ليندا نصار
يعدّ المبدع نصير شمة واحدًا من الذين جعلوا للوتر إحساسًا لا يقاوم إلا بالتماهي مع فسيفساء الألحان، تلك التي تدفعنا إلى إعادة علاقتنا بالوجود، وكأنّ العالم من حولنا يسمو بنا لنصبح أكثر خفّة نقاوم بمعزوفاته ثقل الكلمات وهي تنساب بهدوء عبر أصابع تتقن فن العزف على إيقاع الأرواح. في لحظة من اللحظات تجده أمام ملامح تنصهر فيها ذاته كأنه جسد للموسيقى العربية أو صوت خاص في «بانسيون» الموسيقى العالمية.
هكذا كان نصير شمة حريصًا على أن يدندن من تعبنا وهواجسنا، من إخفاقاتنا وانكساراتنا، من حروبنا ألحانًا للحياة، للحلم، وللحرية كما للفرح الصغير الذي كان كطفل وهو ينمو بين أصابعه كما تنمو أزهار الحياة.
الأقوال كثيرة عن الموسيقى كونها بالنسبة إلى أفلاطون مثلًا تعطي روحًا للكون، وأجنحة للعقل، وطيرانًا للمخيلة وحياة لكل شيء. ماذا تقول عن تجربتك مع الموسيقى التي رافقتك في حياتك؟ وكيف يمكن لها أن تشكّل علاجا لإنسان اليوم، وتقدّم له سلامًا داخليًّا ومتنفّسًا وسط التغيّرات والصراعات والرؤى العالمية الجديدة؟
الموسيقى لغة كونية تتخاطب مع الأرواح والعقول عبر الزمان والمكان. هي الأسرع في تحريك المشاعر والأحاسيس العميقة، كما أنها تشكّل ذاكرة.. وهذه الذاكرة وإن ارتبطت بالأذن إلاّ أن ارتباطها هذا مجرد طريق أو درب لكل ما يشكّل الجسد والروح. هي القشعريرة والرهبة كما أنها الحركة والإغماضة، أحيانا جرعة موسيقى توقظنا وأحيانا نغفو على صوتها، وهي الهوية الأولى التي تشكلّت على الأرض.
في تجربتي الشخصية، الموسيقى كانت دائمًا رفيقًا مهمًا في حياتي. تستطيع الموسيقى أن تكون وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار التي قد يكون من الصعب التعبير عنها بالكلمات فقط. وكونها تعمل كمصدر للتأمل والاسترخاء وكثيرًا ما تكون ملاذًا في أوقات الضغط والتوتر.
بالنسبة إلى العلاج النفسي، الموسيقى تستخدم بشكل أوسع لعلاج مجموعة متنوعة من القضايا الصحية النفسية. كذلك تعزز الموسيقى الاستقرار العاطفي وتساعد في تقليل التوتر والقلق. كما أنها تسهم في تعزيز الانتباه والتركيز.
لذا، يمكن القول إن الموسيقى لها تأثير علاجي قوي يمكن أن يساعد الأفراد على التعامل مع التغيرات والصراعات والضغوط النفسية في الحياة. يجب على الأفراد اكتشاف نوع الموسيقى التي تلائمهم بشكل خاص وتساعدهم على العثور على السلام الداخلي والتنفس والاستمتاع باللحظة الحالية.
ونذكر أن تجارب عديدة جرت على النباتات واستجابة نموها للموسيقى جاءت بنتائج إيجابية مدهشة. مصاحبة الموسيقى للنمو رفقة تزدهر وتمنح الحياة للمستقبل.. ببساطة هكذا ألخصها.
نلاحظ منذ أعوام عدّة تراجعًا في صناعة آلة العود التي تعدّ إرث العراق. ما المستقبل الذي تتطلّع إليه في ما يخصّ هذه الآلة؟ وفي ظلّ التكنولوجيات الحديثة، أين نحن اليوم من العود القديم؟
– آلة العود جزء مهم من التراث الثقافي للعراق والمنطقة بشكل عام، وتجسد تقاليد وثقافة غنية. على الرغم من التحديات التي تواجه صناعة العود، إلا أن هذه الآلة لديها مستقبل مشرق إذا تم التفكير فيها بعناية.
باستخدام التكنولوجيا الحديثة، يمكن تطوير آلات العود بشكل يحافظ على جمالية وأصالة الآلة التقليدية، وفي الوقت نفسه يزيد من قدرتها على التكيف مع الاحتياجات الحديثة. يمكن تطبيق التقنيات المتقدمة في عملية صناعة العود لتحسين الأداء وجودة الصوت وسهولة العزف. علاوة على ذلك، يمكن استخدام التكنولوجيا في تعليم ونقل مهارات العزف على العود بشكل أكثر فعالية ووصولًا إلى عدد أكبر من الأشخاص. بالاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات عبر الإنترنت، يمكن تعزيز الوعي بثقافة العود وجذب مزيد من الشباب لاستكمال هذا الإرث الثقافي العريق.
باختصار، المستقبل يمكن أن يكون واعدًا لآلة العود إذا تم دمج التقاليد مع التكنولوجيا الحديثة للمحافظة على هذا الجزء الهام من التراث الثقافي وجعله متاحًا وملهمًا للأجيال الجديدة.علمًا أننا ومنذُ أسسنا بيت العود قبل 25 عامًا نحرص على أن تكون ورشة صناعة العود بكل بيت من بيوت العود قدر الإمكان لأغراض سد حاجة الدارسين وتعليم الصناعة والبحوث في تطويرها. مثال على ذلك سيقدم بيت العود أبو ظبي حفل تخرج لصانع عود جديد أنهى دراسة صناعة الآلة وسيقدم بحضور لجنة مختصة مشروعه لغرض نيل التخصص.
لطالما كانت آلة العود روحًا أخرى ترافق الفنان أو المغني في حفلاته وسهراته وتمنحه ربما شيئًا من الثقة في النفس، وكان الناس يخصصون للعود جلسات يتحلّق حوله الجميع ويستأنسون بالإصغاء إلى ألحانه. ألا تعتبر أنّ هناك إجحافًا بحقّ هذه الآلة اليوم بعد أنّ حلّت مكانها آلات جديدة وأصبحت محصورة بفئة عمرية معينة؟
صحيح أن آلة العود لديها مكانة خاصة وتاريخ طويل في التراث الموسيقي والثقافي. وفي الواقع، يمكن أن يكون هناك إجحاف بحقها إذا تم تهميشها تمامًا أو إقصاؤها من الثقافة الموسيقية الحديثة. إنها جزء من التراث الثقافي الذي يجب المحافظة عليه واحترامه وتعليمه لكل الفئات العمرية.
ومع ذلك، يمكن أن نرى التطور والتغيير كجزء من التطور الطبيعي للموسيقى والفن. ليس من الضروري أن نعتبر ذلك إجحافًا، بل ببساطة تغييرًا في المذاق الموسيقي واختيار الآلات المستخدمة حديثًا. يمكن أن تظل آلة العود موجودة ومحبوبة بين فئة عمرية معينة وفي سياقات ثقافية متنوعة ومنتشرة كما الحال الآن ولكن وفي الوقت نفسه يمكن استخدام آلات جديدة لاستهداف جماهير مختلفة.
المهم هو تقدير التنوع الموسيقي والاحترام المتبادل بين مختلف الأساليب والآلات. إنها جميعها تسهم في تثقيف وإثراء الثقافة الموسيقية بشكل عام، وتقدم تجارب فنية متنوعة للناس.
أظن أن واقع آلة العود اختلف حاليًا، فما كنا نعرفه عن العود في تراثنا كان فعلا مرافقة لصوت المغني أو المغنية أو في جلسات يصدح فيها العود فيطرب السامعين. أما اليوم فالعود الذي لم يتغيب عن جلسات البيوت الحميمة أصبح يعزف منفردًا بوساطة عازفين مهرة ويأتي بجمهوره إلى المسارح. وذلك الجمهور يأتي للعود ولا يذهب له العود كما كان معتادًا.
قمت بأعمال خيرية عدّة ومنها مبادرات خصّصت من خلالها الحفلات والنشاطات التي يعود ريعها لدعم أطفال العراق، بالإضافة إلى تصوير فيديو للتوعية من مخاطر تغيّر المناخ. ومن يتابع نشاطاتك أيضًا، يلاحظ أنّك تشتغل دائمًا للإنسان ولمصلحة حماية بيئة الكوكب. ألا ترى أنّ البشر يظلمون بعضهم البعض وأنّ إنسان اليوم بات في خطر؟
– نعم، بالفعل، يُلاحظ أن البشر يمكن أن يظلموا بعضهم بعضًا وأن إنسان اليوم يواجه تحديات كبيرة. هناك عدة قضايا تؤثر في مصير البشرية والكوكب، ومن بينها:
تغير المناخ، فتغير المناخ هو تحد عالمي كبير. ارتفاع درجات الحرارة والظواهر المناخية المتطرفة تهدد البيئة ومصادر الطعام والمياه والسكان، وكذلك الفقر وعدم المساواة، فهناك العديد من الأماكن في العالم حيث يعيش الناس في فقر مدقع ويفتقرون إلى الوصول إلى الخدمات الأساسية وفرص العيش الكريم، وكذلك النزاعات والصراعات، فالنزاعات المسلحة والحروب تؤثر في حياة الناس وتجعلهم عرضة للخطر والنزوح، أيضا فقدان التنوع البيولوجي، فتناقص التنوع البيولوجي وانقراض الكائنات الحية يمكن أن يؤثر سلبًا في البيئة والأنظمة البيئية.
لذلك، من المهم بالفعل أن نعمل جميعًا معًا للتصدي لهذه التحديات، والأعمال الخيرية والجهود للمساهمة في دعم الأطفال وحماية البيئة تمثل دورًا هامًا في تحقيق التوازن وتحسين الحياة على الأرض. والتوعية بمثل هذه القضايا ودعم الحلول المستدامة يمكن أن يساعد في تحقيق تغيير إيجابي على الصعيدين الشخصي والعالمي.
يطلق على نصير شمة «فنان اليونيسكو للسلام العالمي». ألا يعدّ ذلك مسؤولية كبيرة على عاتقك كفنان مبدع؟
– بالطبع، لقب «فنان اليونيسكو للسلام العالمي» يحملني مسؤولية كبيرة. إنه تكريم واعتراف بالتزام الفنان بتعزيز السلام والتفاهم الثقافي وحقوق الإنسان من خلال فنه. يعني هذا اللقب أن الفنان يمكنه استخدام صوته وفنه نشر رسالة السلام وتعزيز قيم اليونيسكو، فإن هذا اللقب يمنح لمن لديه القدرة على الإلهام والتأثير على العديد من الأشخاص حول العالم. إنها فرصة لنشر الوعي بالقضايا الهامة مثل السلام، وحقوق الإنسان، والثقافة، وحماية البيئة.
لذا، نعم، يأتي هذا اللقب مع مسؤولية كبيرة، ولكنه أيضًا فرصة للفنان ليكون قوة إيجابية في العالم وللعمل على تحقيق التغيير والسلام العالمي المبني على الحق والعدالة من خلال فنه ومساهماته في المجتمع.
تدعو إلى الحياة من خلال اللحن، وننتبه إلى الموهبة العالية التي تدفعك إلى لحظات تعيش فيها انسجامًا واتحادًا يحدث بينك وبين اللحن إلى حدّ أنّك ترتجل جملًا موسيقية في أثناء العزف. كيف تصف هذه التجربة أو كيف تعبّر عن هذه المشاعر؟
التجربة التي تصفينها هي تجربة فريدة ومميزة في عالم الموسيقى. عندما أعزف وأكون في تلك اللحظات من التأمل والانغماس في الموسيقى، يمكن أن يحدث اتحاد رائع بيني وبين اللحن وبيني وبين الكون والفضاء والجمهور أحيانًا،إنها تجربة تشبه الانغماس في عالم آخر، حيث يصبح اللحن والآلة جزءًا مني، وأشعر بأنني أعبر عن نفسي بطريقة لا يمكن أن تفعلها الكلمات.
عندما أرتجل جملًا موسيقية أثناء العزف، يشعر المتلقي بالحرية والتحدي الكامل، وكأنه يتحدث بلغة تعبر عن مشاعره وأفكاره بدقة. هذه التجربة تجلب السلام والسعادة والارتياح، وتجعلني ممتنًا للفرصة التي أملكها للتواصل مع العالم من خلال الموسيقى.
العديد من الفنانين اشتغلوا على تلاقح الأجناس الأدبية وانفتاحها على بعضها البعض كمثل تجسيد لوحة في قصيدة أو في معزوفة. كيف تقيّم هذه التجربة وإلى أيّ مدى يعني لك ذلك؟
التلاقح بين الأجناس الأدبية والفنية تجربة مثيرة بالنسبة للفنانين. إنه يسمح بدمج مختلف العناصر الفنية والأدبية لإنتاج أعمال فنية فريدة ومبتكرة. من الناحية الموسيقية، يمكن أن يؤدي هذا التلاقح إلى إنشاء موسيقى تعبّر عن أفكار ومشاعر بطرق جديدة ومبتكرة.
إنها طريقة لتوسيع حدود الإبداع والتعبير عن الفنان. يمكن أن تجمع بين الكلمات والموسيقى بطرق تعزز من تأثير الأعمال الفنية. على سبيل المثال، يمكن للكلمات أن تعزف دورًا إضافيًا في توجيه السمع لفهم رسالة الموسيقى بشكل أفضل. بالنسبة إلي شخصيًا، أرى أن هذا التلاقح يفتح آفاقًا إبداعية جديدة ويساعد على إثراء الخبرات الموسيقية. إنه يمنح الفرصة للتعبير عن الأفكار بشكل أكثر عمقًا وتعقيدًا، ما يجعل عملي الموسيقي أكثر تنوعًا وإثراءً. كما أنني أؤمن بقوة أن الفنون السبعة المتعارف عليها، كلها تنهل من بعضها البعض وتتفق جميعها على ما تبنيه المخيّلة ويجسده العقل.
بعد مرور هذه السنوات والنجاحات العظيمة التي حققتها. ما الذي تغيّر في نصير شمة الفنان الموهوب؟ وما الذي أثّر في الوجه الآخر لك؟
بعد مرور السنوات وتحقيق بعض النجاحات المتواضعة، يمكن أن يحدث تغيير كبير في حياة الفنان وفي تطوره الفني والشخصي، يمكن أن تكون هناك بعض التأثيرات والتغييرات التي قد تشمل:
النمو الفني: فمع مرور الزمن، يمكن أن يتطور الفنان وينمو في مهاراته وتقنياته الفنية. أن يصبح الفنان أكثر تنوعًا واستقلالية في الأعمال التي يقدمها.
التأثير في الجمهور: فبالنجاح يأتي تأثير أعمق في الجمهور. يمكن للفنان أن يكون له دور كبير في تشكيل آراء وتفكير الأشخاص والتأثير بهم إيجابيًا.
التجارب الشخصية: مع تقدم الفنان في السن، يمكن أن يخوض تجارب وتحديات شخصية تؤثر في أعماله وفنه. تجارب الحياة تمنحه مصادر جديدة للإلهام.
الالتزام الاجتماعي: قد يزيد النجاح والشهرة من التزام الفنان بالقضايا الاجتماعية والإنسانية، ويجعله يستخدم مكانته لدعم قضايا مهمة.
إن تطور الفنان مع مرور الزمن هو جزء من رحلة الإبداع، ويمكن أن يكون له تأثير كبير في الأعمال الفنية والتأثير الاجتماعي والشخصي للفنان.
متى يطمئنّ المبدع الحقيقي؟ وهل أنت مطمئنّ إلى ما حققته حتى اليوم؟
– المبدع الحقيقي قد يجد الرضا والاطمئنان عندما يشعر بأنه قد أسهم بشكل كبير في التعبير عن نفسه وإيصال رسالته من خلال منجزه . يمكن أن يشعر بالاطمئنان عندما يكون قادرًا على التعبير بحرية عن أفكاره ومشاعره وعندما يرى تأثير إبداعه على الجمهور والمجتمع.
بالنسبة لي، ليس لدي حالة اطمئنان بالطريقة التي يعتقدها البعض. مهمتي هي تقديم العمل الفني ورسالتي لم تنته وكذلك مازلت أشعر بأني قادر على المساعدة على أفضل وجه ممكن. لكنني أتمنى دائمًا أن يكون عملي يمتلك سمات البقاء، والجهود التي أقدمها لتعزيز الجمال وأن يجد فيها المتلقي قيمة ونفعًا.
حالة الاطمئنان ليست حالة أتمناها لأنها في جانب منها قد تشكّل ركودًا أو استكانة، وفي الحقيقة فإن القلق هو حالة من حالات الإبداع التي تدفع المبدع دائما للتطوير.
نرى أنك في حركة مستمرة وفي سفر دائم. ما هي المشاريع المستقبلية التي تتطلّع إلى تحقيقها؟
– لا سقف لدي للأحلام، وما إن أشعر أنني اقتربت من الوصول إلى نقطة حددتها حتى تتقافز في رأسي عشرات المحطات الجديدة.
دائما ومنذ أمسكت العود لأول مرة حلمت به يجول العالم، واكتشفت أن العازف بلا ثقافة أو بنصف ثقافة لا يستطيع أن يبني، ثم بدأت أعي مخاطر العولمة وتحوّل العالم إلى قريّة صغيرة، ووقوفنا نحن كمتلقين غالبًا غير مصدرين، فدوّنت في أحلامي عولمة العود، وما زال الطريق طويلا ولن ينتهي أبدا، ومشروع بيت العود هو جزء يسير من عولمة العود.
أحلم بعالم مختلف، أو كما لخصته ابنتي عندما سمعت معزوفة لي لأول مرة وقالت سمها (عالم بلا خوف) وهكذا كان. أحلم بشعوبنا تمشي على درب الثقافة والمعرفة. هناك الكثير الذي أحلم به وأسعى إليه.