يحاول هذا الملفّ الإضاءة على شخصية وأعمال صادق جلال العظم من خلال شهادات ودراسات لكتاب عرب عرفوه أستاذاً للفلسفة وكاتباً وناقداً للفكر السياسي والديني وما يرتبط بهما من وشائج.
إضافة إلى أن هذا الملف مناسبة مهمة لقراءة مثقف مؤثر وفاعل في الفكر العربي الحديث، فإن إزجاء العظم حقه يجعل منه مناسبة أيضا لممارسة ما درج عليه من نقد ومساءلة دائمة، وهو الذي جمع في كثير من من الأوراق المشاركة من الاحتفاء والتأريخ والتلخيص إلى التحليل والمراجعة وصولاً إلى القراءة النقدية لمشروعه، الذي هو مشروع عام انخرطت فيه أطياف واسعة من النخبة العربية التي كان هذا الخطّ تعبيراً عن أفكارها ورؤاها وتطلعاتها وآمالها… وكذلك خساراتها وتراجعاتها، الأمر الذي يجعل من نقد المشروع هذا، ضمن سياقاته الفكرية والسياسية والتاريخية، ضرورة ملحة.
من الذاتيّ إلى العام
تتفق جلّ الشهادات على مناقبية العظم والإنسجام بين سلوكياته الحياتية والعلمية، وهو أمر غالبا ما يكون مثار جدل في سير وحيوات المثقفين، عرباً وعالميين، فيما تمتدّ مناطق البحث الأخرى إلى الديناميّات التي حرّكها العظم بسلوكه وأعماله تلك والآفاق التي فتحها، وإلى مناقشة أفكاره النقدية في مجالات الفلسفة والدين والسياسة والأدب وغيرها.
تشير د. رجاء بن سلامة في مادتها المعنونة «لا يحنّ إلى خبز أمّه» إلى العلاقة بين الذاتيّ والعامّ لدى الكاتب من خلال كتابه عن «الحب والحبّ العذري» فتقول إنه «لم يهتم فحسب بالمادية التاريخية وبالقضايا المعرفية والمنهجية على نحو يقصي الذاتية»، وإنه «اهتمّ بالذات وجسدها وبالجسد ومعيشه النفسي»، وتتساءل بن سلامة: من أين استمدّ العظم هذه الأنفة الفكرية لتصل إلى هذا الاستنتاج المهم: «لم يفصل (العظم) الفكر عن الذاتية، ولم يفصل الذاتية عن وقائع الجسد، ولم يفصل ذاته المتحررة من الآباء والأمهات عن ذاته المتفلسفة، ولم يفصل فكره عن حياته».
كما تستعيد ليانة بدر علاقتها بالعظم من خلال فترة تلمذتها على يديه في الجامعة الأمريكية في بيروت بقولها إنه «كان متميزاً بالتعامل الديمقراطي مع الطلبة» وبذلك «أعاد تكوين بنيتنا النفسية والفكرية لكي نتحمّل المسؤولية»، وهكذا، تقول بدر، «صار بعضنا مداوماً في المخيمات متطوعاً ومناقشاً ومتعلماً لألف باء الثورة، ومساعداً في تصريف الحياة اليومية للاجئين».
وبحسب ليانة بدر فإن العظم كان «يجلس مرتدياً بنطلون الجينز مع الأولاد ليحاورهم ويتبادل النكات معهم، مخلفاً وراءه أصحاب البزات والياقات العالية»، وبأنه كان مثقفاً عضوياً «يشارك في ندوات المخيمات، وفي اجتماعات الكوادر»، وكان هذا التطابق بين تعامله اليوميّ مع الآخرين وأفكاره العامّة جزءاً من منهجية تعليمه للطلاب، وبحسب بدر فإن العظم علّمهم كطلاب «أن مجرد إطلاق الرأي هو عملية تغيير كاملة لنهج السلوك الحيادي والانتهازي والبعيد عن العمل».
من جامعة «يال» الأمريكية إلى دمشق المحافظة
وتستخدم غادة السمان، أسلوبها الروائي الشيّق، لتقديم صورة لبداية الستينيات وللبيئة التي عاد إليها صادق، مشيرة إلى الجوّ المحافظ الذي استقبل صادق الشاب العائد بشهادة دكتوراه من جامعة «يال» الأمريكية، بالشائعات عن حياته الخاصة وعن بيته البسيط المتواضع في حيّ المهاجرين، وهو ما يوفّر فرصة لقراءة هذا التصادم بين أفكار العظم الدارس على المناهج الأمريكية ليقدم أطروحة في فكر فيلسوف «النقد المحض» كانط، مع الجوّ المحافظ السائد في سوريا آنذاك، خصوصاً بعد انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي الذي استلم السلطة في دمشق عام 1963، وبذلك تصادم العظم مع مجتمع سلفيّ راكد يحكمه نظام بدأ بإرسال أسس دكتاتورية عسكرية، مما دفع به لاحقاً للرحيل للعمل في الجامعة الأمريكية في لبنان، الذي كان وقتها حاضنة كبيرة للأفكار الحديثة فكرياً وسياسياً.
يتلاقى قدرا العظم والسمّان عبر زواجها من بشير الداعوق الذي كان هو بدوره أستاذاً في الجامعة الأمريكية، وصاحباً لـ»دار الطليعة» التي احتضنت العظم، وزميلاً له في المحكمة التي حاكمتهما كناشر وكاتب لـ»نقد الفكر الديني».
تكمل مقالة بدر الدين عرودكي عن بدايات العظم تظهير صورة الكاتب حيث تعيدنا إلى شتاء عام 1963 ومشهد لقاء جمع من الشباب الجامعي الدمشقي للاستماع إلى شاب مجهول عاد من أمريكا حيث حصل على الدكتوراه في الفلسفة قبل شهور وسيقدم محاضرة بعنوان «مأساة إبليس»، وأهم ما يذكره عرودكي الذي نظّم هذه المحاضرة أن العظم لم يكن عدوانياً ولا مستفزاً و»لم يكن بوسع أحد أن يتهمه على سبيل المثال بالكفر أو بالإلحاد»، لأنه «جمع كل ما يمكن جمعه من الوثائق والمراجع» واعتمد «التحليل الذي يعتمد العقل وحده أداة».
يتابع صقر أبو فخر إضاءة مناطق لوّنها كل من السمّان وعرودكي وبدر بمشاهد من دمشق وبيروت، فيستعيد إطلالة العظم على الحياة الثقافية العربية من لبنان مع إصداره عام 1968 كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، ثم «نقد الفكر الديني» عام 1969، رابطاً جذر ثورية العظم بهزيمة حزيران/يونيو 1967 التي هزّت المثقفين العرب وأطلقت «موجة عاتية من النقد الراديكالي الجريء الذي طاول المجتمع والأحزاب والنظريات السياسية والنظم الحاكمة والدين والتاريخ والأدب والفنون»، كما يوضح النقلة التي حصلت بين النخبة الفكرية العربية من الاتجاهات القومية إلى الماركسية، والميل المتعاظم إلى «نقد السماء» كمقدمة «لنقد الأرض».
ويؤكد أبو فخر سمتي الجرأة والشجاعة في قول العظم ما يعتقد به أيّاً كان الثمن، سارداً كيف أدّى ذلك به، المرة بعد الأخرى، إلى التصادم مع المؤسسات القارّة، فامتنعت الجامعة الأمريكية عند تجديد عقده عام 1968 بعد نقده للسياسة الأمريكية، ونشره دراستيه عن «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» و»مأساة إبليس» وانتقاده مؤتمراً دعا إليه رئيس الجامعة شارل مالك.
ويعيد أبو فخر استنارة عقل العظم وسلوكه اليومي وعلاقاته بالناس إضافة الى نزوعه الى المعاصرة والتحرر الاجتماعي وحداثته الفكرية والمسلكية إلى جذوره العائلية، مشيراً بذلك إلى والده الكاتب جلال مؤيد العظم ووالدته نزيهة العظم التي كانت ترسم وتتكلم عدة لغات.
كما يستفيض حسين العودات في الحديث عن شخصية وسلوك العظم ويعزو جرأته وشجاعته إلى تمكنه من رأيه ووثوقه من مراجعه، مشيراً إلى أنه بقدر صلابته في النقد وفي الدفاع عن أفكاره بقدر ما هو ديمقراطي أثناء الحوار والنقاش، وهو ما انعكس على موقفه السياسي حيث كان، بحسب العودات، يردد دائماً: «أنا أدافع عن علمانية الدولة وديمقراطيتها واحترام حقوق الإنسان وأعتبرها المعركة الأهم على المستوى السياسي».
لا مثقف عاما من دون فضاء عام
فيما يبدو مناقشة لحدود صفات الجرأة والشجاعة والنقد الحرّ التي تميّز بها العظم في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حين تتواجه مع سلطات دكتاتورية، يشير ياسين الحاج صالح إلى مسألة خفوت صوت العظم لمدّة عقدين «فظيعين» في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، محيلاً ذلك إلى «تمام احتلال الفضاء العام من قبل الدولة الأسدية في سوريا ولبنان»، حيث «لا مثقف عاما دون فضاء عام»، ومع عودته الى العمل العامّ في مرحلة ما يسمى «ربيع دمشق»، يقارن الحاج صالح بين «أنوات» المثقفين السوريين الذين شاركوا في هذه المرحلة معتبراً ان استقلاليتهم ليست أصيلة ومنتجة وانهم «لا ينقصهم الاستعداد للتبعية» مقارنة بالعظم الذي «لم يحاول بناء قبيلة او استتباع كتاب وناشطين (…) مثلما فعل بعض مجايليه، متسببين بفساد عام وخاص غير قليل»، في إحالة جديدة إلى العلاقة الجدلية بين الشخصي والعام.
ويستفيض سكوت ليدل في بحث هذه المرحلة من حياة العظم فيتساءل معلقاً على مقابلة منشورة للعظم مع لؤي حسين تحدّث فيها عن سوريا «هل من المعقول من طرف صاحب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» و»نقد الفكر الديني» اللذين ينتقد فيهما مؤسسات الدولة والحكام العرب بشدة وحدّة أن يخفف انتقاداته إلى هذه النبرة الوديعة؟»، ويعزو ذلك إلى مأزق المثقف العربي الموجود تحت رقابة سلطة دكتاتورية ويواجه بذلك خيارين «إما أن يبقى في بلاده مما يجعله عاجزاً عن قول الحقيقة للسلطة بطريقة نافذة، أو يترك بلاده لكي يستطيع أن يتحدى السلطة بطريقة تطابق ضميره وقيمه».
اندلاع «الحوادث السورية»
ينبه كمال عبد اللطيف في مساهمته إلى نقطتين مهمتين: الأولى هي ضرورة التعامل مع نصوص العظم تاريخياً ضمن سياقاتها وأسئلتها، والثانية هي أن أفكار العظم وآفاقها تقدم تصوّرات جيل كامل لحظة تفكيره في كيفية تجاوز التأخر التاريخي وبناء ثقافة جديدة ومجتمع جديد، معتبراً أن أعماله شكلت امتداداً متقدماً لفكر النهضة العربية، وتوسيعاً لمساحة العقلانية في الفكر العربي، كما أنها افتتحت مشاريع نقد التراث الإسلامي.
يشدد حازم صاغية على أهمية ربط العظم نقد الثقافة بنقد السياسة، واصفاً إيّاه بـ»ناقد الثقافة والاستبداد»، مؤكّداً، مثل كثيرين من المشاركين في هذا الملفّ، على شجاعته في التأكيد على نقاط التقاطع بين الفكر الديني والأنظمة السياسية والمصالح الاقتصادية، معطياً أمثلة عديدة على شجاعة نقده الفكري والسياسي في مواضيع كاللاسامية، والدفاع عن سلمان رشدي، منبها الى أن ثقافية العظم كانت تقترب من السياسي تدريجياً ويمثّل على ذلك بموقفه من الثورة السورية من دون تقديم أي تنازل للخرافات.
ويعتبر عديّ الزعبي العظم ممثلاً للمثقف المواجه للسلطة، رابطاً ذلك بابتعاده عن المخاتلة والتورية إلى التصريح، واختياره مواضيع سياسية وأخلاقية آنية، وبعدم تشاغله عن دوره كمثقف عامّ كما فعل غيره من المثقفين بطرحهم قضايا كقتل الحلاج والسهروردي صامتين عن سلمان رشدي او نصر حامد أبو زيد، وانتقادهم السلطات الأموية والعباسية في الوقت الذي يمالئون فيه الحكام الحاليين. وينبّه الزعبي إلى أن العظم يدرس التراث بالعلاقة مع أشياء حيّة وقضايا ومشاكل يعيشها الناس في الحاضر، معتبراً أن «اللغة الغامضة والمخاتلة ملجأ للمترددين والخائفين، ولمثقفي ما بعد الحداثة وتهويماتهم الفارغة».
ورغم ما يشبه التوافق بين المساهمين في الملف في توصيفاتهم لكتابات العظم ومواقفه، لا يخلو الأمر من تأويلات مختلفة لبعض هذه المواقف والكتابات، ومن ذلك تقريظ حسين العودات وعديّ الزعبي وغالية قباني وياسين الحاج صالح لمواقف العظم من الاستبداد السياسي ومن الثورة السورية، وهو ما يختلف معه صقر أبو فخر الذي يعتبر أن خيارات العظم «تشقلبت» كثيراً مع ما يسميه «اندلاع الحوادث السورية»، غير أن الحاج صالح يشير إلى انفراد العظم عن المثقفين السوريين من جيله في تعبيره عن موقف واضح من كفاح السوريين منذ البداية، وفي الوقت نفسه لم يعمل كسياسي بل عمل «بأدوات الثقافة»، وبفعل مواقفه في هذه المرحلة الأخيرة، يشير الحاج صالح إلى أن العظم تعرّض للتأثيم والتسفيه، «بصورة تطابق تسفيهه من قبل إسلاميين بسبب مساهماته في نقد الفكر الديني والدفاع عن سلمان رشدي»، فوصف هذه المرّة بأنه «منظّر السنّة وإسلام البزنس».
وفيما يربط أبو فخر حداثة العظم وتحرره الاجتماعي بوالدته تحديداً كونها كانت ترسم وتتكلم الفرنسية علاوة على التركية والعربية وتدافع عن السفور، فإن رجاء بن سلامة تربط قول العظم في مقابلة معه إنه «لا يحنّ إلى خبز أمّه» مع كتابه «في الحب العذريّ» وترى أن العظم متحرر من الأم الحاضنة ومن الأب اللاأوديبي الذي يريد قتل الإبن وإخصاءه.
يؤكد فيصل دراج، بدوره، أن صفات صادق العظم أقصته كلّياً عن الثقافة المسيطرة وعن نسق تقليدي من المثقفين، بشكل يهمّش «الأستاذ الجامعي» فيه، ويوسّع «تمرّده الثقافي» توسيعاً غير مسبوق.
ويقول خلدون النبواني إن العظم يفرح باختلافه وتفرده عربياً، وأنه على عكس الكثير من الشخصيات العامة التي تهتمّ بهوس بتقديم صورة مثالية عن نفسها، ويعرض النبواني فكرة مهمة يعتبر فيها الحديث عن العظم حديثاً عن نفسه وعن جيله في حالة «أنا جماعية مسكونة أو متأثرة أو مصابة بتجربته وسيرته وحياته وأفكاره».
النقد ضرورة دائمة
يعتبر السيد ياسين العظم رائداً للنقد الذاتي العربيّ ويعود عودة معمقة إلى كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الذي يعيد الهزيمة العربية فيه إلى عوامل داخلية «تدخل في بنيان المجتمع العربي التقليدي»، وبالاستناد الى كاتب مصري يقدم العظم تحليلا لـ»الشخصية الفهلوية» وخصالها التي «تجعلنا عاجزين عن تقبل الحقيقة والواقع»، وهي تنزع للحماس المفاجئ والإقدام العنيف والاستهانة بالصعاب في أول الطريق ثم انطفاء وفتور الهمة عندما يتبين «الفهلوي» أن الأمر يستدعي المثابرة والجلد والعمل المنتظم».
في دراسته المعنونة «العقل والتاريخ في فكر صادق جلال العظم» يرى أن فكر المذكور «وليد التعارضات العميقة في البيئة السورية والعربية والعالمية ولا سيما التعارض بين التبعية والاستقلال، وبين التقليد والحداثة، وبين التيوقراطية والعلمانية، وبين الاستبداد والديمقراطية».
يوضح الجباعي عمل العظم على مفاهيم العقل والتاريخ ضارباً مثال اشتغال العظم على تواريخ الفلسفة الذي يكشف ميل المؤرخين الى فصل الفلسفة عن التعارضات الاجتماعية وفصل الفكر عن الواقع وهو ما يعتبره نتاج بنية اجتماعية وثقافية تناقضية.
أما حسام درويش فيعرض في دراسة طويلة «بعض محفزات النقد عند العظم» مبرزاً الصلة الوثيقة لممارسة النقد والتنظير له في فكر العظم بخلفيته أو نزعاته العلمية والتنويرية واليسارية الماركسية، مبرزاً ارتباط هذا كله بكانط الذي كتب العظم أطروحته للدكتوراه عنه، لكنه ينبه إلى الاختلافات الكبيرة بين مفهومي النقد عند العظم وكانط، فالنقد عند العظم «تفكير للعقل أو للذات المفكرة لا تفكر فيهما»، وعلى عكس كانط يؤكد العظم تاريخية العقل «المنافية لكل ما هو ميتافيزيقي أو قبليّ».
كما يبرز درويش علاقة العظم الوثيقة بالماركسية من وجهة أن «العناصر الكبرى الجامعة» في فكر ماركس يأتي في مقدمتها «النقد وأهمية ممارسته على الدوام وباستمرار» منبها الى ان هذه الصلة لا تعني ان نقده كان ماركسياً بشكل كامل، فالاختلافات بينهما كبيرة، فقد «تزاوجت ماركسية العظم مع ليبراليته، بطريقة أنجبت فكراً لا هو بالليبرالي الخاص ولا بالماركسي الخالص».
ويربط درويش وجود النقد عند العظم بالواقع العربي المأزوم، لكنه يشير إلى أن النقد، بحسب العظم، لا يرتبط بالأزمات فحسب فهو ضرورة «دائماً وباستمرار».
القراءة الغائيّة للتاريخ
ينبّه خلدون الشمعة إلى أن احتفاء العظم بعقلانية مطلقة العنان في قراءة التاريخ باعتباره سردية تقدم وارتقاء يثير قضايا خلافية، ويرى أن عقلانية العظم غائيّة في قراءتها للتاريخ متسائلا إن كان هناك حقاً عقلانية في قراءة التاريخ كحتمية تاريخية صانعة للتقدم.
ويشير الشمعة إلى استغرابه الشديد حين اكتشف أن كتاب «الاستشراق والاستشراق معكوساً» كان مصمماً لنسف فكرة كتاب ادوارد سعيد كلها، متجاهلاً في ذلك، وهو أستاذ الفلسفة، استخدام سعيد لمفاهيم ميشيل فوكو حول السلطة والمعرفة والخطاب.
ويقدم محمد الرحموني قراءة نقدية لكتاب العظم «النقد الذاتي بعد الهزيمة» مقارنا إيّاه بكتب النقد الذاتي السابقة عليه والتي صدرت خصوصاً بعد ما سمي «نكبة فلسطين»، ويشتغل على البرهنة على وقوع العظم في الأخطاء التي وقع فيها سابقوه، ومن ذلك التفكير أيديولوجيا حيث قدّم وعياً مانوياً زائفاً للعالم، تتمثل فيه الملائكة بالعالم الاشتراكي في حين يمثل المجتمع العربي التقليدي والمجتمع الغربي الرأسمالي عالم الشياطين، فعالم الاشتراكية هو عالم الكمال الذي يعرف معنى الصداقة والذي مارس النضال الشعبي المسلح على الوجه الأكمل والذي يدرك قيمة العلم والعلماء وكل ذلك حصل لأن «العالم الاشتراكي استطاع أن يتخلص نهائياً من بنيانه الاجتماعي والثقافي البالي».
يعتبر الرحموني حديث العظم عن اشتراكية علمية صالحة لكل مكان وزمان حديث «خرافة» وجداني، كما يشرح احتفال العظم بإنجازات إسرائيل في فلسطين بقصد عرضه أسباب انتصارها على العرب، واقعاً، بحسب الرحموني، ضحية الدعاية الصهيونية والغربية حول «المعجزة» اليهودية في فلسطين.
ولكل ذلك يعتبر الرحموني أن نص العظم كان في جزء كبير منه تكراراً لأدبيات الموجة الأولى وأنه ورث عن سابقيه الأخطاء نفسها التي «سيرثها لاحقوه من أعلام الموجة الثالثة والرابعة».
انكسار الدائرة
في مناوشات متواصلة، تقوم نجلاء حمادة بتوجيه الأسئلة النقدية المركزة إلى مناطق مختلفة من نصوص ومراحل العظم بدءاً من إعادة النظر المعلنة في بعض القناعات الماركسية من وقوفه مع حقوق الانسان باعتباره أولوية أكثر أهمية من الوقوف مع اليساريين، وكذلك تراجعه عن تفضيل الاستبداد على الفوضى، مقارنة موقفه المساند للثورة السورية بنقده لموقف أدونيس المساند للثورة الإيرانية، لتفتح قوس السؤال إن كان إلحاد أدونيس والعظم لم يكن عقيدة ثابتة تحكم المواقف والخيارات.
وتستمر حمادة في متابعة مواقف العظم من مفاهيم العنصرية والشرق والغرب ومعاركه مع الناصريين معتبرة إياه ماركسيا ينحو نحو البعد القومي، وهو ما يجعله، برأي الكاتبة، أكثر انسانية وتاريخية.
يفتتح بحث فالح عبد الجبار المعنون «العقلانية النقدية والدين: مساهمة صادق جلال العظم بعد نصف قرن» قراءة تحليلية شاملة لمشروع العظم، معتبراً نقده اعتمادا على منجزات الفلسفة والعلوم الحديثة واللسانيات والانثروبولوجيا، و»خصوصا سوسيولوجيا الدين»، كما يقول، مهمة حضارية جمعية.
يختار عبد الجبار كتاب «نقد الفكر الديني» ويباشر نقده من كونه «شاخت وشاخت اللغة معه»، فاحتفاؤه بما سمّته الحركات الماركسية عموماً «حركات الطليعة الاشتراكية العربية» تكشفت عن إرساء استبداد سياسي ونهب اقتصادي، و(هذه من أهم النقاط التي يثيرها عبد الجبار لأنها تكاد تفسّر اللحظة العربية الحالية بأكبر تركيز ممكن) «إحياء براجماتياً لكل اللاعقلانية في الموروث الديني والاجتماعي، من عبادة الزعيم إلى ظهور الرئيس المؤمن»، متسائلا إن كان نزع الكولونيالية أذهل النخبة العربية، وصادق العظم في قلبها، عن المخاطر: «تقويض البنى البرلمانية الدستورية وحكم القانون، المرافقة لطبيعة القوى التي قامت بهذا النزع: العسكر (في أغلب البلدان العربية) والإكليروس (في إيران)».
يوجه عبد الجبار نقداً آخر للعظم على تأخره في الالتحاق بالنقد الجديد للدين من منظورات سوسيولوجية سياسية، الذي بدأ بالتبلور في التسعينات (والحقيقة أن ملامح من هذا النقد كانت حاضرة في اللغة العربية مع كتب مترجمة مثل «الثورة المغدورة» لفرانز فانون، قبل التسعينات بكثير).
ويكشف عبد الجبار تناقضات أخرى في محاكمات العظم ترتبط مجدداً بجدل الدين والسياسة معتبراً أن الكيان المركب المعقد للدين يربأ بأي اختزال و«يطالب بمقاربة مركبة معقدة»، مستنتجاً في نهاية بحثه أن الماركسية بصيغتها السوفيتية تهاوت وانزوت ومذاهب ما بعد الحداثة ترسخ حالة اللايقين، و«حتى الليبرالية المنتشية بظفر نهاية التاريخ» تتهاوى تحت وقع تشاؤمية «صراع الحضارات»، خاتماً أن تبلور خيارات عقلانية يحتاج زوال «غبش اللايقين».
والنتيجة أن أوراق الملفّ عموماً تندفع في أنحاء كثيرة منها، ربّما بتأثير من نقدية وجذرية وسجالية العظم، إلى مساءلة مشروعه النقدي بصفتها المعنى الأعمق للاحتفاء بهذا الكاتب، وبقدر ما تحاول الإضاءة على تجربته ونصوصه فإنها تفتح الدائرة المغلقة أكثر فأكثر نحو أسئلة أعمق وأعقد، على النخبة العربية أن تتعب كثيرا للوصول إلى إجابات عليها، وإلا فإننا سنظل ندور في حلقة مفرغة من العطالة والتهشيم الذاتي.
—————————————
حسام الدين محمد