النجوم التي في السماء جميلة، بلمعانها في هدأة الليل، هناك على الزاوية نجمة حمراء، تبدو أكتر إنذارا من كثافة الظلام، لعلها تشير الى أمر يهم من يرقبونها، تظهر نجيمات كدب صغير يسبح في الهواء، عادة يكون أطلس المدرسة بجواري، أبحث فيه عن أسماء هيئات وتشكلات النجوم التي أراقبها بمنظار والدي القديم، كثيرا ما تكون الأسماء التي أتصورها جد مختلفة عما في الاطلس من أسماء تكون باهتة في ضوء قنديل الجازولين المتمايل مع النسمات الخفيفة لليل، النجوم الصفراء تنتشر في مساحات واسعة من السماء، تبدو بعضها قريبة أكتر من أخري تزداد ابتعادا كلما مر الوقت.
هناك نجوم تظهر منها ومضات سرعان ما تنطفيء نجيمات ليست قريبة كثيرا تشبه اندلاق كأس ذات عنق ضيق، النجوم كل ليلة تغير مكانها لتحل أخرى جديدة، كنت منتصف كل ليلة أصعد إلى سطح المنزل في كثير من الهدوء والحيطة لئلا أوقظ أيا كان، كنت أستمتع بمشاهدة السماء الصافية من السحب في ليالي الصيف، هي أيام نادرة تلك التي تكون هناك سحب داكنة، السحب البيضاء بمتراجاتها العابرة السريعة تحكي لي قصصا تمتد بطول السحب وكثافتها، أنظر من السطح ليطل أخوتي النائمون في براح المنزل، الليل يعنيني في قريتي، بعد الحادية عشرة تخمد أنفاس أهالي القرية المتعبة من نهار مرهق، تكون آلات الديزل بهديرها المرتفع قد نامت أيضا، عندها كنت أبدأ في النظر إلى السماء للبحث عن نجمتي المفضلة.
بعد منتصف الليل يبدأ ديك بيتنا في نفض الطل عن أجنحته قبل أن يشد عنقه بالصياح، يستمر بعدها تتالى صياح ديوك جيراننا ثم الديوك البعيدة في القرية، كنت أخمن ما يعنيه ذلك الصياح المتواصل بأنه السأم من الظلام وبأن الفجر آت لا محالة، ذلك الصياح بدا جميلا وذا رابطة ما بالليل، كانت هناك دائما نجوم تحترق بتوهج خطي رائع، سمعت جدي ذات مرة عندما كنت صغيرا يقول : تمن أمنية ما عندما تشاهد نجمة تتوهج في خطها، ستكون أمنية جميلة.
كانت نجمتي التي أرقبها كل ليلة تبدأ خضراء يتراءى لي أنها من أمنيات اللازورد، وعندما تكون أعلى رأسي يصيبها الخجل فتبدو وردية اللون ثم تزداد احمرارا وتبقى متسمرة بلون الدم إلى أن يقترب الفجر منها تكون عندها قد أصبحت شقراء، هكذا كل ليلة من ليالي الصيف كنت بنهم جديد أراقبها طويلا، وأنسج منها حكايات جديدة بعيدا عن مرارات النهارات القروية التي تبدو عتيقة ذات عكازين، أخبرت أخي بعض ما تعنيه النجوم لي وكيف إن حديثنا يستمر إلى أن يقترب الفجر من القرية، ضغط شفته السفلي، ونظر إلى السماء، أشعة الشمس العمودية جعلته يخفض نظره الي، لم يزد عندها إلا أن هز رأسه وتمتم ربما.. ربما.
الليلة تبدو مختلفة فهناك القمر مكتملا في السماء، سحب صيفية متمددة، لم يصدح ديكنا هذا المساء، ربما كان معجبا بالوضوح الهادىء لهذه الليلة حيث إن الظلام قد أغلق بابه ويجب عليه عدم مناداته أو إيقاظه، الليلة هادئة من القطط المتناجية بأصوات حزينة وطويلة، قال جدي ذات مرة إن من يكتب أن يخلق في ليلة كهذه، عادة ما يكون أصلع يشبه الدودة في ملامح جسده، فلا هناك شعر في الرأس أو في الحواجب أو في أماكن أخرى من الجسد، ولعلاج ذلك يجب عصر فأر حي على رأسه بيد لم تلامس الماء في أسبوع كامل، القمر يبدو في اكتماله بدون شعر غير كدمات صغيرة على وجهه.
عندما يكتمل القمر عليك أن تختفي تحت اللحاف، فكرت بذلك وأنا أغطي قدمي المرهقتين، إذ عندما يكتمل القمر يبدأ في النقصان بعدها كأن هناك من يأكل كل ليلة جزءا منه، القمر عندها لن يعود إلى الاكتمال إلا بعد فترة طويلة، لهذا كان علي أن أغطي حتى رأسي فالبعوض في ضوء القمر يلتهمك برغبة أكثر انفتاحا.
لليل مخلوقاته، يردد جدي، وعندما تسمع سلاسل الليل تمتد الى جدار بيتك وتشعر من ثم باحتكاكها الفاضح، لا تنطق بكلمة، وإلا أصبحت صرصورا أو أي شيء ما أخر قذر ومسكين، إنه قانون الليل في القرى المظلمة، ولكن لا بأس عليك من أن تربط عربتك بنجمة بينما أقدامك على الأرض، كنت استمع لجدي كثيرا.
هكذا لم يكن علي أن أنهض من فراشي تلك الليلة، كانت هناك أصوات في الطريق الضيق بين البيوت القريبة، صوت قريب وواضح بضوضائه، نسيت لحظتها ما سمعته من جدي، كان هناك حيوان يشبه البقرة بقوائمه الخلفية. القوائم الأمامية قصيرة كأيادي الكبش بينما منخارا ذلك الحيوان يشبهان منخاري خنزير، آذان كلب ورقبة ثور غليظة، سلسلة ضخمة تنسل من ظهره لتنسحب على الأرض محدثة صوتا خشنا، كان الحيوان يحك ظهره بجدار بيتنا، هيئة إنسان ضبابي لم تكن ملامحه واضحة، شبه عار، يجر كتلة مربعة ربما كان صندوقا أو كيسا، لم أستطع معرفته، كنت خائفا ولم أفكر بنجمتي عندها.
في الصباح كان على جدار بيتنا حيث حك الحيوان ظهره الكثير من الذباب وقد يتراءى إنها صبغة سوداء، بحثت في المخزن عن المبيد الحشري الذي نستخدمه في العادة للزنابير اللاسعة، كانت الشمس قد بدأت في مد خيوطها الصلبة عندما بدأت ارش المبيد على تكتل الذباب، تنبعث رائحة كريهة من مكان التجمع السابق للذباب، لا دهن، لا شعر غير الذباب الأسود الكبير الذي عاد بأعداده الكبيرة ليلتصق بالجدار من جديد ثم.. ثم لم أعلم ما جرى لي.
العمة حليمة تمسح أنفها المعقوف، لم يكن أحد بجانبي، الممرضة السمينة تبدو واضحة في الاستعلامات، لم يأت أحد لزيارتي اليوم حيث الساعة لا تزال تشير إلى الخامسة والربع مساء، في الأسابيع الأخيرة بدأ الزائرون بالتناقص في كل مرة يسمح لهم بزيارتي.
– عمتي، أعدك بأنني لن أراقب نجمتي ولن تهمني ألوانها، لن اربط عربتي بنجمة ما فأنا مازلت في الارض… كان عامر ابنك صديقي وحبيبي، لقد حزنت كثيرا لوفاته…
يدها تراخت عن عصاها الغليظة الرأس لتشير إليّ بعدم الكلام، نظرت اليّ بعينين تشبهان كرات صغيرة صافية، تمتمت.
– حسنا ستخرج من المستشفى.. ولكن لا تخبر أحدا بما شاهدت.. وعليك أن تنام باكرا وتترك النجوم.