إعداد وترجمة: ناصر الكندي
كاتب ومترجم عماني
من الصعب تأطير عبدالرزاق قرنح، الكاتب البريطاني التنزاني الأصل، ضمن جغرافية معينة أو أدب معين أو لغة محددة، فهو رغم تصنيفه في أدب ما بعد الاستعمار، إلا أنه يرفض هذا الاختزال كون الأدب أكبر من هذا التصنيف، كما يرفض تصنيفه ضمن كتّاب شرق أفريقيا، أو من أنصار اللغة المحلية في الكتابة مثل لغته الأم السواحيلية.
ورغم أن قرنح يكتب فعلا ضمن جغرافية محددة، معظمها في زنجبار، إذ تدور أحداث رواياته في أرضها منذ القرن التاسع عشر إلى أواخر القرن العشرين، إلا أنه يحلّق بالسرد نحو فضاءات كونية تلمس كل إنسان خارج الحدود، فهو لا ينطلق في كتاباته من التاريخ العام للأحداث، ذلك التاريخ الموبوء بأحادية النظرة والعداء بين المستعمِر والمستعمَر، بل يتوقف بعمق عند التاريخ الخاص للشخصيات، ويرصد تغيراتها وتشظيّاتها بين عالمين: الاستعمار وما بعده.
يعيش قرنح الآن في بريطانيا بعد مضي عقود منذ هجرته من سلطنة زنجبار بعد ثورة 1964م، وتتميز حياته بالاستقرار والتفاني في العمل، لكنه اعترف في أحد حواراته أنه مسكون بالماضي المرعب رغم حاضره الجيد، بل اكتشف سير هذا الماضي رغم محاولاته المتجاوزة له في الكتابة، فمهما كتب تجده يعود مرة أخرى إلى نقطة البداية، حيث المنشأ والذكريات الأولى. لهذا، أراد أن يكتشف الماضي بلغة أقل حدة من لغة منكوب، ولم تكن لديه وسيلة غير لغة الأدب، تلك اللغة التي تجعل الذكريات تطفو على مياه الأمل، وتضع الجلاد والضحية تحت مجهر الشك لتعثر في هذه العلاقة على منطقة أكثر حيوية.
ومما يعقّد موقف قرنح في الكتابة انتماؤه لجيل القوميات المناهضة للاستعمار الذي نشأ في السبعينيات والثمانينيات، وتمت تغذيته بالكتابات المنددة للمركزية الغربية مثل “الاستشراق” لادوارد سعيد، و”التاريخ الشعبي لأميركا” لهوارد زن، و”المعذبون في الأرض” لفرانز فانون وغيرها. ورغم أحادية هذه الأفكار، وماضي قرنح القاسي بعد الثورة في زنجبار، إذ واجهت عائلته وجماعته من ذوي الأصول العربية كل صنوف الإساءة والتنكيل من قبل السلطة الجديدة، إلا أنه لم يصف هذه الثورة بالشيوعية، كما روّج لها بعضهم، بل بالنزعة الأفريقية الضيقة التي اتسمت بالانتقام العرقي! ولم تضلّله تلك الدعاوى المتطرفة بنبذ لغة المستعمِر وثقافته، بل تعامل مع المستعمِر بندية وواجهه بلغته وثقافته، واستفاد من مبادئه المتسمة بالتناقض في الواقع، حينما ينادي المستعمِر بالرحمة والتحضّر، ويقوم في الوقت ذاته بأبشع المجازر والإرهاب ضد ضحاياه في الأراضي المستعمرة.
تنقسم العوالم السردية لقرنح، كما ذكرنا سابقا، إلى عالمين: الاستعمار وما بعده. ويتضح ذلك جليا في روايتيه “الجنة” و”الحياة بعد الموت”، ذلك أن الأولى تنتمي إلى مرحلة الاستعمار، والثانية تكملة للأولى في مرحلة ما بعد الاستعمار، ويتناول قرنح في سرده تلك الجدلية الشائكة بين رفض الضحية للمستعمِر من جهة، والتفاخر بتحضّره وأسلوب حياته من جهة أخرى. فالمستعمِر، رغم خروجه من الأراضي التي سادها ردحا من الزمن، قد خلّف وراءه قضايا خطيرة مثل الهوية والحداثة واللغة، فلا مجال للمستعمَر أن يعود للوراء، كما أنه يعيش حاضره المأزوم ضمن كيان غربي مصطنع، ورث منه نتائج الحداثة دون أسبابها، وأخذ منه زمنه البيروقراطي ومؤسساته التنظيمية دون أن تنضج فيه الهوية الحديثة الملائمة، وواقع في إسار لغة دخيلة عليه لا يقدر أن يتجاوزها كونها لغة حية ومعاصرة بالمقارنة مع لغته الأم.
من هنا يتجلّى الحسّ السردي المرهف لقرنح في تناول هذه المناطق الحساسة في عالم المستعمَر، تلك المناطق التي أجبرته على الهجرة إلى أراضي المستعمِر كلاجئ مواجها استعمارا آخر ولكن بشكل مختلف، كالطلب منه بالتخلي عن لغته الأم وأن يتبنّى لغة مضيفه، وأن يعيش ضمن مبادئ حضارة جديدة تتسم بالمواعيد الصارمة والكفاح الرأسمالي من أجل البقاء، والتكيّف مع فردانية متطرفة بعيدة عما ألفه من حياة جماعية دافئة في موطنه المتداعي!
يذكرنا هذا السرد بشخصية محلية عمانية واجهت -نوعا ما- هذه الجدلية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فقد هاجرت الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان من زنجبار إلى هامبورغ بصحبة زوجها الألماني، متجاوزة بحبها جميع التضاريس الثقافية الهائلة بين عالمها القروسطي وعالم زوجها الغربي المتحضر، إلا أنها ذكرت في مذكراتها أنها عاشت ذلك التشظّي الكبير بين هويتها الماضية والهوية الجديدة التي اختارها قلبها، فلم تنكر حنينها إلى لغتها الأم وتعثّرها باللغة الجديدة، واشتياقها لمناخ زنجبار الاستوائي النابذ للزمن الغربي الصارم والجاهل بالفصول الأربعة. وبين ديانتها المسيحية الجديدة وإسلامها السابق، وبين عائلتها الجديدة وعائلتها السابقة، وثقافتها الغربية وثقافتها الشرقية، تجدها تقاوم بضراوة حتى تجد هويتها الضائعة وسط هذه العوالم المختلفة، دون أن تنبذ إيجابيات كلا الثقافتين، مشكلة بذلك هوية جديدة أكثر ثراء ورحابة لأطفالها وللقادمين الجدد من المهاجرين.
سيتناول هذا الملف جميع ما تم التطرق إليه سابقا، وذلك في “مقابلة خاصة مع قرنح” التي يتحدث فيها عن ترفّعه عن التسميات المختزلة لنوعية الأدب الذي يكتب فيه، وعلاقته مع لغته الأم ولغة كتابته الإنجليزية. وفي قصته القصيرة “حكاية لاجئ” التي يعيد سردها نيابة عن لاجئ التقى به في بريطانيا، كاشفا من خلالها عن الصعوبات الإجرائية والثقافية التي يواجهها عادة كل لاجئ دون أن يلتفت لها الإعلام والجمهور البريطاني أو الغربي عموما. ومقالة نقدية بعنوان “عبدالرزاق قرنح في رواية الحياة بعد الموت والنفاق الاستعماري”، يتناول فيها الكاتب شخصية عبدالرزاق قرنح الرزينة والمستفزة للتساؤل الدائم حول الهوية، كما يسقط حياة قرنح على روايته “الحياة بعد الموت” التي تمثل، إلى حد ما، ذلك العالم العالق بين زمنين،إلى جانب مادة نقدية مترجمة.