صالح العامري*
يمكن أن أحدد إطار علاقتي بمبارك العامري في ذلك الشغف بالكتابة والاحتفاء بالفاعِلِين البنّائِين/ الهدّامِين فيها، مع اختلاف كل منّا في مشروعه الكتابي وفي ذهاباته والتفافاته إليها، إلى حدوساتها ومظانّها، إلى مناطقها الشهوية وأبوابها المواربة. إلا أنّ ذلك كله لم يكن إلا بذرة منغرسة في العتمة، فلم نكن نمثل استثناء في ذلك الشغف، مستذكرين على الدوام ثلّة حميمة من الأصدقاء الذين كانوا يطلّون بظلالهم وحضوراتهم بيننا، من كُتّاب وشعراء عُمان وبلدان عربية أخرى، مقيمين غير بعيد عنّا، أو موزعين، سفراً ودراسة وترحالاً ومنفى، بين مدن العالم.
كان لقائي بمبارك العامري منفلتاً من أية إلصاقات قبلية شائهة وثقيلة الدم. كما كان تلاقينا حُرّاً وغير ملطخ بأيّ مجلة عقائدية، ولا بأيّ شَرَكٍ آخر أو مشروع ثقافيّ بادئ أو مكتمل، لهذا أقول بأننا التقينا، مبارك العامري وأنا، في الطريق المعبّأ بالصُّدَف ومباهج الليل، في المسافة التي كلّها علامة متعطشة، وعفوية مطلقة تكتب ضحكاتها الساخرة على التربة التي نخطو فوقها، قبل الغيوم التي ترتسم وتتمرأى فوقنا في الأعالي.
وفي تلك الألعاب التي قذف بها إلينا بحر عُمان، كان مبارك العامري يتخفف بعد ظهيرة العمل، من الأعباء التي قد ينأى بحملها في بيته القريب من ضفة “شارع الخليل” في الحيل الشمالية، إحدى أحياء ولاية السيب، في العاصمة العُمانية مسقط، لتكون إحدى تفضيلاته أن نسهر في مجد الظهيرة، (في استبدالاتنا بذلك عن السهر في عزّ الليل)!، صاعداً إلى الاستوديو الذي كنت أكتريه، آنئذ، قريباً من ذلك الشارع أيضا، داعياً إيّاي في مفاجآته المبهجة إلى تذكيري كل مرة باقتناص ما لدينا من لحظات، متخففين من حمأة الظهيرة والواقع، ومن سطوة سياطهما المقذعة.
لقد كنتُ ميّالاً وأنا ألتقي مبارك العامري – في هذه الحياة التي لا يكاد المرء في جحيمها، أن يفرق بين وجهها وقفاها، بين رأسها وذيلها، “غريقاً” أو “مستبسلا”- لأن أربط دابّتي الحزينة في الخارج، وأن ألتقيه على محكّ الضحك والسخرية، وعلى حافة جُرفيهما الحنونين. هكذا كنتُ أخلع كآبتي، أو رأسي الغليظ، عند عتبة لقائي به، ممنيّاً النفس أن تسيل حالتي المتصلبة، مرتدياً قناعي الجديد المفضّل/ الفرحَ المتعافي من الخارج المؤذي/ السخريات المتعالية على أيّ مزاج مخرَّب. إنه الضحك “السحريّ والميتافيزيقيّ” حسب تعبير أمبرتو إيكو، الضحك الذي أتشهّاه بنزق، صحبة هذا الرجل الطيّب الذي لا خساسة في روحه ولا عجرفة في جبهته، إلى أن يضربني البرق مجدداً فأعود القهقرى إلى حالتي الأولى، التي لا مهرب منها، على ما يبدو، إلا بلقاء مسوَّفٍ آخر مع مبارك العامري وأمثاله من الطاعنين في حبّ الحياة وفي معانقة أشواقها.
ربّما كانت لقاءاتنا المرحة، المتخلصة من كل عبءٍ مثبِّطٍ أو وِقْرٍ غاشم، استشعاراً بأننا لسنا سوى عابِرَيْن مقذوفَيْن في المكان والزمان، وأنّنا أقرب إلى طيفَيْن منّا إلى شخصَيْن حقيقيَيْن يلتقيان في مدينة شبحية غامضة، وفي مكان مضمَرٍ وزمان عاصف، متشبثين بالكائن الهشّ، الذي عليه أن يصمد بالحب والآمال المسوّفة، في وجه القباحة والدناءة والعاهات المحدقة من كل صوب.
كانت تجمعنا مسقط، وتظللنا بقنوطها ويأسها، بصخبها ومَرَحها، أما المرة الوحيدة التي التقيتُ فيها مبارك العامري خارج مسقط،، فقد كانت في سيوح الباطنة، إذ حصل أن رتبتْ الأقدار أن يأتي مبارك العامري إلى بلدتي، بعد إعصار جونو2007، في الوقت الذي كنتُ فيه مُلاماً ومنكشفاً على عقوقي الاجتماعي، إذ لم أذهب لأداء واجب العزاء في وفاة جدي لأمّي، في إحدى قرى إزكي. فما كان من مبارك العامري إلا أن جعل يُطمئن الوالد بأنه سيذهب بي إلى هناك، مرافقاً إيّاي. وقد حصل ذلك فعلاً، مع إغواءات أخرى دبّرها مبارك العامري، في تلك الرحلة، ليدفع عني حرجاً ما بعده حرج، مع أمي وأبي، ومع أخوالي وخالاتي الذين التقيتهم بعد انقطاع طويل جداً في داخلية عُمان.
يكتب بيري ساندرز: “منازل الكلمات –كالمعاجم- تحتوي على شهادات مذهلة”، لهذا يأتي مبارك العامري، وهو يردد في حالة من حالات الذهول متسائلاً، بقصدٍ ساخر حيناً أو بدون قصد أحياناً أخرى، (إلا تلك البراءة المفرطة أو التحامق اللطيف، بالمعنى الحرفي للسؤال أو بالمعنى الضائع والممتقع في الكلمات): “مِنْ هين جاي با؟”، وهو السؤال الذي يفقه دلالته المتحدثون بالدارجة المحلية، والذي يعني: “مِنْ أين أنت قادمٌ يا أبي (أو يا بُنيّ)؟”.
لقد فوجئ مبارك العامري بي ذات ظهيرة، حال أن دلف باب الأستوديو الصغير الذي أقطنه، حين رآني أتقدم نحوه، حاملاً المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية لمؤلفه ثروت عكاشة، وأنا أقرأ له، وقد بدت عليه أمارات الدهشة، معنى كلمة الـ “با” في الحضارة الفرعونية التي وردت في القاموس. حيث “البا: هي طائرٌ برأس إنسان وذراعين، أو هي روح المتوفّى، التي تنزل في البئر إلى غرفة الدفن لكي تزور مومياء المتوفى”.. فما كان من مبارك العامري إلا أن قال معلقاً بمزاحه المعتاد على ذلك: “شِفْتْ كيف؟. أنا ما أقول شيء من عندي. كل كلمة أقولها تحمل معنى، من أيام الفراعنة وهابط” (أي منذ أيامهم وحتى الآن). ثم أردف متسائلا: “وأنت، بهذا الكتاب الضخم، مِنْ هين جاي با؟”!. انفجرنا ضاحكين، على الـ “با” العمانية والمصرية القديمة، مسترسلين بعدها في إغواءات الظهيرة وفي مباهج أعيادها الصغيرة.
في ذات السياق، ولأنّ خالتي الكبرى كانت تقطن في “وادي نام” في المنطقة الشرقية من عُمان، كنتُ أتحدث مع مبارك العامري عن ذلك البطل الأسطوري في اليونان القديمة، عن هرقل، الذي خنق الأسد النيميّ، الأسد الذي كان يربض في “وادي نيميا”، في تلاعبي بالجناس الناقص بين وادي نام العُماني، ووادي نيم الإغريقي. ولا بدّ أننا في تلك الأحاديث اللهويّة، كنا نتذكر بين الحين والآخر جملة مرّت على لسان أو في كتابة صديقنا علي المعمري من قبيل: “الرعب الرعيب والفزع الفزيع”، أو “عصفورة الكيني ميني”، أو “عِشْ رَجَباً، ترى عَجَباً”، أو حدث وانسابت بيننا مِزحة لسالم علي (أبو طفول)، أو استعدنا وجهاً من وجوه حسن بوس، أو كلمني عن صديقه خالد منصور الذي “أكلته الفلسفة”، أو ذهبنا للتهكّم، في ثرثرة حرة وصافية، عن الثقافة والمثقفين، عن الأولين والآخِرين، عن الطارئين والخالدين. غير أن ذلك كله، كان يجوز إلى دواخلنا، في تلك اللقاءات الممراحة، تحت مظلة الضحك الغامر، الضحك الذي تدمع عيونه ويتألّم بطنه، حين تسحبنا الحكايات في جوفها.
إخال أنه لو حدث والتقينا، أنا ومبارك العامري، مجدداً، في إحدى الحالات أو الحانات، لأدرنا ذات الأسطوانة: عن أولئك الذين كثيراً ما اقتربوا منّا، وترطب أو جفّ لسانانا بذكر أسمائهم ومآثرهم، صفاقاتهم وخيباتهم، وعن الكتابة والثقافة، عن الشِعر والنثر، عن الأصدقاء “الجميلين”(خصوصاً أن كلمة “جَمال” ومشتقاتها لم تكن تفارق مبارك العامري في كلامه الشفاهيّ أو كتابته، إلى درجة تبعث على الضجر أحيانا). وقد نزيد على ذلك بالتساؤل عن كيف ذهب كلٌّ منّا إلى طريقه الشخصيّ، وكيف أخذَنا البحرُ- كما يُقال- بسفينته، بعيداً عن الآخر، خصوصاً في الأعوام الأخيرة، عدا تلك اللقاءات العابرة الطفيفة التي حصلت بمحض الصدفة.
هنالك من زيّف وكذب ونافق، بعد رحيل مبارك العامري، ادعاءً أجوف أو تنميقاً غير مبرّر، لحياة لم يدّع فيها مبارك العامري الكمال بل النقصان، ولم يتقوّل عن مجد النهايات بل كان مأخوذاً بطرافة ولطافة البدايات. هنالك أيضاً من امتلأ حلقه بالمقاربات حول العمل الذي التحق به مبارك العامري كمحرر في “مجلة الشرطة” مع امتلاكه لحساسيته الأدبية والشعرية، والتي كان من الأجدر أن تُثمر أو أن تمنح عطاءها في منبر أدبي وثقافي آخر، وعن تلك المجلة غير المأسوف على توقفها عن الصدور. على هؤلاء (الذين طاردتهم الفكرة كثيراً وأدركوا الاستنارة بغتة) أن يفهموا بأنّه لا يوجد طريق واحد، وأنّه لا أحد يشبه غيره، وأنّ لكل امرئ من أمره ما اختاره هو وليس ما تخيّره أحدٌ آخر، وأنّ الأهمّ في أيّ رحلتك هو أن تكون أنتَ، لا أن ترتدي رداء غيرك، وأن تسكر بخمرك الشخصيّ، لا بتعتعة أو قعقعة الآخرين.
لم يمت مبارك العامري، بل إنّ نسغه المبارك (منذ فسائله الأولى في القلعة التي لا تحتمل الاختلاف ولا تصبر على السؤال) وبذاره المرهفة (التي نراها رأي القلب في أبنائه وأحفاده) تقرأ علينا حبّه للحياة وآماله التي لا يمكن أن تُقتلع، وقهقهته الملقاة بعناد وصبر على صخرة أيّ ضغينة وعلى عجرفة أيّ موت. لذا أذكّرك بالظهيرة يا أخي لكي نعدّ نجومَها معاً، أو بالليل لكي نمضي بأسلحته الشهويّة مثل أي دون كيخوته، ساخرٍ وناقمٍ، في هذا العالم.
سلاماً لك، أيها الراحل، أيها الماكث في بيته، قبالة البحر، منتصراً بأراجيح الضحك، بقوة الأمل، بأباريق الكلمات.