حاوره: محيي الدين جرمة
بمناسبة صدور ترجمة كتابه “Africanism” الصادر حديثًا عن دار نشر جامعة ميغيل كوين في كندا، وهو ترجمة لواحد من عمدة كتبه -كما يقول- حول “تمثيلات الآخر”، يأخذنا الكاتب والمفكر البحريني نادر كاظم إلى دلالات التجربة التي خاضها، وشملت طيفًا من المواقف والمحطات، والتأليف، بالرغم من قصر التجربة الزمنية لاشتغاله النقدي والفكري، إلا أن تساؤلاته تحايث جوانب هامة، لتطرح عميقا منجز اشتغالاته، وهاجس الكتابة لديه، رغم المصدات والموانع الكثيرة، التي وضعت أمام مشروعه، في غير مناسبة.
وإذ نتساءل هنا معه حول: ما الذي يدفع بناشر غربي للتفكير في ترجمة كتاب عربي في مجال علمي، فكري، أو نقدي بعينه، لا أدل سوى على أن بغيته هذه تؤشر”إلى أن في الكتاب ما يستحق أن يقدّم للقارئ في العالم الناطق بالإنجليزية”. ناهيك عن أن ذلك يمثل اعترافا بأهمية الكتاب، وقيمته، وإزاء ترجمة كتابه “تمثيلات الآخر” يقول نادر: “هذا شرف كبير أعتزّ به”، كما يطرح في السياق آراء متفارقة مع مألوف العادة حول الترجمة، وإشكالياتها، من العربية إلى اللغات الأجنبية الأخرى، مبررا إيجابية فعل الترجمة بمعايير الحاجة إليها لا لمجرد الترف، والاستهلاك التجاري من طرف واحد.
ويتساءل كاظم: هل هي أزمة فقر في الإبداع العربي والمعرفة العربية؟ أم أزمة مؤسّسات؟ هل تقصير من دور النشر العربية للتعريف بإنتاجاتها؟! ليرجح في الآن “أن يكون الأمر كل هذا”، مؤكدا أن العالم يترجم ما يحتاج إليه وما يشدّ اهتمامه وما يحقّق له الأرباح، وهو يترجم من اللغات الهندية، على سبيل المثال، في سنة واحدة أكثر مما يترجم من العربية في خمس سنوات! وهذا أمر مخجل!
يستفيض الدكتور نادر كاظم الذي تجاوزت مؤلفاته الفكرية في مجال التاريخ والدراسات الثقافية والنقد والاجتماع الحديث الثمانية عشر كتابا، تعكس في شمولها: نظرة مفكر عربي نادر لا يعوزه المنهج ولا الرؤية الثاقبة في التحليل الأنثروبولوجي في بحث ظواهر ملحة وذات أهمية كبرى للقارئ العربي بشكل عام، كما للمشتغلين بالتعليم والأكاديميين بصورة خاصة، مما يتعلق بأحوال “الجامعة” كـ”مؤسسة” وما تفترضه سوية المنهج وتطوره لا تصلب معاييره، وتحفيز الفكر وتنمية حس الابتكار ونباهة التعاطي، بما يجعل الإنسان مدركا لحجم التحديات المعيارية المواكبة من حوله في مساقات التعليم الأكاديمي، وأهميته في الأداء وتطوير مخرجاته في زمن الصناعات الحديثة الكاسحة، والتأثيرات الرقمية المتسارعة عن بعد.
* يعدّك فصيل مهمّ من النخبة العربية كـ”رمز لجيل جديد في الثقافة، ومن بين أفضل الباحثين والمفكرين في المنطقة، والخليج العربي بالخصوص”، فأين تضع نادر كاظم من حيث المنهج وسمة التجديد المواكب للدراسات الثقافية والاجتماعية؟
– في الحقيقة لا أفكّر في موقعي على الإطلاق، وأجد نفسي غير معنيّ كثيرًا حتى بتصنيف اشتغالي في هذه الدائرة العلمية أو ذلك الحقل المعرفي، فأنا أشتغل على أعمالي بضرب من الحرية قد يكون مزعجًا للمؤسسات الأكاديمية والبحثية وحُرّاسها المكلّفين بصيانة حدود التخصصات العلمية. إلا أن الأمر حين يتعلّق بالتحقيب والأجيال، فأنا جزء من جيل تكوّن علميًّا خلال تسعينيات القرن العشرين، وتصلّب عوده مع مطلع الألفية الجديدة. وحين أتذكّر مشاغل جيلي في تلك الحقبة فأجد نفسي جزءًا من جيل نقدي كان يتكّون في بلدان الأطراف بعيدًا عن المراكز العربية الناشطة آنذاك في إنتاج المعرفة والفكر ونظريات النقد والأدب (مصر، لبنان، العراق، سوريا، تونس، المغرب…). كنا في البحرين، أصغر دولة عربية من حيث المساحة، مأخوذين بالبحث عن بديل نقدي جديد، وجاءت أطروحة د.عبد الله الغذامي عن النقد الثقافي كبديل مقنع لنا. وأتصوّر أننا كنا أول جماعة شبابية تتفاعل نقديًا وإيجابيًا مع هذه الأطروحة في المنطقة. كنا قريبين من الغذامي قربًا شديدًا إلى درجة أثارت غيرة أساتذتنا في البحرين الذين شعروا أن هذا القُرب يكشف عن ضرب من ضروب العقوق تجاههم.
بالطبع لم يتواصل هذا الجيل بهذا التماسك وهذا الحماس، فسرعان ما تفرّقت بنا السبل، اختطف الموت بعضنا، وتناهبت المشاغل الأخرى بقيّتنا. وحين صدر كتابي “تمثيلات الآخر” في العام 2004، اكتشفت أن هناك تفاعلًا إيجابيًا كبيرًا معه في المغرب، ولاحقًا في الجزائر والعراق والأردن وسوريا وفلسطين وغيرها. كان صديقي إدريس الخضراوي من أوائل النقاد الذين اهتموا بأطروحتي، وخصّص لها جزءًا من أطروحته للدكتوراه. اعتبر الكثيرون الكتاب فتحًا جديدًا في مجال النقد الثقافي، لكن طريقتي في الكتابة كانت تتأبّى على التأطير، بل يمكن القول إنها طريقة فوضوية، فأنا أتنقّل بين الأفكار والموضوعات والحقول دون اعتبار لشيء سوى اهتمامي وشغفي. عادة ما أرجع هذا الأمر إلى تأخّري في الالتحاق بالعمل الأكاديمي، فأنا انتهيت من عمل الدكتوراه في العام 2003، لكني لم ألتحق بالعمل الأكاديمي البحت إلا في العام 2010، وكانت هذه السنوات السبع الغنية الفاصلة كفيلة بتكويني بطريقتها الخاصة، فخلال هذه السنوات السبع نشرت سبعة من كتبي الأولى (المقامات والتلقي، وتمثيلات الآخر، والهوية والسرد، وطبائع الاستملاك، واستعمالات الذاكرة، وخارج الجماعة، وكراهيات منفلتة)، وأنت تلاحظ أن كل كتاب يحفر في مجرى مختلف عن الآخر. وتشاء الأقدار أن التحق بالعمل الأكاديمي في قسم العلوم الاجتماعية وليس في قسم اللغة والنقد والأدب. الأمر الذي باعد بيني وبين النقد بما فيه النقد الثقافي بالمعنى النصوصي. وآنذاك مثّلت الدراسات الثقافية، بالنسبة لي، مظلّة أوسع وأكثر مرونة وقدرة على التكيّف وعلى مَوْقَعة أستاذ قادم من عالم النقد إلى عالم العلوم الاجتماعية.
وإذا كان لا بد من الحديث عن استخلاص “الرمزية” في هذا كله، فأتصوّر أني جزء من جيل عربي أراد الذهاب بعيدًا في الانفتاح على المعارف المتداخلة، والتحرّر من سجن أنفسنا في صناديق نسميها تخصّصات، والتحرّر كذلك من وهم النظريات الكبرى والالتزام بمنهج نقدي بضرب من ضروب العبادة والتسبيح بحمده على طريقة الجيل الذي سبقنا حين اكتشف البنيوية والتفكيك والأسلوبية وغيرها.
* بين حصولك على الدكتوراه عن “تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيّل العربي الوسيط” كدراسة ومبحث فكري منهجي خاص، وبين جهد مبذول آخر لك تمثل في رسالتك للماجستير في النقد الحديث حول “المقامات والتلقي”، ما الفارق الذي لمسته بين التجربتين؟
– لا أدّعي أني كنت على وعي بهذا الفارق أثناء اشتغالي في الحالتين. نعم، كنت أثناء تحضير الماجستير مهتمًا بصورة مكثّفة بجمالية التلقي وتاريخية التلقي والهرمنيوطيقا وفعل القراءة. وهو اهتمام في صلب النقد الحديث (نظريات القراءة والتلقي)، ولكن حين بدأت الإعداد لأطروحة الدكتوراه حول “تمثيلات الأسود” في المتخيل العربي خلال العصور الوسطى، وجدت نفسي أبتعد كثيرًا عن نظريات القراءة والتلقي، بل أبتعد حتى عن حقل النقد الحديث، وأذكر أني أعطيت د. عبد الله إبراهيم مخطط أطروحة الدكتوراه، لأستطلع رأيه فيها، فقال: “يا عزيزي، ستشقى كثيرًا مع الجامعات العربية حين تنتهي من هذه الأطروحة!”. كان د. عبد الله يقصد أن الجامعات العربية تعرف تخصصات محدّدة وذات حدود متصلّبة، فحين تريد أن تتعيّن أستاذًا في أقسام الأدب والنقد، فعليك أن تكون متخصصًا في مجال محدد مثل الأدب الجاهلي أو العباسي، أو البلاغة، أو السرد والرواية، أو الشعر الحديث، أو النقد الحديث. أما أن تأتي لهم بأطروحة تهدم الحدود بين هذه التخصصات، أو على الأقل لا تبالي بها، فعليك أن تهيّئ نفسك للمجابهة وخوض المعارك.
حين أتأمّل الآن الفارق بين التلقي التاريخي لنصوص الأدب والهرمنيوطيقا والتأويل وهانز روبرت ياوس وغادامير ودلثاي وشلايرماخر وهايدغر وفلاسفة التأويل والفهم الآخرين، وتمثيلات الآخر وفعل الهيمنة والاستحواذ والإخضاع ومصادرة حق الآخرين في النطق وتمثيل أنفسهم بأنفسهم، حين أتأمّل ذلك اليوم أكتشف أن الانتقال من الاهتمام الأول إلى الثاني كان انتقالًا مبرّرًا. إن التلقي التاريخي يعني الفهم النسبي لكل شيء، والإيمان بأن كل البشر حين يستوعبون أي شيء فهم يستوعبونه في سياق تاريخي ومكاني محددين، وأن هذا الفهم لا يمكن أن يكون إلا فهما نسبيا لا مطلقا؛ لأنه فهم محدود بحدود الزمان والمكان والمعطيات وأدوات الفهم التاريخية. وهذا الفهم النسبي المحدود هو قدرنا كبشر، وهو أصل هشاشتنا المعرفية الأزلية الأبدية، لأن ما نتوهّم أنه المعنى المطلق لأي موضوع في لحظة تاريخية معينة، يتكشّف، في زمان ومكان آخرين، أنه لم يكن سوى معنى واحد من بين عديد من المعاني الممكنة الأخرى. الأمر الذي يحتم علينا أن نكون متواضعين تجاه فهمنا، ومتسامحين تجاه أفهام الآخرين. وأتصوّر أن هذا النوع من التسامح التأويلي -إن صح هذا التعبير- هو الذي قادني إلى صلب ما صار اهتمامي الأساسي فيما بعد، وهو نقد العنصريات والتحيّزات من أي نوع كانت إثنية أم دينية أم اجتماعية.
* عملت بجامعة البحرين في فترات مضت، وكان لك تأثير وحضور في تنشيط حركة الدراسات الثقافية، وأدرت باقتدار تحرير مجلة “أوان” الذي رأس تحريرها الراحل محمد البنكي، والتي كانت تمثل علامة في موجة الحداثة الجديدة في النقد وطرح الأسئلة المغايرة وتحليل للثقافة وظواهر الابداع وعروض الكتب، ماذا تمثّل لك هذه التجربة؟
– آه! الحديث عن هذه التجربة هو حديث عن البدايات، بدايات كثيرة في الحقيقة، بداية التحاقي بالعمل بالجامعة في العام 2003، وبداية مشوار النشر حين صدر كتابي الأول في ذات العام “المقامات والتلقي”، وبداية العمل عن قرب مع صديقي الراحل محمد البنكي، وبداية تواصلي المكثّف مع الكتّاب والباحثين والمثقفين العرب من الخليج حتى المغرب. ابتدأت مجلة “أوان” قبل عام واحد من التحاقي بها، فقد صدر العدد الأول في سبتمبر 2002، والتحقت أنا بها في سبتمبر 2003، ولم يكن قد صدر من المجلة سوى عددين (الأول في سبتمبر 2002، والثاني في أكتوبر 2002)، وصدر العدد المزدوج (3 و4) بعد التحاقي بها في نوفمبر 2003، ثم انتظمت المجلة في الصدور حتى العام 2005 عندما توقفّت عن الصدور لاعتبارات كثيرة، كان محمد البنكي قد ترك المجلة، والتحق برئاسة تحرير صحيفة الوطن البحرينية حديثة الصدور آنذاك، وكنت أنا التحقت بالعمل في إدارة تحرير مجلة العلوم الإنسانية بكلية الآداب بجامعة البحرين، لكن السبب الحقيقي في توقّف المجلة هو موقف إدارة الجامعة من المجلة، كان رأي الإدارة أن الجامعة مؤسسة أكاديمية ومعنية بالمجلات المحكّمة، وليست وظيفتها إصدار مجلة ثقافية أو فكرية غير محكّمة. وهي ذات المشكلة التي واجهتنا في العام 2007 مع مجلة ثقافية أخرى في الجامعة، وهي مجلة “ثقافات”، فحين أصبحت مدير تحرير المجلة كان علينا أن نختار أحد أمرين: إما أن نغلق المجلة كما أغلقت “أوان” لأن إدارة الجامعة لم تكن مقتنعة بمجلة ثقافية غير محكّمة، وإما أن نحوّلها إلى مجلة علمية محكّمة. انتصرنا للخيار الثاني، وجرى تحويل المجلة إلى مجلة محكمة تعنى بالدراسات الثقافية. وبتوقّف “أوان”، وتحوّل “ثقافات” إلى مجلة محكّمة، يكون عنفوان الحماس الذي رافق المجلتين قد انطفأ، وأخذت حيوية العمل تتلاشى. لقد كوّنت تجربتي مع مجلة “العلوم الإنسانية” منذ العام 2005، ومع “ثقافات” منذ العام 2007، موقفي السلبي من عالم النشر العربي المحكّم، حيث تفتقر الكثير من الأبحاث إلى حيوية الكتابة والبحث التي كنا نحرص عليها في “أوان”. كثيرًا ما تأتي أبحاث إلى المجلة، كان من المستحيل أن نوافق على نشرها في “أوان” لرداءتها وجمودها وضيق أفقها، ولكنها تجد طريقها للنشر في المجلات المحكّمة، لأن هيئة التحرير وافقت على تحكيمها، وجاءت آراء المحكمين لصالح نشرها. عايشت عن كثب تلك الحالة المزعجة من التنافر المعرفي بين ما أريده وما يجد طريقه إلى التحكيم والنشر، بين أبحاث جيدة الصياغة من الناحية الشكلية (تخلو من الأخطاء اللغوية وتلتزم بشروط الاقتباس والتهميش…إلخ) لكنها عديمة القيمة والأهمية وتفتقر إلى الحيوية والشغف والتفاعل النشط بين الكتّاب والمثقفين الذي كان يميّز تجربة “أوان”.
* يربو ما قدمته من مؤلفات لافتة تمثل منجزك الفكري والنقدي في مجالات عدة على أكثر من ثمانية عشر كتابا، فضلا عن مخطوطات ومقتربات تنتظر الطبع والإنجاز، ما أبرز الثيمات والموضوعات التي تتموقع كأولوية لديك، وللدفع بمشروعك النهضوي إلى الأمام؟
– في الحقيقة من الصعب عليّ اختيار موضوعات معيّنة ووضعها كأولوية في كتاباتي على مدى عشرين عامًا، فأنا أكتب بطريقة لا تخلو من فوضوية إذا فكّرنا فيها من ناحية انتظامها حول موضوع معيّن، فأنت تراني أكتب عن “تمثيلات الآخر”، ثم أقفز إلى كتابة عن شيء آخر مثل الاستعمال المغرض للتاريخ والذاكرة الجماعية، ومن هذا إلى كتاب عن مدينة المنامة، ثم إلى “تاريخ الأشياء” كالمقابر والجسور والشوارع والمستشفيات والمكتبات وغيرها. أنا أكتب في الحقيقة هاجسي بالموضوعات والأشياء، فحين يشغل فكري موضوع ما بصورة هوسية، فلا مناص أمامي من التكرّس عليه، والتفرّغ لكتابته، للخلاص من عبء الهوس به أولًا، وفي محاولة لاستكشافه واستيضاحه ثانيًا. وأنت ترى أن هذه طريقة في الكتابة هي أقرب إلى الكتابة الإبداعية الأدبية والفنية لا الكتابة العلمية المنهجية الصارمة. ومع هذا، يمكنني القول بأن مسألة العيش المشترك بسلام وسماحة هي قضية محورية في كتاباتي، فمعظم كتبي تدور حول تفكيك العوائق والعراقيل والمنغصّات التي تقف في وجه هذا العيش المشترك بين الناس أفرادًا وجماعات. يمكنك أن تقرأ “تمثيلات الآخر” في هذا السياق، وكذلك “طبائع الاستملاك”، و”استعمالات الذاكرة”، و”خارج الجماعة”، و”لماذا نكره؟ أو كراهيات منفلتة مرة أخرى”، وحتى “لا أحد ينام في المنامة”، و”أمة لا اسم لها”. أنا لست سياسيًا ولا مسؤولًا حكوميًّا لأهتم بتأمين العيش المشترك والسمح بين البشر بقوة القانون والسياسات واللوائح والعمل التنفيذي، لكني على ثقة بأن لدى الكتّاب والمفكرين ما يقدّمونه من إسهام من أجل تأمين هذا العيش المشترك والسمح، بل هم يكتبون لأنهم لا يستطيعون تأمين ذلك بأدوات السياسي والمسؤول الحكومي. حين كتب جان جاك روسو كتابه الشهير عن “العقد الاجتماعي” ومبادئ الحق السياسي، أراد أن يبّرر هذا العمل الغريب، فكيف لمفكّر أو فيلسوف أن يكتب في موضوع سياسي بحت مثل الدستور و”العقد الاجتماعي”، فكان تبريره كالتالي: “لسائل أن يسأل عما إذا كنت أميرًا أو مشرّعًا حتى أكتب في السياسة، وأجيب كلا، ولهذا السبب بالذات أكتب في السياسة، فلو كنت أميرًا أو مشرّعًا لما أضعت وقتي في قول ما يجب فعله، بل لفعلت أو لسكتُّ”.
* بمناسبة صدور الطبعة الإنجليزية من كتابك حول الاستفراق وتمثيلات السود في المتخيّل العربي الوسيط، عن منشورات مطبعة جامعة ميغيل كوين في كندا. حدثنا عن مضمون الكتاب؟
– كتاب “Africanism” الصادر حديثًا عن دار نشر جامعة ميغيل كوين هو ترجمة لواحد من عمدة كتبي وهو “تمثيلات الآخر” الذي صدرت طبعته العربية الأولى في العام 2004، وأعدنا طباعته بطبعة جديدة ومنقحّة وتقارب الـ 700 صفحة في هذا العام (2023). والكتاب هو محاولة في تفكيك صورة السود في تصوّرات العرب خلال العصور الوسطى وصولًا إلى مطلع العصر الحديث الذي لم يقطع جذريًّا مع التصورات العربية القديمة عن السود، حيث لم تكن نظرة رفاعة الطهطاوي وسلامة موسى إلى السود، على سبيل المثال، تختلف عن نظرة ابن خلدون والمسعودي وابن الوردي وابن رسته والآخرين. لقد تمثّلت هذه الثقافة السود بصورة انتقاصية لافتة وقاسية، وكأن عمق الاختلاف والمغايرة المضاعفة بينها وبين هؤلاء السود كان أكبر من طاقة التسامح الذي تشرّبتها هذه الثقافة من انفتاح الإسلام وكونيته. ومن هنا ستجد صورة الآخر الأسود المسلم وغير المسلم موصومة بصفات البهيمية والوحشية والشهوانية المفرطة وفساد الخُلق وتشوُّه الخِلقة في كثير من الكتابات العربية في العصور الوسطى. وخلصت في كتابي إلى أن في هذه الثقافة آليتين تشتغلان معًا ولكن بصورة متعارضة: الآلية الأولى هي آلية الجذب والدمج والاحتضان، وهي التي توفّرت في هذه الثقافة بفضل الإسلام وارتكازه على مبادئ عالمية تبشّر برسالة توحيدية تهدف إلى هداية الناس أجمعين ورحمة للعالمين. أما الآلية الثانية فهي آلية الطرد وهي التي تعبّر عن رغبة هذه الثقافة في تحصين هويتها الخاصة ضد الآخرين المختلفين. وهكذا فإن الآلية الأولى تخلق هوية ثقافية منفتحة ومتسامحة، فيما تكوّن الآلية الثانية هوية مغلقة و”متوحشة” ضد الآخرين ومدفوعة بذلك السعي الحثيث إلى إخضاعهم والهيمنة عليهم وامتلاكهم.
* تصفك دار نشر جامعة ميغيل كوين بكندا بالمفكر العربي البارز، حيث عمدت مؤخرًا إلى ترجمة كتابك “تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيّل العربي الوسيط” للإنجليزية، أين تضع الكتاب العربي اليوم حينما يتعلق الأمر بخيار أهمية الترجمة إلى لغات العالم الحية؟
– هذه مشكلة كبيرة، والأرقام فيها مخجلة، فأنت لا تتحدّث عن ترجمة الكتاب العربي إلى لغات آسيوية مثل اليابانية والكورية والصينية والفيتنامية، بل عن الترجمة إلى اللغات الأوروبية الرئيسة، لنقل الإنجليزية والفرنسية، فعلى الرغم من القرب الجغرافي والاشتباك التاريخي بين العالمين، وتوفّر المترجمين، فإن عدد ما ترجم من كتب عربية إلى هاتين اللغتين مخجل فعلًا، قرأت، مرة، إحصائية منقولة عن منصة “الأدب عبر الحدود” البريطانية، وتقول بأن عدد الأعمال المترجمة من العربيّة إلى الإنجليزيّة خلال خمسة أعوام (2011-2015) لا يتجاوز 252 عملًا، أي بواقع خمسين عملًا سنويًا. وفي إحصائية أخرى وجدت “منظمة الأدب عبر الحدود الأوروبية ” أن 596 عملًا ترجم من العربية إلى الإنجليزية بين عامي 2010 و2020. وغالبية هذه الأعمال المترجمة هي أعمال أدبية (روايات وشعر وكلاسيكيات الأدب العربي..)، وترجم معظمها بعد الفوز بجائزة من الجوائز الأدبية، أو بحكم العلاقات الشخصية بين الكاتب والمترجم.
تكشف هذه الأرقام الضئيلة عن أزمة حقيقية، نعم، هناك تقصير من كل الأطراف: من دور النشر، من المؤسسات الثقافية، من الأجهزة الحكومية، لكن المعنى الخطير الذي تكشف عنه هذه الأرقام هو أننا لم نعد نمتلك الكثير مما يستحق أن يُترجم ونقدّمه للآخرين، أو أن هؤلاء الآخرين لم يعودوا يشعرون أن لدينا ما نقدّمه لهم. الترجمة هي بوابة أي كاتب للانتشار وتوسيع دائرة قرّائه في العالم، ولكن السؤال هو: لماذا يحتاج العالم الإنجليزي والفرنسي والألماني والإيطالي والصيني والروسي والتشيكي والسنغالي والنيجري إلى ترجمة كتاب عربي؟ الترجمة تنطوي على الحاجة، فضلًا عن أهمية الكتاب للعالم المترجم إليه، ماذا لدينا لنقدّمه لهم؟ الطامة الكبرى أن سوق الكتاب العربي تحوّل، خلال السنوات الأخيرة، إلى سوق ترجمة للروايات الأجنبية، في مؤشر خطير لا على أننا بحاجة إليهم أكثر من حاجتهم إلينا، بل على أن الكاتب العربي لم يعد لديه الكثير ليقدّمه للقارئ العربي! فأنت ترى دور النشر العربية التجارية تتسابق من أجل الفوز بحقوق ترجمة أية رواية أجنبية، في حين أن أحدًا من الأجانب لا يفكّر بترجمة كتاب عربي إلا بتثاقل وبضرب من التكرّم والتفضّل، بل بدعم مالي مدفوع من هذه الجهة أو تلك. هل هي أزمة فقر في الإبداع العربي والمعرفة العربية؟ هل هي أزمة مؤسّسات عربية؟ هل هذا تقصير من دور النشر العربية للتعريف بإنتاجاتها عالميًا؟ قد يكون كل هذا، ولكن لا يأتي أحد ليقول هي أزمة تقصير من الغرب والعالم الأجنبي تجاهنا، وموقف سلبي من الغرب تجاهنا؛ لأن هذا العالم يترجم ما يحتاج إليه وما يشدّ اهتمامه وما يحقّق له الأرباح، وهو يترجم من اللغات الهندية، على سبيل المثال، أكثر مما يترجم من العربية. أحصى قارئ هندي واحد على تويتر91 عملًا هنديًّا تُرجم إلى اللغة الإنجليزية خلال العام 2022!
أنا في الحقيقة أنظر إلى ترجمة “تمثيلات الآخر” إلى الإنجليزية وفق هذه المعطيات التي شرحتها أعلاه، فهذا الكتاب ليس رواية مسلية من الروايات الرائجة التي قد يتسابق الناشرون إلى ترجمته، ولا هو عمل سهل الترجمة خاصة أنه يتضمن نصوصًا عربية كلاسيكية كتبت بلغة قد لا يستوعبها حتى القارئ العربي المعاصر، ثم لا تنس أن الكتاب يصنّف على أنه في مجال النقد الثقافي والدراسات الثقافية، وهي بضاعة غربية أصلًا، فأن يفكّر ناشر غربي في ترجمة كتاب عربي في هذا المجال فهذه إشارة على أن في الكتاب ما يستحق أن يقدّم للقارئ في العالم الناطق بالإنجليزية. ثم أن تصدر الترجمة عن دار نشر جامعية مرموقة مثل “ميغيل كوين” فهذا شرف كبير أعتزّ به، وهو اعتراف بأهمية الكتاب وقيمته.
* “من تاتا إلى البحرين: سيرة بانيان البحرين”. كتاب جديد صدر لك حديثًا، ويضاف إلى منجزك الكتابي في الحفر داخل أنساق ثقافية واجتماعية، وهنا نتحدث عن المجتمع البحريني والخليجي، هلّا حدّثتنا عن فكرة هذا الكتاب..
– يحاول الكتاب تكوين سردية متماسكة لجماعة البانيان في البحرين والخليج، والبانيان هم الجماعة التجارية الهندية/الهندوسية الأهم والأقدم التي اتصلت بسوق البحرين، واستقرّت في المنامة حتى اليوم. وهم جزء من جماعة الباتيا من تاتا السند الذين صاروا يعرفون في البحرين والخليج باسم “البانيان”، أي التجار الهندوس الذين جاءوا من بلدة تاتا في إقليم السند Thatta/Tatta بالقرب من كراتشي في باكستان حاليًّا. وتمثّل جماعة الباتيا من تاتا السند اليوم في البحرين ودبي على وجه الخصوص جزءًا صغيرًا من “الشتات السندي” حول العالم والذي يتوزّع على أكثر من مائة دولة من نيجيريا وسنغافورة وهونج كونج وماليزيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ومالطا وبنما وجزر الكناري وبلدان أخرى عديدة حول العالم.
تعتبر بلدة تاتا في إقليم السند الموطن الأم للبانيان من جماعة الباتيا في البحرين ودبي، فيما ينتمي بانيان مسقط، على سبيل المثال، إلى جماعة هندوسية أخرى وهي جماعة الباتيا من كوتش في غوجارات بالهند شرقي بلدة تاتا.
هيمنت جماعة البانيان على تجارة البحرين منذ القرن التاسع عشر حتى النصف الأول من القرن العشرين، وأقامت، في القلب من المنامة القديمة، معبد الهندوس التاريخي العريق (معبد شريناثجي أو شري كريشنا)، وانخرطت في الديناميات المدنية من أجل تحمّل مسؤولية المكان ورفاهية سكانه، حيث كان للجماعة ممثل منتخب أو معيّن في مجلس بلدية المنامة منذ العام 1919، وأكثر من ممثّل معيّن في مجلس العرف (مجلس التجارة) للفصل في المنازعات التجارية منذ أواخر القرن التاسع عشر، كما قدّم هؤلاء خدمة إنسانية نبيلة للبحرين وأهل البحرين (ولبعض بلدان الخليج الأخرى مثل الكويت) خلال الحرب العالمية الثانية عندما شحّت الموادّ الغذائية وتقطّعت خطوط الإمداد والتمويل حول العالم. لعب هؤلاء، كذلك، أدوارًا كبيرة في “تحديث المكان” بما كانوا يجلبونه إلى البحرين، والخليج عمومًا، من أنواع عديدة من السلع والمستلزمات والاختراعات الغربية الحديثة مثل الأحذية والجوارب والمظلات الشمسية والملاعق والسكاكين والمرايا وغيرها من مستحدثات الصناعة الإنجليزية والهندية. وتمتّع هؤلاء التجار، طوال هذه الفترة، باحترام كبير بين الناس في البحرين والخليج، فكانوا موضع أمانات التجار في السوق، وبمثابة بنوك الإيداع والائتمان والتسليف في المنطقة قبل أن تتأسّس البنوك الحديثة.
كانت هذه الجماعة التجارية في البحرين جزءًا من شبكات تجارية هندية/هندوسية تتوزّع على مساحة واسعة تمتدّ من موانئ حوض الخليج حتى اليمن وساحل أفريقيا الشرقي. وقد ارتبط وجود هذه الجماعة التجارية في البحرين والخليج باجتماع عدة عوامل تشمل الاستقرار السياسي، والازدهار التجاري، وحرية التجارة، وتوافر بيئة ضامنة تؤمّن الأموال والأملاك والتبادل التجاري ونظام الائتمان والاقتراض، فضلًا عن التسامح الديني وحرية العبادة. سمحت كل هذه العوامل بتوافر هذا المزيج البشري المتنوّع إثنيًّا ودينيًّا الذي ميّز موانئ الخليج ومدنه التجارية. فقد طبع هذا المزيج موانئ الخليج ومدنه التجارية الساحلية بخصوصية عالمية (كوزموبوليتانية) لافتة تتجلّى في مستوى التسامح والانفتاح والتنوّع الذي امتازت به هذه الموانئ والمدن الساحلية منذ زمن بعيد حتى العصر الحديث. والثابت تاريخيًّا أن هذا المزيج من العوامل كان يتنقّل بين مدن حوض الخليج منذ القرن العاشر الميلادي من مكان إلى آخر، ومع هذا التنقّل كان البانيان، التجار الهندوس العريقون في المنطقة، يتنقّلون من مكان إلى آخر، من بلدة سيراف (مدينة طاهري الآن) إلى جزيرة قيس (كيش)، ومن جزيرة قيس إلى جزيرة هرمز التي أصبحت أعظم مركز تجاري في المنطقة بعد أن احتكرت تجارة الهند والسند والصين والبحرين وعُمان وغيرها، واستمرّ هذا الازدهار حتى خرابها في العام 1622 بتحالف بريطاني/صفوي أنهى الوجود البرتغالي فيها. بعد خراب هرمز، ازدهرت بلدة جمبرون (بندر عبّاس) خلال القرن السابع عشر، وآنذاك كان ثلث سكان بندر عبّاس الذين يقدّرون بـ3000 نسمة من الهنود، والبانيان على وجه الخصوص. انتقل مركز ثقل البانيان في الخليج، بعد انهيار الحكم الصفوي في العام 1722، وحكم نادر شاه في العام 1747، إلى الضفة العربية من الخليج، وتحديدًا إلى مسقط التي أصبحت أعظم ميناء تجاري في حوض الخليج، ووصفها وليام بالجريف في العام 1863 بأنها كانت “بابل الشرق” على نحو كامل وبلا منازع. ثم يأتي دور ميناء المنامة بعد ذلك. وأنت ترى كيف يختزن تاريخ هذه الجماعة تاريخ حوض الخليج برمته، ومن هنا جاء اهتمامي بهذه الجماعة.
* ما الصورة التي يستقيها القارئ أو الباحث لكتابك عن “بانيان البحرين” من حيث ثقافة الاندماج، وبالخصوص في منطقة الخليج؟
– يقدّم البانيان في البحرين والخليج أعظم نموذج على قدرة هذه المجتمعات على استيعاب الاختلاف بسماحة ورحابة صدر. فأنت قد ترى مسيحيين ويهود في بعض المدن الإسلامية، وهذا أمر لا يلفت نظر كثيرين بحكم أن الإسلام يعترف بهاتين الديانتين الإبراهيميتين، إلا أن الاختبار الحقيقي لقدرة أي مجتمع على استيعاب الاختلاف هو في طريقة تعامله مع جماعة دينية تقف على طرفي نقيض من ديانته. إن البانيان هندوس، والهندوسية، بالنسبة للمسلمين، ديانة غير سماوية وغير توحيدية ومتعددة الآلهة، وتكتنز بالأيقونات والصور و”التماثيل المقدسة” التي تتبدّى أمام المسلمين وكأنها “أصنام وثنية”. ومع كل هذا، فالبانيان يقيمون في البحرين وعُمان ودبي منذ قرون طويلة، وأقاموا لهم معبدًا عريقًا في البحرين يمارسون فيه عبادتهم بحرية ودون تدخّل أو اعتراض من أحد. وهذا مؤشر عظيم على مدى التسامح وتقبّل الآخر داخل هذه المجتمعات.
* قبل أن تخوض عميقا في قضايا الفكر والأنثروبولوجيا، كيف كانت علاقتك بـ”النقد الأدبي والدراسات والأدب المقارن، والتاريخ والفولكلور، والدراسات الثقافية”؟
– نعم، بدأت من النقد الحديث بحكم أن دراستي الجامعية كانت في تخصص النقد والأدب منذ مرحلة البكالوريوس. وفي الماجستير بدأ اهتمامي ينصبّ على نظريات القراءة والتلقي، وخاصة جمالية التلقي التاريخي لدى الألماني هانز روبرت ياوس. وهذا التلقي التاريخي لنصوص الأدب قادني إلى هانز جورج غادامير، ومن بوابة غادامير وجدت نفسي خارج دائرة النقد الأدبي، وأقرب إلى الهرمنيوطيقا والتأويل ودلثاي وشلايرماخر وهايدغر وفلاسفة التأويل والفهم الآخرين. إن التلقي التاريخي يعني، كما قلت سابقًا، الفهم النسبي لكل شيء. ومن هذه الأرضية الهرمنيوطيقية اقتربت من نقد العنصريات والتحيزات من أي نوع كانت إثنية أم دينية أم اجتماعية.
درست النقد الحديث في مرحلة البكالوريوس والماجستير، وتوسّعت دائرة اهتمامي في الدكتوراه لتشمل التاريخ والأنثروبولوجيا والسير الشعبية وغيرها. وحين التحقت بالعمل الأكاديمي درّست الأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية. ويبدو أن مجموع هذه المصادفات صنعت هذه التوليفة في المعارف والحقول التي تميّز اشتغالاتي المتعددة، وحرّرتني كذلك من “السجن الأكاديمي” داخل صندوق أكاديمي اسمه التخصص الدقيق.
* في خضم تجربتك الأكاديمية وعلاقتك بالجامعة، كيف تتصور الدور الذي تقوده هذه المؤسسة اليوم في العالم العربي إجمالا؟
– حين انخرطت في العمل في حقل العلوم الاجتماعية، ظننت أني نجوت من القيود التي كانت ستمسك بعنقي فيما لو انخرطت في قسم الأدب والنقد. إلا أني اكتشفت أن الفروق بين الأقسام الأكاديمية محدودة جدًا، فكل قسم أكاديمي يستنسخ عيوب الأقسام الأخرى بطريقته الخاصة، بل الطامة الكبرى أن أقسام العلوم الاجتماعية مهووسة أكثر من غيرها بمسألة التخصصات الدقيقة في تجزئة غريبة لوحدة العلوم الاجتماعية. عليك في كل مرة أن تحدّد تخصصك الدقيق: مناهج البحث الاجتماعي، مشكلات اجتماعية، نظرية اجتماعية، علم اجتماع التنمية، أنثروبولوجيا اجتماعية… إلخ وهو أمر كان محبطًا لأني كنت أتصور أن أقسام العلوم الاجتماعية تمتلك أفقا أوسع من أقسام النقد الأدبي داخل الجامعات، لكني اكتشفت أن كل هذه الأقسام الأكاديمية تدافع عن ملكياتها الحصرية لموضوعاتها ومنهجياتها، وتضغط، بوعي وبلا وعي، على أساتذتها لتحويل كامل طاقتهم البحثية لا من أجل الفهم والتفكير في العالم خارج صناديق تخصصاتهم، بل من أجل الترقي الأكاديمي الوظيفي داخل سلم المؤسسة. وهذه نزعة قاتلة للطاقات الإبداعية للأساتذة؛ لأن على الأستاذ أن يبحث وينشر بالطريقة التي ترضي أصحاب التخصص المكرسين حتى يجيزوا أبحاثه ليسلك بسلاسة في مسار الترقي الأكاديمي المنشود. بالنسبة لي، كان الوضع مختلفًا، فحين انخرطت في العمل الأكاديمي كنت متحررًا من هذا الضغط؛ لأن مساري كان قد تحدّد سلفًا، فقد كنت قد نشرت سبعة من كتبي قبل أن ألتحق بالعمل الأكاديمي، الأمر الذي يعني أن المسار كان قد تكوّن وتحدّد، وصار من الصعب حرفه باتجاه الكتابة الأكاديمية الباردة والملغزة والتي تُكتب للأقران وأهل التخصص لا لعموم القرّاء، وتُنشر لا لشيء سوى الترقي الأكاديمي. والمفارقة هنا أن الجامعة اسمها جامعة وذات طابع كوني University أي جامعة ورابطة لتخصصات عديدة، إلا أنها انتهت إلى حبس المعارف في صناديق التخصصات التي تزداد ضيقا مع الزمن.
* وأنا أقرأ عن كتابك “تاريخ الأشياء: عن الشارع والمقبرة وأشياء أخرى”، كيف واتتك فكرة هذا الكتاب؟
– لكتابي هذا صلة بعمل مؤرّخ فرنسا الكبير فرناند بروديل الذي أن يكتب تاريخًا شاملًا، ليس لأمة من الأمم، ولا لحضارة من الحضارات، بل لبحر اعتبره بروديل مجموعة بحار في بحر واحد وهو البحر الأبيض المتوسط في القرن السادس عشر. لبروديل عمل آخر يأتي بعد هذا الكتاب من حيث الطموح والاتساع والأهمية وهو كتاب “هوية فرنسا” الذي انتهى منه في العام 1981 (قبل وفاته بأربع سنوات). حاول بروديل، في هذا الكتاب، أن يضيّق الدائرة أكثر ليكتب تاريخًا شاملًا لبلد متوسطي واحد، وتحديدًا لفرنسا كمكان وأرض ومدن ومقاطعات وأقاليم وحدود واقتصاد وسكّان وأمراض وهجرات. وفكّر، في البداية، أن يسمي هذا الكتاب الأخير باسم “الدورات طويلة الأجل في التاريخ الفرنسي”، إلا أنه عدل عن هذا الاسم الطويل والذي كان سيرضي غرور الكثير من الأكاديميين والمؤرخين والنخبة، لكنه لن يحظى، بكل تأكيد، باهتمام عموم القرّاء، في حين أن بروديل أراد في آخر عمره أن يقدّم عملًا يثبت جدوى طريقته في التأريخ من خلال “الاستناد إلى مثال متاح لجمهور واسع”، فكان هذا العنوان “هوية فرنسا” هو الأنسب لمثل هذا الغرض. إلا أن الحقيقة أنه إذا كان لبروديل من إسهام لا يُنسى في مجال التاريخ فإن هذا الإسهام سيكون هو ابتكاره لمفهوم “الدورات طويلة الأجل” longue durée أو “الزمن المديد” أو “الزمن العميق”.
بدأ اهتمام بروديل بتاريخ البحر الأبيض المتوسط منذ العام 1923، وهو الاهتمام الذي تُوّج، في العام 1949، بكتابه الأشهر “البحر الأبيض المتوسط وعالم البحر الأبيض المتوسط في عصر فيليب الثاني”. عندما بدأ بروديل العمل على هذا الكتاب في العام 1923 لم يكن في باله سوى أن ينجز أطروحة أكاديمية تتناول إعجاب أساتذته في السوربون، ولهذا اختار موضوع “سياسة فيليب الثاني في البحر الأبيض المتوسّط”. نالت الأطروحة إعجاب أساتذته كما توقّع، لكنه اكتشف لاحقًا أن “سياسة فيليب الثاني”، ملك إسبانيا في الفترة بين 1556 و1598، لم تكن سوى “قمم الرغوة التي تحملها أمواج التاريخ على ظهورها القوية”، مما يعني أن هذه الأمواج القوية ينبغي أن تصبح هي موضوع التاريخ لا مجرد خلفية أو ديكور لملوك إسبانيا و”سياستهم الشاذّة” آنذاك. لكن هذا الأمر يتطلب التحرّك خارج حدود التاريخ التقليدي من أجل كتابة تاريخ للبحر وأمواجه القوية التي تمتلك تاريخًا أكثر عمقًا وتجذّرًا من الأحداث والملوك وسياساتهم المتقلّبة.
توصّل بروديل، في النهاية، إلى هذه الفكرة التي ستغيّر فهمنا للتاريخ على نحو جذري، وهي تشريح التاريخ إلى أكثر من مستوى من مستويات الزمن التي تكوّن التاريخ الشامل للمكان وبشره وكائناته وشجره وحجره. وهو يميّز بين ثلاثة أزمنة، أو ثلاث طبقات متدرجة ومتراكبة طبقة فوق طبقة، حيث تكوّن الطبقة الأولى “الزمن العميق” أو “الزمن المديد” وطويل الأجل الذي يجسّد تاريخ الإنسان بعلاقته المشدودة إلى الجمادات، إلى الأرض والبحر وأشيائهما. وهو زمن عميق يضرب بجذوره في طبقات التاريخ البعيدة مكوّنًا “الزمن الجغرافي والجيولوجي” للمكان، أي الزمن الذي يتجسد في تفاعلات الموقع والبيئة والمناخ وطبقات الأرض وموارد الطبيعة. ويتكوّن هذا الزمن العميق بإيقاع بطيء جدًا، “وهو بطيء التغير، ويكاد يكون تاريخًا من التكرار المستمر، ودورات متكررة باستمرار”، وهو تاريخ شديد المقاومة للتدخّل البشري، ولهذا يبقى متحكّمًا في المستويين الثاني والثالث من طبقات الزمن. ويتكوّن المستوى الثاني من الطبقة الثانية من الزمن المديد، وهو “الزمن الاجتماعي” أو التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والثقافي طويل الأجل لأمة من الأمم، وهو يتصل بتكوّن الطبقات الاجتماعية والجماعات والحضارات والإمبراطوريات وانهيارها والتحولات الديموغرافية والاقتصادية العميقة والحروب. لهذا الزمن “إيقاعات بطيئة لكنها محسوسة”؛ ولهذا فإن التغيير في هذا المستوى يكون أسرع بكثير من المستوى الأول، إلا أن دورة تغيره تمتدّ على مدى زمني طويل ويقاس عادةً بالقرون. أما المستوى الثالث من الزمن فهو “الزمن الفردي” أو “تاريخ الأفراد أو “تاريخ الأحداث”، وهو تاريخ الاضطرابات السطحية” التي تتجسّد في الأحداث والوقائع التي ترتبط بالأفراد ومجريات الأحداث السياسية سريعة التغيّر، ولهذا يسميه بروديل بـ”الزمن الصحفي والإخباري بامتياز”. يمثّل هذا المستوى زمن الفاعلين الأفراد وهم يستغرقون بالكامل في أحداث “حياتهم قصيرة العمر وقصيرة النظر مثل حياتنا”. الأمر الذي يجعلهم -ويجعلنا كذلك- يتوهّمون أن الراهن الملتهب من الأحداث هو كل شيء، وأنه سيدوم طويلًا وربما إلى الأبد. يشبّه بروديل هذا الزمن بـ”الدخان الخادع الذي يملأ عقول معاصريه، لكنه لا يدوم، ونادرًا ما يمكن تمييز ناره الملتهبة”. وبحسب بروديل، فإن الزمن الفردي الحدثي (يمكن أن نسميه التاريخ الصغير) هو أكثر الأزمنة خداعًا بحكم أنه يحدث في زمن الأفراد، وأمام وعيهم وناظريهم، وفي مستوى مشاعرهم، فرحهم ورعبهم اليوميين، إلا أن الذي يمسك التاريخ من قرنيه -إن صحّ التعبير- ليس هذا الزمن سريع التقلّب الذي يحدث أمامنا، بل هو ذلك الزمن المديد الذي لا نراه، لكنه يجري تحت أقدامنا دون أن نشعر مثل أمواج البحر “الخالدة”.
هذا التشريح لطبقات التاريخ قادني إلى البحث عما يمكن أن يسمى طبقة رابعة في التاريخ، وهي “تاريخ الأشياء”، تاريخ الشوارع والجسور والأنفاق والمعالم والمدارس والمكتبات والمعابد والمقابر، وكل ما صنعه البشر وقطّع الزمن إلى نصفين: زمن ما كان قبله، وزمن ما صار بعده، بمعنى أن الحياة لا تعود كما كانت بعد أن يوجد هذا الشيء. إذا تأملت ما تفعله هذه الأشياء ستكتشف أنها ذات تأثير أكثر عمقا حتى من زمن بروديل الجغرافي. إن إنشاء شارع في مكان يمثل عملية جراحية في المكان، وإنشاء جسر لربط جزيرتين فرّقت الجغرافيا بين أوصالهما يعني مجابهة الجغرافيا وجها لوجه.
ويجدر بي أن أشير هنا إلى أن كتابي “تاريخ الأشياء” ليس هو أول كتاب اشتبك فيه مع عمل بروديل، فقد كنت أحوّم حول ذلك منذ كتبت “طبائع الاستملاك: قراءة في أمراض الحالة البحرينية” في العام 2007. وهو تحويم تواصل معي في كتاب “استعمالات الذاكرة” في العام 2008، إلا أن الانهماك الجدّي به وعلى نحو أكثر وعيًا إنما تجلّى في كتاب “لا أحد ينام في المنامة” في العام 2019. ويأتي هذا الكتاب “تاريخ الأشياء” استمرارًا لهذا النوع من التحويم ولكن بطريقة مختلفة جدًا.