ليلى عبدالله
كانت البلاد في هرجٍ ومرجٍ عن احتفال الأزياء الكبير الذي سيقيمه الملك. وعن الزيّ الذي سينافس الملك به الملوك الآخرين في هذه المناسبة. عرض عليه أشهر الخياطين في البلاد تصميماتٍ مختلفة غير أنه لم يقتنع بها. فهو يبحث عن شيء مختلف يميّزه عن بقية الملوك القادمين من الممالك الأخرى.
لستُ خيّاطًا للثياب، ولم أرث من أبي شيئًّا سوى الفقر. ولدت في حيّ النفايات، كانت أمي تبيع المعادن التي تلتقطها من كومة النفايات، تربيت مع تلك الخردة وتعلمت تركيب أشياء منها، كائنات تصير إلى هيئات بشرية وحيوانية، وأحيانا تتشكل لتغدو شكلاً مشّوهًا لكن بطابع فنيّ يعجب بعض الأذواق.
مرة أعجب أحد الفلاحين بشكل صنعته؛ فاتخذه فزاعة لحقله يطرد بها الغربان وأعطاني ذرة مقابلها. كنت في السابعة من عمري حينها. ومنذ ذلك الحين أصبحت هوايتي صناعة هيئات غريبة من النفايات التي ألتقطها من الكومة التي صارت مصدر رزقي. ألملم الخردة وأعرض ما تصنعه يداي للناس.
حين سمعت أن ملك البلاد يبحث عن زيّ فكرت أن أصنع له ثيابًا من عدّتي التي أجمعها. بقيت أيامًا أجمع ما يفيض من أشياء الناس. ولحسن حظي كانت النفايات كريمة معي، فقد لملمت الكثير من قطع معدنية وخشبية وجلدية وبقايا أقمشة ذات أشكال وأنواع متباينة.
لم أكن أضع عادة مخططًا لما أودّ صنعه. فما إن أعمل يدي فيما أحصل عليه حتى تتخلق الهيئات التي تفاجئني أنا شخصيًّا. بقيت يداي تعمل لليالٍ متواصلة على تركيب القطع بلا تخطيط سابق. كان يهمني أن أصنع زيًّا يليق بمكانة ملكنا وتظهر قوة شخصيّته ومدى جبروته أمام أعدائه.
عندما انتهيت من وضع آخر اللمسات تنحّيت جانبًا أتأمّل الكائن المهيب الذي صنعته. وكان من الصعب عليّ كصانع لهذه الهيئة أن أخفي مدى إعجابي وغرابتي من الشيء الذي تشكل أمامي. استعرت عربة جاري ووضعت الكائن فيه. غطّيته بقطعة قماش. ليبقى مخفيًّا عن أعين الفضوليين. ولتكن عين الملك هي أول من يراه. كانت بوابات القصر مشرعة أمام كل الخياطين أو من يمثلونهم. دخلت إلى القاعة التي يستقبل فيها الملك وفوده من الخياطين. وحين وقفت أمام الملك قلت له محنيًّا كتفيّ: أيها الملك الميمون، اسمح لي أن أرخي الستار عن الزي الذي صنعته خصيصًا لك.
بدا الملك ومن حوله من حاشيته متحفّزًا. وحين رفعت الغطاء وقف الملك مشدوهًا. يتملّى هيئة الكائن الذي يتوق لجسد جلالته حتى يكتمل. ثم صرخ مذهولاً: يا له من زي لا مثيل له، إنه يعبر عن انتمائي لشعبي هذا ما أريده حقا! شيء يميزني ويظهر حبّ شعبي لي أمام الملوك الآخرين.
طلب الملك من حرّاسه أن يأخذوا الكائن إلى جناحه كي يستعد لمراسم الاحتفال. كما أنه أمر بصرف ألف دينار لي من خزينة الدولة.
كنت حريصًا على حضور الاحتفال. لأشهد ردة فعل الحاضرين. دخلت بين الحشود. كان الناس خارجين من بيوتهم محتشدين في الساحة الكبيرة حيث يجتمع الملوك مع ملابسهم الغريبة وهيئاتهم المختلفة. وقف هناك ملكنا متدرعًا داخل الزيّ المهول الذي صنعته. وكان من عادة ملك البلاد كما في كل عام من الاحتفال أن يمرّ بالقرب من شعبه لتلقّي التهاني والدعوات. وحين دنا من البسطاء متباهيًا بطلّته صار الناس لاسيما الأطفال يشيرون بأيديهم على أشياء متعلقة في جسد الملك. وفجأة تناهت أصواتهم المختلطة من وسط الحشد الهائل: انظري يا أمي، أليس هذا حذائي الممزق الذي رميناه. وآخر يقول: أنا متأكد أن هذا الدورق المكسور يخصني. وأخرى تعلق: هذه فأس زوجي المتوفى.. تلك ساعتي الرملية التالفة.. طبقي الذي تحطم.. حدوة حصاننا.. أوه، إنه شريط شعري.. مشط دميتي. عكازة جدتي.. ذاك زناري. إنه جلد حذائي. أوه، كأنه غطاؤنا…
اختلطت أصوات الناس البسطاء، كان كلٌّ منهم يشير إلى شيء كان يملكه.. بدوا مذهولين كيف أنّ ملكهم كان يمضي مرتديًا أشياءهم البالية وهو يملك خزائن الأرض؟!
وصلت أصوات الحشود المتنافرة إلى أذهان الوفود الحاضرين من ملوك البلدان الأخرى.. واستنكروا سلوك ملك هذه البلاد قائلين: الملك يلبس خردة شعبه. يا له من ملك! انظروا إلى شعبه، هؤلاء البسطاء حتى خردتهم سلبت منهم! يا له من ملك جشع!
وأصوات البسطاء تهتف: أعيدوا لنا خردتنا.. أعيدوا لنا خردتنا!
تكثفت الأصوات حتى صارت أجسادهم تتبعها إلى حيث الملك يقف مذعورًا في داخل كائن ينهار رويدا رويدا. فقد كانت الأيدي الممتدة تنتشل ما كان ملكًا لها!