومبدعوه يعيشون شتاتًا لم يعرف العراق له مثيلًا، ومهما عاش المبدع العراقي من ظروف حياتية مثالية في المغترب يظل “كشجرة مقطوعة لا تستعيد أغصانها الجديدة ما لم تكتمل تربتها وتستعيد هواءها من جديد أو تعود إلى شكلها الأول”(34) كما كتب رافع بتاريخ 1993/3/13، تحت ضغط عاملين متضادين، الأول ذاتي يؤكد رافع معه أنه لن يطيل البقاء خارج العراق أكثر من عام واحد، والثاني موضوعي يأتي مع نصح الأصدقاء والأهل بالبقاء في عمّان لتردي الأحوال في الوطن. هذا التردي الذي تحققت ذروته مع سرقة بيت العمر في بغداد، وهكذا كانت رياح التسعينيات تحمل العراقيين إلى الأبعد دائمًا، الأمر الذي سيجد رافع معادله في المتنبي وغربته المادية والمعنوية، وسيغدو الشاعر “بوابة رافع الواسعة إلى مرحلة جديدة من مراحله الخصبة” وستتوالى أعماله المعبرة في مجملها عن الغربة والاغتراب وسيغدو “أكثر تماهيًا مع الفنون الشرقية لاسيما بإدخال ورق الذهب مع رقع الخط العربي في التكوين”(35)، كان رافع يبحث في أرض اللوحة عن أرضه المفتقدة، ويتلمس حياته في آفاقها البعيدة.
(7)
النتائج:
ـ لا تمثل كتابة نص السيرة انشغالًا مستجدًا بين انشغالات مي مظفّر الكتابية، بل إنها تضرب بعيدًا في نسيج حياتها وتُسهم ببلورة وعيها بذاتها وبالعالم، بما يؤكد أهمية حضور النص السيري في تجربتيها الكتابية والحياتية، وما يمنح دارس السيرة فرصة كشف بعض كوامن النص السيري بدلالات بعض نصوص مي الشعرية والنثرية، الأمر الذي يضيء فكرتين:
ـ أصالة نص السيرة في مشروع مي مظفّر الإبداعي.
ـ تراسل موضوعات النص السيري وتوزع ثيماته على نصوص مي الأخرى.
ـ تعمل السيرة على بلورة بعض مفاهيم مي بوصفها ناقدة تشكيلية، من خلال إخضاع هذه المفاهيم للنظر في ضوء التجارب الحياتية المختلفة.
ـ تباين كم الأحداث بين الذاتي والموضوعي، إذ يلاحظ تفوق (الحدث ذي البعد الذاتي) على (الحدث ذي البعد الموضوعي)، في عموم نسيج الأحداث، بما يشير لمركزية الشخصية الساردة وأهمية نظرتها في تقديم العالم السيري.
ـ منحت كتابة السيرة مي مظفر مساحة لاستعادة بعض الأحداث التاريخية المؤثرة في تاريخ العراق الحديث وتأمل تأثيراتها الاجتماعية والنفسية، وذلك ما يمكن عدّه (القدرة على الرؤية) التي تحققت لدى الكاتبة بفعل اهتمامها بإضاءة زمنية النص السيري.
الهوامش
مي مظفّر، سيرة الماء والنار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2021
مي مظفّر، بريد الشرق، قصص، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2003: 115
سيرة الماء والنار، م. س: 23
م. ن: 131
م. ن: 271
م. ن: 79
الموسوعة المصورة للرموز التقليدية، تأليف: ج، سي، كوبر، ت: مصطفى محمود، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2006: 657 ـ 662
سيرة الماء والنار، م. س: 127
ج. هيو سلفرمان، نصيّات، بين الهرمنيوطيقا والتفكيكية، ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم صالح: 171
مي مظفر، سيرة الماء والنار، م.س: 67
م. ن: 77
ينظر، م. ن: 79
ينظر، م. ن: 107
ينظر، م. ن، ص. ن
مجموعة كتّاب، جبرا إبراهيم جبرا، أديبًا وفنانًا، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 2022: 33 ـ 41
مي مظفر، سيرة الماء والنار، م. س: 103
م. ن: 26
م. ن: 50
م. ن: 106
م. ن: 30
تنظر: كلمة الغلاف الخلفي لكتاب مي مظفر، رافع الناصري رسام المشاهد الكونية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2010
مي مظفر، سيرة الماء والنار، م. س: 19
م. ن: 23
م. ن: 171
م. ن: 23
م. ن: 67
م. ن: 91
م. ن: 92
م. ن، ص. ن
مي مظفر، رافع الناصري رسام المشاهد الكونية، م. س:
مي مظفر، سيرة الماء والنار: 227
م. ن: 229
م. ن: 233
م. ن: 235
م. ن: 245