يشكّل الأدب الهندي علامة فارقة في الآداب العالمية القديمة والجديدة، وذلك لرساخته في الزمن، وتجدده عبر العصور، وتداخله مع جميع الثقافات الإنسانية، بما يحمله من تنوع مبهر يقوم على فتنة المتخيل، وجماليات الأسطوري المنطلق من ثقافة متباينة اللغات والمجتمعات والأديان.
وهنا لا بد أن نتساءل ماذا نعرف عن الأدب الهندي؟
ماذا نعرف عن النتاجات الثقافية لحضارة عريقة، كانت وماتزال متصلة بعمق وحيوية مع كل الحضارات الإنسانية قديما وحديثا، ومعَنا بشكل أكبر، حيث أخذنا منها الكثير من ملامحنا الثقافية، في اللغة والطعام واللباس والكثير من مظاهر حياتنا وثقافتنا؟
ماذا نعرف عن ثقافة الإنسان الذي يعيش بين ظهرانينا كثيراً، والذي اتصلنا معه عبر التاريخ والحضارة، وها هو اليوم يسهم بمجهود جبار في بناء حضارتنا الحديثة بكل جهده الفكري والجسدي؟
للأسف لا نعرف كثيراً، لقد حصرنا هذا الإنسان في خانة « عامل» أو « موظف» واستجلبنا من الهند كل شيء تقريبا، إلا الأدب، ومع أن بعضنا ممتزج الأعراق مع الهند، وبعضنا يعرف الكثير من ثقافة الهند، ويتحدث بعضنا بعض لغاتهم، إلا أننا بعيدون عن نقل هذه الثقافة عبر الوسيط اللغوي « الترجمة» ، كما أن اللغة الإنجليزية التي كتب الكثير من الأدب الهندي بها، تشكل لغة ثانية للكثيرين منا، ومع هذا ظلت الهند حالة ثقافية بعيدة عن الحضور الحقيقي في ثقافتنا العربية بشكل عام فيما عدا بعض الرموز والنتاجات الثقافية المعروفة عالميا كأدب طاغور مثلا الحاصل على جائزة نوبل، فالقليل من الترجمات الهندية تصلنا عبر اللغة العربية، والقليل من الباحثين يذهبون لدراسة اللغة الهندية أو يتصدون لبحث أدب الهند أو فنها.
ولعل عِلة ذلك تعود لسطوة الحضارة المدنية الحديثة التي تذهب بنا بعيدا عن الهند نسبيا، في حين أن الهند القريبة ثقافة وروحاً وإنساناً أكثر غنىً وثراءً بالكثير من الجمال والتنوع والتاريخ، وباباً مفتوحاً على مصراعيه لعوالم من الدهشة والاكتشاف.
إن نقل الثقافة الهندية هو واجب حضاري وإنساني يجب علينا اليوم الأخذ بأسبابه، والسعي له، وفتح أفق التواصل مع حضارة تسكن بيننا، وتتغلغل في تاريخنا وثقافتنا.
ولقد حاولت في هذه الترجمات من الأدب الهندي تتبع الروح الشرقية التي يمثلها هذا الأدب، عبر بعض نصوصه المكتوبة باللغة الإنجليزية (شعرا وسردا)، والذي يمثل جانبا من ثقافة متعددة اللغات، وهنا لا أزعم أنني أقدم صورة شاملة عن الأدب الهندي، وإنما هي صورة مجتزأة من عدة صور متداخلة ومتجاورة في الثقافة الهندية، فالكتابة باللغة الإنجليزية هي جزء من ثقافة الهند، لا تخرج بالنص عن روح الواقع والثقافة الهندية، بل تقع ضمنها، فالكثير من الكتاب الهنود يكتبون باللغة الإنجليزية، وهم لم يخرجوا من الهند، أو عاشوا الجزء الأكبر من حياتهم فيها، ومع هذا يتناولون أهم قضايا الإنسان والمجتمع والثقافة الهندية.
وبالتالي فهذه النصوص تقدم شريحة من الصورة العامة للأدب الهندي، بما تحمله من أفكار، وأساليب، وموضوعات، ومتخيل فني وأسطوري، ولغة شعرية، تناولتها الثقافة الهندية أو جزء منها، لأن الإحاطة بثقافة واسعة ومتعددة كالثقافة الهندية لا تتحصل عبر ملف أو حتى كتاب.
رحلة القطار الليلية عبر «دِيُولي»
رسكند بوند
عندما كنت طالباً في الكلية كنت أقضي إجازتي الصيفية في بيت جدتي في «دِهرا». كنت أغادر السهول في بداية شهر مايو وأعود ثانيةً في أواخر شهر يوليو. كانت «دِيُولي» محطة صغيرة تبعد عن «دِهرا» قرابة الثلاثين ميلاً، وكانت تُعد بداية منطقة الغابات الكثيفة في شمال الهند، كان القطار يتوقف في «دِيُولي» في حوالى الساعة الخامسة صباحاً. الإضاءة الصادرة من المصابيح الكهربائية والزيتية في المحطة خافتة جداً. وفي الجهة المقابلة البعيدة يمكن تَبين معالم الغابة وهي تسبح في أضواء الفجر الباهتة. لايوجد سوى رصيف واحد في محطة «دِيُولي» ، إلى جانب مكتب صغير لآمر المحطة ، وغرفة انتظار. لكن ما يبعث على الفخر هو وجود كشك لبيع الشاي ومحل لبيع الزهور. عدا ذلك لا شي سوى بعض الكلاب الضالة. يتوقف القطار في «دِيُولي» لمدة عشر دقائق قبل أن يواصل رحلته مخترقاً الغابة.
لماذا كان القطار يتوقف في «دِيُولي»؟ لا أدري. فلا شي البتة يحدث هناك. لا ينزل أحد من القطار كما لا يصعد أحد. ولا وجود لحمالين على الرصيف أيضاً. إلاّ أن القطار –مع ذلك- يتوقف لعشر دقائق كاملة. بعدها يُسمع صوت جرس تعقبة صفارة آمر المحطة، وسرعان ما تتلاشى «دِيُولي» خلفنا ويلفها النسيان.
لطالما تساءلت كثيراً عما يحدث في دِيُولي.. هناك خلف أسوار المحطة. وعادةً ما كنت أرثي لحال ذلك الرصيف الوحيد، وذلك المكان الذي ما كان أحد يرغب في زيارته. عاهدت نفسي أن أنزل ذات يوم من القطار في «دِيُولي» لأقضي يوما كاملاً هناك .. فقط إرضاءً لتلك البلدة.
كنت في الثامنة عشرة في إحدى زياراتي لجدتي، عندما توقف القطار –كعادته – في «دِيُولي». فجأة ظهرت فتاة على الرصيف.. تبيع سلالاً. كان صباحاً بارداً وكانت هي تلف شالاً حول كتفيها. قدماها حافيتان وثيابها رثّة. لكنها كانت- رغم صغر سنهاٌ- تمشي على الرصيف برشاقة ومهابة. توقفتْ أمام نافذتي. لاحَظَتْ أنني كنت أرمقها بتمعن، لكنها تظاهرت بعدم الاهتمام. بشرتها شاحبة وشعرها لامع أسود. عيناها اللامعتان تبدوان مثقلتين بالهموم. فجأة تحركتْ هاتان العينان الثاقبتان لتلتقيا بعينيّ.
وقَفَت هناك أمام نافذتي لبعض الوقت ولم يتفوه أيٌّ منا بكلمة. وعندما واصلت سيرها وجدتُني أغادر مقعدي إلى باب القاطرة ، وأقف على الرصيف.. أنظر ناحيتها. ذهبتُ إلى كشك الشاي حيث كان إبريق الشاي يغلي على موقد صغير بينما البائع يقوم بخدمة الزبائن داخل القطار. تبعتْني الفتاة لتلتقي بي خلف الكشك. ثم بادرتني بالسؤال: «هل تريد أن تشتري سلة؟» «إنها سلالٌ متينة، صُنعت من أفضل أنواع القصب».
«لا، لا أحتاج إلى سلّة». قلت لها.
وقفنا هناك ينظر كل منا إلى الآخر لوقت بدا طويلاً جداً.
فجأة قالت: «أمتأكد أنك لا تريد سلّة؟»
«حسناً، سأشتري واحدة»، أجبتُها، وأخذت أول سلة امتدت إليها يدي ثم أعطيتها رُبيّة واحدة، محاولا ألا ألمس أصابع يدها.
همّت بالكلام ، إلا أن آمر المحطة بدأ بنفخ صفارته فضاع كلامها بين صفارة الآمر ورنين الأجراس وصوت المحرك. كان لابد أن أعود سريعاً إلى مقعدي. تحرك بعدها القطار مغادراً المحطة.
جلستُ في مقعدي أنظر إليها بينما المحطة تبتعد رويداً رويداً. كانت تقف وحيدة على الرصيف. لم تتحرك. تنظر ناحيتي وتبتسم. بعد قليل اختفت المحطة خلف أشجار الغابة لكنني كنت ما زلت أتخيلها واقفة هناك على رصيف المحطة.. وحيدة. بقيتُ مستيقظاً طوال الرحلة. لم يفارق ذهني وجه تلك الفتاة وعينيها الداكنتين المتوهجتين.
بعد وصولي إلى «دِهرا» وانشغالي بأمور عديدة هناك تلاشت تفاصيل تلك الحادثة من ذهني وسرعان ما نسيت ما حدث، لكنني عدت لتذكر تلك الفتاة حالما هممت بالاستعداد للعودة بعد شهرين.
مع اقتراب القطار من محطة «دِيُولي» في طريق العودة بدأت أنظر هنا وهناك باحثاً عنها، ثم شعرت برعشة تسري في جسدي عندما لمحتها تمشي على رصيف المحطة. قفزتُ من مكاني وبدأت ألوح لها بيديّ. نظرتْ إليّ وابتسمت. لعلها كانت مسرورة أني تذكرتها. أما أنا فقد كنت قطعاً مسروراً أنها تذكرتني. كنا نحن الإثنان مسرورين.. تماما كما يلتقي صديقان قديمان بعد فترة غياب. وبدلاً من الانشغال بعرض سلالها على الركاب في رصيف المحطة، توجهتْ مباشرة إلى كشك الشاي حيث التقينا هناك. فجأة لمعتْ عيناها. مرت لحظات لم ينطق أي منا بكلمة، لكنه كان صمتاً أبلغ من أي كلام. شعرت لحظتها برغبة في إركابها القطار والهرب معها بعيداً. لم أحتمل فكرة رؤيتها تتلاشى ثانية ببطء مع ابتعاد القطار عن محطة «دِيُولي». تناولتُ السلال من يدها ووضعتها على الأرض. مدتْ يدها لتأخذ إحدى السلال فاعترضتُها ممسكاً بيدها.
«أنا في طريقي إلى دلهي» قلت لها.
هزّت رأسها وقالت: «أما أنا فلا حاجة لأن أذهب إلى أي مكان».
شعرت بالحنق تجاه آمر المحطة عندما نفخ صفارته مؤذناً بتحرك القطار. «سأعود ثانيةً، هل ستكونين هنا؟» هزّت رأسها ثانيةً. رنّ الجرس وبدأ القطار بالتحرك. انتزعتُ يدي من يدها بسرعة لألحق بالقطار المتحرك.
لم أنسها هذه المرة. كانت معي طوال الرحلة وبعدها لمدة طويلة. ظلت حية مشرقة في مخيلتي طوال تلك السنة. ومع نهاية السنة الدراسية حزمتُ أمتعتي على عجل وغادرتُ إلى «دِهرا» مبكراً. لاشك أن جدتي ستُسَر بلهفتي لرؤيتها.
شعرت بشيء من التوتر والقلق عند اقتراب القطار من محطة «دِيُولي». تساءلت عما يمكن أن أقوله لتلك الفتاة، وما علي أن أفعله عند لقائي بها. قررت ألا أقف ثانيةً أمامها عاجزاً عن الكلام والتصريح بمشاعري. توقف القطار فشرعت في البحث عنها على رصيف المحطة، ولكني لم أجدها. نزلت من العربة مواصلاً البحث حتى انتابني شعور بخيبة الأمل والتشاؤم. كان لا بد أن أفعل شيئاً. توجهت إلى آمر المحطة وبادرته بالسؤال: «هل تعرف تلك الفتاة التي كانت تبيع السلال هنا؟» أجابني : «لا، لا أعرفها. ثم إن عليك أن تعود إلى القطار حالاً قبل أن يغادر ويتركك هنا.»
تركته وواصلت البحث عنها على الرصيف وخلف السياج المحيط بساحة المحطة. لم أر خلف السياج سوى شجرة مانجو وطريق ترابي إلى الغابة. ترى إلى أين يؤدي ذلك الطريق؟ بدأ القطار في التحرك فركضتُ سريعا وقفزتُ من خلال الباب إلى داخل مقصورتي. جلست على مقعدي مهموماً أنظر من خلال النافذة بينما القطار يخترق الغابة. لماذا كل هذا الاهتمام بفتاة لم ألتق بها سوى مرتين لم نتمكن خلالهما من التحدث؟
فتاة لا أعرف عنها شيئاً. لا شيء على الإطلاق. لكنني شعرت تجاهها بحنوٍّ ومسؤولية لم أشعر بهما تجاه أحد من قبل.
لم تسعَد جدتي كثيراً بزيارتي، فلم أكد أكمل أسبوعي الثاني في «دِهرا» حتى بدأتُ أشعر بضيق وكدر. فركبت القطار قافلاً إلى السهول ثانية. كانت لدي أسئلة أخرى كثيرة لآمر المحطة في «دِيُولي». لكن «ديُولي» كان بها آمر جديد للمحطة. فقد تم قبل أسبوع نقل الآمر السابق إلى محطة أخرى. لم يكن الآمر الجديد يعرف أي شيء عن بائعة السلال. توجهت إلى صاحب كشك الشاي، رجل متعب ضئيل الحجم، وسألته عنها.
«أجل، أذكر جيّداً تلك الفتاة. لكنها الآن توقفت عن المجيء إلى هنا.»
«لماذا؟ مالذي حدث لها؟» سألته.
أجابني: «كيف لي أن أعرف؟ لم تكن تلك الفتاة تمثل لي أي شيء.»
ومرة أخرى كان لا بد أن أعود مسرعاً لألحق بالقطار. عاهدتُ نفسي ثانيةً والقطار يبتعد عن المحطة أن أتوقف لأقضي يوماً في «دِيُولي»، لأواصل بحثي وأجد الفتاة التي خطفتْ قلبي بنظرة عجلى من عينيها السوداوتين. كان هذا العهد هو عزائي الذي تجلدتُ به خلال الفصل الأخير في الكلية، حتى حان موعد عودتي إلى «دِهرا» في الصيف. وعندما توقف القطار في «دِيُولي» في ساعات الصباح الأولى، رحتُ أبحث هنا وهناك رغم قناعتي بعدم جدوى بحثي. ولسبب ما لم أقدر على حمل نفسي على قطع رحلتي والبقاء في «دِيُولي» يوماً واحداً لأواصل البحث. ربما كنت خائفاً مما قد أكتشفه، مما قد حدث للفتاة. ربما تكون قد هجرت «دِيُولي»، أو تزوجت، أو ربما تكون مريضة.
وعلى مدى السنوات التي أعقبت ذلك اليوم، توقف بي القطار في محطة «دِيُولي» مرات عديدة، وفي كل مرة كنت أخرج رأسي من نافذة المقصورة باحثاً عن ذلك الوجه، آملاً أن أراه ينظر ناحيتي مبتسماً.
ما زلت أتساءل: ترى ما الذي يحدث في دِيُولي.. خلف جدران المحطة؟ لكنني لم أعد أرغب في قطع رحلتي والنزول إلى البلدة. سوف يفسد ذلك لعبتي. أفضّل مواصلة لعبة الحلم والتمني، والتحديق من خلال نافذة المقصورة، والبحث على رصيف تلك المحطة المنبوذة عن فتاة تبيع السلال.
مطــــر
رسكن بوند
بعد أسابيعَ من الحر والغبار
ما أجملَ أن ينزل المطر.
يغسل أوراق الأشجار.
يَهَبُ العشب حياة جديدة.
يبعث روائح الأرض من جديد.
يطقطق على السقف،
يقرقر في المواسير.
يكوّن بُرَيكة وسط الحديقة
تقصدها الطيور لتستحمّ.
وعندما تطلعُ الشمس
تخرج سحلية من صدع في صخرة
«أيتها السحلية البنية الصغيرة،
الراقصة فرحاً تحت أشعة الشمس،
أنت أيضاً لديك حياة تعيشينها
ومضمار سباق تقطعينه».
وفي الليل
ننظر من خلال أغصان شجرة الكرز
إلى السماء المغتسلة بماء المطر
المتوهجة بأضواء النجوم.
* * *
ذنب
(سوميا راجيندران)
أقمارٌ فضّيةٌ نحن
بِيضٌ من كثرةِ النزف.
تواريخُ شاحبة متجمدة في العيون
شفاهٌ تنفرج عن ابتسامة
لا تروق سوى للغرباء.
في عمق المحيط
حيث تسكن الأشياءُ البدائية
وتتحرك في العتمة مع التيار،
لا أجرؤ على إطلاق لساني.
سريري هذا الصباح قُدّ من الفولاذ،
يَجتزّ من نومي بلا رحمة،
والجلاد تحته قابع ينتظر
واضعا إصبعا
على شفتيه
يتذوق الذنب
الذي هو نار
تضطرم في رأسي
* * *
ترنيمة المهاجر
تيشاني دوشي
دعونا نتجنبُ الحديث عن تلك الأيام
عندما كانت رائحة القهوة تملأ الصباح أملاً.
وكانت أغطية رؤوس أمهاتنا
ترفرف على حبال الغسيل كأعلام بيضاء.
دعونا نتجنب الحديث
عن سواعد السماء الطويلة
وهي تحتضننا في الفجر.
وأشجار (الباوباب) –
دعونا لا نرسم أشكال أوراقها في أحلامنا.
ولا نحنّ لأصوات الطيور المجهولة
وهي تغني ثم تموت في مزاريب الكنائس.
دعونا نتجنب الحديث عن رجال
اختُطفوا من أسرّتهم ليلاً
دعونا لا نقول …. اختفَوا !
دعونا لا نتذكر أول رائحة للمطر
بدلاً من هذا كله
دعونا نتكلم عن حياتنا الحالية
عن البوابات والجسور والمحلات التجارية.
وعندما نقتسم الخبز في المقاهي والمطابخ
مع إخوتنا الجدد
دعونا لا نثقل عليهم بقصص الحروب والهجر.
دعونا لا نذكر أسماء أصدقائنا القدامى
الذين يتبدّون لنا
كحكايات خيالية
في غابات الموت.
إن ذكر أسمائهم لن يعيدهم إلينا.
دعونا نبقى هنا
ننتظر المستقبل حتى يصل
ننتظر أحفاداً يحكون
لنا بلغات شتى
عن وطن أتينا منه يوما.
«أخبرونا عنه» .. قد يقولون.
ربما بإمكانكم إخبارهم
عن زرقة السماء
وعن حبات القهوة
عن البيوت الصغيرة البيضاء
وعن الشوارع المُتربة.
بإمكانكم إطلاق
العنان لذاكرتكم
لتسبح مثل زورق
ورقي في نهر.
وتصلّون
كي يُسِرّ الزورق الورقي
بحكاياتكم للماء.
وتعوي بها الريح لأوراق الشجر.
وعندما تتوقفون
عن الكلام وتنصتون
سوف تسمعون حكاياتكم
وقد ملأت العالم
ذلك أن الريح
هي اللغة الوحيدة الخالدة.
أَسوَدٌ مثلُنا
موهان لال فيلوريا
عاد إبنُ «هاربانز» – زعيم القرية – من انجلترا فعمّ الفرح والسرور. استقبله شّبان الحيّ بالأحضان. لقد استطاع هذا الشاب صعب المراس أن يبقى على قيد الحياة في انجلترا لمدة خمس أو عشر سنوات ، تحول خلالها من «جيتو المتشرد» إلى «السيد جاتيندر جيل». وكان قد أرسل لوالده – هاربانز جيل- في الهند من المال ما جعله يُعد من ذوي الجاه.
جلست أم «جاتيندر» على طرف السرير تحرك المروحة على جسد ابنها العائد من الخارج.
«بُنيّ، أخبرني المزيد عن حياتك في انجلترا».
وبدأ ابنها يسرد عليها أحداث حياته التي قضاها في تلك البلاد التي هاجر اليها.
«أماه، العمل متوفر بكثرة في انجلترا، وبإمكان الشخص أن يجني الكثير من المال، وشراء ما يشاء من الذهب والملابس والسيارات وأجهزة الفيديو وأشياء أخرى كثيرة .. يمكنه شراء منزل لو شاء. لكن الحياة هناك بالغة التعقيد».
واصل «جاتيندر» مديحه لإنجلترا بدون انقطاع، ثم توقف فجأة وقال: «لكن أمراً واحداً كان يؤرقني هناك».
«ما هو يابني؟» سألت الأم.
«الرجل الأبيض هناك لا يكن لنا نحن الهنود احتراما كبيراً»
«لماذا؟»
« لا أدري ، لكنهم ينعتوننا نحن والباكستانيين بالسواد، إنهم يكرهوننا كثيراً. ليس فقط نحن البنجابيين ولكنهم يحتقرون جميع الهنود ، بعضهم هناك يمتنع عن تشغيل القادمين من هذه البقعة من الأرض»
وبينما هو يواصل حديثه مع أمه ، أبصر عن بعد «نامو» عاملة المنزل متجهة نحوهما. كانت «نامو» قد اغتسلت – بعد أن أنهت قبل قليل تنظيف المنزل وإزالة روث البقرة- . تنتمي «نامو» إلى طبقة المنبوذين، وكانت قد عملت في بيتهم – بإخلاص شديد – قرابة خمسة عشر إلى عشرين عاماً. وسواء كانت تقوم بتنظيف بيتها أم لم تفعل ، وسواء كانت تغسل ثيابها أم لم تفعل ، إلّا أن بيت آل «هاربانز» كان على الدوام نظيفاً ومرتباً، وثيابهم مغسولة ومطوية بإتقان. كل ذلك في مقابل وجبة واحدة كل يوم وبعض الملابس القديمة من حين لآخر. لم يكن مسموحا لـ«نامو» ان تمسح على رأس الصبي أو تربت عليه – حتى بعد أن تغتسل، فالأم تعتبرها من المنبوذين الذين لا يجوز لمسهم.
استجمعت «نامو» شجاعتها لتقول: «هاقد عدت من الخارج ياسيدي، كيف هي أحوالك؟» لو لم تكن «نامو» من المنبوذين لكان على «جاتيندر» أن يناديها عمتي، أمّا والحال هكذا فقد أجابها: «كل شيء على ما يرام يا «نامو» ».
جلست «نامو» على حصيرة من الخوص كانت مفروشة على الأرض بالقرب منهم. وجودها جعل «جاتيندر» يتوقف عن سرد حكاية السود والبيض التي كان يحكيها لأمه. نظر إلى «نامو» وهي تجلس على الحصيرة ثم وجه نظره نحو أمه التي كانت تتلألأ في ثيابها البيضاء. أبوه هو أيضاً كان يرتدي ثياباً بيضاء نظيفة. وكان كلاهما يجلسان على أرائك مريحة. وحدها «نامو» كانت تجلس على الأرض، وكان أبناؤها عندما يحضرون إلى البيت يجلسون كذلك على الأرض. في تلك اللحظة كانت «نامو» تجلس هناك في انتظار أن يُلقى إليها بعض فتات الطعام بعد أن أنهت عمل يومها.
«نعم يا ولدي»، قالت أم «جاتيندر. «كنت تحكي لي عن البيض والسود».
«الأمر ليس بذي أهمية يا أمي، سوف أخبرك عنهم لاحقاً» أجاب «جاتيندر»، ثم نظر ثانيةً إلى نامو التي كانت تجلس مترقبة، وفكر كيف أنها كانت تقوم بأعمال منزلهم اليومية لكنها مع ذلك تظل غريبة عنهم ونائية.. منبوذة. حالها لم يتغير منذ أن غادر هو إلى انجلترا. ثم خطر له كيف أن وضعها يشبه وضعه هو في انجلترا، فهو غريب ومنبوذ أيضاً في نظر البيض هناك. لقد كانوا يدفعون له مقابل عمله، لكنه يظل نائياً وبعيداً عنهم.
شعر جاتيندر برغبة في احتضان نامو ودعوتها للجلوس بالقرب منه على الأريكة. أليسا هما الإثنان أسودين؟ نامو سوداء هنا في الهند وهو أسودٌ هناك في انجلترا. لكنه لم يفعل.
بعد قليل قامت أمه وجلبت بعض قطع الخبر الجاف من المطبخ. «خذي يا نامو، لم نطبخ أي طعام بعدُ هذا اليوم. خذي هذا الخبز المتبقي من عشاء البارحة».
تناولت نامو ما أعطتها أم جاتيندر من الخبز وغادرت المنزل. نادى جاتيندر أمه: «تعالي يا أمي، سأحكي لك ماذا يعني أن يكون المرؤ أسوداً بين البيض. أمثالنا منبوذون في انجلترا يا أمي تماما مثلما نعامل نحن نامو كمنبوذة، المنبوذون هم السود في الهند ونحن السود في انجلترا. الإنجليز يعاملوننا تماماً كما نعامل نحن المنبوذين هنا يا أمي».
«لا بد أنك تمزح يا جاتيندر»، ردّت أمه.
لم يزد جاتيندر على ما قاله لأمه لكنه شعر بحزن عميق. أما أمه فقد دخلت غرفتها وبدأت تتفحص بفرح الهدايا الجميلة التي أحضرها لها ابنها من انجلترا.
تقديم وترجمة: سعيد الريامي