يشير المعنى اللغوي لكلمة الحدّ إلى الفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر، وجمعه حدود بحسب لسان العرب، وبهذا المعنى لا يوجد تفاضل بين الشيئين، فالحد يقام بينهما لئلا يختلط أحدهما بالآخر، بدون أن يعني ذلك تمتع أي طرف بمزايا مخصوصة تميزه عن الآخر. أما في الاصطلاح فالحدّ عقوبة وجبت على الجاني بدون تحديد جنسه، سواء أكان رجلا أم امرأة. وتكتسي دلالة الحدّ في «نساء على أجنحة الحلم» لفاطمة المرنيسي دلالة مزدوجة تحيل على المعنيين السابقين لتنتج دلالة جديدة مغايرة، فبالإضافة إلى ضرب الحدود بين الرجال والنساء، مع الانحياز الواضح لجانب الرجل إذ تتلاشى سمة المساواة بين الطرفين اللذين وضعت بينهما الحدود، لتتحول الحدود إلى سجن يحيط بطرف (النساء)، بينما يقبع الطرف الآخر (الرجال) خارج الحدود، ليتحول بذلك الحدّ من فاصل بين شيئين إلى سور منيع يحيط بشيء، ويمنع عنه ممارسة أبسط حقوقه، محققًا بذلك المعنى الثاني بالاصطلاح الشرعي، وتصبح الحدود عقوبة مقدرة على الجاني، والجناة هنا النساء، والسؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحال: ما الجرم الذي اقترفته النساء حتى تقام عليهن الحدود؟!
ستأتي الإجابة لتوضح أن النساء لم يقترفن ذنبًا سوى كونهن نساء، وأن الحدود ليست إلا وهمً موجودً في أذهان من يملكون السلطة، وبما أن الرجال هم من يملك السلطة فقد أقاموا الحدود على النساء وأطلقوا عليهن تسمية الحريم. لكن هذه الحدود معرضة للاختراق، فالنساء لم يقبلن بها، وكن يحاولن اختراقها بين وقت ووقت بطرق مختلفة، وكذلك الأمر بين البلدان ليتغير شكل العالم وتتغير الحدود وفق لعبة القوي والضعيف. وهذا يفسّر موقف الثقافة الذكورية من المرأة وقضاياها، فأي خلخلة للحدود بين المرأة والرجل يهدد السلطة الذكورية وهيمنتها، ومصالحها، وهو ما لا تقبله الثقافة الذكورية. ولعل معنى الحريم يتقاطع في دلالته مع الحدود، فالحريم: ما حُرِّم فلا يُنتهَك، وكذلك الحدود لا يجوز انتهاكها.
في «نساء على أجنحة الحلم» قدمت المرنيسي تجربة حياتها في عالم الحريم وحدوده. وفي كتابها الآخر «شهرزاد ترحل إلى الغرب»؛ وضعت حدودًا أكثر دقة لمفهوم الحريم، وفرّقت بين «الحريم الشرقي»، و»الحريم الغربي» بناء على دور المرأة فيه. ووضحت أن الغربيين جعلوا من الحريم دور متعة، ومن النساء مخلوقات فاتنة للاستمتاع، وهذا المفهوم يتعارض مع المفهوم الشرقي للحريم حيث الحصانة والانحجاب والوقار، وفي الوقت الذي تظهر النساء موضوعًا للذة والمتعة في الحريم الغربي؛ يظهرن ذوات سلطة وذكاء ودهاء فلا يمنحن أجسادهن إلا برغبة وقرار في الحريم الشرقي.
تتحدد ماهية الحريم في «نساء على أجنحة الحلم» من منظورات متعددة لينتج مجموعة من المفاهيم المتعارضة والمتناقضة، ولا سيما عندما تنقسم النساء إلى فريقين: الأول الفريق التقليدي المناصر للحريم، والثاني الفريق العصري الرافض للحريم. وتدور معارك طاحنة بين الفريقين في محاولة لتأكيد وجهة نظر كل منهما. ولا بد من الإشارة هنا إلى اختلاف شكل الحريم في المكان والزمان، فالحريم في المغرب ليس هو حريم أندونيسيا، وحريم هارون الرشيد في القرن التاسع مختلف عن حريم اليوم. فقد كانت جواريه شابات يمتلكن ثقافة عالية في التاريخ والجغرافية والأنساب والفقه وخطط الحروب حتى يجلبن له السعادة عن طريق المعرفة، أما حريم اليوم فيعج بالنساء الأمّيّات. إن هذا الكلام يثير إشكالية في غاية الأهمية إذ يبين لنا أن الحريم ليس مرتبط بالعلم والمعرفة أو بالجهل والأمّيّة، وإنما يرتبط بفرض شروط حياة محددة من طرف أول على طرف ثان، ويقبل بها الطرف الثاني لأسباب عديدة، قد تكون سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية، أو غير ذلك. وعادة يمتلك الطرف الأول، الذي يملي شروطه على الطرف الثاني، السلطة والقوة والهيمنة بحيث يكون متبوعًا، والآخر تابعًا له.
في زمن لم يكن يُسمح فيه للنساء بمغادرة البيوت، والعيش في حريم خلف الأسوار، منعزلات عن العالم الخارجي، استطاعت شامة أن تنقل العالم إليهن من خلال مسرحها الذي راحت تقدم فيه العروض المستوحاة من قراءاتها في «مروج الذهب» للمسعودي، وكتاب «ألف ليلة وليلة». تعي شامة أن المسرح يحتاج إلى مكان وزمان للعرض، وممثلين وجمهور، وديكور وأضواء، بالإضافة إلى الموضوع، وآلية إخراجه، وتؤدي شامة دورًا مزدوجًا، فهي التي تخرج المسرحية كما تؤدي دور الممثل الرئيسي إلى جانب العمة حبيبة.
يمكننا تعريف مسرح شامة بأنه المسرح الذي يقدم عروضًا نسوية الطابع، فالممثلون فيه من النساء، والجمهور من النساء وبعض الأطفال، والأعمال المعروضة تناقش قضايا النساء، وإخراجها يكون من منظور نسوي ، ومكان العرض داخل الحريم. وفي هذه الأوضاع تحوّل شامة السطح إلى مسرح تُقدّم عليه العروض متخذة منه مكانًا العرض، أما زمان العرض فهو المساء مع سطوع النجوم، والأدوار الأساسية في العرض تؤديها النجمتان الرئيسيتان في المسرح، شامة والعمة حبيبة، بينما يقوم بعض الأطفال ببعض الأدوار الثانوية، ويقوم بدور الجمهور حريم الدار. كما تراعي شامة في مسرحها الوحدات الثلاث، أي وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الموضوع، فكل مسرحية تقدم في مكان وزمان محددين، وموضوعها يدور حول شخصية نسائية واحدة ومسيرة حياتها، مع التركيز على بطولتها أو مأساتها أو مغامراتها.
لا يخلو مسرح شامة من عثرات تواجهه، ولا سيما حينما يجسد شخصيات بعض رائدات الحركة النسائية اللواتي كانت تفضلهن شامة، وخاصة الأوائل منهن، إذ لم تكن في حياتهن أحداث كثيرة قابلة للتشخيص، لأنهن كنّ محاصرات في حريم، مثل عائشة التيمورية، وزينب فواز، ولذلك كانت المسرحية تتحول في كثير من الأحيان إلى سرد احتجاجاتهن. الأمر الذي يجعل الجمهور يتململ من العرض. أما هدى شعراوي فكانت بطلة حقوق المرأة التي تلهب حماس الجمهور، لأن تمثيل حياتها يمكّن جميع المشاهدين من الصعود إلى الخشبة لترديد الأناشيد الوطنية والمشاركة في المظاهرات، كما كانت حياتها غنية بالأحداث منذ أن أجبرت على الزواج وهي في سن صغيرة إلى أن نجحت في تغيير مجتمع بكامله خلال عقود قليلة بفضل صلابتها. ونجحت في تحقيق أمرين في غاية الأهمية، مقاومة الاحتلال البريطاني، وإنهاء عزلة المرأة. إلا أن خلو حياة الرائدات النسوية من الغناء والرقص، كان يجعل الجمهور يفضل أكثر عروض شامة عن أسمهان، والأميرة بدور إحدى بطلات ألف ليلة وليلة، وذلك لأن حكاياتهن تشتمل على قصص الحب والغزوات والمغامرات بينما تخلو حكايات المناصرات لقضية المرأة من ذلك.
تكمن أهمية مسرح شامة في الدور العلاجي الذي يقوم به. فمن خلاله تعبّر النساء القابعات في الحريم عن رغباتهن وتطلعاتهن وأحلامهن، ما يجعلهن ينفسن عن الرغبات المكبوتة وتحقيقها بطريقة تخيلية عبر تماهيهن مع أحداث المسرحية، وينسحب الأمر على الجمهور الذي يتفاعل مع العرض إلى درجة تجعله يتحول من جمهور يشاهد العرض إلى مشارك فيه، عبر الصعود إلى خشبة المسرح والمشاركة في الهتافات والأغاني والمظاهرات. ومعروف منذ أرسطو ونظريته عن التطهير، ومرورًا بفرويد وتأكيده على الدور العلاجي الذي يمنع الفنان من الوقوع فريسة للعصاب وحتى يومنا هذا، أهمية الفنون والآداب في حياة الإنسان والسمو بها نحو الأفضل، والتعبير من خلالها عن قضايا الإنسان وهمومه، والدفاع عن القيم الكبرى التي تتمثل في الحق والخير والحرية.
ثم كشفت المرنيسي في «نساء على أجنحة الحلم» بؤرة تجتمع حولها النساء للمقاومة، هو «التضامن النسوي»، بوصفه أيقونة معبرة عن وعي النساء بحجم مأساتهن، وتدعو إلى أن يقفن مع بعضهن لتخطي المصاعب التي فرضت عليهن. ويعبر هذا التضامن عن إدراكهن للظلم الواقع على المرأة، ومحاصرتها في حريم لا يلبّي تطلعاتها، ويحول دون حقوقها في المساواة والحرية. ولذا لم نلمح صراعًا بين النساء أنفسهن حول قضايا شخصية، وإنما انحصر الصراع بين النساء في موقفهن من عالم الحريم رفضًا أو تأييدًا. ويمكن اعتبار «التضامن النسوي» حدًا رمزيا تدافع به النساء عن أنفسهنّ داخل حدود الحريم.
اختارت المرنيسي أمثلة تعبر من خلالها عن فكرة التضامن النسوي، ومن ذلك التضامن في بيت الحريم تجاه السيدة (طامو) التي قاومت الاحتلال الإسباني للمغرب، إثر انهيار ثورة الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي. كانت طامو ترتدي زي القتال، وتمتطي فرسًا تعلوها سرج إسبانية. لم تشعر النساء بالغيرة من طامو حينما عقد الجد التازي قرانه عليها، ليضفي شرعية على وجودها في القرية، في حال بحثت عنها الشرطة الفرنسية، ما يمكّنها من تأدية مهمتها في مساعدة أهلها وذويها الفارين في المنطقة الإسبانية. بل لم يتغير موقف النساء منها حينما تعلق بها التازي، وأحبها ورغب في تحويل زواجه الصوري منها إلى فعلي، إنما شجّعته الياسمين على ذلك، ودلّته على الطريقة التي يمكنه أن يعرف بها مشاعر طامو تجاهه، إن كانت راغبة في البقاء معه أو فراقه. وحينما خرج إليها بعد اتباعه طريقتها التي نجحت، فأدركت بأن طامو قبلت أن تصبح زوجة له. وما لبث أن شيد التازي مكانًا جديدًا لها في أعلى بيت الياسمين.
أول شيء قامت به طامو والياسمين، تعبيرًا عن التضامن النسوي، هو زراعة شجرة موز لضرتهما (يايا) الزوجة السوداء القادمة من إحدى قرى السودان، لجعلها تشعر وكأنها في بلدها. وهي بدورها كانت تجيد الحكي، وبذلك أصبحت القصّاصة الرسمية للحريم في القرية، مثل العمة حبيبة في حريم المدينة. وخلال ليالي القص، كانت الزوجات يجتمعن في غرفتها للاستماع إلى قصصها العجيبة. وبعد سنوات أثمرت شجرة الموز، فأقامت الزوجات حفلة بهذه المناسبة التي أدخلت البهجة إلى قلب يايا. يعبر هذا التضامن النسوي عن وعي النساء، وإدراكهن لطبيعة الحياة التي يعشنها، والظروف المحيطة بهن، فهن جميعًا يدفعن ثمن أخطاء لم يرتكبنها، وحياة كل واحدة منهن تنطوي على مأساة تسبب فيها الرجال غالبًا، ما جعلهن يتعاطفن مع بعضهن، لأنهن مهما كان الوضع فجميعهن يقبعن في حريم. ويؤكد ذلك ما تذهب إليه الياسمين عندما تتحدث عن ضرتها المتعالية اللّا طهور، رغم اختلافها معها، إذ تعتقد أنه «أيا كان غناها، فإنها هي الأخرى محاصرة في حريم».
وحدث أن يشكّل التضامن النسوي موضوعًا بالغ الحساسية بين النساء الراضيات عن وضعهن في الحريم، كالجدة اللّا مهاني، وزوجة العم اللّا راضية، والموافقات على قرارات الرجال دائمًا، وبين النساء الرافضات لعالم الحريم؛ إذ ترى الأم التي تنتمي إلى هذا الفريق أن هؤلاء النساء أخطر من الرجال على النساء، وتتهمهن بالتآمر ضد بنات جنسهن، وتحملهن مسؤولية بقاء النساء محاصرات في حريم. وتؤدي العمة حبيبة، المكلّفة من قبل شامة بمراقبة مزاج الجمهور، دور الضابط للنظام والهدوء، إذا ما حدث وأثيرت مسألة التضامن النسوي، إذ تتدخل في اللحظة المناسبة قاطعة الحديث حتى لا يتحول إلى خصام حقيقي.
وتفننت نساء المرنيسي في صنع أنواع عديدة من أقنعة الجمال، فانقسمن إلى ثلاث فرق اختصت كل واحدة منهن بأمر جمالي، فالأولى في وصفات الشعر، والثانية في خلط الحناء، والثالثة في أقنعة البشرة والعطور. وتمثل أقنعة الجمال شكلًا من أشكال التمرد على السلطة الذكورية المفروضة عليهن، وهذا ما جعل الأم المعارضة ترفض التخلي عن مستحضرات التجميل التقليدية، وتعويضها بأخرى فرنسية؛ لأن زوجها يكره الحناء وأقنعة الجمال التي تضعها قائلة: «إذا كان الرجال سيحرمونني من المجال الوحيد الذي أمارس عليه سلطة، أي موادي التجميلية، ستكون لهم بعدها سلطة مراقبة مظهري الخارجي. لن أسمح بذلك قط، إنني أخلق سحري الخاص، ولن أتخلى أبدًا عن الحناء». فيما رأت العمة حبيبة أن الجمال يكمن في الجلد، والاعتناء به يأتي ردًا على المجتمعات القاسية، فالجلد مسألة سياسية، ولذا أمر الأئمة بستره.
يثير رأي العمة قضية في غاية الحساسية، فمن المعروف أن الجلد يمثل العضو الذي يغطي الجسم البشري، ويتكون من ثلاث طبقات رئيسية هي: البشرة، والأدمة، ونسيج تحت الجلد، ويحتوي على الخلايا الدهنية. ويشير مظهر الجلد عادة إلى صحة صاحبه أو معاناته من بعض المشاكل الصحية، فصحة المرء تقرأ من جلده، هذا على الصعيد البيولوجي. أما لون الجلد فيحيل سياسيًا على التمييز العنصري في العالم. ويأتي انتهاك الجسد والتنكيل به من خلال تشويه الجلد تعبيرًا عن العنف الموجود في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وربما يسوغ ذلك اعتقاد العمة حبيبة أن تحرير المرأة يبدأ من العناية بجلدها؛ لأنها إذا أهملته تكون قد فتحت الباب لتلقي كل الإهانات. والاحتفاء بأقنعة الجمال نابع من هنا تحديدًا، فاحتفاء المرأة بجسدها، والتفنن في إعداد أقنعة الجمال له يحررها، كما أن هذا الأمر يجعل العالم أكثر صحة وجمالًا وعدلًا وحرية.
تقرر العمة حبيبة في نهاية المطاف أن العالم سيكون أفضل لو وضع الرجال أقنعة الجمال بدل أقنعة الحروب،. وتؤكد الأم ما تذهب إليه العمة حبيبة عبر رؤيتها لحدة الرجال وعنفهم الذي يظهر حتى في مناقشاتهم، فقد «كانت نقاشات الرجال دائما مشحونة، وإذا ما استمع الإنسان إلى ما يقولون يخيل إليه بأن نهاية العالم وشيكة». وإذن فعنف الرجال لا يقتصر على أفعالهم وتفننهم في صناعة أقنعة الحروب، بل ينسحب أيضًا على أقوالهم ونقاشاتهم وحواراتهم التي تتصف بالعنف ذاته.
ولعله من اللافت للنظر أن تتمرد نساء المرنيسي عبر أقنعة الجمال على سلطة الذكور وعالم الحريم في أربعينيات القرن العشرين، بينما تمثل أقنعة الجمال اليوم في الألفية الثالثة استجابة لسلطة الذكور وتحقيقًا لها، فخروج النساء اليوم من الحريم الذي ناضلت نساء المرنيسي من أجل الخروج منه، لا يعدو كونه خروجًا ظاهريًا فحسب، فقد غادرت المرأة حريمها المغلق المحاط بحدود مرئية، لتنتقل إلى حريم مفتوح حدوده غير مرئية، لكنها أشد وقعًا عليها، فحتّام ستبقى النساء قابعات في حريم؟! وهل هناك فسحة أمل تنبئ بزوال الحدود المرئية واللا مرئية من هذا العالم المحاصر في حريم؟!
المصادر:
-المرنيسي، فاطمة: نساء على أجنحة الحلم، تر: فاطمة الزهراء أزرويل، منشورات الفنك، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1998.
– العابرة المكسورة الجناح، شهرزاد ترحل إلى الغرب، تر: فاطمة الزهراء أزرويل، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 2002.
أسماء معيكل