يقول التوحيدي في الليلة الخامسة والعشرين من كتاب الإمتاع والمؤانسة «إن الكلام على الكلام صعب. قال: ولم؟ قلت: لأن الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور وشكولها التي تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحس ممكن، وفضاء هذا متسع، والمجال فيه مختلف. فأما الكلام على الكلام فإنه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعضه». فليس من اليسير أن نباشر كلاما باشر كلاما، وأن نقارب المقاربة. ولهذا السبب ستتركّز ملاحظاتي في قراءة كتاب ضياء خضير «القلعة الثانية، دراسة نقديّة في القصّة العمانية المعاصرة» (صدر الكتاب عن دار الانتشار العربي- بيروت- لبنان. الطبعة الأولى 2009) على بعضٍ من المسائل الشكليّة، وإن كان ما ورد في مضمون الكتاب في حاجة إلى كبير نقاش من جهة اختلاف التصوّرات لا من جهة الرفض أو الإقصاء.
مشروع الأديب لا يتلاقى مع مشروع الناقد، فالأديب له مطلق التصوّر، وله مجالات وسيعة للتبصّر والرؤية والحركة، أما الناقد فهو يتحرّك في مجال نظري مضبوط، هو محض تابع لحركة الأدب قد يتخطّى هذا الوضع بكتابة نمط إبداعي نقدي كما فعل بارط وقد يبقى حبيس النظريّات والأدوات والآلات لا يتعدّاها، غير أنّه في كلّ الحالات وجب ألاّ يكون وصيّا على الأدب ولا ذائدا عنه ولا مقوّما له، لأنّه يمثّل ذائقة وزاوية نظر. وانفتاح النصّ يجعله قابلا للتقبّل من زوايا مختلفة. وإذا ما دخل النقد في الوصاية والتقويم والتحديد والرفع والحطّ واعتبار المعايير الأخلاقية كان شبيها بالصورة التي أخرج عليها مونتسكيو النقاد إذ وسمهم بـ «جنرالات فاشلين عجزوا عن الاستيلاء على بلد فلوّثوا مياهه». ونحن نصدر عن سؤال طرحه في ذات المقام دانييل بارجيز، وهو، هل يكون النقد قاتلا للأدب؟ وجوابه على لسان دانييل بارجيز في ضبط العلاقة المتينة بين النقد والأدب خارج دائرة الوصايا والأحكام السائبة والتقويم الأخلاقي أو التفضيلي، يقول: «إنّ النقد ضروري للأدب، والضيق منه يتأتّى من هذه المفارقة الملازمة له. فالعمل الأدبي يحتاج إلى خطاب يعلق عليه ويوضّحه، لا، بل هو يطالب به لأنّه ينتمي إلى عالم اللغة غير أنّ النقد يصل دوما إلى حدّ يصبح فيه مكتفيا بذاته، ويصبح العمل الأدبي مجرّد ذريعة». (مقدمة كتاب مدخل إلى مناهج النقد الأدبي. عالم المعرفة 221.)
أعتقد أنّ كتابة القصّة القصيرة في عمان قد تحوّلت إلى ظاهرة جديرة بالدراسة النقدية الجادّة، لا لتحديد أساليب الكتابة أو ضبط وجهتها ولكن لدراسة نماذجِها وبيان مناطق قوّتها ووهنها، ووصلها بواقع هو الأكثر تأثيرا في رسم ملامحها ومتعاليات نصيّة مثّلت مراجع ذهنية أو عينيّة يسير على نهجها الكاتب. وقد كان كتاب الدكتور ضياء خضير مسايرا لحركة في كتابة القصّة مثّلت ظاهرة جالبة لعين الناقد، كتاب في السرد العماني يهتمّ بتكوّنه وبنيته والتصوّرات المتحكّمة فيه، اعتمادا على عدد كبير من القصّاصين، يُحاول أن يُفكّك ما ركّبوه وأن يردّ المفرد إلى جمع، وأن يقدّم قراءة مهمّة على اختلافي مع عدد من جوانبها.
قلعة الدكتور ضياء خضير باب من الأبواب التي يمكن أن نطلّ منه على القصّة العمانية وأن نرصد بعضا من مظاهرها وأن نقرأ نصوصا قصصيّة على اختلاف ألوانها، ذلك أنّ العمل قد جمع بين أوراق نقديّة ونصوص إبداعيّة اختارها الناقد وضمّنها كتابه، فهو عمل حاول أن يأتي فيه صاحبه على أهمّ الأسماء القصصيّة نقدا وجمعا في رؤية تعمل على النصّ الإبداعي وتحاول أن تُظهر خصائصه ومنزلته من القصص العماني عامّة. فهنالك اجتهاد محمود في استنطاق النص والتأصيل له، ووضعه في منزلته الاجتماعية والتاريخية. غير أنّه على قيمة مقالات الكتاب وأهميّتها منفردة فقد دخل على الجمع بينها في كتاب موحّد نوع من الإرباك، راجع أساسا إلى طبيعة النقد المكتوب من حيث هو مقالات موزّعة قد لا تجد ناظما بينها في أغلب الحالات. وسنعمل في هذه الورقة على إظهار بعض الملاحظات التي بانت لنا في جمع متفرّق المقالات، وعلى بيان بعض النقاط الخلافية في التصورات النقدية.
1-في العنوان: فاتحة الملاحظات العنوان الذي اختاره الكاتب لكتابه ولا أعتقد أنّه وُفّق في اختياره بالرغم من شعريّته ووقعه على القارئ، فما جاء في أسباب اختيار اسم القلعة يتنافي ومحتوى الكتاب الذي يُظهر القصص العماني ضربا من الكتابة التي ما زالت تخطو خطواتها الأولى، ولا عيب في ذلك ولكن الإشكال في وسم هذا الذي يبدو في منظور الكاتب بدايةَ تشكّل ووعيا غائبا، وعدم تمرّس بالكتابة، وفقدان النموذج بالقلعة التي تمثّل حصنا متينا، يقول: «العنوان الذي يحوي هذه الدراسات هو القلعة المجازية الثانية التي تمثّلها مدوّنة القصّة القصيرة بكلّ تنوّعها وغناها وطموح أصحابها..هي القلعة التي جسّد نموذجها التاريخي القائم حتّى الآن في كلّ المدن العمانية، منطقة الدفاع الأولى في وجه العدوان بأشكاله الداخليّة والخارجيّة، فضلا عن وظيفتها الثقافية التي ارتبط بها علماء الدين والشعراء العمانيين في عصور سابقة» (ص، 11)، وهو يقول في المتن النقدي مفارقا وسم القلعة وهو الأمر الظاهر في مختلف تحاليله، «وقد قلت في حديثي عن (مسألة الوعي) في القصّة العمانية إنّه لا يوجد في تاريخ القصص العماني كاتب واحد يبلغ به التميّز حدودا غير متنازع فيها… والنتيجة هي بقاء الجفاف في الواقع الأدبي العماني سمة عامّة على الرغم من كلّ مظاهر الخصب وشاراته» (ص 15)، ولا أعيب على الكاتب رأيه فله حريّة القراءة وله حريّة النظر ولكن أعيب عليه مطابقة العنوان لما هو موجود داخل الكتاب، فالعنوان اختيارٌ شعري لا يُوافق طبيعة الحركة القصصيّة وبدايات تشكّلها في وسم الناقد لها.
في ذات المستوى وفي العنوان الفرعي الذي أراده المؤلف «دراسة نقدية في القصّة العمانية» وبطبيعة الحال فإنّ العنوان الفرعي المحدّد للمجال الذي يتحرّك فيه الناقد والمدوّنة التي يعتمدها والجنس الأدبي الذي أفرده بالدراسة لم يكن أيضا موافقا لما هو موجود داخل متفرّق المقالات التي ضمّها الكتاب. فالكتاب لم يقصر النظر على جنس القصّة القصيرة على مستوى الدراسة بل تخطّاها إلى الرواية وإلى السيرة الذاتية، بل نجد ذلك منصوصا عليه في العناوين الفرعية للمحتوى «كتابة المذكرات في مذاق الصبر» و«المتخيّل السردي وبناء الشخصيّة في رواية «حز القيد»، وكذا كان الأمر في التجميع أي تجميع الملاحق إذ ضمّن المؤلّف في ملحقه الأوّل دراستين واحدة تختصّ بالمقامة والثانية بـ «مذكرات الأميرة العربية سالمة بنت سعيد بن سلطان بن أحمد البوسعيدي» ولست أعلم مبرّرا لوضع هاتين الدراستين، والحال أنْ لا مقام لهما في كتاب يتخصّص بالحديث في القصة القصيرة. وسؤالي البسيط الناتج عن هذه الملاحظة، لمَ التخصيص في العنوان الجزئي إذا كان الدارس سيوسّع دائرة النقد ويهتمّ بعدد من أجناس السرد.
2- بالنظر في محتوى الكتاب يمكن أن ندرك أنّ العمل هو نصوص أو أوراق دراسية لا جامع بينها وكان من المفروض أن يعنون الكتاب بمقالات في السرد العماني ليخرج الكاتب من هذه المآخذ التي تفصل العمل عن بعده العلمي. فالمحتوى لا تجتمع فصوله ولا أبوابه في محاور دراسية جامعة أو رؤية واضحة، وإنّما هي أسماء الكتّاب، وأعتقد أنّ هذا يُشكّل خللا علميّا كبيرا أن تكون الفصول بأسماء الكتاب لا بظواهر دراسيّة تجتمع فيها الكتابات، على سبيل المثال باعتبار العمل هو دراسة نقدية في القصة القصيرة كما أعلن الكاتب أن يَدرس بنية الشخصيّة في القصّة أو أن يدرس طرق بناء الحدث، أو أن يدرس النماذج العليا في بنية القصة القصيرة إلى غير ذلك ممّا هو داخل في الدراسة النقدية، وعلى ذلك فإنّك تجد العناوين متداخلة لا جامع بينها ولا ضابط، على هذه الهيئة «سالم آل توية والوعي المنشطر بين مكانين»، «محمد العريمي قاصّا وكاتب مذكّرات وروائيّا» … وهو أمر في اعتقادي يحوي خللا منهجيّا ويُخرج الكتاب من دائرة البحوث العلميّة ويُدخله في باب المقالات المتفرّقة، التي يمكن أن تكون في ذاتها مهمّة ولكن جمعها فيه إشكال. واعتقادي أنّ هذا العمل ، على قيمته، كان في حاجة إلى مرحلة ثانية من الدراسة فيها يُجمّع الكاتب ملاحظاته، وبُدخلها في أنساق جامعة، ويتمكّن آنذاك من وسم أدبيّة القصّة العمانية حتّى يخرج من دائرة دراسة القصّاصين ويدخل في دائرة دراسة القصّة. ولذلك أعتقد أنّ النقد الوارد في هذا الكتاب هو أساسا نقد صحفي وليس نقدا علميّا، دون حطّ من أثر النقد الصحفي، لأنّ له مجالا عامّا وإطارا أوسع وهو داخلٌ أيضا في الأحكام العامّة، وخارجٌ عن إطار النقد الأكاديمي الذي يتميّز بسمات الجديّة وعدم إطلاق الأحكام والصدور عن مرجعيّات واضحة.
لقد كان الكتاب محض تجميع لأوراق نقديّة متفرّقة قدّمها الكاتب في مناسبات متباينة، وكان البحث يقتضي منه إن أراد الدخول في البحث في شعريّة أو أدبيّة القصّة العمانيّة أن يصدر عن هذه الأوراق لتشكيل خيط جامع وعناصر واضحة للمقاربة والدراسة، لكن واقع الحال أنّ الدراسة كانت في القصّاصين العمانيين لا في القصّة العمانية، وسلف أن ذكرت أنّ الكاتب كان يمكن أن يغنينا عن كلّ هذه الملاحظات باختيار العنوان الأنسب والتقديم الأجدر وأن يعلن أنّ ما تقدّم ليس كتابا في دراسة القصّة العمانية وإنّما هو مقالات في السرد العماني.
3- في الملاحق: لا أعتقد أنّ هذه الملاحق ضروريّة وقد أخذت من الكتاب ما يزيد عن نصفه، خاصّة بالنسبة إلى أعمال منشورة ولم أتعوّد بدراسات نقديّة تُجمّع أعمالا مدروسة وغير مدروسة فيها، وإن أراد الكاتب أن يُجمّع نماذج من القصّة العمانيّة فليكن ذلك في كتاب منفرد، ولكنّه في حاجة إلى ضابط منهجي يتحرّك فيه في اختياراته، فلا بدّ من معيار للجمع حتّى تكون القصص ممثّلة فعلا للقصّة العمانية، وليست ممثّلة لذائقة الناقد. ولذلك فإنّي أعتقد أنّ الملحق الجامع للنصوص الإبداعيّة القصصيّة لا وظيفة له سوى تكثير عدد صفحات الكتاب، خاصّة أنّ الكاتب كان كثيرا ما يعتمد على النصوص داخل متنه ويوردها على امتدادها، وكا الأحرى به أن يفتح قوسا ويحيل إلى رقم النص في الملحق إن أراد لملحقه أن يكون عمليّا وموظّفا.
إضافة إلى ذلك فإنّي أعتقد أنّ الملحق الأوّل كان خارجا عن توجّه الكاتب، خاصّة في عملين لا يمثّلان مرجعيّة واضحة في القصّة العماني.
4- الغريب أنّ عملا بهذه القيمة لم يتضمّن قائمة للمصادر والمراجع، والحال أنّ الكاتب في أمسّ الحاجة إليها لأنّه أوّلا اشتغل على مجموعات قصصيّة وجب تثبيتها في قائمة للمصادر واحتوى عمله على عديد الإحالات السائبة التي لا تُرجع إلاّ إلى صاحبها بدون إحالة إلى كتاب أو مصدر معيّن، هي إحالات غائمة وأسماء تلقى دون أن تُشَدّ إلى أرضيّة معرفيّة المفروض أن تتوفّر في عمل كهذا، أمثّل على ذلك بقوله، «وبما أنّ النثر في القصّة هو لغة استقصاء الواقع، كما يقول هيغل، فإنّ الحالم يمتلك –على العكس- نصف إحساس بالزمن ولا يعي وعيا كاملا ما يدور حوله في الواقع، ولذلك لا يجد الناقد مندوحة من القول بأنّ القصّة المكتوبة على هذه الشاكلة لا تعكس المعيش في الحياة العمانية إلاّ على نحو ضعيف وغير مؤكّد» (ص 31).
هذا كلام جميل ولكنّه يحوي رؤية غير ثابتة وغير واضحة، وتحلّق في التعميم الذي هو من أخطاء العقل، ثمّ إنّ علاقة الكاتب بالواقع تأخذ أشكالا عددا يعسر ضبطها أو تقعيدها، وبالرغم من إيماننا بالفكر الهيغلي إلاّ أنّه فكر لا تُبنى عليه التصوّرات النقديّة، ثمّ من أبجديات الكتابة العلمية أن يذكر لنا الناقد أين ورد كلام هيغل، في أي كتاب وفي أية صفحة، ويجري عليه ما يجري على عدد من الأسماء الفلسفية أساسا يأتي بها الناقد ولا يُوثّقها فيظل القارئ على عماه وعلى عدم يقينيته، انظر على سبيل المثال ذكره لابن عربي (143)، وهيدجر (143)، وكيركجارد، فكأنّها أسماء يُلقيها الكاتب لترهيب القارئ وإفزاعه.
وهذا ما يُخرجنا من الملاحظات الشكليّة إلى ملاحظات مضمونيّة أي في مضمون العمل، وإلى مسائل خلافية:
1- لقد ركّز الكاتب على منطلقات تأويليّة وعلى قراءات مضمونيّة أفضت به إلى أحكام أعتقد وهنا المسائل الخلافية، أنّها في جانب كبير في حاجة إلى نقاش، وذاك يعود إلى التصوّر النقدي الذي يصدر عنه، ولا أصدر عنه بالضرورة، يقول الكاتب في تحديد تصوّره النقدي «وذلك في ظني جانب من المهمّة الأخلاقيّة والتربوية للنقد، إلى جانب مهمّاته الأساسيّة ذات الطبيعة الجمالية والمعرفية. فنحن بحاجة دائما إلى البحث عن بنية النصّ وإجراء نوع من (التصفية النقدية) التي تزيح عن الساحة الثقافية ما هو دخيل عليها، ووضع ما يرتفع بنفسه عن ذلك في مكانه الصحيح، في ضوء ما يكشف عنه التحليل النقدي فيه من حمولة عاطفية وفكرية وفنية، وفي ضوء منهج نقدي هدفه الأوّل قول الحقيقة ورؤية النص مجردا من كل اعتبار غير ما يتكشّف عنه من حقائق جمالية ونفسية واجتماعية ضمنية أو ظاهرة» (ص16).
إنّ هذا الكلام ينمّ عن رؤية نقدية، لا تتلاءم وحقائق أبعاد النقد الأدبي الحديث ذلك أنّ النقد لا يهتمّ كثيرا بالمستويات الأخلاقية ولا التربويّة ولا يعتمد عليهما في دراسة الآثار الأدبية، ولذلك فليس من مهامّ الناقد أن يقوّم النصوص أخلاقيا كما أنّه لا يقوم بما أسماه ضياء خضير بالتصفية النقدية، والدخول في الحركة الإقصائية تحت مسمّى الرعاية المعرفية أو الرعاية الأخلاقية، لأنّ هذا الأمر يُعيدنا إلى نقد معياري تجاوزناه، ولنتذكّر أنّه بذات المعايير التذوقيّة أُقصي أبو تمام وأٌُقصي المتنبي من دائرة الشعر، لأنّ التاريخ هو القادر على استصفاء النصوص والحكم عليها ويتحوّل بذلك الناقد إلى دارس للظواهر التي يمكن أن تحقّق أجناسية الجنس أو باحث عن الجماليات الممكنة في النصّ عبر أدوات نقدية وجب تحقّقها. إنّ الأديب الحق يسبق عصره في أغلب الأحيان، ولذلك نجد أنّ أغلب الأدباء في تاريخ الأدب العربي القديم والحديث الذين أحدثوا في الأدب وجدّدوا قد رُفض أدبهم من قبل النقد الأخلاقي والنقد المعياري. وأخيرا فإنّ الناقد لا يقول الحقيقة ولا يدّعي النقد أنّه يُقدّم الحقيقة المطلقة، وإنّما هو تصوّر مخصوص، ورؤية من رؤى أخرى وزاوية نظر لا تقدّم الحقيقة وإنّما تضمن تحقّق بعض المناحي البنيوية والجمالية في نصّ ما، فالناقد هو قارئ من جملة القرّاء ولا يجب أن يتحوّل قارئا عاديا يُحكّم ذائقته الخاصّة ويعمل على فرضها، وإنّما وجب أن يُعلن أنه يقدّم وجهة نظر محكومة بضوابط منهجيّة. وهذا هو جوهر الفرق بين القارئ العادي وبين القارئ الناقد.
هذا المنطلق هو الذي أفضى بالناقد إلى السقوط في عدد من الأحكام التي تُضبط بشكل غائم وعائم، فخذ مثالا على ذلك قوله «والقصّة القصيرة بشكل خاصّ تقوم على إحساس بالمفارقة وشعور بالنقص ويولّد حاجة للبحث عن الكمال»، فالقصّة القصيرة لا تقوم على إحساس بالمفارقة ولا شعور بالنقص، إلاّ باعتبار أنّ كلّ الأدب هو رغبة في تحقيق الكمال، وتفريغ للشحنة النفسية، فلا خصوصيّة للقصة القصيرة في ذلك، وأنا أعلم أنّ القصّة القصيرة لا تتميّز بمضمونها ولا بأسباب تنشئتها وأصول تكوّنها وإنّما تتميّز بالشكل الذي تقوم عليه، وهي شكل أدبي قائم على متواليات حدثية تُقَدّم على هيئة من التكثيف السردي وذاك قوامها.
إضافة إلى أحكام تقويمية أختلف مع ضياء خضير في إعلانها داخل مصنّفه النقدي، هي أحكام قيمية تقويمية تنمّ عن انفعال إيجابي أو سلبي، ليس من الضروري وجودها في هذا المقام النقدي، فالناقد العلمي لا يُنصّب نفسه موزّعا لمراتب الريادة أو النقصان، الجودة أو الرداءة، لأنّ ما تستسيغه ذائقةٌ قد ترفضه أخرى، وما يقبله هذا الزمان قد يرفضه آخر، فالأدب الحقّ أوسع من أحكام النقد، وأنا أدّعي أني اطّلعت على أغلب الأعمال السردية لأصول السردية في النقد الحديث ولم ألحظ استخدام عبارات التقويم أو التفضيل، وإنّما هو تتبّع للخصال البنائية أو المضمونية وفقا لخطّة معلنة ونهج بيّن. إنّ الناقد العلمي ليس حَكَما ولا وصيّا ولا راعيا لحركة الأدب التي يتحكّم فيها الأدباء لا النقّاد، فجموح الأدب وانطلاقه أوسع من النقد وأشسع، للأديب فضاءٌ يعيشه وعالم يؤسّسه والحكم في إبقائه أو زواله راجع إلى حركة التاريخ. ومن هذه الأحكام التقويمية التي استعملها ضياء خضير في قلعته «القاصّ العماني الرائد» (ص 148)، «ذكاء التقنيات الفنية» (121)، «العمل السردي الناجح» (114)، «القصّ الضعيف» (113) ……
2- لقد وقع الكاتب أسير رؤى سابقة بها قرأ القصص، وهي رؤية على أهميتها لا يجب أن تسيطر على فضاء القراءة وأن تهيمن على التأويل باعتبار الفارق بين الإنسان وبين المؤلف وبين الراوي. وقد غلبت هذه القراءة أساسا على نصوص محمد العريمي وأحمد الزبيدي.
3- هنالك إجراء لجهاز نظري فلسفي في القراءات القصصيّة وذلك أمر محمود بواسطته أُثريت النصوص المدروسة وبانت بعض من أفضالها، ولكن باعتبار تميّز القصّة القصيرة أو أي جنس أدبي بخصائصها البنائية فكان من الملاحظ غياب الجهاز المفهومي السردي وأعلامِه، هذا الجهاز السردي الخاصّ بتكوّن الشخصيّة في الخطاب اللغوي وفي صلاتها المتحقّقة والممكنة والراوي وطرق توظيفه وأنماط استخدامه في القصص، وشعريّة الاختصار أو التكثيف السردي والتقاط الموقف وطرق التعبير عنه.
4- وتجدر الملاحظة أخيرا إلى تراكم مهمّ من الدراسات التي توجّهت إلى دراسة القصة العمانية ولم تظهر في هذا العمل، وسأقدّم ملاحظتي في شكل سؤال، هل هذه الأعمال لا تستحقّ أن تكون مرجعا تتضمّنه هذه الدراسة؟ خاصّة أنّ الدراسة النقدية وجب أن تستفيد من سابق الأعمال حتّى وإن لم تكن في مستوى النقد، على سبيل الإشارة إلى ما وقعت فيه من زلاّت أو ما انتبهت إليه من إيجابيات.
إنّ هذه الملاحظات هي محض وجهة نظر لا تُنقص من قيمة العمل شيئا، بل هي قراءة في قراءة نقدية لها أفضالها ولها عيوبها، ومن الضروري أن ننتبه لهذه العيوب حتّى لا تتداخل الأمور وحتّى نفصل بين أوجه النقد ومراتبه ووظائفه أيضا.
محمــــد زروق
ناقد واكاديمي من تونس يعمل بجامعة نزوى