(1)
أصبح لمفهوم النافذة في النص الشعري المعاصر دلالة مكانية, تستدعي البحث في ماهية النافذة وأبعادها المكانية داخل شاشة الشعرية العربية, ومن ثم تحديد وظيفة وموقع الراوي داخل بنية المكان, وقدرته على الظهور والاختفاء بازاء فعل الحديث.
وفعل النافذة داخل مساحة النص الشعري- توجيه قرائي نحو مساحتين تصورتين, الأولى الشخصية/ الداخل- المكان- والشخصية/الخارج , وقدرة الداخل/ الخارج في التماهي داخل حقل اللقاء بصريا.. لمسيا.
يسعى النص الشعري المعاصر الى توطين دلالة النافذة داخل جغرافية المكان الشعري, لما تنطوي عليه النافذة من بعد حاجزي ما بين شخصيات النص, فالنافذة تستدعي الحجز والعزل ما بين شخصيات النص كافة من جهة, وسرعة الراوي في سرد الأحداث من جهة ثانية.
أما الإشكالية التي يواجهها النص, هي سرعة الكاميرا- الرائية, وحساسيتها في الانتقال من الداخل/ البيت إلى خارجه, وقوة تركيزها على الشخصية الشعرية من دون الاهتمام بأدوات النص كافة, فالشخصية/ الداخل تتطلب ديكورا واضاءة خاصة, في حين الشخصية/ الخارج تقترح ديكورا واضاءة مغايرة, وهذا التباين أسهم في خلق إشكالية شعرية كبرى, بل إن شخصية/ الخارج تقترح حركة واسعة داخل إطار المكان المفتوح, في حين الشخصية/ الداخل تتقيد في فعل الحركة داخل إطار المكان المغلق.
(2)
يسعى الشاعر يوسف الصائغ في مجموعته الأخيرة (استيقظ يا يوسف) إلى ترسيخ دلالة النافذة, حتى أننا نجد أن الشخصية/ الداخل هي شخصية ذكورية, في حين الشخصية/ الخارج انثوية, وهذا التباين يمثل قلق الشاعر بالأساس, فالنافذة محطة للانتظار والمشاهدة لما يجري في الخارج, أي أن ركون الشخصية الشعرية عند النافذة يمثل قلق البحث, فقصيدة (اعتذار) تعلن مفهوم القلق منذ اللحظة الأولى بتكريس مكانية جلوس الشخصية عند الشباك, والاعتذار عن المغادرة:
أجلس في الشباك أنتظر
قد ينطفئ القمر
أو ينقطع المطر
أو يأتي أحد يسألني
أن أترك هذا الشباك
فاعتذر….
ففعل (الانتظار) يؤكد صيرورة القلق والبحث, لذا تتأسس شعرية النص عند نهاية القصيدة (اعتذر), لكن فعل الاعتذار محاولة جديدة وذات حيوية في البحث والجلوس المستمر عند النافذة والاعتذار عن تركها.
وتلعب قصيدة (جوع) لعبة ذكية في رسم أبعاد الشخصية الشعرية وتحولاتها من الداخل الى الخارج, بتنصيب الكاميرا/ الرائية داخل المكان المغلق, لتمارس الشخصية/ الخارج فعل التلصص.
كل يوم
حينما يقبل الليل
تجلس جارتنا خلف شباكها
وتروح تراقب…
حتى يحل الهزيع الأخير
ويخلو الطريق
عند ذاك…
أراها تغادر شباكها
ثم تخرج من بيتها متلصصة
وتروح تفتش في المزبلة
تمارس الشخصية الشعرية فعل التلصص داخل المكان (خلف شباكها) مطلع النص, في حين يأخذ المقطع اللاحق دلالة تحول الشخصية من الداخل الى الخارج لـ(تفتش في المزبلة), و(يحل الهزيع الأخير, يخلو الطريق, ينقطع السابلة) تصميم ديكوري لمشهدية الخروج وأجواء المناسبة بازاء قلق الشخصية وذكائها التلصصي.
إن قلق الركون عند النافذة, جعل من عين/ الراوي في تلصص مستمر لمتابعة أخبار (المكان/ الخارج الداخل).
ينهض النص مرة جديدة على جعل الكاميرا الرائية ذات بنية درامية, نتيجة سرعة تحولاتها بين الداخل/ الخارج, وتداخل القص مع الفعل الشعري (تجلس تروح تخرج تفتش في المزبلة) جعل ثمة تطورا دراميا متناميا من خلال متابعة الكاميرا مشهدية البحث.
تشكل دلالة النافذة قدرا كبيرا لمشهدية النص, من خلال استثمار الشاعر تكرار الظرف الزماني (كل يوم) دلالة على استمرارية الحدث التلصص عن طريق النافذة, وتنصيب الكاميرا (أنا/ الراوي/ الشاعر/ الكاميرا) داخل فعل المكان البيتي, أثبت تلصص الراوي في متابعة مشهدية المرأة التي تفتش في المزبلة.
إن إثبات أهمية النافذة داخل مشهد النص الشعري, يؤكد حساسية الكاميرا وأبعادها التلصصية في تصوير اسرار الشخصيات الشعرية داخل مشهد الشعرية العربية, وتجسيد فعل النافذة يؤكد أهمية النافذة بوصفها ديكورا فعالا داخل سينمائية النص الشعري, إذ أن فعل أنا/ الراوي/ الشاعر/ الكاميرا يضمن دلالة التقارب المفهومي ما بين فن السينما والشعر.
أثير محمد شهاب كاتبة من العراق