لعل وصفها بليلة بهيجة سيكون مناسبا لإثنين يسكنان في منزل دافئ وسط مزرعة صغيرة ويجلسان بعد العشاء أمام المدفئة أحدهما يقرأ كتابا والآخر يطرز ؛ لكن الأمر يختلف حين يصبح هذا ما يفعلانه يوميا ولسنوات طويلة . وبالتالي يمكن إطلاق ليلة بهيجة حين نصف الليالي التي يقضيها أحدهما على الأقل في شيء آخر ؛ كأن تنظف ماريا إحدى الغرف وتعيد ترتيبها كعادتها لخلق تغيير ما .
قطرات الصنبور طرقات صاخبة على جدار الحنفية ، صوت تهشم الخشب في المدفآة يمنح هسيسًا دافئًا ، الشيء الوحيد الذي يكسر حائط الصمت هو صوت تقليب صفحات كتاب .
قالت : «الجو بارد» ، أجابها بالصمت . قالت : «سأنتهي من هذه القطعة غداً « ، ويبدو أنه لم يسمعها . لكنها تعرف أن تيم ليس بالزوج السيء ما دام يقدرها ويحترمها . لابد أن شعورها الدائم باليأس هو السبب .
منذ سنوات حين كانت تطرز الكثير من القطع وتتكدس معها دون أن يشتريها أحد ، وقتها لو لم تصارحها جارتها مريم بإعجابها الشديد بما تصنع لما اكتشفت أن عملها رائع وعلى اثر ذلك استمرت . وبالنسبة لتيم فكل علاقة لابد أن تصل لمرحلة البرود وليس عليها أن تفكر بمثاليات من المستحيل أن تجدها بغير أحلامها .
ثمة صوت لصرير نافذة ، لابد أن الصوت تكرر للمرة الألف لكنها لم تنتبه له من قبل . ماريا تنزعج من صوت الصرير جدا ، هو بالنسبة لها أنينٌ تطلقه النافذة . غير أن تيم لا يجد صوت صرير النافذة غير كونه صرير نافذة ولا زال يجلس صامتا لا يتحرك منه شيء غير يده التي تقلب الصفحات بشكل روتيني . تأملته مليا ، وجهه العابس وهو يقرأ ، عيناه اللتان لا ترمشان ، التجاعيد الصغيرة فوق الحاجبين ، فجأةً شعرت بغيظ من الصمت المطبق هذا وكأنه صوت صرير النافذة ذاته ، قالت : «تيم ما رآيك أن نخرج لنتمشى في المزرعة ؟ « ، «لا « قال لها بصوت لا تكاد تسمعه لولا حركة شفتيه ، أشاحت بوجهها للجهة الآخرى في انزعاج كيف تسأل سؤالا تعرف جوابه سلفا ؟
بعد دقائق راودتها فكرة مفاجأة ، وقفت مذعورة وصرخت : «تيم هل سمعت الصرخة ؟»
انتفض على الكرسي ووقف مذعورا : «أية صرخة ؟ «
«صرخة عالية أظنها قادمة من المطبخ ، أظن» قالت هذا وهرعت إلى المطبخ ، لحق بها تيم . في المطبخ لم يجدا شيئا ، «لا أحد « قال . كانت صامتة أمام النافذة المشرعة ، قال «ربما جارتنا سارة ، هل يضربها زوجها ؟ قالت : « لا ، ليست الصرخة لها ، كانت الصرخة هنا « هرع تيم للبحث في البيت أكثر ، هاهي تسمع صوته يفتح أبواب الغرف واحدا تلو الآخر بينما ظلت هي أمام النافذة تفكر في جدوى ما تفعله الآن ، لماذا كل هذا ؟ ما الذي تريده الآن ؟ غير أن فكرة جعله يتحرك من أمام المدفئة لمعت في عينيها وأثارت شيئا دفينا في أعماقها لم تفهمه . ففكرت بأن عليها أن تتصرف .
هاهي تنظر من خلال النافذة نحو الظلام الكثيف في الخارج ، يبدو الصمت ثقيلا لكن عليها أن تجد شيئا . صرخت فجأة « تيم ، تعال وانظر « خلال ثوان كان تيم أمامها ، « انظر للخارج ، ثمة شيء» نظر في الظلام قليلا ، « لا شيء» قال . قالت : « شيء ما يتحرك هناك « . حملق في الظلام لدقائق ، لم يجد شيئا ، لكنه على نحو مفاجئ شعر بشيء في الظلام ينظر إليهما ، « رآيته» قال .
في صباح اليوم التالي كل فرد في القرية عرف بما حدث وعدا أولئك الملتزمون بأعمالهم كانت القرية في زيارة لبيت تيم . انشغل الرجال بتحليل ذلك الشيء الذي رآه تيم وماريا في الظلام ويمتاز بصرخة عالية ، بينما كانت النساء يشككن باللواتي لم يحضرن للزيارة . بدت ماريا خائفة مما حدث البارحة ، رغم انها خائفة بالفعل لكن من شيء آخر .
في الليل لم يجلس تيم وماريا أمام المدفئة كما جرت العادة بل في المطبخ متقابلين تتوسطهما طاولة . يد ماريا في يد تيم . على الأغلب يفكر تيم في الشيء الذي يراقبهما من الخارج ويشعرهما بالخطر ، أما ماريا فهي مشغولة بقلبها الذي نبتت داخله ياسمينة بيضاء تشبه التي تفرعت أغصانها فيه وازهرت منذ ١٥ سنة حين بدأ كل شيء .
عبير عيسى