قاصة وإعلامية من عُمان.
ألوان شمعية
ضرب الأب سيفا ضربا مبرحا، تدخلت الأم، فقال لها الأب منفعلا: «ابنك يرسم على الجدران»، بكى سيف، ثم كسر الألوان الشمعية إلى جزئين، وبعضها إلى ثلاثة.
نام سيف في الغرفة المجاورة لغرفة والديه كما هي العادة، لكن هذه المرة على سرير ميري كما ليس معتادا. قبلته ميري في فمه كما تفعل ذلك خفاء، وضمته إلى صدرها بحنو، أفهمته بعربية مكسرة أن الأب يضربه لأنه يخاف عليه، لم يفهم سبب دفاعها عن الأب، فاندس في حضنها.
رسم سيف على جدار غرفة الصف باللون الشمعي الأحمر الذي يحب. عاقبته المعلمة بأن يرفع الكتب على يديه عاليا. لم ترتخ يداه، ظل يفكر في صدر ميري.
عاد من المدرسة لم يُخبر أحدا عن عقاب المعلمة، ولم ينتبه أحد لضرورة أن يسأله عن شيء. تناولته ميري فضمته إلى حضنها، قضمت طرف أذنه بشفتيها، فابتسم لها.
عصر ذلك اليوم سقت ميري الحديقة الكبيرة، بينما كان سيف يرسم وجوها لا تضحك على جدار الحديقة، وبخته ميري، «بابا يضرب سيف»، واستمر سيف بالرسم.
اكتشفت المعلمة مجددا وجوها عابسة على الجدار، جرّت سيف من يده إلى مكتب الأخصائية.
في جمل قصيرة شرحت المعلمة للأخصائية ما فعل سيف أكثر من مرّة. توددت إليه الأخصائية، وطلبت منه الجلوس، لم ينظر إلى وجهها أو إلى عينيها، وهي تسأله: «ليش تشخبط على الجدران يا سيف». رفع عينيه إلى عينيها في اللحظة التي قال: «أنا أرسم». عادت الأخصائية بظهرها إلى الوراء، مبتسمة: « بس يا سيف إنت تعرف أن الرسم حرام».
يعرف سيف من دروس سابقة أن السرقة والكذب والتلصص على غرفة نوم والديه حرام، إذ لم يسلم من عقوبة ذلك في مرات سابقة، لكن الرسم حرام، هذه معلومة يسمع بها للمرة الأولى في حياته.
ظل صامتا، تغير شكل ابتسامة الاخصائية الاجتماعية، وهي تضيف «البيت اللي فيه رسم وتصاوير ما تدخله الملائكة». لم تكد تنهي الاخصائية جملتها حتى فرغ الكرسي المقابل لها من جسد سيف.
رسم سيف على جدران غرفة ميري أشجارا وبحرا وسماء، وعصافير ترقد في أعشاشها، لوّنها بألوان شمعية حمراء وبرتقالية وزرقاء وخضراء. كتمت ميري دهشتها بأن وضعت يدها على فمها، وهي تراقب فوضى الغرفة، وتستشعر غضب الوالدين في غيابهما. قفز سيف إلى حضنها فرحا، «ميري لن يدخل عزرائيل غرفتك بعد اليوم».
عرس
تهمس أم العروس في أذن حبيب بن زهور بصوت منخفض «أبغاك تدخل، وتعمل دور الليلة..نزين!».. يُقرب حبيب يده من وجهه، ليُغطي أنفه وفمه مُخبئا ابتسامته الخجلة، بينما اليد الأخرى تتقافز في الهواء «أوووه..لا..لا»، يلكزه أبو العروسة مُداعبا «دور واحد قدام النسوان.. والله يا بختك يا حبيب!»، يحمر وجه حبيب، وتضع أم العروسة ربطة ريالات في يده. يقبض حبيب على المبلغ ويدسه في جيبه..
منذ أن بزغ صدر حمدة من جسدها، وهي تلبس الملابس الفضفاضة، وتعكف شعرها تحت الأغطية الطويلة. عرس ابنة عمها كان المناسبة الأولى التي استأجرت لها أمها فيه فستانا يكشف نحرها وأعلى الصدر. تهمس أم حمدة في أذن ابنتها، «لبسي الفستان الأخضر اللي استأجرته عشانك..يمكن يتعدل بختك».
يجلس حبيب بن زهور وسط الرجال، جسده النحيف ذائبا تحت الدشداشة، وجهه شديد البياض. يجلس منكمشا في مكانه، يوزع الابتسامات، ورأسه يتحرك كرأس النعامة بين الوجوه التي تدخل وتخرج. دخل رجل قوي البنية، شديد الاسمرار، ارتبك حبيب في مكانه، سلّم الرجل الأسمر على الجميع، وعندما وصل بالقرب من حبيب سلّم عليه بيد، وقرص أعلى فخذه بيد أخرى من دون أن ينتبه أحد لذلك، ومن ثم جلس ملتصقا إلى جواره.
لأول مرّة تتبين حمدة أنّ صدرها مكتنز، وخصرها نحيف، ظلت تلف وتلف داخل الفستان الأخضر الذي استأجرته أمها لأجلها، وقد ارتدته قبلها ما يقرب من عشر بنات من بنات الحلّة، بعد أن اشترته صاحبته الأصلية من دبي.
تحسست حمدة كامل جسدها، «كيف يمكن لشكل الفستان أن يُغير شكل الجسد»، فلأول مرّة ترى حمده أن امتداد عنقها جميل تحت العقد، وأنّ وجهها الذي لم تحبه يوما، مشرق للغاية عندما وضعت بعضا من الروج الأحمر الفاتح على الشفاه الصغيرة، والكحل الأسود في الأعين السوداء الواسعة. كان ذلك مما تركنه بنات عمها في علبة المكياج في الغرفة المجاورة للغرفة التي تتزين فيها العروس.
حاول الرجل البدين الأسمر أن يزحزح حبيب بن زهور من مكانه إلى الخارج عبر الكلمات، والإشارات، وعبر مسكه ليده وإفلاتها بين الحين والآخر، وكأن له رغبة في قول أو فعل شيء ما.. إلا أنّ حبيب تنهد معتذرا، «دفعوا لي واجد عشان أجي العرس.. ما اقدر أطلع معك». احتقن وجه الرجل الأسمر البدين بالغضب، لكنه سرعان ما ترك يد حبيب، بمجرد أن رمقه أبو العروس بنظرة غير مطمئنة..
دخلت بنات العم إلى الغرفة، تفاجأن بحمدة أخرى لا تشبه ابنة عمهن التي يعرفن..انكمشت حمدة على جسدها خوفا من أن ينظر أحد إلى صدرها، تضاحكت بنات عمها الجريئات بفساتين شبه متعرية.. فككن لها شعرها من ربطته..علا صراخ حمدة تحت صوت «الاستشوار» المرتفع..
جرّ أبو العروس حبيب من يده..سحبه وهو يهمس في أذنه «النسوان يريدوا شوية تسلية». امتعض وجه الرجل الأسمر، وبان عليه الغضب، عندما وقف حبيب وعدّل من وضع دشداشته المُسبلة، وخرج من المجلس وراء أبو العروس.
في المسافة بين مجلس الرجال، وخيمة النساء رفع حبيب طرف دشداشته تحت إبطه لكي لا تتسخ في التراب.
أخذت أم علوان مساحة كبيرة من حلبة الرقص القريبة من كوشة العروسة. أم علوان امرأة مدورة أشبه بكرة قدم ضخمة، كل ما استطاعته تحت وقع الموسيقى الصاخبة هو أن تهز مؤخرتها، وأن تتدافع الفتيات بالضحك.. كان وجهها شديد البياض، وكأنها ترتدي قناعا من الطحين، بينما عنقها ويداها شديدا السواد، وتضع على شفاها المكتنزة لونا فاقعا..
تستمر أم علوان بهز مؤخرتها.. يستمر التصفيق والضحك..
توقعت حمدة أن تصفعها أمها على وجهها ما أن ترى الكحل في العين، والروج الزهري على الشفاه، توقعت أن تمسك بها من شعرها السائح على ظهرها بفضل الاستشوار، بعد أن كان مجعدا ورابضا على كتفيها لزمن طويل.
ظل قلب حمدة يخفق من دون ارتياح، إلا أن إصرار بنات عمها على قذفها إلى وسط حلبة الرقص لمزاحمة أم علوان، جعل أمها تنتبه لها، كاد قلب حمدة أن يتوقف عن النبض في تلك اللحظة التي التقت عيناها بعيني أمها، إلا أنّ أمها أومأت لها برأسها إشارة لارتياحها، ومن ثم صفقت بيديها لكي تبدأ ابنتها بالرقص.
تدفق الدم إلى جسد حمدة، عاد نبضها إلى طبيعته، أغمضت عينيها، تجاهلت وجود أم علوان بالقرب منها، رقصت كما كانت تفعل في الحمام عندما تختلي بنفسها، حين كان يتعذر وجود موسيقى، فتعوض ذلك بأن تدندن بينها وبين نفسها.
استحمت في موسيقى حقيقية هذه المرّة، فاستجاب الجسد، بانسيابية فاجأت الجميع.
توقفت أم علوان غاضبة عندما شاهدت الأنظار كلها تلاحق جسد حمدة، وتهمل رقصها الذي قبضت ثمنه قبل بداية العرس.
وقف أبو العروس بالقرب من باب الخيمة، ممكسا بيد حبيب، ثم أطل برأسه من الخرق الصغير في الخيمة متلصصا على حلبة الرقص، وشعور النساء المنسدلة كشلالات على الظهور. ظهر التحسر على وجهه وهو يتحدث إلى حبيب الذي يملك متعا لا يملكها سواه في الحلّة..»أنا ما أقدر أدخل بس إنته بتدخل وبيندفع لك بعد»، مطّ حبيب شفته السفلى، وخرج صوته ناعما، «حتى على رزقي حاسديني!»، ربت أبو العروسة على ظهره ضاحكا، «اتهنى..اتهنى..»، ثم ما لبث أن دفع بـ حبيب إلى داخل الخيمة بعنف، حتى كاد أن يسقط على وجهه.
تدربت حمدة في حمام منزلها المشترك، على الوقوف على أمشاط قدميها، لتدفع جسدها نحو ميلان منسجم،علّمت خصرها الاهتزاز إلى أن تسري الرعشة على طول ساقيها، لم يكن يقطع انسجامها سوى الطرق المتواصل على باب الحمام من أجل رغبات أخرى.. لكن كل ذلك لم يمنعها من التدرب على هز الأرداف، إلى أن يتحول الصدر إلى قطعتين من حلوى الهُلام..
وضع حبيب سبابته بين أسنانه مراقبا ظهور النساء الملتفات حول حمدة، أصدر تأوهات خفيفة في انتظار أن تلتفت إحداهن إليه إلا أن الجميع ظلّ مشدودا إلى ما يدور على حلبة الرقص.
انتبهت أم علوان إلى حبيب، ففرحت بوجوده، وكان فرصتها الذهبية لتستعيد ما سرقته منها حمدة..
تناولته أم علوان من يده، «حبيب…الكل ينتظرك، وينتظر رقصك..»، انتبه الجميع فجأة إلى اسم حبيب فاستدرن إليه، وبدأن بالتصفيق، والزغردة، تسارعت النساء بقذف جسده النحيل إلى حلبة الرقص. اصطدم جسد حبيب بجسد حمدة.. فتحت حمدة عينيها وصرخت.. صرخت وهي تستر صدرها بيديها، وتركض.
ضاع صراخ حمدة في صوت ضحك النساء، ربطت أم علوان شال كتفيها على مؤخرة حبيب، فبدأ جسده الرخو بالرقص، وهو فاتح العينين، وكلما مال جسده ناحية امرأة، قذفت به ناحية الأخرى، فيما الأخرى تُجهز له مبلغا صغيرا في جيب دشداشته، فيرتعش جسده اللين كالزبدة أكثر فأكثر..
ركضت حمدة..باحثة عن شالها لتستر صدرها وردفيها، ركضت إلى أن اصطدمت بأمها..
قالت لاهثة وخائفة «ماه..رجال دخل الخيمة..رجال..!»، ضحكت أم حمدة مشيرة بإصبعها إلى حلبة الرقص: «هذا ما رجال يا حمدة.. ما رجال..شوفيه زين..لا شنب ولا لحية»!