لم تنفصل إطلالة جيلي على هذه الدنيا الواسعة عن كتاب صادق جلال العظم «النقد الذاتيّ بعد الهزيمة»، وعن كتبه المبكرة الأخرى كـ «نقد الفكر الدينيّ» و«في الحبّ والحبّ العذريّ». فقراءة هذه الكتب كانت يومذاك أقرب إلى الواجب والشرط الشارط في آن معاً.
فصادق بدا الكاتبَ العربيّ الأشجع آنذاك، نازعاً السحر عن الواقع وناقداً الفكر الدينيّ السائد ومصادره في الأسطورة والخرافة، من دون الإغفال عن الإشارة إلى توظيفات ذاك الفكر، وإلى نقاط التقاطع بينه وبين الأنظمة السياسيّة والمصالح الاقتصاديّة.
لكنّ بعضنا أحسّ، وأنا منهم، أنّ «السياسيّ» لا يحتلّ حيّزاً كبيراً، بصفته المستقلّة هذه، في أعمال صادق العظم. وكنّا نعيش يومذاك، ولا نزال، تطلّباً إلى «السياسيّ» يعادل تطلّبنا إلى نقد الأفكار وأدوارها واستخداماتها. ذاك أنّ هزيمة 1967 نبّهت أيضاً إلى واقع الأنظمة، خصوصاً تلك العسكريّة – القومية التي انهزمت بعدما أمّمت مجتمعاتها وأمعنت في تعطيلها. وهي أنظمة ما كان التنبّه إلى واقعها المكشوف ليستدعي أيّ جهد لولا كثافة الرطانة المناهضة للإمبرياليّة، بشقّيها اليساريّ والقوميّ، التي نزّهت «الأنظمة الوطنيّة التقدّمية» عن النقد الذي تستحقّه.
يومها كان المخرج الرائج هو التعميم الثقافيّ الذي يقول كلّ شيء ولا يقول شيئاً، بوصفه البديل عن التخصيص والتحديد السياسيّين، لا سيّما في بلدان كسوريا والعراق البعثيّين حجبت داخلَها عن النظر وحكمت محكوميها بقوّة الأمن والإرهاب. أمّا «السياسيّ» المتاح لنا، إبّان تأجيل تلك البلدان، فكان ينحصر في الموضوع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ وحده وفي الهجاء المتواصل لأميركا والغرب و«مؤامراتهما». لقد صبّت الحيويّة كلّها هنا لأنّ تناول الأنظمة السائدة في المجتمعات التي نصدر عنها هو إمّا خروج عن الصراط المستقيم أو أنّه مكلف أو غير متاح أصلاً.
ولئن انخرط سائر المثقّفين، يساراً ويميناً، في مطاردة الخارج، بقي لانخراط صادق جلال العظم طعم خاصّ: فهو، فضلاً عن شجاعته التي لا تصحّ في كثيرين ممّن انشغلوا بالتعميم الثقافيّ، نبّه إلى التناول اللاساميّ الذي يحكم توجّه الكثيرين من السياسيّين والمثقّفين العرب إلى الموضوع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ. وبهذا، ومن خلال مقالات مطوّلة جُمعت في كتاب حمل عنوان «دراسات يساريّة حول القضيّة الفلسطينيّة»، كافح صادق خرافة أخرى مستشرية وذات ضرر مباشر، مستفيداً من أعمال ماركسيّة أوروبيّة في التعريف باللاساميّة، ككتابات ابراهام ليون وماكسيم رودنسون وسواهما. أمّا دفاعه عن سلمان رشدي فكان، إلى ثقافيّته، سياسيّاً مداوراً، إذ هو يصدم المناخ الخانق والقمعيّ الذي أسّسته أنظمة استعانت، على قدر من التفاوت، بالمقدّس من أجل أن تمعن في تدنيس عالم الناس الفعليّ. وفي الحالتين، اللاساميّة ورشدي، كان صادق يطرح مسألتين بالغتي الحساسيّة تميّزان ثقافيّته الشجاعة والتي تتاخم السياسة عن الثقافيّة التعميميّة الرائجة والمقتصدة في التعيين والتسمية.
لقد راحت ثقافيّة العظم، لأنّها شجاعة وملموسة، تقترب من السياسيّ تدريجياً، فحينما انفجرت الثورة السوريّة في آذار (مارس) 2011، ضمّ صوته بوضوح لا لبس فيه إلى أصوات الملايين من المقهورين والمضطهَدين في مواجهة نظام من الاستبداد الوراثيّ المتمادي. وهذا من دون أن يقدّم تنازلاً واحداً للخرافات التي قد تقيم في بعض بيئات المقهورين أنفسهم.
فإذا ما تمّ، بالتالي، تناول الحياة الفكريّة لصادق جلال العظم ككلّ واحد، بدا أنّ صاحبها تجنّب الوقوع في أيّ من الجوهرانيّتين اللتين وقع معظم المثقّفين العرب في واحدة منهما: تلك الثقافيّة التي تقصر همّها، وبكثير من التعميم والتمويه، على مطاردة «العقل» الدينيّ والسحريّ وسوى ذلك، مع العزوف عن الخوض في أمور السلطة والحاكميّة، وتلك السياسيّة التي تركّز جهدها كلّه على مكافحة الاستبداد، مع ما قد يلازم ذلك من شعبويّة تمجّد كلّ ما يُنسب إلى «الشعب» من أفكار وخرافات. فعند العظم، لا يكون التغيير تغييراً إن لم يطرح مسألة السلطة وإطاحة الاستبداد، إلاّ أنّ التغيير لا يكتمل ما لم يصادم الوعي الخرافيّ وشبه الخرافيّ الذي يتعدّى السلطة إلى المجتمع والثقافة.
لكنّ شيئاً آخر يبقى من صادق ممّا لا يتناوله التقييم النقديّ في العادة إلاّ قليلاً. إنّه صدقه وترفّعه عن الصغائر وتواضعه وعيشه قناعاته واحترامه العميق لما يقول وما يفعل. وفي المعنى هذا، فأن يكسب واحدنا صداقة الرجل المحترم المدعوّ صادق جلال العظم فهذا بذاته إنجاز لا يرقى الشكّ بتاتاً إليه.
———————-
حازم صاغية