بيير دوهام
ترجمة وتقديم: محمّد عادل مطيمط-باحث ومترجم تونسي
يمكننا أن ننظر إلى التحوّل من الفيزياء المشائية القديمة والوسيطة إلى الفيزياء الحديثة من زاوية ذلك الانتقال التاريخي من تفسيرٍ للحركةِ كان يرتكز على مبدأ «المحرّك الخارجي»، تفسيرٌ قادته الكوسمولوجيا الأرسطية عبر مسلّمتها الشهيرة القائلة: «كلُّ مَا يُحرَّك يُحَرَّك عَنْ غَيْرِهِ» [Quidquid movetur ab alio movetur]، إلى تفسير يعتبر أن الحركة الأساسيّة للجسم (المتحرّك) إنما تنبع من علّة داخليّة كامنة فيه، حيث لا يكون دور العوامل الخارجية إلا ثانويا ومضافا. ولكن قبل أن يصل العلم إلى مرحلة اكتمال هذا التحوّل في ثورة القرن السابع عشر الغاليلية والنيوطنية، كان لا بدّ من المرور بقرون من النقاشات الفيزيائية والكوسمولوجية، بل والميتافيزيقية واللّاهوتية، كي يصبح تمثّلُ الحركةِ انطلاقا من مبدأ المحرّك الداخلي ممكنا. وفي هذا الفصل من نظام العالم (المجلّد الثامن)، يتابع بيير دوهيم مسار النقاش الذي أثاره اعتراض ابن باجّة ضدّ تفسير أرسطو لاتّصال (تدرّج) الحركة، اعتراض تلقفه القدّيس توما الإكويني ليضع التصوّر الجنيني لمفهوم الكتلة الذي سترتكز عليه الفيزياء الحديثة.
عندما اطّلعت النزعة المدرسيّة على الاستدلالات التي أقامها أرسطو ضد إمكانية الفراغ2، لم تتردد في إقرار نتائجها، بل إنها ضاعفت من شدّة الإدانة التي كان أرسطو قد أعلنها ضدّها. فهل يمكننا مثلا أن نعثر على أقوال أكثر وضوحا من تلك3 التي يُنهي بها روبير جروستيست Robert Grosse-Teste (1175-1253) في الجامع حول كتب الفيزياء الثمانية Somme sur les huit livres de Physique، ذلك الفصل القصير المخصّص للفراغ؟
«يتصرّف المَلَاءُ في الطبيعة بوجه لا يمكنه به إلا أن يكون موجودا، وبالتالي فإنه لا يمكن للفراغ أن يوجد».
«لا يمكننا أن نقيم بشأن الفراغ إلّا علمًا غيرِ مباشرٍ (عرضيًّا Per accidens). فلا يمكننا بأي وجه من الوجوه أن نقيم بشأنه علمًا مباشرا (per se)» .
«ليس للفراغ تعريفا حقيقيّا يكون تعريفا بالنوع، فهو لا يقبل إلا تعريفا اسميّا (Nominal). ومن ثَمّة فإن الأمرَ لا يتعلّق بموجود، اللّهم إلّا على سبيل العبارة (nisi secundum vocem tantum)».
ورغم إجماع مدْرَسِيِّي القرن الثالث عشر على نفي إمكانية الفراغ، إلاّ أن اعتراض ابن باجّة (1082-1138)4 على أحد استدلالات أرسطو لَمْ يمر دون إثارة حيرة بعضهم. وإذا كان الفرانسيسكاني روجر بيكون (Roger Bacon 1220-1292) لم يُشِرْ إلى ما كتبه ابن باجّة رغم عودته مِرارًا في كتاباته إلى مسألة امتناع الفراغ، فإن الدومينيكانيين قد بدوا أكثر اهتماما بتلك العودة إلى حجج يحيى النحوي.
يقدم آلبير الكبير Albert Le Grand هو الآخر عَرْضًا ودحضًا مفصّلين5 لهذا الاعتراض الذي ينسبه إلى ابن سينا وابن باجّة، رغم إقرار ابن رشد بالأسبقية المطلقة لابن باجّة. وما يقوله في هذا الصدد ليس سوى استعادة حرفية للمناقشة التي قام بها «الشارح الأكبر» Le Commentateur . فلا نعثر هنا على أيّة خلاصة جديدة من هذا التكرار غير المفيد (prolixe).
كان للدروس التي قدّمها آلبير الكبير صدى عميق لدى الدومينيكان، حيث نُعاين هذا الصّدى في ما يقوله أولريك دو سترازبورغ Ulric de Strasbourg (1225-1277) عن الحركة في الفراغ6. فبعد أن قام على غرار أرسطو بالبرهنة على أن جسما ثقيلا يسقط في الفراغ دُفْعَةً، يحدثنا بصورة غامضة عن ذلك الاعتراض الذي يَنْسِبه، مثل أستاذه، إلى ابن سينا وابن باجّة. إنّه يدحض هذا الاعتراض لكونه يتناقض مع (القاعدة التي كان أرسطو قد صاغها في الكتابين السابع والثامن من «الفيزياء»: إذا حرّك مُحَرِّكٌ مُتحرِّكا مّا لمسافة مّا خلال مدّة زمنيّة معيّنة، فإنه سيُحَرِّكُ نصفَ هذا المتحرّكِ نفسه للمسافة نفسها خلال نصف ذلك الزمن. وبالتالي فإن المُحرِّك يستطيع أن يؤثّر على نصف المتحرّك أكثر مما يستطيع ذلك على المتحرّك بأكمله. ومن ثمّة فإنّه يستطيع تحريك نصف المتحرّك لكلّ تلك المسافة في زمن أقصر من نصف المدّة الزمنية الأولى.) غير أنّ أولريك لا يقدّم أي دليل لإسناد هذا القول.
ولكن كان بإمكان أولريك أن يجد فائدة عظيمة في دراسة ما كتبه القديس توما الإكويني (Saint Thomas d’Aquin 1226-1274) عن حركة الجسم الثقيل في الفراغ، بدل تمسّكه بقراءة آلبير الكبير.
يقدم توما الإكويني7 حول استدلالات ابن رشد تحليلات موجزة ولكنها صحيحة ودقيقة. فهو بشكل خاص، يستعيد بالاستناد إلى «الشارح الأكبر» عرض المبادئ الأساسية للديناميكا المشّائية التي تمثل القضية التالية أساسها:
«عندما نحذف ما يستمدّه المتحرّك من مُحَرِّكِهِ في الجسم الثقيل أو الخفيف، أي نحذف منه الصورةَ التي هي مبدأ الحركة، والتي تلقّاها من العلّة التي أحدثته، فلن يبقى فيه سوى المادّة. ولكن لا توجد أية مقاومة ذات قيمة من قبل المادّة لمواجهة المتحرّك. ومن ثمّة فإنّ المقاومة الوحيدة المتبقّية في هذه الأجسام، هي تلك التي تتأتّى من الوسط.»
غير أنّ توما الإكويني يرفض استدلالات ابن رشد هذه، ويوجه إليها حكما قاسيا: « Sed Hæc omnia videntur esse frivola » («ولكنّ كلّ ذلك يبدو تافها.»):
«إذا قمنا على صعيد الفكر بإلغاء الصورة التي منحها مَنْ أحدث المتحرّك في جسم ثقيل أو خفيف، فإنّ ما يبقى هو جسم متمتع بمقدارٍ مّا (doué d’une certaine grandeur). ولكون هذا الجسم المتمتّع بمقدار يوجد في وضعية متعارضة [مع الوضعية التي ستقوده إليها الحركة]، فإنه يقوم بمقاومة المُحرِّك. وفي الحقيقة فإنّه من المستحيل بالنسبة إلى الأجسام السماوية أن توفّر مقاومة أخرى لمحرّكاتها عدا هذه المقاومة» In gravibus et levibus, remota forma quam dat generans, remanet per intellectum corpus quantum ; et ex hoc ipso quod quantum est in oppositio situ existens, habet resistentiam ad moterem ; no enim potest intelligi alia resistentia in corporibus cælestibus ad suos motores.»
وبذلك فإنّ توما الإكويني يقرّ أنه يتسنّى على الأقل على صعيد الفكر تقسيم هذا الجسم الثقيل إلى محرّك وشَيْءٍ يتمُّ تَحْريكُه، وهو ما حكمت المشائية باستحالته. فالفكر يُميّز بين الصّورة التي هي القوّة المحرّكة، أي الثقل، من جهة، ومن جهة أخرى، ليس المادّة الأولى الخالصة، وإنّما المادّة الأولى وقد اكتسبت أبعادا محددة، أي الجسم المُكَمّمُ الذي يشغل وضعيّة مّا والذي يقاوم القوّة عندما تريد أن تقوده إلى وضعية أخرى. ورغم أن هذا التقسيم للوزن (Poids) إلى ثِقْلٍ (Gravité) وإلى جسم يتمتّع بمقدار (grandeur) مُحدَّدٍ لا يمكن أن يتمّ إلا بواسطة الفكر، فإنه كافٍ لدمج حركة الأجسام الثقيلة أو الخفيفة مع حركة الأجسام السماوية8. إنّه كافٍ لإبطال قيمة أحد الاعتراضات التي وجهها أرسطو إلى إمكانية الفراغ.
إنّ جملة توما الإكويني التي استشهدنا بها قصيرة جدا. و لكن قِصَرَهَا لا يجب أن يقودنا إلى إنكار أهميتها. فما نشهده هنا هو العقل البشري وهو يميّز للمرّة الأولى في الجسم الثقيل بين عنصرين: الصورة المُحرِّكةُ، أي بعبارة حديثة: الوزن (Le poids)، والشيء الذي يتمّ تحريكه، الذي هو الـ Corpus Quantum، أو مثلما نقول اليوم، الكتلة (masse). نحن نرى للمرة الأولى [في تاريخ العلم الفيزيائي*] كيف تدخل فكرة الكتلة إلى حقل العلم الميكانيكي، حيث يتمّ إدراجها باعتبارها مساوية لما يبقى في الجسم عندما نحذف عنه كلّ صورة كي لا يبقى فيه سوى المادّة الأولى المكمّمة بواسطة أبعادٍ مُحدّدةٍ. لقد تمكّن تحليل القدّيس توما الإكويني، وهو يُكمِّلُ تحليلَ ابن باجّة، من التمييز في الجسم الثقيل الذي يسقط بين هذه المفاهيم الثلاثة : الوزن، والكتلة ومقاومة الوسط9، وهي المفاهيم التي ستشكلّ موضوع استدلالات الفيزياء الحديثة.
سنتبيّن من خلال فصل لاحق كيف سيقوم (جان بوريدان Jean Buridan (1301-1358 في القرن الرّابع عشر بتحديد الدور الذي تلعبه الكتلة في حركة القذائف. فهو الآخر سيُمَاهِي بين هذه الكتلة والمادّة الأولى المُكَمَّمَةِ بواسطةِ أبعادٍ محددةٍ.
حسب قول توما الإكويني، تقاوم هذه الكتلة، أي هذا الجسم المُكَمَّم، المُحَرِّك الذي يريد نقلها من موضع إلى آخر. وقد أوحت له هذه الفكرة بفكرة أخرى جدّ فريدة هي التالية:
«يقرّ الشارح الأكبر أن حركة الأجسام الثقيلة أو الخفيفة تقتضي هذه الإعاقة (empêchement) المتأتّية من الوسط، حتّى تحصل، على الأقل من جانب الوسط، مقاومةٌ من المتحرِّك للمحرِّك. ولكن يجدر القول إنّ كلّ حركة طبيعية تنطلق من موضع غير طبيعي لتنزع نحو الموضع الطبيعي. وبالتالي فإنّه ليس من العبث أن يقترن بالمتحرّك، وهو في طريقه إلى موضعه الطبيعي، شيء مّا لا طبيعيّ. وما يكون في المتحرّك على هذا النحو ضدّ الطبيعة، يغادره تدريجيا كي ينزع إلى ما يكون منسجما معها. وذلك هو سبب إسراع10 الحركة الطبيعية في نهايتها.»
سيقوم القرن الرابع عشر بمحاكمة هذا التفسير الرديء لإسراع سقوط الأجسام الثقيلة.
لقد كان ما جاء به توما الإكويني لإسناد رأي ابن باجّة جديدا تماما، وبعيدا جدّا عن المذهب المشائيّ، فضلا عن كونه قدْ قُدِّمَ في عبارات جدّ دقيقة. ولكن أن تكون هذه الفكرة قد بقيت غير مفهومة حتى لدى أولئك الذين يُعتبَرون عادة أوفياءَ للنزعة التوميّة، وأن يكون هؤلاء قد رفضوها، فذلك أمر لا يثير دهشتنا.
فلا يجب بصفة خاصة أن نندهش من الخطاب الذي يستخدمه جيليس رومانو (Gilles de Rome 1247-1316) عندما يقول11:
«إنّ ما يتطلّب زمنًا لإنجاز الحركة في حركة الجسم الثقيل أو الخفيف هو مقاومة الوسط فقط، وليس البتة مقاومة المتحرّك. فعلّة الحركة هنا هي في الحقيقة الصورة. وإذا قمنا بتجريد هذا الجسم الثقيل أو الخفيف من صورته، فإنه لن يبقى سوى المادّة. ولكن المادّة لا تتمتع بشيء تستطيع به مقاومة حركة هذا الجسم. وبالتالي فإن الزمن لا يمكنه أن يكون نتيجة لمقاومة المتحرّك، و لكن نتيجة المَنْعِ الذي يُجريه الوسطُ فقط.
«قد يُقال: إنّه من المؤكد أنّ حذف الصورة سيجرّد المادّة من كلّ كيفية، إذ إنّ كلّ كيفية تكون من جهة الصورة، في حين أنّ المادّة تظلّ متمتعة بكمّية، لأن الكميّة تكون من جهة المادّة…. لكنّ ذلك لن يكفي لِكَيْ يَلزمَ عنه زمنٌ من أجل قيام الحركة. فلا وجود مُطلقا لزمنٍ تقتضيه الحركة بفضل الكميّة وحدها مثلما برهنّا على ذلك، اللهمّ إلّا إذا كانت هذه الكميّةُ مصحوبةً باستعداد مّا مضادّ للحركة، أو بمقاومة مّا أو شكل مّا من أشكال المنع.»
من أجل دحض قضية توما الإكويني القائلة: إن الجسم يعارض كلّ قوّة محرّكة بواسطة مقاومة مّا متأتية من كمية المادّة التي يحتويها، يقوم جيليس رومانو باستحضار استدلال سبق له أن استخدمه12. وكان موضوع هذا الاستدلال هو دحض الحكم التالي: إن ما يمنع حركة الجسم الثقيل في الفراغ من أن تحدث دُفْعَةً هو ببساطة مقدار المسافة التي يُفترض في هذه الحركة أن تقطعها. فأصحاب هذا الرأي لا يَنسِبون أيّ دور لكميّة المادّة الأولى المحتواة في المتحرّك، وليس لفكرهم أيّ تقاطع مع الفكر التومي. وبذلك فإنّ الاعتراض الذي وجهه إليهم جيليس، مهما كانت قوّة البرهنة فيه، ليس له أيّ تأثير في مواجهة فرضيّة توما الإكويني. وهو ما جعل برهنة صاحبنا هزيلة جدّا.
نجد فيه أيضا بعض الإشارات إلى فرضيّة القديس توما الإكويني الذي يرى في المادّة المتمتّعة بمقدارٍ العلّةَ التي بفضلها تستغرق كلّ حركة زمنا معيّنا. لا نعثر البتة على هذه الإشارة في ما يقوله جيليس عن الحركة في الفراغ في شرحه للجزء الأول من كتاب «الـحِكَمِ Le Sentences». لم يعد الأمر هنا متعلّقا البتّة بمقدار المتحرّك، مثلما هو الحال في أولى البرهنتين المُقدَّمتَيْنِ من خلال شرح كتاب «الفيزياء»،. فما يتمّ استدعاؤه هو فقط مقدار الفضاء. إذ إنّ هذا المقدار هو علّة المدّة الزمنية الأساسية ( Le durée essentielle) التي تشترطها كلّ حركة. أمّا مقاومة الوسط فإنها تضيف إلى تلك المدّة الأساسية مدّةً عرضيةً (durée accidentelle).
هذا المذهب الذي يعرضه صاحبنا13 بوضوح شديد قبل أن يقوم بمعارضته، يقدّمه على أنه نفس المذهب الذي كان يُدرِّسُهُ ابن باجّة.
«فقد قام المدعوّ «أفمباس»[ابن باجّة]، حسب ما رواه الشارح الأكبر، بتحديد علّتين تقتضي بموجبهما كلّ حركة مدّة زمنية معيّنة: تتأتى إحدى هاتين العلّتين من الحركة نفسها، أي من المسافة بين الحدّين (Termes)، وتتأتّى الأخرى من الوسط… كان يتخيّل أنه إذا أخذنا فضاءً مّا ممتلئًا ماءً، وكان بنفس مقدار فضاء ممتلئ هواءً، فإن متحرّكا مّا سيستغرق نفس الوقت من أجل اجتياز هذا أو ذاك بسبب المسافة بين الحدّين. ولكن مقدار هذا الزمن سيختلف بعد ذلك نتيجة لمقاومة ذلك الوسط.»
يكتفي جيليس لمواجهة هذا المذهب باستحضار دليل ابن رشد، أي ببيان أن ابن باجّة لا يتّفق مع ديناميكا أرسطو. ولكن إقرار صحّة هذه الديناميكا هو في حد ذاته اعتراف بالمشكل.
لقد كان لهذه الحجّة غير المنطقية عيب خطير. فقد اعتبر كثيرٌ من السكولاستيكيين القضيةَ القائلة: «إن ما يمنع الحركة في الفراغ من أن تحصل دُفْعَةً هو فقط مقدار الفضاء الذي يجب اجتيازه»، تعبيرا عن تصوّر القدّيس توما الإكويني، حتى إنّ إسهابهم في مناقشتها جعلهم يتسبّبون في نسيان الفرضية التومية الحقيقية التي كانت في المقابل عميقةً وثريّةً .
غير أن هذا المذهب الذي حاربه جيليس رومانو والذي أوحت مناقشته لاحقًا بأنه مذهب القديس توما الإكويني، إنّما يعبّر في الحقيقة عن إحدى أفكار روجر بيكون.
فبالنسبة إلى روجر بيكون، يبدو وجود فضاء فارغ من كلّ جسم، ولكنّه متمتّع بأبعاد ويتسنّى فيه للجسم أن يوجد وأن يتحرّك، أمرًا مستحيلا تمامًا. لم يتوقف بيكون عن دحض هذه الفرضية في مجموعتيه: «الـمسائل حول فيزياء أرسطو Questions sur la Physique d’Aristote»، وفي «الـعمل الثالث Opus Tertium»، ثمّ في «الـطبيعة المشتركة Communia naturalium» . غير أنه بعد البرهنة على امتناع الفراغ، وعلى كونه إن وجد ستمتنع فيه الحركة، يَخْلُصُ على غرار أرسطو إلى طرح السؤال التالي: إذا أمكن للفراغ أن يوجد، وأمكن لجسمٍ أن يخترقه، فهل سيجتازه دُفْعَةً، أم أنه سيستغرق زمنا معيّنا لاجتيازه؟
يقوم بيكون أوّلا بمعالجة هذه المسألة في المجموعة الثانية من «المسائل حول فيزياء أرسطو» التي يحتفظ لنا بها مخطوطٌ موجود في مكتبة بلدية آميان Amiens .
«من المُسلّمِ به الآن، حسب قوله14، أنه لا وجود لأية حركة تكون ممكنة في الفراغ، سواء الحركة الطبيعية أو الحركة الدائرية أو الحركة العنيفة، ولا كذلك، بصفة خاصة، أي شكل من أشكال النقلة. ولكنّنا الآن نطرح السؤال التالي في ما يتعلق بالنقلة بشكل عام: إذا كانت النقلة ممكنة في الفراغ، فهل تحدث دُفْعَةً أم خلال زمن معين؟
«يبدو أنها يجب أن تتحقق في زمن معيّن. وبالفعل فإنّ أرسطو يقول في الكتاب الثامن من الفيزياء أن القبل L’avant والبعد L’après في المكان هما علل للـ قبل و للـ بعد في النقلة التي تجتاز هذا المكان. ولكن القبل والبعد في النقلة يولّدان القبل والبعد في الزمان. وبذلك سيكون في هذه النقلة «قبل» و«بعد» في الزمان، وهو ما يجعل الحركة متّصلة .
«وفضلا عن ذلك، فإن كلّ جسم يكون قابلا للقسمة وتكون له مسافة بين المساحات التي تحدّه. هناك جزء سابق وجزء لاحق. سيخترق هذا الجسم الفراغ إذن بواسطة أحد أجزائه، قبل أن يخترقه بواسطة الجزء الآخر. و بذلك يكون ثمّة «قبل وبعد» في أجزاء المقدار، وبالتالي «قبل و بعد» في الحركة، ثمّ «قبل وبعد» في الزمن.
«وفي المقابل، ليس هناك بين الفراغ والمَلاءِ أية نسبة. غير أنّ مرور جسم عبر فضاء ممتلئ يتم في زمن معيّن: ممّا يعني أنّ مرور الجسم عبر الفراغ سيحصل دُفْعَةً. ونرى في النصّ [نص أرسطو، الفيزياء*] أنّ القول إن الحركة تحصل دُفْعَةً، كان تعبيرا عمّا ينوي أرسطو إقراره.
«ولكن إذا كانت النقلة فيه ممكنة، سيكون من الضروري الإقرار أنها متّصلة وأنها تحصل خلال مدة زمنية.
«نجيب إذًا بالقول إن سلطة أرسطو يجب أن تفهم بالوجه التالي: ليس الفراغ عَرَضًا ولا جوهرًا لا- جسميًّا: فإذا كان الفراغ فضاءً قائما بذاته [مفارقٌ =séparé*]، سيكون جوهرًا جسميّا، حتى إنّ الفراغَ والمَلَاءَ سيكونان بذلك هُمَا الشيء نفسه. وهو مَا يدلّ على أنّ الفراغ هو لا شيء على الإطلاق. ولكن إذا قلنا على سبيل مجرّد النقاش (gratia disputationis) إنّ الفراغ فضاء قائم بذاته، سيتحتّم علينا نفيُ القضيّة التّالية: لا وجود لنسبة (rapport) بين الفراغ والمَلاءِ. ولكن بما أنّ الفراغ ليس شيئا حقيقيّا على الإطلاق، فإن استدلال أرسطو صائِبٌ.
«ونستطيع القول أيضا: إذا تعلّق الأمر بالحركة الطبيعية، فإنه لا وجود لنسبة بين الفراغ والمَلاء. ولكن الأمر هو على خلاف ذلك تمامًا عندما يتعلّق بالحركة بإطلاقٍ. فلا وجود لنسبة في ما يتعلّق بالتمييزات الطبيعية، غير أنه بمجرّد الإقرار أن الفراغ يتمتّع بأبعاد، فإن ذلك يعني أنه توجد نسبة بالنظر إلى المسافة (distance) والبُعْدِ (dimension).»
عندما كان بيكون يكتب المجموعة الثانية من «مسائله حول الفيزياء»، كان هذا الرأي جديدا بالنسبة إليه. فقد كان في المجموعة الأولى يدافع عن الرأي المناقض. وها هو ذا الاستدلال الذي كان قد وضعه15 من أجل إثبات امتناع كلّ حركة في الفراغ:
«توجدُ كلُّ حركة في الصيرورة (Devenir) والاتّصال16(Succession). ولكن الاتّصال يتضمّن «قبلًا Avant وبعدًا Après» يتأتيّان من القبل والبعد اللّذين يكون مقدارهما قد تأثّر. وينتج عن ذلك، في الفصل المتعلّق بالزمان، أن القبل والبعد في الحركة هما نتيجة للـ قبل والبعد الموجودين في المقدار (grandeur) الذي تجري فيه الحركة. وبالتالي فإنّ مصدر الاتّصال -أي القبل والبعد في الحركة- هو مقدار الفضاء. ولكن في الفراغ لا وجود لمقدار ولا لفضاء جسميّ. فلا يمكن إذن للحركة أن توجد فيه بأي وجه من الوجوه. وهو ما أوافق عليه.»
ويعني ذلك أنّ تفكير بيكون قد تغيّر بين الفترة التي ألّف فيها المجموعة الأولى من «مسائله حول الفيزياء»، والفترة التي ألّف فيها المجموعة الثانية. غير أنه بقي بعد ذلك ثابتا على موقفه.
نجد البرهنة التي أخذناها من المجموعة الثانية من «المسائل حول الفيزياء»، مرة أخرى وبشكل إجمالي في «الـعمل الثالث Opus tertium»17، حيث يخصّص لها بيكون الخلاصة التالية18:
«تُثبت الأدلة المطروحة أنّ الحركة في فضاء فارغ لا تحدث دُفْعَةً وهو ما أتّفق معه. غير أنه لا ينتج عن ذلك كون الحركة ستستمرّ لمدة معيّنة، إذ توجد إمكانيّة [لإقرار*] قضيّة ثالثة بين هاتين القضيتين: ألا وهي أن الفراغَ لا يسعُهُ إفساحَ الطريقِ لجسمٍ. أمّا إذا فسح الطريق لجسمٍ، فسينتج عن ذلك إمكانيّة حصول الحركة فيه، بشرط ألّا تكون حركة طبيعيّة.»
توجد اعتبارات مشابهة تماما في «الـطبيعة المشتركة»19حيث يقول بيكون: «يبرز هنا سؤال أكثر أهمية هو التالي: إذا كنا نقرّ أنّ الفراغَ يُفسح الطريق [للمتحرّك*]، فهل يحدث فيه تغيير الموضع دُفْعَةً أم خلال مدّة زمنية؟… ففي نفس الوقت الذي يُفسح فيه الفراغُ المجالَ [للمتحرّك*] سيكون هناك بُعْدٌ (dimension) مكانيّ يُوَلِّدُ قَبْلًا وبَعْدًا، ممّا يجعل الفراغ لا يُفسح الطريق دُفْعَةً (subitement)، أي أنه لن يتم اجتيازه كلّه في آنٍ، ولكن بالتدرّج وخلال مدّة زمنية معيّنة.»
لا نعثر في هذه النظرية التي يحلو لبيكون العودة إليها مرارا وتكرارا، على أيّ أثر لفكر القديس توما الإكويني الثريّ حول ذلك التمثّل الأوّلي لمفهوم الكتلة. فما يعوق الحركة عن الحدوث دُفْعَةً في الفراغ حسب بيكون، هو مجرّد القابلية الهندسية للقسمة التي يتأثر بها المُحَرِّكُ والمُتحرِّك على حدّ السواء. وبذلك فإنّ جيليس رومانو قد وقع من خلال دحضه في الخلط بين هذه النظرية ونظريّة العلاّمة المشتـرك20 Doctor Communis. ومن المؤكد أنّ ذلك لم يكن هو الوسيلة المثلى لنشر نظرية توما الإكويني وتوضيحها.
تتمّ أحيانا استعارة جزئية -ولكنها جزئيّة فقط- لأدلّة توما الإكويني بهدف تبرير نظرية روجر بيكون. ويتعذّر علينا أن نذكر عن هذا التـأليف مثالا معاصرًا لهذين الأستاذين اللّذين وفّرا عناصره. ولكن الدروس التي كان الدومينيكاني غراتسياديي داسكولي Graziadei D’Ascoli يلقيها في جامعة بادو l›Université de Padoue في أواسط القرن الرّابع عشرستقدّم لنا هذا الجمع بين المذهبين.
ويبيّن حرص غراتسياديي في «دروس الفيزياء» Leçons de Physique على أن يتبع النظام الذي فرضه توما الإكويني في دروسه بدقة، مدى الإعجاب الذي خصّ به أستاذ جامعة بادو أخاه الشهير في القداسة الدومينيكانية. ثمّ إنّ هذا الفصل والفصول الموالية ستقول لنا عن مدى تأثير تعاليم روجر بيكون، خاصّة منها المتعلّقة بالفراغ والثِّقْلِ، على عقل فيلسوف مدينة آسكولي Ascoli .
لقد انشغل غراتسياديي بموضوع إمكان الحركة في الفراغ في مناسبتين. وكان عنوان21 إحدى المسائل التي ناقشها في جامعة بادو هو التّالي: «إذا سلّمنا بوجود الفراغ، فهل يمكن أن تحدث فيه الحركة؟ وإذا افترضنا أن جسما ثقيلا قد سقط في الفراغ، فهل سيسقط فيه دُفْعَةً؟ ثمّ عند كتابته لاحقا لـ «دروس في الفيزياء Leçons de Physique»، نجده يُخصّص الأسئلة العشر من الدرس الحادي عشر لمعالجة نفس القضايا22.
يستخدم الكاتب نفس العبارات تقريبا في هذين السياقين لإقامة الاستدلال الذي يهمّنا23. ولنستحضر هنا أحدثَ هذين العرضين:
«للبتّ في هذا السؤال، يجب أن ننتبه حسب ما قلناه في عملنا «المسائل المطروحة Quæstiones disputatæ»، إلى ما يلي:
«نحن نلاحظ في التحوّل (transmutation) الذي ينقل المادة إلى صورة معيّنة وجود مقاومةً مّا للفاعل (Agent) سببها وجود استعدادٍ مّا في المادّة نفسها يكون مُعارِضا للهيئة التي يُفترض أن قوّة الفاعل ستُقْحِمُهَا في تلك المادّة. فهذا الاستعدادُ يتنافر مع تلك الهيئة الجديدة. ويجب على غرار ذلك، أن نعثر في تغيير موضع المتحرّك على مقاومة مّا للقوّة المُحرِّكة. فهي مُقاومة متأتّية من كون المتحرّك يحتوي على هيئة مّا تكون متعارضة ومتنافرة مع الهيئة التي يُفترض فيها أن تؤدّي إلى تغيير موضعه. إنّ الهيئة التي يكتسبها المتحرّك مباشرة بواسطة الحركة الموضعية هي ما يُسمّى «الأين ubi». ولذلك تُسمّى الحركة الموضعية بالحركة نحو «الأين». وبذلك فإنّ الهيئة التي يرفضها المتحرّك هي «أينٌ» مُعارِضٌ لذلك الذي يُفترَض فيه أن يتمّ إقحامه، والذي يتنافر معه. وعلّة هذا التعارض هي هذه: يُقال عن شيئين أنهما يتعارضان الواحد مع الآخر ويتنافران في ما بينهما، عندما لا يستطيعان أن يوجدا في الموضوع نفسه بالتزامن (Simultanément)، ولكن فقط بالتداول (à tour de rôle). ولكنّ «الأينات Les Ubi» المتأتية من الأجزاء المختلفة للمكان تستطيع فعلا أن توجد بالتداول في المتحرّك الواحد، في حين أنها لا تستطيع أن توجد فيه بالتزامن… يجب إذن أن تكون هذه الأينات المتأتّية من مختلف أجزاء الفضاء متعارضة في ما بينها وينفر بعضها الآخر. وبالانطلاق من ذلك فإنه يجب أن توجد في تغيير موضع المتحرّك معارضة للقوّة المحرّكة، لأنه يتم تصوّر المتحرّك باعتباره موجودا في جزء من المكان مختلف عن ذلك الذي يُفترض في القوّة المحرّكة أن تقوده إليه.
«ولكن ما يتطلّب مدّة زمنية معينة في تغيير صورة المادّة،… هو المقاومة المتأتية من الاستعداد المضادّ (disposition contraire) الذي يوجد في صلب المادّة. ويكون الزّمن اللّازم أكبر بقدر ما يكون هذا الاستعداد بعيدا عن الهيئة التي يُفْتَرَضُ إقحامُها ومتنافرا معها. ويجب أن يُقال بالمثل عن تغيير موضع المتحرّك، حيث يلزم وقتٌ مُعيّن نتيجة للمقاومة، وحيث تتأتّى هذه المقاومة من «الأين ubi» الذي يوجد في المتحرّك والذي يتنافر مع الأين المُزْمَعِ إقحامه بواسطة تغيير الموضع. وبغض النظر عن كلّ العناصر الأخرى، يكون هذا الزمن أطول بقدر ما يكون التباعد بين المواضع كبيرا.»
إنّ بداية هذا الاستدلال مستوحاة فعلا من كلام القديس توما الإكويني. فقد برّر الرّجل وجود مقاومة داخلية في المتحرّك بما يلي: «وجودُ وضعيّة مُعارضة» لتلك التي يُفترض أن يتّخذها المتحرّك. غير أن النتيجة تقودنا إلى نظرية بيكون: فإذا كانت حركة المتحرّك تقتضي مدّة زمنيّة معيّنة حتى في الفراغ، فإن ذلك يكون بسبب المسافة التي يجب قطعها، ولكون المتحرّك لا يستطيع أن يكون في مواضع مختلفة في اللّحظة نفسها.
وبما أنّ هذا الاستنتاج قد قادنا من نظرية توما الإكويني إلى نظرية بيكون، فإنه قد أدّى إلى حجب أثمن ما تتضمنه النظرية الأولى. لقد حجب ذلك التصوّر الأوّلي لمفهوم الكتلة التي تمّ تعريفها على أنها المادّة الأولى المُكمّمة، أي على أنها الـ corpus quantum. بل إنّ غراتسياديي قد رفض بوضوح أن تُنسب المقاومة التي في غيابها ستقود القوّة المحرّكة المتحرّك إلى منتهى حركته دُفْعَةً، إلى هذا الـ corpus quantum. ولنتابع مدى صرامة معارضته24 لمذهب توما الإكويني في ما يلي:
«لا يتسنّى للمادة الخالصة أن تلعب دور المُحَرِّكِ. هذا واضح بذاته. فالأمر نفسه يصدق على المادّة مأخوذةً فقط من زاويةِ الجِسْميّةِ ومتميزة بمقدار وأبعادٍ. ولننتبه إلى ما يلي كي نفهم ذلك جيّدا: يُقَالُ إنّ الكائنات الرياضية مأخوذةً بحسب طبيعتها الخاصة، تكون ساكنةً ومجرّدة من الحركة. لماذا؟ لأنها إذا أُخِذت من زاوية طبيعتها الخاصّة، ستكون محرومة من كيفيّاتها الطبيعيّة، ولأن هذه الكيفيّات تُمثّل، كلٌّ بطريقتها الخاصّة، مبادئَ الحركاتِ المختلفةِ. ونقول في المقابل إن الأجسام الطبيعيّة مُتحرّكة وإنّها ترتبط بالحركة لكونها ترتبط بالكيفيّات الطبيعيّة. ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى المادّة مأخوذةً في ذاتها ولا كذلك بالنسبة إلى المادّة مأخوذةً فقط من زاوية صورة الجسميّة والأبعاد الكميّة. فهي على هذا النحو لا ترتبط بأيّة كيفيّة لأن الجسم الذي يتميّز بمقدار لا يُمثّل جسمًا طبيعيًا (corps naturel) ، وإنما هو جسم رياضي (corps mathématique). إن الأمر هو نقيض ذلك. فلكي يُحافظ الجسم على بعض الكيفيّات الطبيعية، يجب أن يُؤخذ من زاوية صورةٍ طبيعيّة مّا، صورة الجسم الثقيل أو صورة الجسم الخفيف مثلا. تلك هي الصورة التي تتأتّى منها هذه الكيفيّة الطبيعيّة المتمثّلة في الثّقل أو ذلك الثقل الطبيعي المتمثل في الخفّة. فلا يمكن للجسم أن يقوم بدور المتحرّك أو ما يتمّ تحريكه إلا إذا تم اعتباره من زاوية الثقل أو الخفّة، إذ إنّ ذلك هو ما يمثّل بالنسبة إليه مبدأ قابليّته للحركة وعلّتها.»
يمثل إقرار توما الإكويني أنّ للجسم كتلةً بفضل كميّة مادّته الأولى وحدها، تصوّرًا عبقريًّا. ولكنه تصورٌ سابقٌ لأوانه. إذ إنّ العقول في عصر «العلّامة المشترك» لم تكن مُؤهّلة لإدراك صحّة ذلك التصوّر. فلا أحد فَهِمَهُ. ولكن سيكون على ميكانيكيّي القرون اللّاحقة إعادة اكتشاف هذه الفكرة بعد جهد جهيد.
الهوامش
مقتطع من: بيير دوهام، «نظام العالم، تاريخ النظريّات الكوسمولوجيّة من أفلاطون إلى كوبرنيك»، المجلّد الثامن، (المقالة الثانية من الفصل الثامن: امتناع الفراغ والنزعة المدرسية قبل 1277. دليل ابن باجّة. القديس توما الإكويني ومفهوم الكتلة).
Pierre Duhem, Le Système du Monde, Histoire des doctrines cosmologiques de Platon à Copernic, Hermann, Paris, 1958. يتعلّق الأمر هنا بمقتطع من ترجمتنا للمجلّد الثامن تنشر لاحقا.)-المترجم)
يتعلّق ذلك بنقد أرسطو لأطروحة الفراغ في الكتاب الرّابع من الفيزياء. وأهمّ الاعتراضات الأرسطية التي ستكون موضوعا لتأمّلات الوسيطيين ونقدهم (بعد أن أطلعهم ابن رشد على نقد ابن باجّة المستوحى من نقد يحيى النحوي) هو قول أرسطو إن الحركة في الفراغ ستحصل دُفْعَةً. فالفراغ حسب رأيه لا يسمح بتمثل حركة متصلة/متدرّجةMouvement successif يكون فيها «قبل وبعد» في الزمن في استغراقها لمسافة مقطوعة تطول أو تقصر في المكان.
ونترجم «Succession» بــ:»الاتصال» بناءً على العبارة التي تتضمنها المدوّنة الفلسفية العربية في هذا السياق. فــ»الحركة المتصلة» هي هنا نقيض «الحركة الدُّفعية»، أو الحركة دُفْعَةً (أو الحركة المباغتة). يقول ابن سينا: « إن الموجودات بعضها بالفعل من كلّ وجه وبعضها من جهة بالفعل ومن جهة بالقوّة ويستحيل أن يكون شيء من الأشياء بالقوّة من كلّ جهة لا ذات له بالفعل البتّة… ثم من شأن كلّ ذي قوّة أن يخرج منها إلى الفعل المقابل لها. وما امتنع الخروج إليه بالفعل فلا قوّة عليه. والخروج إلى الفعل عن القوّة قد يكون دفعة وقد يكون لا دفعة… «إنّ الحركة خـــروج عن القــــوّة إلى الفــــعل في زمـــان أو علـــى الاتصــال أو لا دفــعة» (ابن سينا، الشفاء، الفصل الأوّل، 1- فصل، في الحركة. نعتمد على إصدار مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، طبعة إلكترونيّة: تاريخ النشر 1405 هـ.(التأكيد من عندنا)، (المترجم).
16-1. Diui ROBERTI LINICONIENSIS super octo libros physicorum brevis et utilis summa. A la fin de l›ouvrage suivant : Emptor et lector aucto. Diui THOME AQUINATIS in libros physicorum Aristotelis interpretatio sum et expositio… Colophon: Impressavero in inclita Uenetiarum urbe per Bonetum Locatellum Bergomensem presbyterum mandato et sumptibus heredum Nobilis Uiri domini Octaviani Scoti Civis Modoetiensis Anno a nativitate domini quarto supra millesimum quinquiesque centesimum. Sexto Idus.apriles. Fol. sign. Q2, col. c.
يتلخّص اعتراض ابن باجّة على أرسطو في بيان إمكانية استغراق الحركة زمنا في الفراغ وبيان أن دور الوسط في الحركة حتى وإن كان قائما لا يعدو أن يكون ثانويا في تحديد سرعة المتحرّك. يقول ابن باجّة: «» وهذه المقاومة التي بين الملاء والجسم المتحرّك هي التي ناسب بينها أرسطو وبين قوّة الخلاء في الرّابعة. وليس ذلك على ما يظنّ من رأيه. فإن نسبة الماء عند الهواء في الغلط كنسبة حركة الحجر في الماء إلى حركته بعينه وبحاله تلك في الهواء. وإنما نسبة قوى اتصال الماء عند قوّة اتصال الهواء كالبطء العارض للمتحرّك من أجل ما به بتحرّك، وهو الماء مثلا، إلى البطء الذي عرض له عند تحرّكه في الهواء.
فإنه لو كان ذلك كما ظنوه، لكانت (ت) الحركة الطبيعية بالقسر. فلو لم يكن هناك قاسر ولا مقاوم، كيف كانت تكون الحركة؟ لكان يجب أن تكون لا في زمان، بل دُفْعَةً. فكيف يجب أن يقال في المحرّك المستدير، ولا قاسر هناك؟ لأنه ليس هناك منحرف أصلا. لان مكان الدايرة واحد أبدا واحد بعينه، لا يملي مكانا ولا يخلي آخر. فكان يجب أن يكون تحرّك المستدير إذن في الآن. وقد نجد فيها البطيء الشديد البطء، كحركة الكواكب الثابتة، ونجد فيها السريع الشديد السرعة كالحركة اليومية. ولا قاسر هناك ولا مقاوم أصلا.
وإنما ذلك لبعد المحرّك في الشرف عن المتحرّك فهو يتحرّك أسرع. ومتى كان المحرّك أقل شرفا، كان أقرب من المتحرّك وكانت الحركة أبطأ «(ابن باجّة، شروحات السماع الطبيعي، المقالة السابعة، تحقيق معن زيادة، دار الكندي، دار الفكر، لبنان، 1978، ص144.)
17-1. BEATI ALBERTI MAGNI De physico auditu libri VIII lib. IV, tract. II : De Vacuo ; Cap. VII : Et est digressio declarans solutiones contradictionum Avicennæ et Avempace contra inductas demonstrationes.
17-2. ULRICI ENGELBERTI Liber de Summo Bono. Tractatus 2us libri quarti de prima formali processione prius (?) creatorum omnium, id est de esse, et de ejus primis dividentibus in communi que sunt substantia et accidens, et de per se consequentibus ipsum, sicud sunt causa et causatum, potentia et actus, unum et multa. ‒ Cam 19m tractatus 2; de loco, quid est et quidest ; et qualiter differencie loci que sunt sursum et deorsum, dextrum et sinistrum, ante et retro, sunt in celo et in mundo ; et qualiter scilicet primum celum sit et moveatur in loco ; et de ubi et de vacuo et de situ. Bibliothèque nationale fonds latin, ms. no 15900, fol. 271, col. d.
18-1. SANCTI THOMÆ AQUITANIS In libros physicorum Aristotelis expositio lib. IV, lect. XIII.
وبذلك يكون بإمكان الباحث أن يطرح السؤال حول ما إذا كان ابن باجّة هو أوّل من بدأ بتوحيد الكون قبل قرون من ملاحظات غاليلي في الرّسول السماوي Le Messager Céleste سنة 1610. فقبل أن يصوّب غاليلي منظاره نحو السّماء لإنهاء مسلّمة الاختلاف الجوهري بين عالم الماهية الخامسة Quintessence وعالم العناصر الأربعة، ها أنّ ابن باجّة يستبقه منذ القرن الثاني عشر بالقول إنّ نفس قانون الحركة الذي يفسر اتّصال الحركة وتدرّجها في السماء، ينطبق أيضا ليس على حركة الحيوان فقط، بل وعلى حركة الجماد (العناصر الأربعة) هي الأخرى.
التأكيد من المترجم.
نستخدم في هذه الترجمة، عندما يتعلّق الأمر بالفيزياء القديمة والوسيطة، مفهوم «الإسراع» (في مقابل «الإبطاء») لترجمة ما يسمّيه بيير دوهام في الفرنسيّة بـ «التسارع»Accélération حتى لا يقع القارئ في الخلط بين مفهوم التسارع الحديث الذي يعني تغيّر الحركة ليس فقط من جهة الإسراع أو الإبطاء وإنما أيضا من جهة الاتجاه Vecteur أيضا. فالسرعة في الفيزياء الحديثة مثلما هو معلوم هي كمّيّة موجَّهةٌ Quantité vectorielle. فلا وجود مطلقا للتسارع بالمعنى الفيزيائي الحديث في تاريخ الفيزياء المشائية قديمه ووسيطه.
والإسراع والإبطاء في الحركة عند ابن رشد هما ما يوازي ما يسمّيه بـالشّدّة والاسترخاء في الحركة مثلما نجد ذلك في الجزء الثاني من شرح السماء والعالم عند حديثه عن الاختلاف في حركة السماء: « لمّا بيّن السبب الذي من قبله تتحرّك السماء إلى جهة دون جهة، يريد أن يبيّن من أمرها أن حركتها مستوية، وأن ليس فيها سرعة في موضع وإبطاء في موضع،(…)و[لمّا] كان يظهر فيما دون هذا الفلك إسراع تارة وإبطاء تارة، أتى بالعلّة في ذلك لئلاّ يعترض معترض بما يظهر من ذلك…»، أبو الوليد ابن رشد، شرح السّماء والعالم، الجزء الثاني، تحقيق أسعد جمعة، مركز النشر الجامعي، تونس، ص188-189. (التأكيد من عندنا). (المترجم).
20-1. EGIDII ROMANI In libros de physico auditu Aristotelis commentaria… Eiusdem questio de gradibus formarum. Colophon : Preclarissimi summique philosophi Egidii Romani De gradibus formarum tractatus Uenetijs impressus mandato et expensis Heredum Nobilis viri domini Octaviani Scoti civis Modoetiensis per Bonetum Locatellum presbyterum. 12° Kal. Octobr. 1502. Lib. IV, lectio XIII, dubium 3m fol. 81, col. b.
21-1. GILLES DE Rome, loc. cit., dubium 2m ; éd. cit., fol. 80, col. d, et fol. 81, col. a
21-2. Primus EGIDii. D. Egidii Ro. COLUMNE fundamentarii doc. Theologorum principis. Bituricensis. archiepi. S. R. E. Cardinalis. ordinis Eremi. sancti Augustini. Primus sentententiarum: Correctus a reverendo magistro Augustino Montifalconio eiusdem ordinis. Colophon : Venetiis Impressus sumptibus et expensis heredum quondam Domini Octaviani Scoti civis Modoctiensis : ac sociorum. Die 19 Martij. 1521.‒ Dist. XXXVII, pars II, principalis 2a, quæst. III: Utrum angelus cum movetur, moveatur in tempore vel in instanti. Fol. 198, col. a, b et c.
22-1. Questiones supra librum phisicorum a magistro dicto BACUUN.. Bibliothèque municipale d›Amiens, ms. n° 406, fol. 48, col. d.
ROGERI BACON Questiones naturales et primo questiones libri phisicorum. Lib. IV, in fine. Bibl. municipale d›Amiens, ms. no 406, fol. 24, coll. b et c.
نترجم Succession بالاتصال بناءً على التسمية التي تتضمنها المدونة الفلسفية العربية في هذا السياق. فالحركة المتصلة هي نقيض الحركة الدُّفعية، أو الحركة دفعة (الحركة المباغتة). يقول ابن سينا: «إن الموجودات بعضها بالفعل من كلّ وجه وبعضها من جهة بالفعل ومن جهة بالقوّة ويستحيل أن يكون شيء من الأشياء بالقوّة من كلّ جهة لا ذات له بالفعل البتّة… ثم من شأن كلّ ذي قوّة أن يخرج منها إلى الفعل المقابل لها. وما امتنع الخروج إليه بالفعل فلا قوّة عليه. والخروج إلى الفعل عن القوّة قد يكون دفعة وقد يكون لا دفعة… إنّ الحركة خـــروج عن القــــوّة إلى الفــــعل في زمـــان أو علـــى الاتصــال أو لا دفــعة» (ابن سينا، الشفاء، الفصل الأوّل، 1- فصل، في الحركة. نعتمد على إصدار مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، طبعة إلكترونيّة: تاريخ النشر 1405 هـ.(التأكيد من عندنا)، (المترجم).
ROGERI BACONIS Opus tertium, cap. XLII éd. Brewer, p. 150.
ROGER BACON, loc. cit. éd. cit., p. 153.
Opera hactenus inedita ROGERI BACON. Liber primus communium naturalium FRATRIS ROGERI. Edidit Robert Steele. Oxonii. MCMXI. Pars III, dist. II, cap. IV, pp. 208-210.
يعرف القديس توما الإكويني بهذا اللقب: «العلّامة المشترك» Doctor Communis وكذلك بلقبين آخرين هما «العلّامة الملائكي»Doctor Angelicus، والعلّامة الكوني Doctor Universalis. وجاء في معجم المعاني أنّ «عَلاَّمة: صيغة مبالغة من عَلِمَ/ علِمَ بـ: علاَّم، كثير العلم، عالِمٌ كبير واسع العلم والمعرفة:-موسوعيٌّ علاّمةٌ، – علاّمة في التَّاريخ، – يحترمه النّاس جميعًا لأنّه علاَّمة.» (المترجم) .
Questfones fratris GRATIDEI DE ESCULO excellentissimi sacre pagine doctoris predicatorum ordinis per ipsum in florentissimo studio patavino disputate feliciter. Quæst. XI éd. Venetiis, 1503, fol. 119, col. d, fol. 120, et fol. 121, ooll. a et b.
Preclarissime questiones litterales edite a fratre GRATIADEO ESCULANO sacri ordinis predicatorum super libros Aristo. de physico auditu: secundum ordinem lectionum Divi Thome Aquinatis. Lib. IV, lect. XI éd. cit., fol. 46, col. c, à fol. 49,col. C..
GRATIADEI Quæstiones disputatæ, quæst. XI, ratione autem… ; éd. cit., fol. 120, coll. a et b Quæstiones in libros de Physico auditu, lib. IV, lect. XI, quæst. II : éd. cit., fol. 46, col. d, et fol. 47, col. a.
GRATIADEI Quæstiones in libros de physico auditu, lib. VIII, lect. VI, quæst. IV éd. cit., fol. 84, col. d, et fol. 85, col. a. Cf. Quæstiones disputatæ, quæst. XIII, secunda autem. éd. cit., fol. 123, col. b et c.