حاورهُ – عِذاب الركابي
كاتب عراقي
الكاتبُ والفنّانُ التشكيلي والروائي ناصر عراق، كاتبٌ لهُ حضورهُ في الفضاء الثقافي والإبداعي العربي، وهوَ فسيفساءُ إبداعية، بشفافيةٍ عاليةٍ يخفضُ جناحَ الودّ والحُبّ لكلّ الفنون، سليلُ أسرةٍ في جيناتِ الكتابة والإبداع الموازي للحياة، وهي تؤدّي فروضَ الطاعةِ في محرابِ الكلماتِ والخيالِ، مصدر الإيحاءِ والتعبيرِ الجماليّ، وهي تثني بتسابيحَ صادقةٍ على دور المبدعين الكبار عليها في مغامرةِ الكتابةِ بمصرَ الإبداعِ والثقافةِ .
الروايةُ غُرفةُ عقلهِ السريّة..! حُلمهُ المتْلوّ بيقظةٍ، ومتعتهُ التي لا نظيرَ لها.. والكتابة – الحياة، برؤاه، بقدر ما فيها من آلام نفسيةٍ، ممتعة في آنٍ!
كاتبٌ في جبّةِ المتعبدِ في محراب الكلماتِ.. مبدعٌ وقِبلتهُ التي لايُمكنُ تغييرها الكلماتُ.. ومهنيٌ وهو يرقى بالإبداعِ والفنّ بأنواعهِ، حينَ يُؤسّسُ منبرًا ثقافيًا -نافذةً للأدب الجادِ، وللمبدعين المثابرين- عابراً للقارات والبحار والأزمان.
* وأنا أقرأ سيرتَك الذاتية، وجدتني أمام لوحة فسيفسائية إبداعية راقية الخطوط والألوان والظلال: رواية، صحافة، نقد، تشكيل… كُلّ ذلك في طربِ روحٍ، وذبذبات كهرباء جسد.. أين أنتَ في كُلّ هذا؟ ككاتبٍ وفنّان تشكيلي، ما شكل البورتريه الذي يُجسّد شخصيتك، وتضعهُ بينَ يديّ القارئ؟
– من حسنِ الطالع أنني فتنتُ منذ الصغر بجميع أشكال الفنون التي ذكرتَها، ومارست بعضها بكل جدية مثل الرسم والمسرح (تمثيلا وإخراجًا) والصحافة والنقد التشكيلي، ويعود ذلك الافتتان إلى الجذور الأولى، فقد نشأت في أسرة عاشقة للثقافة والإبداع، فالوالد “عبدالفتاح عراق” (1924/ 1995) كان مثقفا عصاميًا بامتياز، كما كان رسامًا ماهرًا، وأشقائي الكبار (نحن سبعة وترتيبي السادس) اجتمعوا حولَ عشق الآداب والفنون والصحافة رغم تخصصاتهم العلمية المختلفة، لذا لا عجب ولا غرابة أن أعشقَ الرسمَ وأتقنهُ بشكلٍ لافتٍ وأنا في الثامنة، ثم أقف على خشبة المسرح ممثلا مع شقيقي الأكبر المرحوم “فوزي” وأنا في العاشرة، وأن أصدرَ مع أصدقائي مجلة مطبوعة سميناها (أوراق) وأنا في العشرين، وهكذا… لكن ظل حلم الرواية يراودني ويضغط على أعصابي منذ كنتُ تلميذًا في الصف الثالث الإعدادي، أي منذ عام 1976 حينَ اطلعتُ على تحفةِ “طه حسين” الخالدة (الأيام)، فكدتُ أحفظها من فرط إعجابي بها، وبعد أشهر قليلة التهمتُ ثلاثية “نجيب محفوظ” موفورة الصيت (بين القصرين/ قصر الشوق/ السكرية)، فقررتُ آنذاك أن أغدو كاتبًا روائيًا مثل هذين العظيمين، لكنّ الترددَ ظل ينهش أعصابي سنين عددًا حتى محقته، وأنا على مشارف الأربعين من عمري، وشرعتُ في كتابة أول رواية وهي (من فرط الغرام) التي صدرت عن دار الهلال بالقاهرة في فبراير 2006، والآن وأنا أحبو نحو عامي الحادي والستين أصدرت 12 رواية، وأربعة كتب أخرى في السينما والنقد التشكيلي، لكني أعكف حاليًا على إنجاز رواية أخرى جديدة. أي أنني أفضّل أن يعرفني القارئ بوصفي روائيًا، وأتخيل أن هذا ما يحدث.
الروايةُ متعتي التي لا نظيرَ لها
* كنتُ سأسألك مَنْ الأقرب إليك من هذه الفنون، أعني مَنْ يجيب أكثر عن أسئلتك الإنسانية- الحضاريّة.. وعرفتُ أنها الرواية! لماذا الرواية؟ هلْ لأنها سؤال العالم بكليتهِ – كما يقول هرمن بروخ؟ وأنها الفنّ العابر للأزمان؟ أم ماذا؟
– صحيح تمامًا، فالرواية هي سؤال العالم بكليته كما قال “بروخ”، أضف إلى ذلك أن الرواية تسمح لي بطرح أفكاري وآرائي وتصوراتي عن هذا العالم الذي أتيت إليه بمحض المصادفة، هذه الرغبة في طرح أفكاري على الناس تزلزل كياني، ولا يمكنني الإفلات منها. علاوة على ذلك، فإن كتابة الرواية تمنحني متعة لا نظير لها، وفي ظني أن المبدع الحقيقي، في أي مجال، هو أول من يستمتع وهو يمارس إبداعه، وكما قال ماركس عن حق: (الفن هو أعلى درجة من درجات الفرح يستطيع أن يهبها الإنسان لنفسه).
الرواية مُنتجٌ يخضعُ لقوانين التنافس
* كساردٍ من طرازٍ رفيع .. ما رأيك في هذه” الهجرة الشرعية” إلى قارة الرواية؟ شعراء، وكتّاب، ونقّاد، وصحفيين، وفنانين… في لهاثٍ مضنٍ! أهو ماراثون الحصول على لقب “الروائي” أمْ هي الجوائز بلا عددٍ؟ أم همُ الناشرون المّمول الأمثل لهذه الهجرة والبحر بعيد وخطير أم ماذا؟
– أتخيل أن كل هذه الأسباب مجتمعة هي التي دفعت الكثير من الشعراء إلى هجر (بيوتهم الشعرية) بحثا عن ملجأ آمن في (قصور الرواية)، كذلك الأمر مع بقية المبدعين الذين أدركتهم حرفة الأدب، فالجميعُ هرعَ نحو بستان الرواية طمعًا في ثمارهِ الشهيةِ، لكني أظن أن الجوائز السخيّة التي انطلقت في السنواتِ الأخيرة وما يستتبعها من شهرةٍ ومجدٍ هي السبب الأكثر بروزًا، فالظروف المالية للغالبية العظمى من الأدباء العرب ليست على ما يرام بكل أسف، فالجميع يعاني من أزماتٍ ماليةٍ مستمرةٍ من قرن إلى آخر، (فكلّنا في الهم شرق) كما يقول شوقي، الأمرُ الذي يجعل لعاب الكاتب يسيل على القيمة المالية الكبيرة للجائزة المرموقة. وهذا أمرٌ لا يعيب أحدًا على الإطلاق، فالجوائز تشعل التنافس، ما ينعكس بالضرورة على تطوير فنّ الرواية، فلا يتطور أيّ منتج دون منافسة، وعادة ما أضرب مثلا بالهاتفِ المحمول، الذي تطوّر بشكلٍ مذهلٍ في غضون سنواتٍ قليلةٍ، والسببُ هو التنافس الشرس بين الشركات التي ابتكرتهُ، والرواية أيضًا منتج، يخضع لقوانين التنافس، والمستفيد الأهم في النهاية هو القارئ العربي من جهةٍ وفن الرواية من جهة أخرى.
الروايةُ مغامرة والبحرُ وحدهُ يعرفُ مِنْ يخوضها بمهارةٍ
* كيفَ تُقيّم هذا الكمّ الخارق للعادة من الروايات مصريًا وعربيًا؟ أهو ظاهرة صحية، مادمنا نرى أنّ الإبداع تجريب قبل كل شيء؟! رغم تفرّد بعض دور النشر بالجيد القليل، وخداع بعضها بالكثير، هناك أعمال ينبغي أن يكتب على غلافها “ثرثرة” وليس “رواية”.. قُل لي ما أسباب ذلك؟ ماذا تقول؟ وماذا تقترح لسردٍ جاذبٍ هادفٍ؟ حدثني!
– إذا اعتبرنا أنَّ الإقبالَ الشديد على كتابة الرواية ظاهرة جديدة لم يعرفها الأدب العربي من قبل، فلا مانع أنْ يخوضَ السباقَ أكبرُ عددٍ من المغامرين، فلكلّ جديدٍ رونقه وجاذبيته، ولكنّ المهم مَنْ مِن هؤلاء المغامرين سيظل محافظًا على لياقته الروائية المتفردة حتى نهاية السباق؟ لذلك لا أرى مشكلة كبيرة في أن يخوضَ بحر الرواية أناسٌ لا علاقة لهم بفنون السباحة، لأنّ البحرَ سيفرز من منهم يمتلك المهارة ليصل إلى الشاطئ بسلام. والبحر هنا هو الزمنُ والقرّاء والنقاد والتاريخ.
صحافتنا الثقافية تفتقدُ إلى المسؤول المتميز ثقافةً وموهبةً
* كصحفي ومحرّر، وصاحب مقال أسبوعي في جريدة مصرية مهمة… كيفَ تقيّم صحافتنا الثقافية؟ أهي مواكبة لهذا التفجّر الإبداعي؟ لماذا الصحافة الثقافية العربية متهمة دومًا بأنها صحافة علاقات ومجاملات وتبادل مصالح ومنافع، بل يراها البعضُ مرآةً مهشمة؟ ما رأيك؟ وماذا تقترح لصحافةٍ فاعلةٍ ومؤثرةٍ؟
– لا ريب في أن صحافتنا الثقافية الورقية تمرّ بأزمةٍ عنيفةٍ لعدّة أسبابٍ أذكر منها: الحضور القوي المتزايد للصحافة الإلكترونية، التي تنشر الخبر والمعلومة والحوار والتحليل بسرعةٍ مدهشةٍ وعلى نطاقٍ واسعٍ، فلا يوجد قارئ الآن لا يسعد برفقة الموبايل. الأمر الذي انعكس بالسلب على التوزيع، فالصحفُ والمجلات الثقافية تعاني ركودًا مخيفًا بعد استحواذ الصحافة الإلكترونية على عقل القارئ ووجدانه. كما أنّ الكثيرَ من الصحفِ الثقافية الورقية محرومة للأسف من وجود المسؤول المتميز الذي يمتلك الحسنيين: الثقافة العريضة من ناحية، والموهبة الصحفية المتفجرة من ناحية أخرى، فبدون امتلاك هاتين النعمتين فلا يمكن أن نتوقع صدور مطبوعةٍ ثقافيةٍ ذاتِ شأنٍ، ولعلّ ذلك يفسّر إلى حدٍّ كبيرٍ ما ذكرته حضرتك يا أستاذ عذاب من أنها صارت صحافة علاقات ومجاملات وتبادل مصالح. وأذكر أنني حين أسّست مجلة “دبي الثقافية” عام 2002، أن رئيس التحرير الشاعر الإماراتي الكبير سيف المري منحني صلاحياتٍ شبهَ مطلقةٍ لأضع تصورًا عامًا شاملا عن سياسات تلك المطبوعة وتوجهاتها، وقد حرصتُ على أن تضمَّ المجلة أبوابًا تغطي مجمل النشاط الثقافي بعد أن عملتُ على توسيع مفهوم الثقافة، فخصّصت أبوابًا للموسيقى والغناء والمسرح والسينما والتلفزيون والإذاعة والفنون التشكيلية، فضلا عن الأبواب التي تهتم بعادات الشعوب ومعمار المدن وتاريخها إلى آخره.. هذا الانفتاحُ الكبيرُ في مفهوم الثقافة هو الذي منحَ “دبي الثقافية” الحضور القوي طوال ثماني سنواتٍ كنت أدير تحريرها، خاصة وأننا اجتهدنا كثيرًا لتصدر موضوعاتُ المجلة مصوغةً بلغةٍ عربيةٍ رشيقةٍ جذابةٍ، وفي إطار تصميم متميز يحتفي بالصورة المعبرة، وقد نجح مصمم المجلة الأستاذ أيمن رمسيس في التوفيق بين المادة والصورة والعنوان.
نحظى بكوكبةٍ من النقّاد العرب المتميزين
* وكناقدٍ وأنت تطلُ على الحياة الثقافية في أكثر من نافذة ذات نسمات صحية: تشكيل، سينما، كتب، في رؤى إضافة مهمّة للفضاء الثقافي كيف تقيّم النقد ونقاد اليوم؟ هلْ لدينا حركة نقدية جادة، محرضة على المزيد من الإبداع المتميز؟ مَن ناقدكَ الأمثل مصريًا وعربيًا وعالميًا؟
– أظن أننا نحظى بكوكبةٍ من النقّاد العرب المتميزين، فلا يخلو بلد عربي من وجودِ كوكبةٍ من النقاد الجادين البارزين، وربّما يكونُ الإنتاجُ الأدبي أكبرَ من طاقة من يتصدرون الساحة النقدية، لذا أنا أعذر النقاد كثيرًا، وأدرك إلحاح، أو غضب، بعض المبدعين إذا لم يلتفت لهم أحد من هؤلاء النقاد، وهو أمرٌ مشروع، فقد قال بريخت مرة: “الكتابة بدون مجد أمر صعب”، لذا على الجميع، نقادًا ومبدعين، أن يعتصموا بالمزيد من الصبر والتفهم حتى يمكن للحركةِ الأدبيةِ أن تتطورَ وتنمو وتزدهرَ. بالنسبة لي هناك الكثير من النقاد الذين تعلمتُ منهم وتأثرت برؤاهم وانفعلت بذكائهم أذكر منهم على سبيل المثال: المفكر والثوري الروسي “تروتسكي”، فبالرغم من أنَّ مُجملَ نشاطهِ الفكري كان سياسيًا، إلا أن له صبواتٍ مدهشةً في نقد الأدب، وقد صاغها في كتاب صغير مهم عنوانه “الأدب والثورة”، كذلك فتنتُ بكتابات “أرنولد هاوزر” صاحب الكتاب المدهش “الفن والمجتمع عبر التاريخ”، و”هربرت ريد”، و”تيري إيجلتون”، وفي مصرَ أعجبتني كثيرًا كتابات الناقد الراحل “فاروق عبدالقادر” في الرواية والمسرح، وقد شرفتُ بصداقتهِ والتعرّف إليه عن قرب، كذلك استفدت كثيرًا من كتابات الدكتور “جابر عصفور” والدكتور “صلاح فضل” والدكتور “عادل ضرغام” والدكتور “علاء الجابري” والأستاذ “مصطفى بيومي”، وقد شرفوني جميعًا بالكتابة عن رواياتي غير مرةٍ وفي أكثر من مطبوعةٍ وكتابٍ. وفي مجال النقد التشكيلي أثارتني كتابات الأستاذين “محمود بقشيش” و”عز الدين نجيب”، كما سعدتُ بصداقتهما، أما الأستاذ “رجاء النقاش” فقد ربطتني به علاقة عميقة ممتعة، كذلك سعدت كثيرًا بصداقتي مع الناقدين العراقيين المتفردين الدكتور “حاتم الصكر” والدكتور “صالح هويدي”، وتعجبني أيضًا كتابات الناقد المغربي الدكتور “عبدالجبار العلمي”، والقائمة تطول.
الإنسان العربي، هموم واحدة متشابهة مشتركة
* وككاتب ومبدعٍ دؤوب، وقد عشتَ تضاريسَ فضاءاتٍ عربية عديدة ابتداء من القاهرة وليس انتهاء في دبي ومدن الخليج… قُل لي ما الذي يجمعُ بين هذه الأمكنة الضاجة بتظاهرات الكلمات والخيال؟ وما الذي يجمع بين المبدعين العرب؟ وماذا تقترح لهوية ثقافية عربية منافسة بعيدًا عن منصات المؤتمرات الفكرية والثقافية، وقد بدت للآخرين شكلية زخرفية من دون نتائج؟
– أعدّ نفسي من المحظوظين نسبيًا، فقد تمتعت بزيارةِ عشرين دولة عربية وأجنبية، وفي كلّ دولة منها أتيح لي التجوال في أكثر من مدينة، يعني يمكن القول إنني طفت بنحو 100 مدينة عربية وأجنبية، والمدن كما قال أحدهم مرة مثل النساء، يشعُّ منهن عبيرٌ خاصٌ يميزهن، علمًا بأننا لا يمكن أن نغفلَ دورَ الإنسان الجوهري في تحديد خصال كل مدينةٍ، رغمَ امتزاج هذا الدور بتاريخ المدينة وموقعها الجغرافي، وفي المجملِ يُمكن القولُ إن التشابهَ بين المدن العربية أكبر من الاختلاف، وإن الإنسانَ العربي ذو همومٍ شبه واحدة تقريبًا، خاصة أولئك الذين فُتنوا بالآداب والفنون.
كُلّما قطفَ المبدعُ جائزةً صارَ أكثرَ رُعبًا وهوَ يكتبُ
* من خلال سيرتك يراك الكتّاب “صائد جوائز”، ماذا تقول؟ وماذا تضيف الجائزة إلى المبدع؟ أهي حافز على المزيد أم مسؤولية أم قلق ضروريّ مُحبّب؟ أمْ ماذا؟
– أتخيل أنَّ المبدعَ الذي يحظى بجائزةٍ هو الذي بذل جهدًا كبيرًا في تطوير موهبته وملكاته من خلال تعاملهِ مع إبداعه بالجدية اللائقة، وأزعمُ أنني رجل أخلصت طوال حياتي للكتابة والفن، فلا يمرّ يوم دونَ أنْ أقرأ وأكتبَ، وإلا اعتراني الأسفُ والضجرُ، ومنذ ربع قرن تقريبًا، وأنا أذهب إلى مكتبي في الخامسة فجرًا لأكتب رواياتي، حتى في أيام الإجازات أمارسُ طقوسَ الكتابةِ في بيتي مع قطرات الندى قبل مطلع الشمس. كما أظنّ أنني استفدت كثيرًا من علاقتي العميقة بأفرع الفنون المختلفة وممارستها مثل الرسم والمسرح، أما افتتاني بالموسيقى والغناء فمغروس في وجداني… كلّ ذلك انعكس، كما أتمنى، بالإيجاب على مجمل رواياتي ومقالاتي ودراساتي، وإذا كنت أصدرت 11 رواية فازت منها ثلاث بجوائز مرموقة، فهذا أمر يسعدني لا ريب، كما أن فوز كتابي “تاريخ الرسم الصحفي في مصر” فاز بالجائزة الأولى في مسابقة أحمد بهاء الدين عام 2000 أكّدَ لي أن لكلّ مجتهدٍ نصيبًا حقًا، كذلك فوزي بجائزة أفضل مقال في الصحافة الإماراتية عام 2005 عزّز لديّ صحة هذه الحكمة الخالدة. ومع ذلك، فالكاتبُ الجاد الحقيقي لا يكتب من أجل اصطياد جائزة من هنا أو من هناك، أو كيْ يحصدَ لقبَ “صياد الجوائز”، وإنما يكتبُ تحت ضغط إلحاح داخلي يحرضه تحريضًا على الكتابة وإلا انفجر رأسه من فرط الغم! ومع ذلك، كلّما قطفَ المرءُ جائزة صار أكثر رعبًا وهو يكتب، خشية أن يقلَّ مستواه عما سبق، والموسيقار الأعظم “محمد عبدالوهاب”، وهو من هو، يقول إنه يظل يعيد ويزيد وينقح في اللحن ويطوّر في الأنغام حتى يقنع بالنتائج النهائية، فالمبدعُ الحقيقي ينبغي ألا يقنع إلا بالإتقان المطلق، بغضّ النظرِ عن مصيرِ هذا الإتقان: هل سيتوقف عند الناس ويفوز بجائزة أم سيمر مرور الكرام؟
لا تخلو الجوائز العربية من نسبةٍ قليلة منَ المجاملة
* وقد شاركتَ في تحكيم الجوائز العربية.. هل للجوائز أجندات فعلًا؟ هي متهمة دائمًا بما فيها كبريات الجوائز مثل “نوبل”.. ماذا تقول؟
– صحيح أنني أسسّت جائزة “دبي الثقافية للإبداع” وأدرتها لمدة 12 عامًا، (1999/ 2010)، على مدار ستّ دوراتٍ، وكنتُ منسقها العام وأختار السادة أعضاء لجان التحكيم، كذلك أسسّت جائزة “البحرين لحرية الصحافة” عام 2010 في المنامة، كما كنتُ عضوَ لجنة تحكيم في أكثر من جائزة عربية مهمة. أقول من خلال تجربتي هذه أتخيل أنهُ من الصعب أن ترضى جائزة بتشويهِ سمعتها وفقد مصداقيتها، كما أتخيّل أنهُ من الصعبِ جدًا أن يقبل أعضاء لجان تحكيم بالاتهاماتِ المشينةِ التي يمكن أن يتعرضوا لها إذا خالفوا ضمائرَهم الأدبية، ومع ذلك قد تكون هناك نسبة مجاملة لا تزيد عن 5% في أفضل الأحوال، وهي نسبة لا تفسد سمعة الجائزة.
“طه حسين” و”نجيب محفوظ” مَن دفعاني لمغامرة الكتابة
* حينَ قرأ “همنغواي” الكاتب والروائي النرويجي “كنوت هامسون” وأذهلتهُ بساطته الشاعرة قال: “هامسون هوَ مَنْ علّمني أن أكتب”، لمَن تدين بمغامرة الكتابة؟ أعني بمَن تأثرت، وأصبح كاتبك الأمثل الذي تعودُ إليه من حينٍ لآخر؟
– في البدايةِ، وأنا طفلٌ وصبي، تأثرت بما كان يردّدهُ أبي وأشقائي الكبار على مسامعي من قصائد “شوقي” المخصصة للصغار مثل “الليث والضفدع” أو “برز الثعلب يومًا في ثياب الواعظينا”. إذ كانوا يردّدونها أمامي بأداءٍ فاتنٍ مثيرٍ وقد تمهلوا في شرح ما ينغلق على ذائقتي وأنا طفل. لذا أحببتُ مبكرًا اللغة الفصحى وإيقاعها المتناغم، لكن كما قلتُ سابقًا، فـ”طه حسين” وسيرته “الأيام”، ثم “نجيب محفوظ” وثلاثيته المشهورة، هما اللذان دفعاني دفعًا لخوض مغامرة الكتابة. ولك أن تعلم أنني شرعتُ في كتابةِ رواية عام 1977، أي وأنا في السادسة عشرة من عمري، متأثرًا بالجزء الأول من الثلاثية “بين القصرين”، مستلهمًا أفراد أسرتي، وبالفعل كتبت فيها نحو 15 صفحة، ثم توقفتُ، لأني اكتشفتُ أنني أقلّد “محفوظا”، وقد سمعتُ من أبي وأشقائي أن المقلّد في الفنّ لا مستقبل له، والآن، لا أعود لكتابٍ قرأتهُ وهضمتهُ سابقا، فالوقتُ يمرُّ، وأرى أنّ من الأفضلِ الاطلاع على كتب جديدة!
الكتابةُ عذابٌ وعذوبةٌ في وقتٍ واحدٍ
* “الكتابة عذاب والاسترسال فيها أليم” – بلزاك!
“الكتابة هي طريقي في أن أكونّ حيًّا” – ماريو فرجاس يوسا!
” الكتابة شيطانٌ يسكننا” – محمّد شكري !
مَن الأقرب إلى رؤاك من هذه الشذرات الراقية؟ ولماذا؟ وما تعريفك للكتابة كمبدعٍ وساردٍ كبير؟
– أفضّل تعبير يوسا “الكتابة هي طريقي في أن أكون حيًا”، لأن الكتابة هي رد فعلي تجاه العالم بكل ما فيه، حيثُ إنني لا أتخيلُ نفسي مجرد مستقبل للأحداث والوقائع والأفكار دونَ أن أعلق عليها، ولكنْ بأسلوبٍ ممتعٍ وجميلٍ. ورُغمَ الآلام النفسية المزلزلة التي ترافقني مع الإبداع، فإنها آلام ممتعة أيضًا، لذا فيمكن القول: “إن الكتابة هي العذاب والعذوبة في وقت واحد”.
إنّني متصالحٌ مع الناس والزمن والحياة والموت
* الخوفُ بفلسفة أرسطو عامل تطهير.. مّمَ يخاف الكاتب الكبير ناصر عراق؟ من الكتابة؟ أم من المرض؟ منَ الحبّ؟ منَ الموت؟ أمْ من ناصر عراق نفسه؟ حدثني!
– أظن أنّني متصالحٌ مع الناس والزمن والحياة والموت، فلا تنتابني مشاعرُ الخوفِ الشائعة من الموت أو اعتلال الصحة، لأني موقنٌ بأننا في الحياة مجرد عابرين، جئنا إلى هذا الكوكب في زيارةٍ سريعةٍ ثم نغادرُ، والحصيف من يسعى لاستثمار هذه الزيارة ليستمتع بحياته دون أن يؤذي الآخرين، ولا يوجد -كما أزعم- أمتعُ من التعامل بجدية مع الثقافة والفكر والإبداع. ومع ذلك قد يزعجني أن يصيبني مرضٌ وأنا في وحدتي، فلا أستطيع تلبية أمورَ نفسي بنفسي. لأني للأسف أعيش بمفردي منذ ثلاث سنوات.
أمتلكُ الكثير من غُرفِ عقلي السريّة
* وصفَ الشاعرُ بودلير رواية “مدام بوفاري” لفلوبير قائلًا: “إنها غرفة عقلهِ السريّة”! أي أعمالك التي وقف عندها النقاد، يُمكن أن تكون غرفة عقلك السريّة؟ كتبتها أو كتبتك في الوقت نفسه؟
– الحقّ أنني كنت محظوظا بالسادة النقاد، فقد تعاملوا مع رواياتي بسخاءٍ نقديٍّ كبيرٍ، حيث احتفوا برواياتي كلها، ولعل “الأزبكية” نالت أكبرَ قدرٍ من اهتمامٍ ، نظرًا لحصولها على “جائزة كتارا الكبرى في الرواية العربية”، ومعّ ذلك أظنّ أنّ في كلّ روايةٍ تقبع إحدى غرفِ عقلي السريةِ، فأنا أمتلك الكثير من تلك الغرف العقلية السرية!
“الأنتكخانة”مصدرها معلومة تاريخيّة بالغة الأهمية
* المبدع ناصر عراق والرواية – الحياة – الوجود .. غزارة بوحٍ مٌتقنٍ، ابتداءً من “أزمنة غبار2006” ومرورًا بـ “من فرط الغرام 2008″، والعاطل” 2011 ونساء القاهرة- دبي 2014 والأزبكية 2015، والكومبارس 2016، والبلاط الأسود 2017، ودار العشاق 2018 وأيام هستيرية 2020″، والقادم “الأنتكخانة” مطلع العام 2022.. والظاهر أنها تاريخية ماذا تقولُ؟.. ما الفكرة؟
– تتكئ “الأنتكخانة” على معلومةٍ تاريخيةٍ بالغةِ الأهميةِ قرأتها بالمصادفة، حدثتْ في زمن الخديوي إسماعيل. هذه المعلومة لا يعرفها أحدٌ تقريبًا، لكنها ألهمتني فكرة رواية احتشدت لها لأكثر من عام، حيثُ عدتُ إلى عصر هذا الخديوي/ المشكلة الذي حكمَ مصرَ في الفترة من (1863/ 1879)، عدتُ لأطالعَ العديدَ من الكتبِ التي تتناول ذلك العصرَ المترعَ بالغرائبِ والعجائبِ.