أنس العيلة*
بدا البالون الحارق
الذي تدفعه الريح
صوبَ أفقٍ مرسومٍ بالعين المجرّدة…
مثل معجزةٍ طازجة
لفتيانٍ يكبرون
في مدينة مخطوفة النوافذ !
نفخوا الهواء الساخن
في الواقيات الذكرية
لتحلّق دون أثرٍ
أو صدى
على شاشات الرادار،
فوق الأسلاك الشائكة
وأبراج الحدود الرمادية.
كانوا يتحسّسون بأطراف أصابعهم
جهة الريح،
ويشدّون طرف الخيط
الذي يصلهم بالأفق
ثم يعتقونه دفعةً واحدة:
مرةً أخرى، لن ترتجف رغباتهم
في الواقيات الذكريّة
كرعشةٍ مخنوقة
بل ستحلّق مثل طائرةٍ صغيرة
تشتعل في الفضاء !
شارع المشاة
الهائمون بهواءٍ نظيف
في شارع المشاة
حيث يعبر الوقت بطيئا،
بلا عجلات.
ستبدو ملامحهم هادئة
في الكاميرات المعلّقة
خِفيةً لاصطياد المجرمين !
الباحثون عن هواءٍ بلا شوائب
يمشون بخطى وئيدة
وأطراف متراخية
أمام
أشجار عيد الميلاد الصغيرة
وحانوت الخضار القديم
والمشرّد المتكئ على الرصيف
فاتحا راحة يده
ذات الخطوط السوداء ….
والمطعم الياباني
المجاور
حيث يظهر الطاهي
خلف زجاجٍ يلمعْ !
الغارفون من هواءٍ صاف ٍ
يواصلون السير
حتى يخرجون
من فضاء الكاميرات
دون أن يقبض عليهم أحد !
اليدُ التي رَبتتْ على كتِفك
اليدُ التي ربتتْ على كتِفك
أثناء الحديث
تركتْ في جوفكَ أصداءً مدويّة…
وكشفتْ عن عري صامت
يتغلغل في أعماقك
وأصابتكَ برعشةٍ
كأنها هزّة كيان
عليكَ الآن
أن تتابع الصدوع المحتملة
في جسدك
الذي كان يقضي ليله الطويل
منزوياً في زاوية الغرفة
جسدك الذي يختبئ
خلفكَ مثل ظلّك
عليكَ أن تطارده
في الممرات المعتمة
التي يجيد الاختفاء في متاهاتها
………….
اليدُ التي رَبتتْ على كتِفك
وألهمتكَ كل هذا الانهيار
لم تكن
إلا محض حركة طائشة
خالية إلا من مودّة
كالتي نمنحها لأشخاص
لا نلتقيهم إلا بالصدفة!
هم أيضا
يصعدون الدرج بخفّة
ويحملون الأطفال على أكتافهم
ويحتفلون بالأعياد مثلنا
ويصغون للموسيقى
التي تغيّر من ملامحهم
وقد تجعل منهم ملائكة لبرهة
وهم عشّاق مهرة
قد يرتكبون خيانةً أحيانا
تُجدّد الحبّ
بفعلِ تأنيبِ الضمير
وينكبّون على إصلاح
عُطلٍ في البيت
أو يتعلّقون بآلام بشر آخرين،
حين يربكهم
إحساسٌ مباغتٌ بالخواءْ
ويزرعون أشجاراً حولهم
ولهم أصدقاء كسالى
كرماء وثرثارون
يلجؤون إليهم في الشتاءات الطويلة
جريمتهم الوحيدة
أنهم يحرموننا من كل ذلك
حتى وإن كنّا جديرين
بكلّ هذا الألم !
الغائبة
إلى جدتي فاطمة
في القاعة الباردة
تستلقي الغائبة بأدبٍ شديد!
قبّلنا وجهها
الذي لم يعد يبتسم لنا
وحضنا الكفّ البارد
الذي لم يمدّ يديه للمصافحة
وألقينا برأسنا على الصدر الصامت
الذي لم يعد ينبض بالحُبّ
لم تستقبلنا بالدعوات
ولم تشكرنا على
القُبل التي أعدناها إليها
والعناقات التي كبرنا
تحت ظلالها
حين هممنا بالوداع
انتبهنا أننا لمسنا براحة اليد
الموتَ الذي خشيناه
منذ الصغر،
قبّلناه بأطراف شفاهنا
وحضناه بين الذراعين…
كم يصبح الموتُ أليفاً
حين ينزلُ في جَسدٍ عزيز !