لن أنسى أبدا ياميناتا التي لا تعرف كيف تقبل مولاي.
لن أنسى أبدا مولاي الذي علمها القبلات على طعم تجديف في أقاصي الندم
،ياميناتاالترقية، ابنة طاسيلي آجير. مولاي ابن ورقلة أمير مفلس»
مالك حداد، سأهبك غزالة، ترجمة محمد ساري
الشعراء وحدهم يمكنهم تأثيث القبحي الذي بات يسكن اللغة السردية التي تعج بالنفايات كما يقول ناقدنا الكبير السعيد بوطاجين، فالشاعر وحده يمكن أن يدمر وحدة اللغة، أن يفكر بها من الداخل ليصنع عالما موازيا من الايهام والأطياف المرتحلة، في النهاية هي أطيافنا نحن في تأثيليتنا الغريبة التي استعضنا بها هوية مصطنعة تحمل داخلها نزوعا تدميريا وبعد تهديمها للعمران الذي نسكنه.
ليس من قبيل الصدفة أن تكتب الشاعرة ربيعة جلطي رواية، فالرواية نبتت مع ضلع حواء وتوردت على خدها نقطة حمراء في صحراء الطوارق التي تغنى بها مالك حداد في رائعته «سأهبك غزالة» لكنها في رواية «نادي الصنوبر» تجاوزت زمنية الصورة الاستشراقية لتتحول الصحراء إلى متحقق في فعل الإدانة للحكاية، هنا تتداخل القصيدة المتزامنة في الثقافة الكلاسيكية التي طالما شكلت مرجعا ايهاميا للذات لتعيد الحكاية رسم التمفصلات الكبرى لذلك المسخ والتشويه، حالة الابتعاد عن طقوسية» الإله الترقي» لصالح آخر شمالي استحلَّ كل شيء باسم العرش. رؤية انطولوجية عميقة عن التناهي في الإنسية التي لم نصنع منها إلا قنابل للحرب، قنابل في حالة الإرجاء، حيث الدلالة تفيض بالمعنى لا من جهة الاسهاب بل من جهة الاقتصاد الذي جعل الرقص يعبر عن مشهد سينمائي غاية في التراجيدية، حين يتكلم التراجيدي فالقصة أنثى والمنفذ صوت ذكوري حمل كل خيبات المؤسسة الرسمية، تلك الانهيارات المضاعفة أنهكت الحكواتي، أقلقته جعلته في حالة بين –بين، تلك الحوارية المريضة تحمل داخلها ذكاء مضاعفا وتقنينا رمزيا للمجتمع الأموسي، حيث المرأة /الأنثي /غادر ساردة استلبت الرجل لسانه ليقدم لها اعترافا تاريخيا واثنيا عن الاختراق الذي حصل في الأرضيات التحتية لمجتمعنا الجزائري.
تتعانق الرواية في شكل حواري جذاب يعكس سلطة الأنثى التي تخترق المذكر الذي دجن الخطاب نظير تلك المركزية التي استلبها فقهيا، تلك المركزية التي أعلت من قيمة الفحولة المدجنة المغشوشة في مجتمع العبيد، وبأخلاق العبيد، هذه المركزية راقصتها المتلفظة /الساردة في شكل تحرير للأنثى من سلطة مفرغة، خاوية، إنها عودة فجائية للصوت الهامشي الذي يأتي من بعيد ليدمر وحدة النص المتناهية في الشكل.
الرواية تمارس إغرابا تيماتيا للعالم وللفضاء في زمن عجَّت فيه النصوص بالدماء وازدحمت بالأصوات الغربية، وصارت الأصوات أشبه بفيلم بوليسي معروف النهاية، لكن رواية «نادي الصنوبر» حملت معها بشارة سردية للمخلِّص الذي سيزرع الأمل ويجدد الوهن في نص التسعينيات الدموي. مع ما لهذا النص من مكامن للقوة في جوانب أخرى. إنها سردية تتحدث عن الآخر المنسي فينا، الآخر الذي يسكن جغرافيتنا، ويضخ جيناتنا، إنه الأنا التي لم نفهمها ولم نحسن تقديرها، تصورناها في بعد واحد وأَحَلْنَاها على سرير بروكست كل من خرج عنه قطعنا رجليه أو وسطه، هذه الأنا المتورمة من جهات ومنظورات مختلفة، فالرواية هنا وضعتنا أمام أسئلة غاية في الخطورة والدقة تنم عن وعي عميق بمسألة الكينونة وذلك السؤال الذي ظننا الإجابة عنه سهلة وبسيطة. . من الجزائري؟
هل هو ذلك التصدير الأوحد ام انه المتعدد الذي لا صورة له، حين يكثر المتعدد تضيع الواجهة الرسمية، تصبح أوجه وتضمحل الثقافة الرسمية التي رسمت لها سياجا طويلا من الكرنفاليات والشعبويات وروَّجت لبعد واحد للإنسان /الرسمي صورة بسيطة وتقعيدية لنموذج الاشتراكي الوطني المؤمن /ثالوث نحت له شخصية فائضة عن الحاجة، هذه الأحادية في الشكل والمرجع ما فتئت ترسخت دولة ما بعد الاستقلال لكن رواية «نادي الصنوبر» في تصوري قوضت الأساسات الهشة لذلك البناء، حيث حاولت تحرير الجزائراية من معجمية الحاكم ومن استخداماته الفضة التي صارت أقرب إلى اللعب المرسوم لأغراض السياسة تطمس كل الحقائق التاريخية، هذه الوحدة لا تعبر عن المتعدد الاثني والصوتي في الحكاية، هنا فقط يقف الخطاب المؤسساتي على إفلاسه بل نلفيه خطابا مجوفا من الداخل مهزوز ومناقض لأشكال التراكب التاريخي، الطوارق، القبائل، بني ميزاب، الشاوية، القبائل. . . تلك المسكوت عنها التي كلما توحدت في الخطاب الرسمي أفقدته أنظمته السيميائية المختلفة لأنها لا متوائمة حيث يريد الخطاب الرسمي أن يجعلها صوتا واحدا وممثلا واحدا عن الثقافة.
وحدها الرواية التي خلصت التمثيلات المختلفة لمدلول جزائري لنجد أنفسنا في فضاء أعمق /متلاحق /على حالات اللاتجانس في التظهير السيميائي للشخصية الجزائرية من جهة الثقافة، فالتنميط أقصى المتعدد الثقافي وجعله يقف برجل واحد لكنها رجل مصطنعة فاقدة لسمة التداعي والحركة، فهي ثقافة منقوصة من الحب، ثقافة موجهة ومأمورة، ثقافة من فوق، وليست متحركة بمنطق التشارك، القوة ليست في الواحد بل في المتعدد، فهذه اللفظة جزائرية تعكس الأبعاد والمنظورات المختلفة للدلالة الرمزية للصوت في الرواية، والدلالة الاثنية في الواقع. الكينونة هنا أو هناك ليس سؤالا مباشرا فتلك تشكيلات الدازين المتزمن أو المتزامن.
الرواية تحيلك إلى حالة التمثيل القوي العائم للتأنيث العائم على حساب إخصاء للمذكر حيث تستل الأنثى الحكاية غصبا نتيجة مركزية نابعة من مجتمع أموسي/مجتمع الطوارق، فالتذكير هنا يعد تظهير تأثيثي فقط للفضاء تشتغل الأنتي على طول الخطاب انطلاقا من مفصلين أساسيين :
-مفصل استباقي؛ وهو واجهة أولية للرواية حيث توجه الحاجة «عذرا» الترقية حكايتها لمجموعة من البنات في شكل استباق للدخول في القصة.
-مفصل استذكاري وهو الحكاية ذاتها، السيرة الذاتية وتعتمد الرواية على تيمة غاية في الدقة هي تيمة «التموقع»حيث تتخذ الشخصية الفاعلة جملة من الوضعيات السردية تنطلق من الحكاية في اتجاه مختلف، وهي توليد للضرورة الحكواتية نتيجة التحريك الذي تتخذه الفاعلة /الحاجة عذرا كل مرة وهي وضعيات تتموقع فيها الحاجة عذرا للتمفصل في الرواية وفق ثلاث تخارجات سردية مهمة :
– الخرجة السردية الأولى طلاق الحاجة عذرا وإعداد حفلة الطلاق.
-الخرجة السردية الثانية ذهاب الحاجة عذرا مع أميرها للخليج.
-الخرجة السردية الثالثة عودة الحاجة عذرا إلى العاصمة.
هذه الخرجات تعطينا مؤشرا سرديا مهما عن التمفصلات العامة للرواية التي لخصناها في ثلاث وحدات سردية كبرى، وكل وحدة تنطلق من خلال عناصر سميمية صغيرة تشكل توالد الذورة وسقوطها لتبدأ ذروة أخرى إلى النقطة النووية للسرد التي تحكي حكاية الحاجة عذرا. حيث تتزوج الحاجة عذرا من الشاب الخليجي الوسيم والثري الذي وقع في غرامها ولكنها لم تسطع البقاء معه تحت سقف واحد فرجعت بعد مدة للجزائر وهناك ورثت الحاجة غدرا فيلا بمنطقة نادي الصنوبر ومن داخل الفيلا ينطق صوت الشاب «مسعود»وهو سرد نقيض ضد فعل الحكاية الإطار /حكاية الحاجة عذرا، إنها إحالة إلى كل أصوات الهامش القابعة في قلب المركز فالهامش لا يعني البيوت القصديرية في كل الأحوال وإنما الهامش المتمظهر في شخص مسعود، هامش من نوع خاص، هامش مركب ومعقد في آن هامش فوق هامش أو هامش دون هامش. هامش متعلق بالشخص محمول فيه لا يتعلق بالفضاء لأن فيلا الحاجة عذرا تقع في عمق المركز /السلطة /المؤسسة الرسمية، إن هذا الامر يعرض أمرا أوسع وأرسخ لا يعرض لهامشية مسعود الآنية واللحظوية بقدر ما تحمل داخلها امتدادا ثقافيا للإهدار التاريخي الذي تعرض له الرجل في المجتمع الطوارقي. هو نوع من الاستبعاد المجدد حيث الفيلا فارغة من السكان إلا من الزيارات الظرفية التي تقودها الحاجة عذرا، في حين أن الحاجة عذرا تفضل الإقامة داخل تناقضات الحياة لتمارس وظيفة الأمومية الموكلة إليها في التاريخ نوع من تحيين التاريخي في لحظة السلطة المتكلسة.
تعكس الرواية بعدا إناسيا لطالما أهمل في المتخيل الروائي الجزائري أو إن صح التعبير لا نجد له حضورا قويا في الرواية الجزائرية، وهو البعد الإثني للأطراف المتعددة في الجزائر، فتقريبا النص الروائي الجزائري منمط في بعد واحد يحكي صورة وحيدة، وهي حكاية تابعة لنسق سياسي /حكاية السلطة أو نصوص المؤسسة الرسمية التي كانت ترى في الجزائري صورة «العاصمي»فقط أو الريفي القادم من جهة واحدة.
ما تزال الرواية عندنا تخفي الكثير من الشقوق والبياضات التي لم تكتب بعد، فجاءت رواية «نادى الصنوبر» لتعيد كتابة المنسي من تاريخنا المجهول. فحاولت الرواية أن تلعب على تيمة تموقع الإثني ضمن فضاء السلطة الذي يتسم بالإقصاء واللاتسامح فتماوجت الرواية بين أربعة تراكبات للفضاء :
– موقع صحراء الطوارق /فضاء الأصل /مسرود إثني مسكوت عنه.
– موقع صحراء العرب/فضاء الانتقال /مسرود هووي ؛ ثقافة مرجعية من جهة البناء السياسي.
– موقع فيلا نادي الصنوبر /فضاء المؤسسة أو السلطة والمركز.
– موقع الشقة/ فضاء الحكي.
تحمل الرواية هما أنطولوجيا حيث تعمل على تحليل علاقة حضور الثقافة الاثنية في أسِّ الثقافة العروبية فتتحاور الثقافات من خلال علاقة المصاهرة/الزواج من كونها بيت الحوار الاكثر فعالية بين الأجناس، فيعمل التسريد على فك تلك العلاقة الملتبسة في مشهد الثقافة السلطانية تلك الثقافة العروبية التي صنعت سماء الواجهة المشهدية لتستبعد التراكب التحتي للثقافات الاثنية الحقيقية للجزائر حيث حصل جذب خارجي بين الثقافة الذكورية /الرسمية والهامشية /الترقية، من خلال تكريس ثقافي مهم للشعر باعتباره ممثلا سيميائيا دقيق لثقافة المؤسسة /العربي، حيث مثل الشعر قيمة الالتقاء الجمالي، وكيف تمكن الإثني من الانخراط في ثقافة المؤسسة التي استعاضت نماذجها التاريخية بأخرى نتيجة انتشار آلية الاكتساح التي تفرزها الثقافة الامبراطورية عادة، ولأن الثقافة العروبية بأنظمتها المختلفة تشكل فضاء امبراطوريا مهيمنا عملت عملت على استبعاد الثقافات الأصيلة في الجزائر، فالرواية ورغم أنها تجاهد في تبيين القيمة الجمالية للصحراء بالمفهوم العروبي من خلال الشعر إلا أن اللاتجانس الرمزي بين ثقافة الجسد الاثنية وثقافة الغياب المؤسساتية انتهت إلى فك الارتباط بين الثقافتين والتي عبرت عنها صورة الطلاق بين «غادر» والأمير الخليجي، فالحكي يعبر عن عودة المكبوت وحضوره القوي في نقد المركز بأشكاله الثقافة والمؤسساتية.
الملاحظ أن الرواية تحمل هما ثقافيا مركبا، فالسارد يمارس التسريد وهو في وضعية استراحة محارب ناقم على الواجهة المرجعية المتورطة في اصطناع هوية مدمرة /قاتلة اكتسحت الهويات المعلقة والمكبوتة والتي أصبحت شاهدا على دولة مابعد الاستقلال التي نمطت الفرد وجعلته ممسوخا.
الرواية تضغط بشدة على التجويف الذي أصاب المؤسسة الرسمية التي عجزت عن تحقيق تراكم تواصلي حقيقي بين الاثنيات وجعلت بشكل سياسي فج تموقع الاثنيات من كونها عنصرا مرجعيا أو دالا ثقافيا في الحقل المسطح للثقافة الرسمية.
مع «غادر» تكثر الإدانات التحتية للثقافة المهيمنة التي اخترقتها من الداخل، حيث اشتغلت المحايثة من داخل الترميزات الثقافية من خلال استشهادها بعيون الشعر العربي وهو ترميز يحمل إعجابا بالتظهير العلامي المميز للثقافة الرسمية التي فارقتها «غادر» نتيجة تأزم مزدوج؛
– تأزم الفضاء ؛ حيث جرت النوستالجيا إلى المرجع /فضاء الطوارق /مما أدى بها إلى فراق الثقافة العربية المتمظهرة في التشكيلات الرمزية ؛البلد الخليجي، القصر، . .
– تأزم جسدي نتيجة التصريح بالطلاق ؛وهو طلاق ينم عن ثورية ثقافية للمعنى المتوارى أو المغيب، وهو طلاق مفعم بالوعيد مع ما يحمله من تسامح بين غادر الترقية والأمير الخليجي، تسامح مفعم بالحب وهو تدليل عن البنية الرمزية للفاصل الثقافي بين الثقافتين الترقية والعربية وهو تسامح تحتي يحمل غطرسة داخلية من جهة الثقافة العروبية، فالتسامح مفهوم متغطرس يحمل داخله شللا في الرؤية وآخر في البناء حيث وبرغم الإدانة التي توجهها الرمزيات الترقية للثقافة العروبية إلا أنها حاولت في مسارها تحمل عبء الانحراف الهووي /المرجعي في البناء التاريخي للإنسان الجزائري.
الرواية تعتمد تيمة موقعة الاثنيات الهامشية في صلب الثقافة المهيمنة حيث تموقعت «غادر» باعتبارها ممثلا للثقافة الاثنية في شكلين أساسيين هما :
-موقعتها داخل الثقافة العروبية /المؤسسة الرسمية.
-موقعتها داخل محيط المؤسسة الثقافية الرسمية سياسيا.
نجد أن التموقع اشتغل فيما يشبه البنية القلقة حيث عرى الثقافة الرسمية من الداخل، عرى تناقضاتها من خلال استراتيجية سردية مهمة وهي التظهير الذي اعتمد عليه التسريد حيث وصف نادي الصنوبر في شكل محمية طبيعية مجوفة من الداخل ومنهارة نتيجة التأزم الذي أصاب الخطاب حيث يبدأ التوصيف من داخل البناء «لنادي الصنوبر « بلسان «مسعود» وهو توصيف للاضطراب الذي يسكن محميات السلطة لأنها تراكبت في نسق تاريخي مغلق وهش.