لم يكن ابن الدبّاغ(1) في «مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب» يهدف إلى التنظير في مسائل الجمال والجلال، أو في الأذواق واللذائذ والمشاعر الجمالية. بل لم يكن يهدف إلى مقاربة الحقل الجمالي أصلاً؛ فهو معنيّ أولاً وأخيراً بالمحبة الإلهية، وما يدخل فيها، ويتنافر معها، ويترتّب عليها في الطريق العرفاني إلى الله. فكان كتابه ذاك جواباً مستفيضاً عن سؤال لأحدهم حول ذلك الطريق دون سواه؛ أراد فيه أن يبيّن، قدْر المستطاع، ما الزاد الذي ينبغي أن يتزوّده السالك فيه، وما المحطّات أو المقامات التي يمكن أن يترقّى بها، وما المشاعر الوجدانية التي سوف يتقلّب فيها من حال إلى حال، حتى يصل إلى مبتغاه الأسمى، وهو العيش في «عالم النور» القدسي. يقول ابن الدبّاغ: « فقد سألتني أن أكشف لك عن حقيقة السلوك إلى جناب الأحباب، والوصول إلى حضرة الجمال الإلهي التي تحوم عليها القلوب والألباب، ومشاهدة النور الأعلى، ومحاسن صور العالم الأرفع الأسنى، والوقوف في الوادي المقدّس طُوى، فأجبتُك إلى ذلك بقدر ما تقتضيه الحال ويساعد عليه الخاطر المقسَّم ويُعطيه المقال»(2).
غير أنه في إجابته الصوفية تلك أجاب عن الكثير من المسائل الجمالية، وعالج عدداً كبيراً من الموضوعات والأطروحات الفكرية ذات الصلة بنظرية الجمال العام، بحسب المصطلح الحديث، بالرغم من أنه لم يخرج عن موضوعه الأساس، ولم يستطرد إلى غيره من الموضوعات أو القضايا. بل إنه حافظ على مساره الصوفي في المحبة الإلهية مفهوماً وشعوراً وسلوكاً ومقاماً، عبر فصول الكتاب. ولكن المسار الصوفيّ الذي انتهجه، في التأليف، كان ذا طبيعة فكرية جمالية، أو هو في ذاته مسار جمالي عولج بطريقة صوفية عرفانية، وبأدوات اصطلاحية يلتبس فيها العرفاني بالجماليّ؛ فكان الكلام على المحبة الإلهية، لدى ابن الدبّاغ، كلاماً على الجمال المطلق، والكلام على المحبّين والسالكين هو نفسه الكلام على متذوّقي الجمال والمغرمين به، وكذا هو الكلام على الأحوال والمقامات الصوفية التي بدت أشبه بالتجارب الجمالية المتفاوتة بحسب الذوات والموضوعات والخبرات والظروف.
نقول ذلك على صعيد الإجمال. أما على صعيد التفصيل، فقد توقّف ابن الدبّاغ عند الجمال بأنواعه ومستوياته كافةً، الحسّي منها والمعنوي والروحاني، والطبيعيّ والإنساني والإلهي، والجزئيّ والكلّي والمقيّد والمطلق؛ وتوقّف كذلك عند الآثار النفسية والسلوكية الخُلقية للجمال في النفوس، أي التربية الجمالية؛ مثلما توقّف عند العلاقة بين الجمال وكلِّ من الكمال والاعتدال، وعند الجلال وعلاقته بالكمال والعظمة، وما يتّصل بهما من المشاعر الوجدانية؛ وكذلك فقد أسهب في الحديث عن طبيعة العلاقة بين الجمال والمحبة بمستوياتهما المختلفة، وبين المادة والصورة والمعنى أو الروح في أنواع الجمالات وأشكالها؛ وتوقّف أيضاً عند التجربة الجمالية أو المشاهدة بشروطها المختلفة وحصيلتها الشعورية واللذّوية، إضافة إلى الحواس والقوى التي تستوعب تلك الأنواع والأشكال… إلخ.
إنّ ما سلف يجعل من «مشارق الأنوار» مرجعاً في الحقل الجمالي بقدر ما يجعله مرجعاً في الحقل الصوفي. ولعلّنا نذهب إلى أنّه المرجع الأساس في تراثنا القديم، بالنسبة إلى نظرية الجمال العام تحديداً. ولا يعود ذلك إلى أسبقية ابن الدبّاغ الزمنية، فهو متأخّر نسبياً، إذا ما قيس بالفاربي أو التوحيدي أو الغزالي مثلاً، ولا يعود أيضاً إلى اجتهاداته الخاصة في هذا الشأن، على أهميتها؛ وإنما يعود في الدرجة الأولى إلى أنّ أطروحاته في «مشارق الأنوار» قد أحاطت بأطراف الفكر العربي القديم، بمختلف مفاهيمه ومسائله وقضاياه الجمالية الخاصة والعامة على السواء. وهو ما لا نجده مجموعاً كلّه في مرجع آخر؛ إذ إنّ معظم المراجع التراثية التي تنطوي على الفكر الجمالي غالباً ما تكتفي منه ببعض المسائل دون بعض، أو تكتفي بفصل واحد تتعرّض فيه لأذواق الجمال أو الآراء العامة حوله، دون نظرة متأنية أو متفحّصة أحياناً، بخلاف «مشارق الأنوار» الذي لم يكد يترك شاردة ولا واردة، من أطروحات الفكر الجمالي السائدة في عصره، إلا وعالجها بإسهاب حيناً، وبإيجاز أو تلميح حيناً آخر؛ وكأنّ «مشارق الأنوار» جاء تلخيصاً لذلك الفكر وتتويجاً له في الوقت نفسه.
لكنّ تلخيصه وتتويجه اقتصرا على نظرية الجمال العام، دون المساس بنظرية الفنّ بأيّ مستوى من المستويات؛ فبالرغم من كثرة التمثّل بالشعر في مشارق الأنوار(3)، ومن التمثيل أحياناً بالفنون السمعية والبصرية، فإنّ ابن الدبّاغ لم يعالج فيه نظرياً أو نقدياً ايّ فنّ من الفنون، وإنما حافظ على مساره الفكريّ- الصوفيّ، في معالجة القضايا التي تمسّ موضوعه الأثير، وهو المحبة الإلهية والطريق إليها. ولذلك فإنّ اعتبارنا لمشارق الأنوار على أنه المرجع الأساس في الفكر الجمالي القديم يقوم على عنايته بنظرية الجمال العام دون نظرية الفن أو نظرية الشعر مثلاً. ومن البدهي أنّ ذلك لا يقلّل من قيمة مشارق الأنوار. بل إنه يؤكّدها ويعزّزها، لانصرافه الكلّي إلى النظرية الأُمّ أو الأصل في الفكر الجمالي.
وبالرغم من أنّ أطروحات ابن الدبّاغ الجمالية تنضوي تحت الخطاب الصوفي- العرفاني، فإنها تتسع لاستيعاب الفكر الجمالي بمختلف أشكال الخطاب فيه، من كلامية وفلسفية وفقهية؛ إذ إنه استفاد من مجمل ما سبقه من أفكار وأطروحات جمالية، منذ القرن الثالث الهجري حتى زمنه في القرن السابع للهجرة؛ ولذلك لا غرابة في أن نجد لديه أصداء للفارابي وابن سينا، ولأبي حامد الغزالي وابن حزم الأندلسي، مثلما نجد أصداء للمتصوفة السابقين كالحلاج وابن الفارض وابن عربي. بل لا غرابة أيضاً في أنّ نجد لديه أصداء لأفلاطون وأفلوطين، ولاسيما بما يتّصل بنظرية المُثُل، ونظرية الفيض التي اعتمدها ابن الدبّاغ، مثلما اعتمدها قبله الفلاسفة والمتصوفة المسلمون بطرائق متعدّدة ومختلفة(4).
فابن الدبّاغ إذاً يمثّل الخطاب الجمالي العرفاني الخاص بقدْر ما يمثّل الخطاب الجمالي العربي العام. أما تمثيله الخطاب الخاص فيكمن في المنهجية العرفانية المتّبعة في وعي الجمال والجلال، وفي القصدية أو الإستراتيجية منها أيضاً، ويكمن كذلك في الاصطلاحات الصوفية التي استوعبت موضوعها الجمالي الإلهي، وطرائق الوصول إليه، والمشاعر الوجدانية المرتبطة به؛ وأما بالنسبة إلى تمثيله الخطاب العام فيكمن في اعتماده الكثير مما طرحه المتكلّمون والفلاسفة في شأن الجمال والجلال وما يتفرّع منهما أو يرتبط بهما من حيث الخصائص والمشاعر واللذائذ والحواس؛ أي أنه تمّ اعتماد «المقولات البدهية»، أو الثقافة الجمالية السائدة في الخطاب العام، في حين تمّ اعتماد المنهجية العرفانية في وعي الجمالات والجلالات، والعالم من ورائهما. وبذلك يكون ابن الدبّاغ قد قام بتطويع المقولات البدهية أو تخديمها لتلك المنهجية، فبدت وكأنها نتاجها، وما هي كذلك في الأصل.
أصول الجمال:
ينطلق ابن الدبّاغ من بدهية عرفانية مستمدّة من نظرية الفيض أساساً، في تحديد تراتبية الخلق والجمال معاً. فيرى أنّ النور الإلهي القدسيّ الذي هو سرّ الوجود والحياة والجمال والكمال قد أشرق على العالم كلّه، فكانت الذوات العاقلة العارفة، أي الملائكة، هي التجلّي أو الظهور الجمالي الأول له؛ ثمّ سرى منها ذلك النور إلى عالم النفوس الإنسانية التي هي جواهر روحانية، وهذا هو الظهور الثاني؛ ثمّ بعد ذلك سرى منها، أي من النفوس، إلى أبدانها الآدمية المعتدلة، التي هي خاتمة السريان. ولذلك فإنّ الأبدان تقبل النور ولا تنير، بخلاف الذوات العارفة والنفوس الإنسانية التي كلّ منها ينير ما دونه، أو أنه مستنير ومنير معاً. وبالأبدان تكتمل دائرة الخلق والجمال والمحبة؛ أما بالنسبة إلى المحبة فإنّ تلك التجليات ذات الطبيعة الجمالية تقوم أصلاً على المحبة أو العشق؛ إذ تبتهج الذوات والنفوس بما حصل لها من الجمال، وتتشوّق إلى مشاهدة الجلال الإلهي، فهي دائماً في محبة أو في ابتهاج يشوبه القهر. { را: 23/ 24}.
وبناء على ذلك السريان الذي هو سريان «جمالي»، فكلّ ما في الكون عاشق ومعشوق، عاشق لما قبله أو فوقه بما فيه من جمال، ومعشوق لما بعده أو دونه بما فيه من جمال أيضاً5. وإذ يكتفي ابن الدبّاغ بثنائية العشق تلك فيما بين الجواهر الروحانية والنفوس الإنسانية وكذلك الحيوانات، أي بين ذوات الأنفس وذوات الأرواح؛ يذهب سواه إلى تقريرها حتى في الجمادات، فـ «العلاقة» بين الحديد والمغناطيس مثلاً هي نوع من العشق !. { را: 26/ 27}.
ولكن للنور القدسي الذي هو السرّ في كلّ ذلك منعكسات تختلف باختلاف الكينونات التي تستقبله، وهو ما يجعله متفاوتاً في الظهور، بالرغم من كونه واحداً لا يتفاوت ولا يتغيّر: «فقد تقرّر من هذا أنّ النور الإلهي، وإن كان واحداً، فقد اختلفت آثاره في الذوات لاختلافها، فبعضُها قبِلت منه صفة الوجود والحياة والمعرفة والمحبّة والجمال، وهي الذوات العارفة الكاملة، وبعضُها قبِلت منه صفة الوجود والحياة والجمال، وهي الأجسام التي تدبّرها الأنفس العارفة، وبعضُها قبِلت الوجود والجمال، وهي أجسام الحيوان والنبات، وبعضُها لم تقبل من هذا النور إلا صفة الوجود خاصةً، وهي أجسام الجماد المظلِمة في ذاتها، وإنما حصل لها من النور الوجودي رَشٌّ به ظهرت من ظُلمة العدم، وبه تناسبت مع أجناسها لاشتراكها في الوجود.»{25/ 26}.
نلحظ، في هذه التراتبية الوجودية(6) التي تشمل الموجودات الروحانية والجسمانية كافة، أنّ الجمال هو العنصر المشترك بينها جميعاً، ما خلا الجمادات التي لم تحظ إلا بصفة الوجود. فالجمال، بحسب ذلك، صفة لما يتشكّل وفق صورة ما، بصرف النظر عن المادة التي يتشكّل منها، وهل هي مادة حسية أو عقلية أو روحانية؛ فما لا يتشكّل بصورة لا جمال فيه، كما هي حال الجمادات التي هي مجرّد مادة غفْل، لا صورة لها.
فالموجودات الحيّة، إذاً، ذات جمال بالضرروة، لسريان النور الإلهي فيها بحسب استقبالها إياه، وبحسب ذلك الاستقبال يكون جمالها، ويكون التفاوت والتفاضل فيه؛ فكما أنّ الوجود قائم على التفاضل، فإنّ الجمالات هي الأخرى قائمة عليه؛ ولا يمكن فهم التفاضل إلا من خلال طبيعة القبول، فما يستطيع نوع وجودي أن يقبله لا يستطيع قبوله نوع آخر، وما يقبله فرد من ذلك النوع لا يقبله فرد آخر أيضاً. فتتعدّد الجمالات وتتفاوت، بحسب القبول، فيما بين الأنواع، وفيما بين الأفراد من كلّ نوع على حدة.
أما الموجودات المادية البحت- الجمادات تحديداً- فقد توضَّح أن العلّة في عدم اشتمالها على أي مستوى من مستويات الجمال تكمن في انعدام الصورة- وإن لم يقل ابن الدبّاغ ذلك حرفياً- وبما أنّ انعدام الصورة يعني انعدام الفردية أو التمايز، فإنّ ذلك يفترض بدهياً أنّ هنالك سببين اثنين، في خلوّ الجمادات من الجمال، وهما انعدام الصورة وانعدام الفردية معاً. ونقصد بالفردية، هنا، أن يكون للموجود كيان قائم بذاته، في إطار النوع الذي ينتمي إليه، مما لا نجده في المعدن الخام مثلاً، في حين نجده في النبات والحيوان والإنسان جميعاً7.
الجمال: السرّ والأسباب:
إنّ قبول الجمال مشروط، إذاً، بطبيعة القابل وخصائصه الروحانية والجسمانية، غير أنّ لتلك الطبيعة والخصائص ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الكمال الذي هو الأصل في الوجود والحياة والمحبة والجمال والجلال. فما لا يحوز على الكمال الخاص به لا يوجد أصلاً؛ وكما أنّ للجمال أنواعاً ومستويات، فللكمال أيضاً أنواعه ومستوياته. بل الأدقّ أنّ التنوع في الكمال هو السبب الأول في تنوّع الموجودات والجمالات كلها. وهذه واحدة من المسلّمات البدهية في تراثنا الفكري عامة.
يعرّف ابن الدبّاغ مفهوم الكمال بأنه «حضور جميع الصفات المحمودة للشيء. وهو ينقسم إلى ظاهر وباطن. أما الظاهر فهو اجتماع محاسن صفات الأجسام اللائقة بها، وهو يختلف باختلاف الذوات، فكمال كلّ شيء بحسب ما يليق به، فالذي يكمل به شيء غير الذي يكمل به شيء غيره، فإنّ الصفات التي تكمّل ذات الإنسان غير التي تكمّل ذات الحيوان»{39}. وكذا هي الحال بين الحيوان والنبات، وفيما بين الأجناس كافة. بل أعضاء البدن كلّها. أما الكمال الباطن فهو «اجتماع الصفات الفاضلة في الإنسان على اعتدالها وتطبّعه بها، والصفات الفاضلة العقلية كثيرة، ولكنّ أمهاتها أربعٌ وهي: الحكمة والعفّة والشجاعة والعدالة.(8)»{41} .
وبما أنّ الكمال هو سبب الجمال، فلا يمكن لهذا أن يتوضّع فيما يتّصف بالنقصان، فليس للناقص أن يكون جميلاً. غير أنّ تعريف ابن الدبّاغ للكمال على هذا النحو يجعله ملتبساً بالجمال، فلا يكاد الواحد منهما يتميّز من الآخر؛ إذ إنّ تعريف الكمال عامة على أنه اجتماع الصفات المحمودة للشيء، أو تعريف الكمال الظاهر على أنه اجتماع محاسن صفات الأجسام اللائقة بها، هو تعريف للجمال عامة أو للجمال الظاهر خاصة. فالصفات المحمودة أو محاسن صفات الأجسام هي تحديد للجمال، وليس للكمال الذي كان ابن سبعين قد حدّده بقوله: «حدُّ الكمال هو الذي لا يقبل الزيادة ويختلّ بالنقصان»(9)، وإلى هذا التحديد ذهب ابن عربي(10) أيضاً، وقبلهما كان ابن سينا قد ذهب إلى أنه «يقال شرٌّ لنقصان كلّ شيء عن كماله وفقدانه ما من شأنه أن يكون له.»(11). وذلك من منظور أنّ لكلّ شيء عناصره الخاصة التي تحدّدها طبيعته النوعية، إذا فقدَ شيئاً منها اعتُبر ناقصاً بالضرورة.
وما يؤكد التباس مفهوم الكمال بمفهوم الجمال، في ذلك التعريف، هو تلك الأمثلة التي طرحها ابن الدبّاغ في شرحه للكمال الظاهر؛ إذ يقول: «فكمال صورة الإنسان الظاهرة في تناسُب أعضائها واعتدال مزاجها وامتزاج البياض بالحُمرة في لونها ورقّة بشَرتها وغير ذلك…، وكمال النبات في غضارته وعذوبته.»{39}. فالتناسب والاعتدال والامتزاج والرقّة، في صورة الإنسان هي عناصر الجمال فيها لا الكمال الذي هو، بحسب تحديده الفلسفي القديم، حضور جميع الصفات الدالّة على النوع، أو بحسب قول الغزالي: جميع صفاته الممكنة له واللائقة به(12)، وليس جميع الصفات المحمودة فيه، كما ذهب ابن الدبّاغ(13).
وتقتضي الإشارة هنا إلى أنّ الالتباس بين الكمال والجمال، في التعريف، ليس هو الوحيد، لدى ابن الدبّاغ، فكثيراً ما يلتبس لديه مفهوم الكمال بمفهوم الاعتدال. حيث يبدو الكمال اعتدالاً في موضع، ويبدو الاعتدال كمالاً في موضع آخر. كأن يقول: «فإنّ كون هذه الأشياء على غاية اعتدال صورتها الظاهرة كمالٌ لها.»{41}. أو يقول أيضاً: « ليس للجمال الجزئي حقيقةً إلا إشراق نور النفس على الصورة المعتدلة المزاج الحسنة التأليف»{14} أي الصورة الكاملة، وكلذلك « فلا شكّ أنّ الاستدلال بالنبات أكمل من الاستدلال بالجمادات، لما في النبات من الكمالات المعدومة في الجمادات، فإنّ النبات لمّا اعتدل اعتدالاً فارق به الجماد من أنّ فيه النموّ والاعتدال والتوليد..»{111}.
وبالرغم من أنّ الالتباس بين الجمال والكمال والاعتدال، ليس خاصّاً بابن الدبّاغ- وهو في ذلك شأنه شأن الكثيرين، ولاسيما حين يفصّلون فيها ويمثّلون عليها- فإنّ للالتباس عنده إرباكاً مفهومياً واصطلاحياً؛ وذلك أنّه معنيّ، على نحو لافت للنظر، بالتحديدات والتعريفات والاصطلاحات المعرفية والعرفانية والجمالية، مما يجعل الالتباس الاصطلاحي لديه مربكاً لمنظومته في الخطاب ومنهجيته فيه معاً، بخلاف سواه ممن يمرّ عرضاً بكلّ من الجمال أو الكمال أو الاعتدال، أو لا يبني عليها آراء وأحكاماً أو نتائج معرفية وعرفانية، كما هي حال صاحب مشارق الأنوار.
ويخيّل إلينا أنّ تلك الالتباسات تعود إلى الحمولة التجريدية والروحانية الكبيرة في تلك المفاهيم التي تبدو غير متمايزة تماماً فيما بينها. ويكفي أن نشير هنا إلى أنّ حوامل الجمال والكمال والاعتدال هي كلّها حوامل روحانية ومعنوية ما خلا الحامل الحسّي منها. بل حتى هذا الحامل غالباً ما يتمّ النظر إليه ومحاكمته عرفانياً، فيلتبس الحسي بالروحاني في أثناء التعريف أو التحديد.
ومع كلّ ذلك يمكن القول إنّ الكمال، بحسب الفكر العربي القديم عامة، هو حصول الموجود على خصائصه النوعية، كحصول الإنسان على الخصائص العضوية الآدمية كافة، مما يميّزه من الحيوان. ومن ثَمّ حصول المرأة مثلاً على الخصائص الجنسية والشكلية التي تميّزها من الرجل؛ في حين أنّ الاعتدال هو حدوث تلك الخصائص بأكبر قدْر ممكن من التناسب والتلاؤم والتوافق فيما بينها؛ أما الجمال فهو السمة الكلّية أو العامة التي يظهر بها اعتدال الكمال.
غير أنّ الجمال ليس حصيلة الكمال والاعتدال فحسب، كما قد يبدو للوهلة الأولى؛ فليس الكامل المعتدل جميلاً، لمجرّد أنه كذلك. إنّ اعتدال الكمال هو المحلّ الذي يستقبل النور القدسيّ الذي بدوره ينعكس جمالاً فيه؛ فالجمال ليس في الأشياء أو الموجودات التي احتازت على الكمال والاعتدال. بل في النور الذي أشرق عليها؛ وبما أنّ الأمر كذلك فالجمال شيء زائد على الجسمية. يقول ابن الدبّاغ: «لو فرضنا تعرّي الأجسام عن روح الجمال حتى لا يُفهم مع الجسم شيء إلا كونه من اللحم والدم والعظم والجلد كجسم الميت، لوجدنا النفس تنفر عن ذلك بطبعها كما تنفر عن جسم الميت ولو كان محبوباً لها قبل الموت، ولكانت تتفطّن أنّ محبوبها ذلك المعنى الزائد على الجسمية الزائل عنها الآن.»{117}.
فثمة أسباب مادية وروحانية في الآن نفسه، لا يمكن للجمال أن يتحقّق في الأجسام من دونها؛ أما المادية منها، فهي صفات الكمال والاعتدال التي تشتمل عليها الأجسام الموصوفة بالجمال؛ أما الروحانية منها، فهي إشراق النور القدسيّ على النفس التي تقطن في تلك الصفات المادية. فهنالك إذاً مستويان اثنان لما هو روحاني في الجمال، وهما النفس التي هي جوهر روحاني يقطن في المادي، والنور القدسيّ الذي يشرق على النفس. يقول ابن الدبّاغ: « أما الجمال الذي يظهر على الأجسام الجميلة المسمّى عالم حسْن الصورة المفرَّق على جميع المستحسنات اللائح على أعلى ديباج الخدود، واعتدال قامات القدود، وفتَرات الألحاظ، وعذوبة الألفاظ، وشنَب الثغور، وهيَف الخصور، ولين المعاطف، وعتَد السوالف، الجاذب مفهومُه لحبّات القلوب، السالب معقولُه لروحانية العقول، فإنما ذلك كما قرّرناه أولاً إشراق نور النفس على آفاق تلك الصفحات المعتدلة.»{116}. فكلّ تلك الصفات الحسية المذكورة آنفاً لا قيمة لها في ذاتها جمالياً، إذا لم يشرق عليها السرّ الروحاني، أي نور النفس التي هي الأخرى يشرق عليها النور الإلهي. ولذلك لا غرابة في أن يكون الجمال شيئاً زائداً على الجسمية، وإن توطّن في الأجسام.
عوالم الجمال وأنواعه:
يقسّم ابن الدبّاغ الجمال إلى ثلاثة أقسام كبرى، وهي: عالم حسْن الصورة، أي الجمال الجزئي، وعالم صورة الحسْن، أي الجمال المجرّد، وعالم الجمال المطلق، أي الجمال القدسي أو الإلهي.{را: 116} . حيث نلاحظ في ذلك التقسيم: الجمالات المادية في عالم الظواهر والأشياء، والجمالات الصُّوَرية في عالم المعاني المجرّدة، والجمالات الروحانية المطلقة، وهي عالم الربوبية المتعالي. وهي عوالم متراتبة تفاضلياً من الأعلى إلى الأدنى؛ حيث الأعلى هو العلّة فيما دونه، وهو الأشرف بالضرورة. فالعالم القدسي سبب عالم المعاني، وهذا سبب العالم المادي.
غير أنّ ابن الدبّاغ يقسّم الجمال أيضاً، ولكن باعتبار آخر، إلى قسمين اثنين، وهما الجمال المطلق والجمال المقيّد. أما المطلق فهو واحد غير متعدّد أو متنوّع، ينفرد به الحقّ تعالى، وأما المقيّد فينقسم إلى الجمال الكلّي، وهو ما يعمّ سائر ذوات العالم علوّاً وسفلاً، أي يعمّ الوجود بأسره، والجمال الجزئي، وهو جمال يخصّ بعض الذوات دون بعض. وينقسم كلّ من الجمال الكلي والجمال الجزئي إلى ظاهر وباطن. أما الباطن فهو المجرّد عن الأجسام، ويظهر على عالم النفس من أنوار الجمال المطلق، في حين أنّ الجمال الظاهر هو ما يتعلّق بالأجسام ويُدرَك بطريق الحواس. وهذا ينقسم بدوره إلى ما يتعيّن له محلّ، وما لا يتعيّن له محل.{را: 118} وجميع هذه الجمالات روحانية إلهية، وإن تفاضلت بالكمال واللطف. «فالجمال الكلّي روح الجمال الجزئي وسرُّه، والجمال الباطن روح الجمال الظاهر وسرّه، والجمال المطلق القدسي روح الكلّ وسرُّ الكلّ، فهو إذاً روح الروح وسرّ السرّ.»{118}. هذا من حيث العلّة أو السبب، أما من حيث الدلالة فإنّ «الجمال الظاهر دليل على الباطن، والجزئيّ دليل على الكلّي، والمقيّد دليل على المطلق، وكلّها تشير إلى الجمال الأعلى.»{119}.
غير أنّ ثمة إرباكاً في موضعين هنا. الأول هو تقسيم الجمال الظاهر الذي ندركه بالحواس، إلى ما يتعيّن له محلّ، وما لا يتعيّن له محل. وهو إرباك ناجم من أنّ الحواس تدرك المادي الذي له محلّ بالضرورة، فما ليس له محلّ ليس مادياً، ولا يمكن إدراكه بالحواس أصلاً. وبما أنّ ابن الدبّاغ لا يتوقف بالشرح عند هذا، ولا يطرح أيّ مثال عليه؛ فلا بدّ من فهمه من خلال المعطيات البصرية واللمسية والذوقية التي تتعامل معها الحواس على نحوٍ مباشر، وهي متوضّعة أو حاضرة في المكان والزمان معاً؛ في حين أنّ معطيات السمع والشمّ يتمّ التعامل معها حسياً، بالرغم من غيابها مكانياً و»زمانياً» عن حاسّتي السمع والشمّ اللتين تستقبلان الأصوات والروائح، على التوالي، عبر انتشارها في الهواء الذي لا يعدّ مكاناً أو محلاً متعيّناً(14)، إذا ما قيس بالمحلّ المتعيّن للمبصَرات والمذوقات والملموسات.
أما الإرباك الثاني فهو قول ابن الدبّاغ في أدلّة الجمال الأدنى على الأعلى: «وكلها تشير إلى الجمال الأعلى» ! فأن يدلّ الظاهر على الباطن، والجزئي على الكلّي، والمقيد على المطلق، فهذا مفهوم جداً؛ ولكن أن تدلّ تلك الجمالات كلها بما فيها الجمال المطلق- الذي هو الجمال القدسي الإلهيّ- على الجمال الأعلى الذي هو الجمال القدسي الإلهي نفسه، فهذا ما لا يمكن فهمه أو استيعابه.
فهل هنالك جمالان متمايزان: مطلق وأعلى مثلاً، أو هما جمال واحد، والأمر لا يتعدى السهو التعبيري، أو أنّ ابن الدبّاغ يقصد أنّ الجمال الإلهي هو في ذاته دليلُ نفسه، مثلما أنّ ما سواه دليل عليه ! ربما يمكننا أن نتعلّل له بمثل هذا التخريج الذي يتّسق مع منطق المحاكمات الفلسفية والعرفانية، في تراثنا الفكري؛ حيث لا يحتاج الحقّ دليلاً على وجوده بما هو أدنى منه، أو بما هو من مخلوقاته التي لا تكون إلا به أصلاً. وبالرغم من ذلك فلو قال مثلاً: وكلها تشير إلى الحقّ تعالى أو الذات الإلهية، لكان الأمر أكثر اتساقاً، ولقلنا إنّ ثمة تمييزاً بين الذات والصفات الإلهية، كما هو شائع في علم التوحيد، غير أنّه استخدم صفة الجمال الأعلى، ولم يستخدم مصطلح الذات الإلهية أو حتى النور الإلهي. وهو ما يبقي الإرباك قائماً في المستوى التعبيري على الأقلّ، بالرغم من ذلك التخريج.
إنّ انطلاقة ابن الدبّاغ من وحدة الوجود في فهم الجمال دفعته إلى اعتبار الجمالات كلها مترابطة ومتراتبة ومتفاضلة فيما بينها في آنٍ معاً. فعلى ضآلة أهمية الجمال الظاهر، لديه، فهو مرتبط بالجمال الأعلى أو المطلق ارتباط العلّة بالمعلول أو السبب بالنتيجة، ولا يمكن فهمه أو التعامل الجمالي معه من دون فهم السرّ الروحاني فيه، وهو النفس- التي تقطن في عناصر حسية شكلية معيّنة، كالتناسب أو العذوبة أو الهيَف أو العتَد، في صورة الإنسان- ولا يمكن فهم ذلك السرّ أو النفس من دون فهم السرّ الأعلى فيها وهو السرّ الروحاني الإلهي. وكذا هي الحال في علاقة الجمال الظاهر بالباطن، وعلاقة هذا بالجمال الكلّي. ما يعني أنّ ثمة وحدة جمالية ناظمة للوجود كلّاً وأجزاء، فما من جزء أو شيء أو جنس أو نوع، إلا وينتظم في إطار تلك الوحدة الوجودية العامة. وهي وحدة جمالية، كما أسلفنا، تتنوّع بحسب الموجودات، دون أن تفقد وحدتها البنيوية؛ إذ إنّ محورها الأزليّ هو فيض الجمال الإلهي أو سريانه.
غير أنّ تلك الوحدة الجمالية للوجود ليس بمقدور الجميع استيعابها أو التمتّع بها، بالسوية نفسها. فالاهتمامات والقدرات الإنسانية متباينة، تماماً مثلما هي حال الوحدة في تجلياتها الجمالية؛ وإذا كان ابن الدبّاغ قد ذهب إلى أنّ تلك التجليات أو الجمالات تنقسم إلى ثلاثة أقسام، فإنه يذهب أيضاً إلى أنّ المتمتّعين أو المتعلّقين بها ينقسمون إلى ثلاثة أصناف. علماً أنّ التمتّع بالجمال صفة إنسانية عامة، بالرغم من التفاوت فيها؛ إذ «النفوس السليمة الطباع تأنس بالجمال وتحنّ إليه بقدر ما فيها من اللطافة.»{14}.
أما الصنف الأول فيضمّ أولئك المتعلّقين بالجمال المجرّد، وهم الصفوة أو الخصوص؛ ويضمّ الثاني أولئك المتعلّقين بالجمال الظاهر من دون تعيين أو تحديد، حيث إنهم يتعلّقون بالجمال المبدّد على صفحات الوجود، ما يعني أنهم يشهدون الجمال الكلّي في كلّ شيء، ولا يفرّقون بين الحيوان النبات مثلاً على صعيد الجمال؛(15) أما الصنف الثالث فهم أولئك المتعلّقون بالجمال الظاهر مخصوصاً بشخص أو صنف معيّن، وهؤلاء هم العوامّ {را: 119/ 120}. وبدهيّ أن يكون الصنف الأول هو الأعلى ثم يليه الصنف الثاني، ثم الثالث وهو أدنى مستويات التعلّق الجمالي. غير أنّ هذا لا ينفي إمكانية الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، عبر التربية الروحانية أو السلوك الصوفي. بل إنّ هذه هي مهمة السلوك أساساً. وقد لا نستطيع أن نفهم مرامي ابن الدبّاغ من ذلك التصنيف من دون ربطه بمفهومه عن المحبة.
في المحبّة والجمال:
كنا قد ذكرنا من قبل، أنّ الهدف من مشارق الأنوار هو المحبّة الإلهية، وطرائق الوصول إليها، وبما أنّ الجمال هو الحاضن الوحيد للمحبة، فلا غرابة في أن يكون هنالك نوع من التوحيد أو التداخل الشديد بين المفهومين: المحبة والجمال، عند ابن الدبّاغ. فالجميل محبوب بالضرورة، والمحبوب هو الآخر جميل بالضرورة أيضاً، وكلّما ازداد ثراء الجمال ازدادت وتيرة المحبة له والتلذّذ به، وفي المقابل كلما ارتفعت وتيرة المحبة ازداد الجمال ثراءً بالنسبة إلى المحبّ.
فبما أنّ المحبّة لا تقوم إلا بين ذات وموضوع، فمعناه أنّ في الذات ما يهفو إلى المحبة، وفي الموضوع ما يستوجبها. أي في الموضوع خصائص توجب المحبة، وفي الذات نوازع إليها. ولذلك فابن الدبّاغ يذهب إلى أنّ المحبّة تنقسم إلى قسمين عريضين اثنين: «أحدهما بحسب جنسها والثاني بحسب ما في نفسها. أما قسمتها الجنسية فإنها تنقسم أولاً إلى ذاتية وعرضية. فالذاتية هي أن يُحَبّ المحبوب فيها لذاته. والعرضية هي أن يُحَبّ المحبوب فيها لغيره.»{30}. ويقصد بهذه محبة الإحسان وما يدخل فيها كجلب المنافع ودفع المضارّ وتيسير المطالب والإعانة على الأغراض، من مثل حبّ الولد أو البقاء أو الصحة أو صلاح الحال(16)، وهذه كلّها تدخل في المحبة العرضية التي لا يُعنى بها ابن الدبّاغ. بل إنها ضد مراميه «وقصدُنا صرفُ النفس عن ذلك إلى ما هو أشرف. فهي ضدّ مقصودنا»{31}. وتنقسم المحبّة الذاتية إلى قسمين أيضاً، منها ما يُعقل سببُه، ومنها ما لا يُعقل له سببٌ. أما هذا فهو محبة المناسبة الخفية عن الأذهان. وأما التي يُعقل سببُها فهي محبّة الجمال والكمال الذاتيين للمحبوب، أي محبّة ما فيه من الجمال والكمال موضوعياً. وبالجملة يصنّف ابن الدبّاغ هذه المحبّة بثلاثة أقسام، وهي «محبة الجمال، ومحبة الكمال، ومحبة المناسبة الروحانية. أما محبة الكمال فهي مُرادةٌ للجمال إذ الكمال مظهر للجمال، وأما محبة المناسبة فهي خارجة عن مقصودنا من السلوك.»{31}.
ذلك ما يتعلّق بالقسمة الجنسية، أي النوعية، في المحبة، أما القسمة النفسية أو أقسام المحبة بحسب ذاتها، فلها علاقة بمقامات المحبّين السالكين ومقامات العشاق، وهي عشر مقامات. خمس لهؤلاء وخمس لأولئك، وهي: الألفة والهوى والخلّة والشغف والوجد للمحبّين، ثمّ الغرام والافتتان والوَلَه والدَّهَش والفناء للعشاق {را: 31}. وهي مقامات متدرّجة من الأدنى إلى الأعلى، ولكلّ منها مشاعر خاصة بها، غير أنّ تلك المشاعر ليست معزولة عن طبيعة الجمال الذي يستكشفه المحبّ في المحبوب ويترنّم به؛ فمقامات المحبّين والعشاق هي مقامات الجمال في تجلّيه الشعوري- الوجداني بحسب الذوات، وليست هي مقامات الجمال في ذاته مستقلّاً عن المحبّين والعشاق معاً.
وبذلك يكون ابن الدبّاغ قد حدّد أقسام المحبة جنسياً ونفسياً، أي بحسب كلٍّ من الموضوع والذات معاً؛ ولكن لا يعنيه من أصناف المحبة الجنسية أو أسبابها إلا صنف واحد فقط، وهو محبة الجمال، أما محبة الكمال فهي داخلة في تلك المحبة، لكون المطلوب من الكمال هو الجمال ذاته، فالكمال مظهر الجمال أي جسده ومادته. وبذلك فثمة صنف واحد فقط، عند التدقيق: مادته الكمال وصورته الجمال. وهو ما يذكّرنا بالالتباس الذي أشرنا إليه سابقاً بين الكمال والجمال.
وبناء على ما سلف، فالجمال محبوب أولاً لخصائصه الجنسية- أي النوعية- من جهة، ومحبوب ثانياً لنوازع المحبّين والعشاق فيه من جهة أخرى. فهو ليس جميلاً لأنه محبوب، وإنما هو محبوب لأنه جميل. ولو كانت المعادلة على النحو التالي: إنه جميل لأنه محبوب، فمعناه أنّ انتفاء المحبة يفترض انتفاء الجمال، وهذا يؤدي إلى أنّ الجمال ليس صفة موضوعية في المحبوب، وإنما هو صفة ذاتية أسبغها المحبّ عليه. وهذا يناقض القول بالموضوعية المطلقة للجمال لدى ابن الدبّاغ. فالجمال موضوعي أحببناه أو لم نحبّه. وقد يبدو هذا متناقضاً وما قلناه من قبل ( بأنّ الجميل محبوب بالضرورة، والمحبوب هو الآخر جميل بالضرورة أيضاً). غير أنّ المحبوب لا يُحَبّ أصلاً إلا لأنه جميل بذاته، أو جميل بعلاقته، بالنسبة إلى المحِبّ، فليس من محبوب لا يتّصف بالجمال، بمستوى ما، وليس من جميل لا يُحَبّ، وإن اختلفت درجات محبته والتعلّق به. وبهذا فالجمال، بكلّ أنواعه ومستوياته، هو الأصل في المحبة.
لا يسهب ابن الدبّاغ في تبيان أسباب الجمال في الظواهر والأشياء والأجسام والأعضاء التي هي المحلّ الذي يسكن فيه الجمال؛ إذ يكتفي ببعض الإشارات الشكلية العامة، كما مرّ بنا من قبل، كالتناسب والاعتدال والبياض والحُمرة والعذوبة والرقة واللطافة، مما يدخل في الخصائص الشكلية والأذواق الاجتماعية معاً؛ ولا يسهب كذلك في أسباب الجمال الباطن، ولا الجمال الكلّي. بل إنه لا يسهب حتى في أسباب الجمال القدسي المطلق. فهو يقرّر أن الجمال صفة روحانية، أو أنه شيء زائد على الجسمية، وبما أنه كذلك فلا حاجة إلى المزيد من الشرح للأسباب «العرضية» التي لا يكمن الجمال فيها أساساً، وإن استوعبته واحتضنته ولاسيما فيما يتعلّق بالمقيّد من الجمالات.
الإحساس بالجمال:
إنّ ذلك الزائد على الجسمية الذي هو جوهر روحاني يستحيل استقباله أو معرفته والتلذّذ به، من دون مساعدة الحواس والقوى الإنسانية. ولأنّ الأمر كذلك فابن الدبّاغ يتوقف مليّاً عند عملية الإدراك والمعرفة عموماً؛ فيؤكد أنّ النفس «لا تكتسب المعارف المكمّلة لذاتها إلا من الخارج بطريق الحواس، حتى إنّ من فقَدَ الحواس فقدْ فقَدَ العلوم الضرورية.»{14} وفقدَ، من ثَمّ، القدرة على إدراك الجمال الجزئي. ولكن الحواس وحدها لا تستوعب مختلف الجمالات. بل إنها لا تستوعب إلا نوعاً واحداً منه، وهو الأدنى فيه، أي الجمال الحسي. أما الجمالات الأخرى فاستيعابها مرهون بإدراك غير حسي. ولذلك نجد ابن الدبّاغ يقسّم الإدراك إلى ثلاثة أقسام، وهي: الإدراك الحسيّ، كأخْذ الصورة بحاسة البصر دون تشكّل في الخيال إلا بقدْر زمان الرؤية، والإدراك الخيالي، وهو وجود الصورة في الخيال ثابتة، والإدراك العقلي، ويقوم على تجريد الصورة من العوارض الحسية. وهذا هو الإدراك الحقيقي والأرسخ والأدْوم، وهو باقٍ ما بقيت الذات، أما الأول فسريع الزوال، في حين أنّ الثاني أطول مدّة من الأول، ولكنه محدود زمنياً قياساً بالثالث.{را: 16}.
ولكن ينبغي التنبيه، هنا، إلى أنّ الإدراكين الثاني والثالث لا بدّ لهما من المرور بالإدراك الأول. فالإدراك الحسيّ هو الأصل في الخيالي، وهذا هو الأصل في العقلي. ولكن في حين يحافظ الخيالي على الصورة ملتبسةً بالمادة، يجرّد العقليُّ الصورةَ من المادة تماماً، فتغدو مفهوماً ذهنياً بحتاً. وبسببٍ من أنّ الإدراك العقلي قادر على التعامل مع المفاهيم المجرّدة، فإنه يغدو قادراً على استقبال المعاني الروحانية التي لا تلتبس بالماديات، أي يغدو قادراً على استقبال الجمال الإلهي- القدسي، والابتهاج به مستغنياً بإطلاق عما هو مادي.{را: 15}.
وإذا ما استحضرنا الأقسام الثلاثة الكبرى للجمال، وهي: عالم حسْن الصورة، وعالم صورة الحسْن، وعالم الجمال المطلق، واستحضرنا كذلك الأقسام الثلاثة للمتعلقّين بالجمال، وهم الخصوص و»المجاذيب» والعوامّ، ثمّ قارنّاها جميعاً بأقسام الإدراك الثلاثة، فسوف نستنتج منها أنّ لكلّ عالَمٍ فئةً تتعلّقه، وطريقة إدراكية تستوعبه. فعالم حسْن الصورة يدركه العوامّ بوساطة الإدراك الحسيّ، وعالم صورة الحسن يدركه المجاذيب بالإدراك الخيالي، وعالم الجمال المطلق يدركه الخصوص بالإدراك العقلي. من دون أن يعني ذلك بالضرورة أنّ كلّ واحد من تلك الإدراكات خاصّ بكلّ فئة من تلك الفئات، لا تغادره أو لا تستطيع سواه؛ وإنما يعني أنّ كلّ واحد من أقسام الجمال لا يُدرَك إلا بالإدراك الخاصّ به. فلا يُدرَك الجمال المطلق بالخيالي أو الحسيّ، ولا تُدرَك صورة الحسْن بالإدراك الحسي؛ في حين أنّ عالم حسْن الصورة الذي لا يُدرَك إلا بالحسيّ، تنتقل صورته الملتبسة بمادّته إلى الخيالي، ثمّ إلى العقلي بعد تجريدها التام من العناصر الحسية.
إنّ تلك الإدراكات معطاة، من حيث المبدأ، لكلّ فئة من تلك الفئات، لكن التفاوت فيما بينها يقع بسبب الميل والتوّجه لدى الأفراد الذين يمثّلونها، فمنهم من يترقّى إلى التلذّذ بالروحانيات، ومنهم من يبقى متلذّذاً بالحسيات وحسب، مع إمكانه الترقّي، من حيث القوة، لا من حيث الفعل. يقول ابن الدبّاغ» «وإنما سبق للنفس اللذة بالمحسوسات قبل اللذة بالأمور الروحانية لتقدّم الحواس وقوى الطبع البدني من أول النشء قبل اندراج نور العقل وإشراقه على اللذات الإنسانية…، وقبل الجسم لم يكن لها وجود أصلاً، فإنها حادثة مع بدنها، فلا يمكن صرفها عن عشق المحسوسات في الميل إلى المألوفات إلا بعشق عنيف هو أشدّ من ذلك إلى معشوق أكمل وأتمّ لذةً عند من عرفه من اللذات المحسوسات.»{5}.
غير أنّ ابن الدبّاغ يضيف إلى تلك الإدراكات الثلاثة إدراكاً رابعاً، يصطلح عليه بالإدراك النفساني، وذلك في معرض تمييزه بين اللذة الشهوية الحيوانية واللذة النفسية الإنسانية، وهو مصطلح خاص به، كما يخيّل إلينا، وقد استعان به للتفريق بين لذة البصر ولذة النكاح، حيث تقوم اللذّة الأولى على الإدراك النفساني، أما الثانية فتقوم على باعث آخر مختلف تماماً، وهو الطبع الحيواني. { را: 40/ 41}.
وبالرغم من أنّ مصطلح الإدراك النفساني لا يتمّ تحديده مفهومياً أو معرفياً، ولا يتواتر استخدامه في مشارق الأنوار بما يجعل حمولته المعرفية متبلورة أو واضحة بالنسبة إلى المتلقي، فإنّ مقاربته ممكنة من خلال صفة الإدراك، وهي النفساني. فبما أنّ الإدراك هنا يقع على المبصرات، فهو إدراك حسيّ، من حيث المبدأ، ولكن بما أنّه موصوف بالنفساني، والنفس جوهر روحاني، فإنّ ذلك معناه أنّ الإدراك الحسيّ يلتبس بالنفساني، أو ربما الأدقّ أنهما يشتركان بالتلذّذ الجمالي بالأشكال البصرية، فتكون هذه الأشكال ملذّة حسياً ونفسانياً.
وإذا ما وضعنا في الاعتبار أنّ الجمال الذي هو صفة روحانية يسكن في الأجسام والأشكال الحسية، فإنّ استقباله سوف يحتاج إلى النفس، مثلما يحتاج إلى الحاسّة. وبذلك يكون الإدراك النفساني خاصاً بالجمالات المحسوسة التي لا مدخل للشهوات الغريزية إليها، أو التي نرتفع معها فوق تلك الشهوات؛ فللشهوات الغريزية بواعث أخرى ذات طبيعة حيوانية أقلّ مستوى من الإدراك النفساني. وهذا يفترض بالضرورة أنّ اللذة الجمالية، فيما يتعلّق بالمحسوسات تحديداً، أعلى مستوى من اللذة الحسية الصرف(17) أو اللذة الشهوية، لما تتسم به من روحانية لا نجدها في تينك اللذّتين.
ولكن ما هي علاقة الإدراك النفساني بالإدراكات الثلاثة التي استعرضها ابن الدبّاغ سابقاً، وهل هو إدراك رابع مستقلّ عنها، أو أنه يتداخل فيها أو في بعضها ؟
ليس من جواب في مشارق الأنوار حول ذلك، ولكننا نستطيع استنباطه من مجمل محاكمات ابن الدبّاغ المتعلّقة بهذا الشأن. فبما أنّ الإدراك الحسيّ يتناول خمسة أصناف من المحسوسات: البصرية والسمعية والشمية والذوقية واللمسية، وبما أنّ هذه المحسوسات تتفاوت فيما بينها بالحسية الصرف والحسية الشهوية والحسية النفسانية، فلم يكن بدّ من استخدام مصطلح خاص يستوعب ما له علاقة مباشرة باللذّة الجمالية التي يتداخل فيها الحسيّ بالروحاني أو النفساني، فكان هذا المصطلح الذي يتقاطع مع الإدراك الحسيّ دون أن يتوحّد به، إنه يتصل به وينفصل عنه في الوقت نفسه. فهو إذاً أعلى من الحسيّ، ولكنه أدنى من الخيالي. أما لماذا هو أدنى منه، فلأنّ الخيالي نفساني في الأساس، وإن التبست الصورة فيه بالعوارض الحسية؛ فيمكن إذاً ترتيب تلك الإدراكات من الأدنى إلى الأعلى، على النحو التالي: الإدراك الحسي، ثمّ الإدراك النفساني، ثم الخيالي، ثمّ العقلي؛ وقد يكون من الصواب اعتبار الإدراك النفساني هو الإدراك الجمالي(18) الوحيد للمحسوسات، علماً أنّ الإدراكات كلها ذات محمولات لذّوية، وإن اختلفت في الشدّة والسعة والديمومة.
إنّ اجتراح مصطلح الإدراك النفساني للتفريق بين اللذة الجمالية- الحسية واللذة الشهوية الغريزية يدفع إلى التساؤل عن علاقة الحيوان بالجمال والتذاذه به، ولاسيما أنّ ثمة إقراراً عاماً بتلك العلاقة، لدى ابن الدبّاغ ومن ورائه تراثنا الفكري عامة.
يؤكّد ابن الدبّاغ أنّ التلذّذ بالجمال ليس خاصاً بالإنسان وحده، فللحيوان التذاذه بالجمال أيضاً، وإن يكن في الحدّ الأدنى منه؛ ويستدّل على استمتاع الحيوان بالجمال، ولاسيما المسموع منه، باستجابته للحداء وللأصوات الملحونة عامة. يقول: «أما تأثير الألحان والأنغام الموزونة فيعظم وقوعه في النفوس حتى إنه يتعدى إلى أرواح الحيوان غير الناطق، فإنّا نجد الجمل على غلظ طباعه يحمل الأثقال العظيمة فإذا سمع صوت الحُداة قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير، وكذلك الطيور تطرب لحسن النغم، والطفل الرضيع يسكن ضجرُه عند التلحين ويهدأ كرْبُه وينام.» {40}.
إنّ تأثير الألحان والأنغام في الحيوان أمرٌ تؤكّده المراقبة التأملية قديماً، مثلما يؤكّده العلم التجريبي حديثاً؛ وليس ثمة شكّ في ذلك، ولكن الشكّ يقع على اعتبار ذلك التأثير ذا طبيعة جمالية، واعتبار اللذة الناجمة منه لذّة جمالية أيضاً. ولكن لكي نتفهّم ذلك، لا بدّ من فهم العلاقة بين اللذائذ والحواس.
يذهب الفكر العربي القديم عموماً إلى اعتماد التعريف الأرسطي للذّة بأنها إدراك الملائم، وللألم بأنه إدراك المنافي أو المنافر. فلكلّ حاسة معطيات حسية ملائمة وأخرى منافية، فكلّ ملائمٍ محبوب، لأنه لذيذ، وكلّ منافٍ مكروه لأنه مؤلم، وعلى هذا فإنّ اللذيذ جميل، والمؤلم قبيح. وبما أنّ الحيوان يشترك مع الإنسان بالحواس الخمس، فمن البدهي، بحسب ذلك، أن يشترك معه بالتلذّذ والاستمتاع بالجمالات الحسية، السمعية أو حتى البصرية منها(19).
لكن ابن الدبّاغ الذي اجترح مصطلح الإدراك النفساني للتفريق بين لذة البصر ولذة النكاح، من جهة، واقترح مقولة في غاية الخطورة الجمالية، وهي: الجمال شيء زائد على الجسمية، من جهة أخرى، كان من المفترض أن يعيد النظر في تلك المسلّمة التي ورثها عن سابقيه، ولاسيما أنه أكّد مراتٍ عدّةً على التمايز بين الجمالي والغريزي، كأن يقول إنّ «الحمار مثلاً إنما ينكح لدفع الفُضلة المجتمعة فيه لا لأجل حسْن صورة المنكوح عنده، فإنّ البهيمة لا تفرّق في نكاحها بين الصورة الحسنة والقبيحة.» {41}، ويقول في الصفحة نفسها أيضاً: «قد يوجد في الناس من يفقد شهوة الجماع البتة ولا يفقد شهوة النظر إلى الصورة الجميلة وبالضدّ كالبهائم. فدلّ على تغاير الشهوتين.». إنّ قوله: وبالضدّ كالبهائم، وبتغاير الشهوتين، توكيد على أنّ البهائم فاقدة لشهوة النظر إلى الصورة الجميلة. ولكنّ هذا القول لا يتحوّل إلى مقولة معتمدة لديه يبني عليها نظرته العامة إلى علاقة الحيوان بالجمال؛ إذ المعتمد في تلك النظرة هو قوله: «فاعلم أنّ الجمال الظاهر يُتَوصَّل إلى إدراكه بطريق الحواس وتوسُّطها، وهي لكلّ حيوان، سواء كان عاقلاً أو غير عاقل.» {48}.
إنّ القول بالتذاذ الحيوان جمالياً يقوم أساساً على التوحيد بين الخصائص الشكلية الحسية والخصائص الجمالية من جهة، ويقوم من جهة أخرى على اعتبار أنّ مجرّد الاتصال الحسّيّ بالملائم يقتضي وجود اللذّة التي هي محبوبة بالضرورة، مثلما يقتضي أنّ الملائم الخاص بها جميل أيضاً. وهذا يتناقض منطقياً وما يعتمده ابن الدبّاغ بمصطلح الإدراك النفساني، وبمقولة الزائد على الجسمية معاً. فإذا كان الجمال زائداً على الجسمية حقاً، فلا يجوز التوحيد بحال من الأحوال بين الخصائص الحسية والخصائص الجمالية؛ إذ التوحيد في ذاته نفي لتلك المقولة. وبما أنه لا يجوز التوحيد، لدى ابن الدبّاغ نفسه، فإنّه من الخلل اعتبار مجرّد الاتصال الحسي اتصالاً بالجمال، ومن ثَمّ التلذّذ أو الاستمتاع به. فالاستمتاع يفترض إدراكاً نفسانياً أعلى من مجرّد الإدراك الحسي الذي هو مشترك بين الإنسان والحيوان. وبما أنّ الإدراك النفساني لا مدخل للحيوان إليه، وبما أنّ الجمال شيء زائد على الجسمية، فإنّ القول بالتذاذ الحيوان جمالياً لا ينسجم وما يعتمده ابن الدبّاغ في ذلك. بل إنه يتناقض كلياً مع مسلّماته الكبرى.
غائية الجمال:
مرّ بنا في أثناء الكلام على المحبة أن أحد أقسامها هو محبّة الجمال لذاته، لا لغرض فيه. وهذه فكرة كان الغزالي قد توقّف عندها ملياً، وقد بنى عليها ابن الدبّاغ نظريته في الجمال وفي المحبة الإلهية معاً، مثلما بُني عليها الخطاب الصوفي- العرفاني عامة؛ ولعلّ رابعة العدوية أشهر من أن يشار إليها في مسألة المحبة الإلهية التي لخّصتها أدقّ تلخيص وأجمله، وذلك بقولها المعروف:
أحبّك حبّين، حبّ الهوى وحبّاً لأنّك أهلٌ لذاكا
إنّ محبة الجمال لذاته، أو لأنه أهلٌ لذاك، هي واحدة من الأفكار المتواترة، في تراثنا الفكري عامة، سواء أكان ذلك في نظرية الجمال العام أم في نظرية الفنّ- في الشعر والخطّ والزخرفة والموسيقا على السواء- غير أنّ المتصوفة هم الأكثر احتفاء بها، لاتصالها بمفهوم الجمال الإلهي الذي هو مركز الثقل في الخطاب العرفاني. وبما أنّ الجمال الإلهي هو الأصل في الجمالات كلّها، وهو محبوب لذاته، فمن البدهي أن تُحَبّ تلك الجمالات لذاتها أيضاً. يقول ابن الدبّاغ في جمال الطبيعة والفنون: «إنّ الذي يلتذّ بالنظر إلى الأزهار الأنيقة والرياض الأريضة والمياه الصافية والنقوش المزخرفة لا يحبّ نفسها ولا يحبّها إلا لمجرّد لذّة النفس بالنظر إليها لا غير، فإنّ كون هذه الأشياء على غاية اعتدال صورتها الظاهرة كمالٌ لها، والكمال محبوب بالجِبلّة لا يُنكَر ذلك ولا يُدفَع.» {41}. ويقول أيضاً: « نجد كثيراً من الناس يحبّ شيات الخيل وتناسب أعضائها، وهو زائد على المنفعة المرادة منها، وليس ذلك إلا لما فيها من جمال نفسها الحيوانية.» {111}.
بين الزائد على الجسمية والزائد على المنفعة20 يكون ابن الدبّاغ قد برّأ الجمال من الحسية ومن النفعية معاً. فليس الجمال حسيّاً، وإن توضّع فيه، وليس نفعياً كذلك، وإن حُمِل عليه. إنها معادلة دقيقة جداً، استطاع ابن الدبّاغ صياغتها بذكاء مفهومي واصطلاحي لافت حقاً. فقوله «الزائد على» لا يعني الاستقلال التام للزائد المحمول عن الحامل. بل يعني ازدياد الحامل بمعان إضافية ليست في خصائصه المادية البحت، غير أنها ليست خارجة أو مستقلّة عنها في الوقت نفسه. فليس ثمة نفي إذاً للجمالية والنفعية في المادي، وإنما هو نفي لاعتبار المادي جميلاً بذاته، أو بخصائصه الموضوعية- المادية فحسب. وهو ما يترتّب عليه أنّ الجمال قيمة مضافة، وهذه القيمة المضافة ليست نفعية في ذاتها، وإن عوملت على نحو نفعي خارج التقويم أو التلقّي الجمالي.
أما تلك القيمة المضافة غير النفعية بالضرورة فتتحدّد، لدى ابن الدبّاغ، بالنفس أو بالجوهر الروحاني، كما ذكرنا من قبل، وهو ما يعني أنها صفة موضوعية لا يمكن التنكّر لها أو نفيها، بالرغم من عدم حسيّتها؛ فالظواهر والأشياء المحسوسة ذات الجمال، هي كذلك لما فيها من تلك القيمة «الروحانية» المضافة موضوعياً. ويدلّل ابن الدبّاغ على ذلك بقوله: « إنّ رسوم الجسم ليست هي تلك الصورة الجميلة، وإن كانت الأجسام مظهراً لها، كما أن المرآة مظهرٌ للصورة المرئية بها وليست المرآة هي الصورة ولا الصورة فيها.21» {15}. وتوكيداً لهذه الفكرة المحورية المتواترة في مشارق الأنوار، يطرح ابن الدبّاغ الافتراض التالي: «لو فرضنا صورة إنسانية على أتمّ شكل وأكمل هيئة وألطفها من جسم لا تحلُّه الحياة ولا يشرق عليه نور النفس لم يكن للقلب علاقة بتلك الصورة ولو كانت على أتمّ ما ينبغي من الإحكام، اللهم إلا أن تكون مذكّرة بجمال من هي مثال له من الذوات الحيّة الجميلة.» {46}. فأتمّ شكل وأكمل هيئة وألطفها- وهذه هي الأسباب التي توجب الجمال حسياً- لا جمال فيها إذا ما غابت عنها النفس أو القيمة المضافة.
ومن المفيد الإشارة، هنا، إلى أنّ التركيز على النفس، في تحديد الجمالات، هو تركيز على أهمية الحياة فيها. صحيح أنّ ابن الدبّاغ يؤكّد، في مجمل خطابه الجمالي، على الجواهر الروحانية، ولكنه صحيح أيضاً أنه يتكلّم على الجواهر بوصفها أصل الحياة والوجود، لا بوصفها مجرّدات روحانية وحسب. فالنفس مثلاً حادثة مع بدنها، ولكنها «قبل الجسم لم يكن لها وجود أصلاً.» {5}. أي أنّ الجسم هو الذي «يجسّد» النفس، مثلما أنّ النفس هي التي «تبثّ» فيه الحياة والجمال، فيكون مادتها وتكون صورته الجميلة. ولذلك لا غرابة في أن يرتبط مفهوم الجمال بمفهوم الحياة، لدى ابن الدبّاغ الذي يقول: «نجد النفس تنفر بطبعها عن جسم الميت، ولو كان محبوبها في حال الحياة…، وكذلك تنفر النفس أيضاً عن جسم النبات إذا ذهبت نضارته وصوّحت غضارته وانعكست صورته فصار حطاماً.» {50/ 51}. وهو ما يترتّب عليه أنّ الموت مكروه ممقوت وقبيح أيضاً. بل إنه القبح بذاته، لكونه نقيضاً تاماً للحياة والوجود على العموم22.
وبذلك فإنّ القيمة المضافة ذات بُعد روحاني، وذات بُعد حيويّ أيضاً. فهي تنبئ بالحياة، مثلما تنبئ بالروحانيات. ولعلّ هذا ما يدفع ابن الدبّاغ إلى فهم الديانات الوثنية القديمة من المنظور الجمالي؛ فيرى أنّها قامت على تقديس الجمال الجزئي، أي القيمة المضافة، بدلاً من تقديس الجمال المطلق. حيث خلطت بين المحبوب والمعبود، وبين المحسوس والقيمة المضافة، فكانت العبادة بدلاً من الحبّ، أو الأدق: كان تصعيد الحبّ إلى العبادة أو كما يقول: «لهذا نجد طائفة من الأمم من شدّة إفراط عشقهم لجمال الحيوان البهيميّ عبدوه.» {112}، وكذا «فإنّ طائفة أحبّوا النار وهو جماد واعتقدوا كمالها حتى عبدوها، وهم طائفة المجوس، وآخرون عبدوا الحجارة، وهم الهنود ومن قلّدهم في ذلك من الروم والعرب، وآخرون عبدوا الشجر، وهم أيضاً طائفة من الأعراب، وآخرون عبدوا الحيوانات البهيمية.» {113/ 114}.
ولا بأس من القول إنّ ابن الدبّاغ لا ينفي أن يكون النظر إلى الجمال الجزئي شكلاً من أشكال العبادة، ولكنه يشترط لذلك شرطين اثنين: أحدهما أن يكون القصد من التعلّق به هو الوصول إلى خالقه، وثانيهما التعرّي من الشهوات البهيمية. «وكيف لا يكون النظر إلى الجمال بهذا الاعتبار عبادة، والناظر إليه مُطالِعٌ لفاطره وواهبه، ومستدلّ به على جماله الذي لا ينبغي إلا له، إذ لا يعطي الجمال إلا من هو أجمل منه، ولا نسبة بين الجمالين، كما لا نسبة بين المجاز والحقيقة.» {120}.
في التجربة أو المشاهدة:
ليست العلاقة بالجمال مجرّد اتصال حسي أو نفساني عرضي، كما أنها ليست مجرّد محبّة روحانية أو معرفة عقلانية، من بُعد. فهذه المستويات من العلاقة، بالرغم من أهميتها في تقدير الجمال أو الاستئناس به، لا ترقى إلى مستوى المشاهدة أو التجربة الجمالية التي يتكشّف فيها الموضوع الجمالي بأفضل شكل ممكن، أمام الذات التي تكون هي الأخرى قد انصرفت بكلّيتها إليه، فتكشّفت أمامه بأفضل شكل ممكن أيضاً. ولا يكون ذلك إلا بتوافر شروط عدّة، لا غنى عن واحد منها، كما لا غنى عن توافرها جميعاً بالشكل النموذجي الأعلى. ولكن قبل الكلام على تلك الشروط، ينبغي القول إنّ ابن الدبّاغ يقصد المعنى العرفاني تحديداً بمصطلح المشاهدة، أي مشاهدة الجمال الإلهي والعيش به وفيه، على اعتبار أنه غاية النفوس ومطلوبها الأشرف في السلوك الصوفي عامة؛ غير أن كلامه، على عادته في مشارق الأنوار، ذو أبعاد جمالية لا تخطئها العين.
يرى ابن الدبّاغ أنّ المشاهدة- أو التجربة الجمالية بالمصطلح الحديث- تفترض ثلاثة شروط، لا تكتمل المتعة أو اللذة دونها23، وهي المدرَك والمدرِك والإدراك؛ إذ «إنّ لذّة المشاهدة بقدر كمال الإدراك، وكمال الإدراك يختلف بأمور هي اختلاف المدرَك والمدرِك والإدراك وتفاوتها في الكمال والنقص.» {29}. أما المدرَك، وهو الموضوع، فكلما كانت صفاته في غاية الكمال والحسن والجمال كانت المشاهدة أكمل؛ وكذا فكلما كان المدرِك، وهو الذات، في غاية المحبة والشوق والصفاء والرقّة كانت المشاهدة أعظم؛ أما حالة الإدراك فـ «إنّ الذي يشاهد محبوبه في صفاء الجوّ عند انتصاف النهار دون حائل ولا تشويش أكملُ لذّةً من الذي يشاهده خلف ستر أو في غيم، وكلّما كان الإدراك أتمّ كانت اللذّة أعظم وأكمل.» {29}.
هنالك إذاً ثلاثة شروط لاكتمال المشاهدة ولكمالها أيضاً، وهي الموضوع والذات والظرف أو السياق الذي تتمّ فيه التجربة. وربما الأدقّ أن نقول: إنّ التجربة تقوم على ركنين اثنين، لا يمكن إنشاؤنا بغياب واحد منهما، وهما الموضوع والذات، فكلاهما أساسي، وله الأهمية نفسها في إنشاء التجربة؛ غير أنّ ذينك الركنين لا بدّ لهما من شرط واجب، وهو كمال الإدراك أو ملاءمة السياق الداخلي والخارجي للإدراك الأكمل، كانعدام الموانع الشعورية الداخلية، وانعدام الموانع الخارجية أيضاً. فبقدْر ملاءمة السياق تنجح التجربة أو تخفض، تثمر لذّة قصوى أو لذّة أقلّ أو ربما ألماً.
لكنّ تلك اللذة القصوى لا تحصل بمجرّد ملائمة السياق، فهي مشروطة أولاً، وقبل حالة الإدراك، بصفات الموضوع الجمالية؛ فكلما كانت صفات الموضوع غنية ومتنوعة وفي غاية الجمال، كان احتمال التلذّذ أعلى. وهو احتمال، لأنّ اللذّة مشروطة ثانياً بإقبال الذات على الموضوع بكلّيتها الشعورية، وبقدراتها المعرفية أيضاً. عند ذلك يتحوّل الاحتمال إلى واقع ملموس. أو لنقل: إنّ اللذّة موجودة بالقوّة في الجمال، لا تتحوّل إلى لذّة بالفعل إلا بالذات أو عبرها. أي أنه يُشترط في الركنين صفات وقدرات معينة، كي تكون اللذة التي هي ثمرة التجربة في أعلى مستوياتها.
إنّ استخدام مصطلحات المدرَك والمدرِك والإدراك، بهذا الترتيب دون سواه يدلّل على الأهمية المعطاة للموضوع أولاً، ثمّ الذات ثانياً، ثمّ حالة الإدراك ثالثاً. وهو ترتيب تفاضلي يتناغم والموقف الموضوعي المثالي، حيث الأفضلية للموضوع وهو المعتمد أصلاً في الجمال؛ إذ لو تمّ تصدير الذات مثلاً، لدخلنا في الموقف الذاتي المثالي أو الذاتي الموضوعي بحسب علاقة الذات بالموضوع؛ كأن تُسبغ الذات غناها الجمالي على الموضوع، في الموقف الأول، أو تنظر إليه من خلال تصوراتها وحاجاتها العقلية والعملية، في الموقف الثاني24. وهو ما لا نجده لدى ابن الدبّاغ، ومن ورائه تراثنا الفكري الجمالي.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنّ استخدام تلك المصطلحات التي تتأسس كلّها على عملية الإدراك، يدلّل على أهمية المعرفة عامة، في التجربة الجمالية أو المشاهدة. بل في المحبة أيضاً. فما لا نعرفه لا نحبّه، أو كما يقول ابن الدبّاغ: «ولا يوصل إلى كلّ محبة إلا المعرفة بكمال المحبوب وجماله، إذ من لا يعرف لا يحبّ…، فالمحبة ثمرة المعرفة والمعرفة علّة المحبة وسببها. فهي متقدّمة على المحبة بالسبب، والمحبة متقدّمة عليها بالشرف من حيث إنها مقصودها.» {11}. والمعرفة التي هي سبب المحبة هي سبب اللذة أيضاً. فكلما ازددنا معرفة بالموضوع الجمالي ازدادت اللذّة الحاصلة فينا منه، والعكس بالعكس.
إنّ الموضوع الذي هو أحد ركنَي التجربة لا تتحدّد صفاته بالجمال فحسب؛ إذ قد تكون الصفات هي صفات الجلال أو هي صفات الجلال والجمال معاً، ولذلك فإنّ الذات التي هي الركن الثاني أو المستقبِل سوف تكون أمام مشاعر متفاوتة بحسب تلك الصفات. فمن تجلّى له محبوبه «بالنعوت المبهجة النسبية الموجبة للانبساط والأُنس واللذة والسرور، فيقال إنه مشاهد لصفات الجمال. ومن تجلّى له بنعوته الواجبة له من العزّ والقهر والعظمة والجبروت والسطوة…، فيقال إنّ هذا مشاهد لصفات الجلال.» {69}
فالمشاعر المصاحبة للجمال، إذاً، هي تلك التي تتمحور حول مفهوم الأُنْس، أما المصاحبة للجلال فهي تلك التي تتمحور حول مفهوم القهر. فالجمال مؤنس، والجلال قاهر أو مهيب. ولذلك قيل: «من كوشف بصفات الجمال عاش، ومن كوشف بصفة الجلال طاش.» {70}. وبين العيش والطيش مستويات كثيرة من التجارب ذات الحالات الوجدانية المختلفة، يمكننا أن نستنبطها من حديث ابن الدبّاغ عن مقامات السالكين وأحوال العارفين، التي هي أحوال ومقامات صوفية بحت؛ ومع ذلك يصحّ اعتبار المشاعر المصاحبة لتلك الأحوال والمقامات ذات صلة بالحقل الجمالي على نحوٍ ما. وهي الشوق، والأُنْس، والرضى، والخوف والرجاء، والقبض والبسط، والمراقبة، والهيبة، والغيرة، والذِّكْر. { را: 67/ 83}. غير أننا سوف نتوقف عند الأكثر ارتباطاً منها بالحقل الجمالي، وهي: الشوق والأُنس والرضى والهيبة، في الدرجة الأولى.
أما الشوق فهو «حركة النفس إلى تتميم ابتهاجها بتصوّر حضرة محبوبها، وهو من لوازم المحبّة…، وأما كيفية وجوده- أي الشوق- فاعلم أنّ ما لا يُدرَك حقيقةً بوجهٍ لا يُشتاق إليه، وما أُدرِك من جميع جهاته لا يُتَصوّر أيضاً الشوق إليه…، وإنما يكون الشوق لمن عُلِم من طرف وجُهِل من طرف آخر.» {67}. أي أنّ الشوق هو الدافع إلى التجربة، والاستمرار بها، لما في الذات من معرفة وجهل بالموضوع، ولما في الموضوع من بهجة وقلق في آن. أما البهجة فمما تعرفه الذات من جمال الموضوع، وأما القلق فمما تجهله منه وترغب في معرفته والإحاطة به. وبهذا فإنّ الشوق لذّة ممزوجة بألم. { را: 68}. ولتوضيح هذا «الشوق الجمالي» نمثّل له بالأعمال الفنية القائمة على الإثارة؛ حيث يبقى فيها المتلقي في تحفّز دائم، لمعرفة ما قد يحدث على نحو مفاجئ وغير متوقّع، فهو في لذّة وألم في آنٍ معاً.
وأما الأُنس الذي هو محور المشاعر المصاحبة للجمال فـ «معناه سرور القلب بشهود جمال الحبيب، من غير استشعار رقيب، بل مع الغفلة عن الماضي والمستقبل. وهذه الحال توجب انتعاش المحبّ وفرحه بطيب عيشه وصفاء وقته…، فهو يشاهد حالته تلك في تفتّح كِمام النُّوار، وتبلّج ثغور الأزهار، وتوريد خدود النعمان، وانعطاف قدود البان، ولطافة مرّ النسيم، وطلاوة مرأى الوجه الوسيم.» {70}. فالأُنْس، إذاً، هو العيش في الجمال25، من دون شعور الذات بوطأة الزمن، فكأنْ ما ثمة إلا هي والجمال، لانصرافها بكلّيتها إليه، ولكونه يملأ عليها وجودها كلّه، على الأقلّ في اللحظة التي هي فيه، غير أنه في الوقت نفسه يجعلها ترى الجمال في كلّ ما حولها- التفتّح والتبلّج والتوريد والانعطاف واللطافة والطلاوة- وكأنّ الجمال بذلك يفتح شهية الحياة فيها.
أما بالنسبة إلى الرضى فإنّ «معناه غيبة المحبّ عن الإحساس بالألم مع كمون صورته عنده في الطبع…، إذ حقيقة المحبّة أن يفرح المحبّ بجميع ما يصدر من محبوبه.» {74}. وقد يبدو أن الرضى يتصل بالجمال، من منظور أنّه شكل من أشكال اللذّة، والانسجام مع الموضوع؛ غير أنه يتّصل عند ابن الدبّاغ بالجلال، لما فيه من شعور بالقهر مع الرضى به؛ وكأنه نوع من «استعذاب العذاب» الذي لمسنا بداياته الأولى في مقام الشوق. ولا شكّ في أنّ للجلال، بأيّ مستوى كان، استعلاء تصعب الإحاطة به أو التمكّن الشعوري منه، الأمر الذي يخلّف شعورين متناقضين هما: الرهبة أو الهيبة منه والإعجاب به أو الحماسة له. وهو ما يعبّر عنه ابن الدبّاغ بالغيبة عن الإحساس بالألم مع كمون صورته؛ إذ «إنّ سطوة الجلال تهدّ الجبال، فإذا شهد المحبّ هذه الصفة قنع بما رضي له محبوبه، إذ الهيبة تمنع من التمنّي.» {77}.
فإذا كانت تجربة الجمال تفترض انعدام الشعور بالزمن، بسبب إثبات الذات في الجمال، فإنّ تجربة الجلال لا تفترض انعدام الشعور بالزمن فحسب. بل تفترض أيضاً انعدام الشعور بالذات، بسبب محْو الجلال إياها؛ فثمة نوع من الغيبة، تذهل الذات فيها عن الوجود كلّه، ما خلا الجلال. ويمكن فهم تلك الغيبة من خلال الدرجة القصوى من تعظيم الجلال والانبهار به والتوهان فيه؛ ما يعني أنّ الغيبة مقرونة بالقهر أو الهيبة26 التي «معناها وجود تعظيم في القلب يمنع من النظر إلى غير المحبوب. وهذا المقام ذاتي للمحبّ لا يفارقه، إلا أنه يشتدّ عند تجلّي صفات الجلال.» {79}.
ولكنّ الهيبة يمكن أن تقترن بالأُنْس أيضاً، وهذا لا يكون إلا في الموضوع الذي يلتبس فيه الجمال بالجلال أو يتداخلان، فيما يسمّى في الأدبيات الصوفية بجمال الجلال وجلال الجمال، وهو ما لم يتعرّض له ابن الدبّاغ على نحو صريح، ولكنّ كلامه على مقام الخوف والرجاء، ومقام القبض والبسط، يحيل على ذلك الالتباس أو التداخل. حيث الخوف والقبض يتصلان بالجلال، في حين يتصل الرجاء والبسط بالجمال، وما التباس المشاعر بين الخوف والرجاء، وبين القبض والبسط إلا دليل على ذلك التداخل القائم في المفهومين الأساسيين- أي الجلال والجمال- الذي ينتج عنه جلال الجمال أو جمال الجلال، وذلك بحسب طبيعة التجربة أو المشاهدة.
غنيّ عن التوضيح أنّ تلك الحالات والمشاعر الوجدانية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمشاهدة الجمال والجلال الإلهيين، اللذين هما المقصود الأعلى للعارف والسالك أو للشيخ والمريد، وليس غرض ابن الدبّاغ منها الكلام على مشاهدة الجمال أو الجلال على العموم. ومع ذلك يمكن تعميم ما جاء به، في هذا الشأن، على التجربة الجمالية بمفهومها الحديث، ولكن باحترازات تتعلّق بالموضوع وبالمشاعر الوجدانية معاً؛ إذ إنّ التجربة الجمالية بموضوعاتها الإنسانية والطبيعية والفنية ذات طبيعة حسية ونفسية متعيّنة بشكل محدّد ذاتاً وموضوعاً، وهي تختلف جذرياً عما يتحدّث عنه ابن الدبّاغ. فما يتحدّث عنه جوهر روحاني مجرّد، لا يتعيّن ولا يتأيّن، ولا يتشكّل ولا يتحيّز، ولا يتقسّم ولا يتوحّد، وفوق الزمان والمكان؛ وهو ما ينعكس اختلافاً حاداً على مستوى المشاعر المصاحبة؛ من حيث الشدّة والسّعة.
من البدهي أن يتحدّث ابن الدبّاغ عن المشاعر المصاحبة، على أنها في الغاية القصوى من الشدّة والسعة، كالشعور بالمحْو والغيبة والقهر والهيبة والسطوة والخوف والانقباض والرضى أو استعذاب العذاب من جهة، وكالشعور بالأُنْس والسعادة العليا والخروج من الزمن والعيش في المطلق من جهة أخرى؛ فما يتحدّث عنه هو في الغاية القصوى من الجلال والجمال، مما لا تحتمله التجربة في الموضوعات الإنسانية باختلافاتها الكبرى من حيث المادة والنوع والشكل والحجم والوظيفة والدلالة. فجمال الوردة مثلاً لا يفترض ذلك الأُنس الذي تفترضه آنية الورد، وهذه لا تفترض ما تفترضه الحديقة أو القصيدة أو التمثال؛ وكذا هي الحال في الهيبة التي يفترضها جلال البحر أو القلعة أو السيمفونية أو الملحمة. ولا شكّ في أنّ ابن الدبّاغ الذي حدّد تلك المشاعر بدقّة عالية، وإن تكن بحالتها القصوى من الشدّة والسّعة، يعي جيداً النسبية فيها وفي موضوعاتها أيضاً، فما يفترضه الجمال المطلق لا يفترضه المقيّد، وكذا فما يفترضه الجمال الكلّي لا يفترضه الجزئي، وما يفترضه المعنوي الباطن لا يفترضه الحسيّ الظاهر؛ ولكنه في تحديده ذاك كان معنياً بالمطلق دون سواه، وبفحوى المقامات والأحوال الصوفية دون سواها أيضاً.
وأخيراً بالرغم من أننا لا نذهب إلى إمكانية اعتماد ما طرحه ابن الدبّاغ جملة وتفصيلاً، فليس هذا هو الغرض من البحث أصلاً، إنما الغرض هو تبيان القيمة التاريخية للفكر الجمالي العربي القديم، من خلال واحد من أهمّ أعلامه في القرن السابع للهجرة؛ فإنّ ذلك لا ينفي أنّ هنالك الكثير من أطروحاته ما يزال يحتفظ بأهميته العلمية، مع بعض التعديلات في المنحى أو التعريف أو الاصطلاح، في علم الجمال المعاصر؛ منه ما له علاقة بغائية الجمال، وبالقيمة المضافة أو الزائد على الجسمية، وبالحواس والقوى الإنسانية واللذة والمشاعر المصاحبة.
ولكن هنالك الكثير أيضاً قد تمّ تجاوزه علمياً، مع احتفاظه بقيمته التاريخية دونما شك، من مثل الأصل المثالي أو الروحاني للجمال، الذي يرتبط أساساً بالسؤال الفلسفي، لا بالسؤال العلمي؛ ومن مثل تلك التقسيمات التي تصنّف عوالم الجمال المتفارقة من حيث الجوهر، وما يرتبط بها من إدراكات وفئات ونفوس، وكذلك التقسيمات النوعية للجمال كالمطلق والمقيد، إضافة إلى صلة الحيوان بالجمال. أي أن ما تمّ تجاوزه من أطروحات يتّصل، في معظمه، بالمنهج والاستراتيجية وبثقافة العصر العامة. ولكنّ كلّ ذلك لا يقلّل من القيمة المعرفية التي يتّصف بها «مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب» الذي استطاع صاحبه ابن الدبّاغ أن يتوّج به الفكر الجمالي العربي القديم، مثلمااستطاع أن يكون أحد فلاسفة الجمال، لا في التراث العربي فحسب. بل في التراث الإنساني أيضاً.
المصادر والمراجع:
1- إخوان الصفا: الرسائل. م: 1+4. بعناية خير الدين الزركلي. المكتبة التجارية الكبرى بمصر- 1928.
2- أفلاطون: جمهورية أفلاطون. تر: حنا خباز. دار القلم. بيروت- 1980.
3- ابن الخطيب، لسان الدين: روضة التعريف بالحب الشريف. تح: عبد القادر عطا. دار الفكر العربي. د/ تا.
4- ابن الدباغ: مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب. تح: هـ. ريتر، دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1959.
5- ابن سبعين: الرسائل. تح: عبد الرحمن بدوي. الدار المصرية. القاهرة- 1965.
6- السهروردي: هياكل النور. تصحيح وتعليق: حسن السماحي. دار الهجرة. دمشق- 1993.
7- ابن سينا: كتاب النجاة. تح: ماجد فخري. دار الآفاق الجديدة. بيروت- 1985.
8- ابن سينا: الشفاء، الإلهيات ج: 2. تح: محمد يوسف موسى وآخران. مرا: إبراهيم مدكور. وزارة الثقافة والإرشاد القومي. القاهرة- 1960.
9- ابن عربي: ديوانه. مكتبة المثنى ببغداد- 1855 (تصوير على الأوفست).
10- ابن عربي: الرسائل. ج: 2. عناية: سمير خالد رجب. دار إحياء التراث العربي. بيروت- 1999.
11- الغزالي، أبو حامد: إحياء علوم الدين. ج: 4. دار المعرفة. بيروت- د/ تا.
12- الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة. تقديم: ألبير نصري نادر. دار المشرق. بيروت- 1985.
13- كليب، سعد الدين: البنية الجمالية في الفكر العربي- الإسلامي. وزارة الثقافة. دمشق- 1997.
14- كَنْت، إمانويل: نقد ملكة الحكم. تر: غانم هنا. المنظمة العربية للترجمة. بيروت- 2005.
15- المرعي، فؤاد: الجمال والجلال- دراسة في المقولات الجمالية. دار طلاس. دمشق- 1991.
1- الدّبّاغ، أو ابن الدّبّاغ، أبو زيد، عبد الرحمن بن محمد بن علي الأنصاري الأُسَيْدي، المعروف بالدباغ. مؤرخ، باحث، فقيه، من أهل القيروان. توفي سنة 699 هـ / 1300م. أشهر تصانيفه: (معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان)، و(كتاب الأحاديث الأربعين في عموم رحمة الله لسائر المؤمنين)، و (مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب). وله (تاريخ ملوك الإسلام)، و (جلاء الأفكار في مناقب الأنصار).
2 – ابن الدباغ: مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب. تح: هـ. ريتر، دار صادر ودار بيروت، بيروت، 1959. ص: 2- 3. وسوف نكتفي في إحالاتنا المتعلّقة بهذا الكتاب بذكر رقم الصفحة في المتن، كما سوف نعتمد الاختصار «مشارق الأنوار» للدلالة عليه.
3 – بلغت الأبيات الشعرية في مشارق الأنوار ثلاثمائة وستة وثلاثين بيتاً، وهو عدد كبير نسبياً، في كتاب مخصّص للمحبة الإلهية. لكنه يدلّل على أنّ ابن الدباغ يستشهد بالشعر على مجمل أطروحاته، ولاسيما الدقيقة منها أو التي يكون فيها التلميح أوجب من التصريح، أو تكون بحاجة إلى التوكيد والتوسعة. علماً أنّ استشهاداته الشعرية في معظمها من شعر الغزل في العصرين الأموي والعباسي، إضافة إلى أشعار المتصوفة، غير أنه في الحالين لم يكن معنيّاً بالقائل إلا ما ندر؛ كما أنه لم يكن يتوقّف عندها بأيّ تعليق معنوي أو فنّي.
4 – راجع في ذلك: كليب، سعد الدين: البنية الجمالية في الفكر العربي- الإسلامي. وزارة الثقافة. دمشق- 1997. الفصل الأول: نظرية الفيض في الفلسفة والتصوّف.
5 – تقتضي الإشارة، هنا، إلى أن ثنائية العشق تلك تعود إلى الفارابي وابن سينا، في كلامهما على واجب الوجود. فهو بذاته عاشق ومعشوق في آن، بخلاف ممكن الوجود أو المخلوقات التي معشوقها سواها. وقد أسهب السهروردي بتلك الثنائية فرأى كلّ شيء مبنياً عليها، ولكن ضمن ثنائية العشق والقهر. وهو ما يعتمده ابن الدبّاغ، والمتصوفة عموماً، حيث القهر متضمَّن في المحبة. راجع: الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة. تقديم: ألبير نصري نادر. دار المشرق. بيروت- 1985. ص: 54. وراجع: ابن سينا: كتاب النجاة. تح: ماجد فخري. دار الآفاق الجديدة. بيروت- 1985. ص: 281- 282. وراجع: السهروردي: هياكل النور. تصحيح وتعليق: حسن السماحي. دار الهجرة. دمشق- 1993. ص: 59- 60.
6 – نلحظ اضطراباً لدى ابن الدبّاغ في التعامل مع نظرية الفيض، فمرّة يرى أنّ الفيض أو السريان يكمن في أربعة عناصر، وهي: الوجود والحياة والجمال والكمال؛ ومرّة يراه في ستة، وهي: الوجود والحياة والمعرفة والمحبة والجمال، أما الكمال فقد غاب عن السريان، ولكنه مفترَض بدهياً للاستقبال أو القبول. علماً أننا نجد ذلك الاضطراب عند معظم المتصوفة، مما لا نجده عند الفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا مثلاً. بل حتى إخوان الصفا الذين كثيراً ما اضطربت النظرية بين أيديهم، نجدهم أكثر دقّة واتساقاً مع منطق النظرية، التي يرون أنّها تقوم تراتبياً على أربعة فحسب، وهي: الوجود فالبقاء فالتمام فالكمال، «لأنّ كلّ كامل تامّ، وكلّ تامّ باقٍ، وكلّ باقٍ موجود، وليس كلّ موجود باقياً، ولا كلّ باقٍ تامّاً، ولا كلّ تامّ كاملاً.». الرسائل. م: 4. بعناية خير الدين الزركلي. المكتبة التجارية الكبرى بمصر- 1928. ص: 4.
7 – ثمة احتراز لا بدّ منه هنا، وهو أنّ نفي الجمال بإطلاق عن الجمادات، فيه الكثير من التعميم المخلّ، فإذا انطبق هذا الحكم على الموادّ الخام، فإنه لا ينطبق على الجمادات المتشكّلة كبعض الأحجار والصخور مثلاً. ولو ذهب ابن الدبّاغ إلى أنّ العناصر الأربعة- الماء والهواء والنار والتراب- التي تتشكّل منها الجمادات والأجسام، بحسب نظرية الفيض، لا جمال فيها، لكان كلامه أكثر اتساقاً مع خطابه الجمالي نفسه.
8 – يعود تحديد الفضائل بأربع إلى سقراط، عبر أفلاطون، الذي اعتبرها أساس الصلاح في الفرد والدولة معاً، وقد اعتُمد ذلك التحديد في الفكر العربي القديم عامة. راجع الكتاب الرابع «الفضائل الأربع» من: جمهورية أفلاطون. تر: حنا خباز. دار القلم. بيروت- 1980.
9 – رسائل ابن سبعين. تح: عبد الرحمن بدوي. الدار المصرية. القاهرة- 1965. ص: 54.
10 – ديوانه. مكتبة المثنى ببغداد- 1855 (تصوير على الأوفست). ص: 7.
11 – الشفاء، الإلهيات ج: 2. تح: محمد يوسف موسى وآخران. مرا: إبراهيم مدكور. وزارة الثقافة والإرشاد القومي. القاهرة- 1960. ص: 419.
12 – الغزالي، أبو حامد: إحياء علوم الدين. ج: 4. دار المعرفة. بيروت- د/ تا. را: ص: 299.
13 – لا بأس من الإشارة إلى أنّ ابن الخطيب سوف يتابع ابن الدبّاغ في تعريفه للكمال، بقوله: «فالكمال جميع الصفات المحمودة لذلك الشيء، إما ظاهراً أو باطناً.» روضة التعريف بالحب الشريف. تح: عبد القادر عطا. دار الفكر العربي. د/ تا. ص: 287. وقد كنا قد تعلّلنا في كتابنا: البنية الجمالية في الفكر العربي- الإسلامي، لابن الدبّاغ وابن الخطيب اعتمادهما ذلك التعريف على اعتبار أنهما يذهبان إلى أنّ خلوّ الشيء من النقص هو في ذاته أمر محمود. را: ص: 63- 64. غير أنّ ذاك التعليل يحتاج إلى المراجعة، وهو ما فعلناه هنا.
14 – ربما لهذا ذهب بعضهم إلى أنّ محسوسات السمع كلّها روحانية، بخلاف محسوسات البصر التي معظمها جسمانية، كما أن محسوسات السمع تُنال حتى في حالة الغيبة عن المكان والزمان، في حين أن محسوسات البصر لا تُنال إلا بحضورها في الوقت ذاته. را: إخوان الصفا: الرسائل. م: 1. ص: 236.
15 – لا يحدّد ابن الدبّاغ هذه الفئة من المتعلّقين بالجمال، كما حدّد الفئتين الأخريين بالخصوص والعوامّ. بل إنه لا يطرح أيّ مثال دالّ عليها، غير أنه يمكننا تحديدها بأنها تلك الفئة من السالكين أو المحبّين الذين لا تشغلهم الماديات، ولكنهم لم يعيشوا بعد في الجمال المجرّد، فانجذبوا إلى معاني الجمال الكلّي في كلّ شيء، ولعلّهم المقصودون بقوله: «يوجد في المحبّين لله تعالى من يغلب عليه سُكْر المحبة، وتظهر عليه صفة الأُنس، فيعانق الجذرات، ويقبّل أصناف النبات وأنواع الحيوانات، دون تفرقة بين الحسن والقبيح منها، لما يلوح له في هذه المصنوعات من لطائف أسرار الصانع المحبوب… ومثل هذا نسلّم له حاله ولا نقتدي به.» {121}. وإذا كان ذلك كذلك، فإنه يقصد فئة المجاذيب أو الدراويش من المتصوفة.
16 – يُرجِع الغزالي «أقسام الحبّ إلى خمسة أسباب، وهو حبّ الإنسان وجودَ نفسه وكماله وبقائه، وحبّه من أحسن إليه فيما يرجع إلى دوام وجوده ويعين على بقائه ودفع المهلكات عنه، وحبّه من كان محسناً في نفسه إلى الناس، وإن لم يكن محسناً إليه، وحبّه لكلّ ما هو جميل في ذاته؛ سواء كان في الصورة الظاهرة أو الباطنة، وحبّه لمن بينه وبينه مناسبة خفية في الباطن». المرجع السابق، ج: 4. ص: 300. أي محبة الذات، ومحبة الإحسان إليها، ومحبة الإحسان في ذاته، ومحبة الجمال في ذاته، ومحبة المناسبة الخفية. وهو ما نجده متفرّقاً عند ابن الدبّاغ، بين القسمين العريضين للمحبة. مع الإشارة إلى أنّ محبة الإحسان في ذاته هي موقف أخلاقي بحت، في حين أنّ محبة الجمال في ذاته هي موقف جمالي بحت أيضاً.
17 – نقصد باللذة الحسية الصرف، هنا، لذة الشم واللمس حصراً، أما لذة الذوق فتدخل في اللذة الشهوية ( شهوة الطعام والشراب)، وأما لذة السمع فيسري عليها ما يسري على لذّة البصر. نقول ذلك بالرغم من أنّ ابن الدبّاغ يكتفي بالكلام، في هذا الموضع، على لذّة البصر دون التعرّض للذّة السمع، غير أنّ تمثيلاته البصرية والسمعية، في أكثر من موضع، تجعلنا نؤكد أنّ حكم اللذّة السمعية لديه هو نفسه حكم اللذّة البصرية، علاوة على أنّ هذا هو المعتمد في تراثنا الفكري عامة. وقد مرّ بنا في هامش سابق كلام إخوان الصفا، على الروحانية في المحسوسات السمعية.
18 – صحيح أنه يمكن اعتبار الإدراك النفساني هو نفسه الإدراك الجمالي بالمصطلح الحديث، ولكن هذا لا يعني أنّ ابن الدبّاغ يعتمده على نحو قطعي، فهو أكثر استخداماً لمصطلح الإدراك الحسي منه لهذا المصطلح، ولكن مع ذلك فإنّ اجتراحه إياه هو في ذاته دليل على استشعاره ضرورة التمييز اصطلاحياً بين ما هو حسي بحت وما هو حسي جمالي، وبين اللذة الحسية أو الشهوية واللذة الجمالية.
19 – تجدر الإشارة إلى أنّ الغزالي يذهب إلى استمتاع الحيوان بالصور الجميلة وذلك بقوله: «الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس، وإلى جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة، والأول يدركه الصبيان والبهائم، والثاني يختصّ بدرْكه أرباب القلوب». المرجع السابق. ص: 303.
20 – يبني الفيلسوف الألماني إمانويل كَنْت نظريته الجمالية على نفي النفعية عن الحكم الجمالي أو ما يُعرف بالغائية دون غاية. يقول في ذلك: «الجمال هو شكل غائيةِ موضوعٍ بحسب ما تمّ إدراكها فيه من دون تمثُّل غايةٍ.» ولذلك فإنّ «كلّ مصلحة تفسد حكم الذوق وتنتزع منه نزاهته، خصوصاً حين لا يضع الغائية قبل الشعور باللذة… لكنه يُقيم الغائية على المصلحة.». نقد ملكة الحكم. تر: غانم هنا. المنظمة العربية للترجمة. بيروت- 2005. ص: 142، وص: 125 على التوالي.
21 – يتقاطع هذا المثل- الصورة والمرآة- جداً مع عالم المُثُل الأفلاطوني عبر تمثيله المعروف بالكهف واللهب والظلال. فكلٌّ منهما يؤكد الفكرة نفسها، وهي أنّ المحسوسات مجرّد ظلال زائفة، لما هو حقيقي في العالم العُلوي. راجع الكتاب السابع «المُثُل» من جمهورية أفلاطون.
22 – يقول الغزالي: «يحبّ الإنسان دوام الوجود ويكره الموت والقتل، لا لمجرّد ما يخافه بعد الموت ولا لمجرّد الحذر من سكرات الموت. بل لو اختُطف من غير ألم وأُميت من غير ثواب ولا عقاب لم يرض به وكان كارهاً لذلك. فإنّ أحبّ العدم لم يحبّه لأنه عدم. بل لأنّ فيه زوال البلاء، فالهلاك والعدم ممقوت ودوام الوجود محبوب.». المرجع السابق. ص: 297.
23 – يذهب الغزالي إلى تحديد تلك الشروط بأربعة وهي: كمال جمال المعشوق أو نقصانه، وكمال قوة الحبّ، وكمال الإدراك، واندفاع العوائق المشوّشة والآلام الشاغلة للقلب. را: المرجع السابق. ص: 314. وقد اختصر ابن الدبّاغ الشرطين الثالث والرابع بشرط واحد، وهو حالة الإدراك.
24 – راجع في ذلك: المرعي، فؤاد: الجمال والجلال- دراسة في المقولات الجمالية. دار طلاس. دمشق- 1991. ص: 74.
25 – يعرّف ابن عربي مفهوم الأُنْس بقوله: «هو أثر مشاهدة جمال الحضرة الإلهية في القلب وهو جمال الجلال.». كتاب اصطلاح الصوفية، في: رسائل ابن عربي. ج: 2. عناية: سمير خالد رجب. دار إحياء التراث العربي. بيروت- 1999. ص: 413.
26 – الهيبة عند ابن عربي هي: «أثر مشاهدة جلال الله في القلب، وقد تكون عن الجمال الذي هو جمال الجلال.». المرجع السابق. ص: 413.
سعد الدين كليب *