لم يكن بيت الخوجة أم سناء بالواسع ليحتوي أطفالا كثرا، لكنها مع ذلك، حولته الى مركز يستقبل أطفال الحي، فهؤلاء الداخلون نحو عطلة مدرسية تمتد ثلاثة شهور، إذ لم تكن مدارس الأطفال الصيفية في الستينات، توافق على وصول سياراتها إلى منطقة التل المرتفع، في أحد أحياء مدينة حلب التي توسعت خارج المدينة القديمة. خمس ليرات على الرأس. هذا ما كان الأهل يدفعونه كل خميس، مقابل أن تضب أم سناء صغارهم في بيت عربي مكون من غرفتين واسعتين، وغرفة صغيرة لها "اطاقة " بالكاد تسرب بعض الضوء، وشيئا من الهواء.وأصغر الغرف في الأساس هي مكان لحفظ المؤونة، يكدس فيها أهل البيت ما يدحرونه للشتاء من مواد غذائية. في الصيف، كانت الغرفة تتحول إلى مأوى لما لا يقل عن عشرة أجساد نحيلة، ينحشر فيها الصغار لحظة التهام الشمس لمساحة صحن الدار المفتوحة على السماء. في أحد تلك الأصياف، قررت أمي بناء على نصيحة من جدتي، أن تلحقنا نحن أطفالها الثلاثة ببيت الخوجة، كي تريح العائلة من ضجيجنا. حزنت ورفضت قرارا يشملني مع الصغار المشاغبين، بينما أنا في الحقيقة طفلة هادئة لا تشكل إزعاجا للكبار. لم ينفع الاعتراض أمام قناعة أمي من أن وجودي مع أخي وأختي، ضروري للاعتناء بهما، بصفتي بكرها العاقلة ! هكذا قضينا الصيف في تلك السنة، ونحن مجرد زائرين للمدينة التي هاجر منها والداي قبل سنوات قليلة، باتجاه الخليج. كان لدى أم سناء عدة متكاملة لضبط رواد يومها: جسم ممتلئ بعظام قوية، وعصا رفيعة تسند بها "بصريا" تهديداتها. أما الأكثر إزعاجا من هذه وتلك، فصوت حاد لاسع، يلون زعيقها بمفردات لن تعدم إضافتها إلى قاموسها الشتائمي الصيفي، كلما استضافت جيلا جديدا عبر الأعوام التالية. كنا نغادر البيت جرا، صباحا، وجوهنا منقبضة، ونحن نتأبط بعض كتب القراءة والحساب، فهذه وصية الأهل: أن تهيئ ابنتا الخوجة أولادهم للعام الدراسي المقبل. كانت تلك على الأكثر مسؤولية رجاء، الابنة الصغري، ورجاء كانت ذات ملامح منسوخة عن أمها، وجه عريض وبشرة بيضاء ينتشر فوقها النمش، أما شعرها فهو مجعد كستنائي اللون، تتميز به عن أمها ذات الشعر المصبوغ بالحناء السوداء الغامقة جدا لتخفي من خلالها الشيب المشتعل في رأسها. تستهل رجاء القراءة بفم كبير وشفاه عريضة، وحين تبدأ التعليق والتأنيب، ينكشف صوتها الذي يوهمنا أحيانا انه صوت الخوجة. وعلى الرغم من ملاحقات رجاء المكثفة، متشبهة بمعلمة مدرسة، كنا نقرأ قليلا، ونلهو أكثر مع مراهقة تكبرنا ببضع سنوات فقط، تياهة بسلطتها علينا، وكأن بعض هيبتها استمدتها من ذلك الشبه مع الخوجة. إلا أن سناء، الابنة الكبيرة المنشغلة في أعمال البيت، هي التي كنا نتابعها بأعيننا، فهي الأجمل، نحيلة، وذات شعر أشقر محمر، تروح وتجئ طوال اليوم، بخفة قطتهم "شامة". تدخل إلى غرفة الضيوف فتضع شريطا غنائيا كبيرا في المسجل، أو تحرك مؤشر الراديو على محطة تبث الأغاني. لكن الخوجة ما كانت لتتركها لنشاطاتها تلك، وسرعان ما كانت تكرر نداءاتها الغاضبة طالبة منها أن تخرس أصوات المغنين. ينخفض الصوت مؤقتا ويعاود الارتفاع في سهوة الأم، كي تتمكن سناء من سماع أغانيها المفضلة وهي تنجز أشغالها في المطبخ، بعيدا عن أجهزتها الموسيقية العزيزة. في أوقات أخرى كان صوت الخوجة يعلو، ليلط جسد الشابة التي ترتدي ثوبا خفيفا هفهافا، لونه على الأغلب من اشتقاقات الأحمر الفاقع، صوت ينبهها بحدة الى وجود أطفال ذكور "يفهمون كل شيء"..
تؤكد الأم، فترد سناء بنزق وهي تنفض صدر الثوب بيدها "شوب يامو شوب".. وتكمل حركتها التي قد تحط بها أحيانا بين الصغار، لتسمع درسا لأحدهم، أو تخترع لعبة جماعية تثير الابتهاج في المكان الضيق. تنهر أو تبتسم، فيلمع السن الذهبي في فمها كأنه خصلة من شعرها.
في بعض الأوقات تنشغل عنا البنتان، ويتجهم النهار الطويل الذي يبدأ في التاسعة صباحا وينتهي مع أذان العصر، نهار يمر ببطء، حتى مع محاولة أم سناء إشغالنا بشؤونها البيتية حين تجمعنا حولها، مفترشة طرفا من الحوش الذي يتوسط حجرات البيت، وتوزع علينا ما يمكن أن تسهم به الأيدي الصغيرة من إنتاج، كأن نساعدها في قطف أوراق الملوخية والنعناع.
في لحظات الاستراحة، تحمل الخوجة من خزانة غرفتها أواني زجاجية تشف عن سكاكر ملونة و"دقة قضامة"، المكونة أساسا من طحين الحمص وملح الليمون، أو تنتصب فيها مصاصات حمراء وسوداء بطعم نبات العرقسوس. تصف الأواني المغرية أمامها، وهي جالسة على فرشة خفيفة، فوق أرضية الدار المبلطة ببلاط ذي فقشات صغيرة بنية. تفتح أغطية الأواني، فيسيل اللعاب ويهجم الأطفال هجوم الذباب، تزعق، فيرتدون قليلا، تستفسر عن الطلبات التي كانت تبدأ من نصف فرنك، ثم تضع ما يحتاج إلى لف في ورق مستعمل من دفاتر رجاء المدرسية. تسلم، وتستلم مقابل ذلك فرنكات قليلة حملها الصغار كمصروف يومي، دون أن تنسى إرشاداتها التي تحذر روادها الصغار من توسيخ المكان.
نادرا ما كانت أم سناء تترك الدار، لكنها في بعض الأيام تغيب بعض الوقت وتعود محملة بأكياس نايلون كبيرة، تجلبها من معمل لقمصان النوم يخص أحد معارفها، تجلسنا حولها، وتطلب منا ربط قصاصات قماش البرلون الملونة الرفيعة بعضها ببعض. ثم تقوم هي بلف حبل القصاصات على شكل كبكوب، لتحيك منه بصنارة الحياكة سجادا صغيرا متموج الألوان يصلح للمد في الصيف. بعد ذلك تحملنا بعض نتاجها إلى بيوتنا، كي نعرضه على الأهالي. "من يشتري فليحضر المبلغ معه غدا".. تذيل طلبها بهذا التأكيد، مختتمة توصيتها بجملة تدمدم بها كأنها تتحدث إلى نفسها: "أنا أرملة ومسؤولة عن تنتين صبايا".. وفي الغالب، كانت محاولاتها الترويجية تنجح، وتقبل على مضض بالمبلغ الذي قرره المشترون انشغالات متفرقة والوقت يمضي ببطء، كأن امهاتنا متحكمات بمضيه كي يستثمرن أقصى ما يمكن من زمنه، بعيدا عن حضورنا غير المرغوب به في ثنيات اشغال النهار.
أما داخل معتقلنا اليومي، فوحدها مضيفتنا تجيد استغلال وجودنا، من ذلك، الإفادة من أخبار الحي، مستدرجة ألسنا صغيرة على الانطلاق والبوح بخصوصيات عائلية. "كيف كانت زيارتكم أمس ؟". فاجأتني مرة بالسؤال، وكانت أمي قد طلبت منها في اليوم السابق أن نعود مبكرا، كي نصحبها في زيارة لبعض الأقارب. أربكني سؤال الخوجة، وغمغمت بأننا استمتعنا بالزيارة، راحت تسأل عن حضور السهرة، فأجيب ببطء شديد، كأنما لأمنح ذهني فرصة المراوغة من حصارها.
"خالك كان موجودا؟".. بقت البحصة وافصحت عن فضولها. هززت رأسي بالنفي. تلافيت نظراتها كيلا تفضحني عيناي، مدعية الانهماك بربط قصاصات البرلون. "صغيرة الجن والله بتتوصى ويتحفظي سر. كم عمرك الآن ؟". رفعت وجهي ببطء.."ستة". خرج الصوت مبحوحا، يشي بتورط صاحبته بنقاش خطر. ستة ؟.. "واعية وأكبر من عمرك يا صغيرة الجن !". ردت بنبرة من لم يشبع فضوله، بينما كنت أنا لحظتها أتحصن بحذري، وبتوصيات مشددة حول خطورة إعطاء أية تفاصيل عن القريب المختفي بعيدا عن العيون.
"لو يحط عقله برأسه ويبطل سوسة السياسة "..
كشف فمها الواسع عن سن مذهب، ليس له بهجة بريق سن ابنتها الجميلة. ثم نظرت باتجاه ابنتيها متحسرة "ضروري أهله ينصحونه يلتفت لمستقبله.. شاب مثل الوردة مضيع حاله بالسياسة".
لحظة الإنعتاق والفرج كانت معلقة بأذان العصر، نقيس اقترابه بمحاذاة الظل لنقطة معينة في أرض الحوش. كلنا كنا ننتظر انطلاقته، بما فينا الخوجة التي يفضحها صوتها بين حين وآخر، "ما أذن لهلا؟". صوت مؤذن العصر، كان ينطلق كأحلى أصوات النهار، أتتبع ميقاته مسبقا فوق الروزنامة الورقية المعلقة على الحائط في غرفة جدي، أحدق بالورق الأبيض المقطع بحسب الأيام، أقلبه بحثا عن دقيقة فائضة يتقدم فيها أذان العصر عن اليوم السابق. مع انحسار ساعات اليوم الصيفي البطئ. يتسلل الأذان المنغم من مآذن كثيرة، بعيدة وقريبة، لكننا نعتمد على أولها كمؤشر لنهاية اليوم، ويكاد يخيل لبعضنا أصداء ترنيمات منه، ليتكشف الصدى عن مصدر آخر غير الأذان. تنطلق أصوات المؤذنين فتخترق عرقا تفصد في حمأة الظهيرة، مجددة النشاط بعد خمول الضجر. معها، يتحرك مشهد الختام اليومي بارتباكة السيقان الصغيرة وهي تبحث عن
أحذيتها في أرضية الدار، تلك المصفوفة بمحاذاة درجات قليلة تقود الى الباب الخارجي، حيث تتدافع الأجساد نحو باب ثقيل يئن عند فتحه. عندما يؤذن للعصر، نلهف بروح الاسرى المحررين للوصول الى البيت، هناك، يتلقفنا تعليق مندهش: "مضى النهار بسرعة !". دائما كانت الأسباب متوافرة في النهارات لغضب خرجتنا، فان علت ضحكات متواصلة غير مفهومة لها، تخرسنا بصوتها، أو حاول طفل التملص من مساحة البيت المحدودة، ومدها نحوا لدرج المؤدي للسطح، تصيح بولولة: "انزلوا يا قرود".. عندها تهب إحدى البنتين باتجاه السطح لردع المتمرد. يرتبك البيت عندها فزعا من احتمال الحاق الضرر بالخضراوات الصيفية المفتوحة على أرضية السطح للتجفيف: باذنجان مملح، بامية، رب البندورة، فستق، ملوخية، مربى المشمش، بل خارطة ألوان تتغير تفاصيلها طوال الصيف على اسطح بيوت أهل المدينة، بحسب موسم نزول الخضراوات وهبوط اسعارها. كان مسعود أكثر الرواد الصغار إثارة لحمم صاحبة البيت، خصوصا انه لم يكن يكف عن إزعاج القطة "شامة " أو الأطفال الآخرين، بيده ولسانه معا. وعندما وصل شره حد تخويفنا من الأشباح، قائلا انهم يتسللون كل مساء الى غرفتنا الصغيرة، غرفة المؤونة، ترجم طفلان حالة الرعب لديهما بالتبول. كنا غفونا قليلا بعد أن التهمنا ما معنا من روادة الغداء، واصطفت أجسادنا مثل أسماك السردين جنبا الى جنب. زاد التصاق الأجساد في تلك الظهيرة، بعد روايات مؤكدة وواثقة من مسعود عن مخلوقاته الغريبة. "أشباح وعفاريت قد تنتقم منا في أية لحظة، لاننا نحتل مكانها الخاص، هذا الذي ترتاده ليلا بعد أن تغفو العيون". قالها وغفا وهو قرير العين في قيلولته كأي شرير من عالم البالغين، بعد أن جعل أعيننا تتجمد على فتحة الطاقة، أو النافذة الصغيرة. "اشباح يا جني!". زعقت أم سناء وهي تلطه على رجليه بعصاها بعد أن اكتشفت تبول الطفلين "ليش، انت تركت شي للجن ؟".. كانت تؤنبه وتضربه في الوقت نفسه، وهي من المرات النادرة التي تحول بها الخوجة العصا من التهديد إلى التنفيذ العملي، غير متوقفة عند استرحام مسعود "والله بطلت".. توقف ذراعها عن الضرب، إلا أنها أصرت أن تجعله يغادر مطرودا حتى قبل ان يؤذن العصر. "هيك سعدان ما بحويه عندي ولو عطوني عليه عشر ليرات ".. بانت اندفاعة أسنانها وبدا فمها أشبه بمفتاح المعلبات، وهي تلهث غضبا. لم تتحمل أنه تسبب في نجاسة المكان بالبول، المكان الذي سيتحول الى مستودع للمؤونة بعد أسابيع قليلة، عندما يطل الخريف ويتسرب معظمنا إلى أماكننا التي وفدنا منها. ودعنا مسعود بنظرات هي خليط من التشفي والحزن معا، فهو مهما ارتكب من تحرشات، كان يسلينا ويدفعنا للضحك.. وبعضنا خلط نظراته بالحسد، فقد تخلص رفيقنا، ولو مطرودا، من هذا الضجر اليومي الذي يسمى بيت الخوجة.
رجع مسعود بسرعة، ولم نكن صحونا بعد على خضة الحدث. أعلن بصوت فزع عن وجود شرطة "دبيخوفوا " خارج باب البيت !. نزعت أم سناء فردة الخف، وكادت ترميه بها من باب غرفتها، لكن إجهاشه بالبكاء هذه المرة وجموده في محله، أوحى باحتمال صدقه. فزت رجاء التي كانت تجلس على عتبة الغرفة، وهرعت باتجاه الباب الخارجي لتعود بالخبر اليقين."عسكر.،. عسكر يا أمي".. سرب لنا صوتها فزعا لا ندرك ماهيته. لكن طالما أن الأم وجمت، وسناء خرجت من مكمنها بعد أن أوقفت شريط فايزة أحمد، لتستطلع سبب الارتباك، فهمنا أن الأمر الآن ليس مزحة شبيهة بمقالب مسعود.
تسللت الأم والبنتان، بعد أن غطين رؤوسهن، الى درج السطح، لم يتجاوزن الدرجة الأخيرة، ومنها رحن يتلصصن على مشهد الشارع، وبدا ان ما شاهدنه يثير فزعا أكبر من حدود الخبر الأول.
جمعتنا الخوجة في حجرة الضيوف، وكنا نادرا ما نتخطى عتبتها، كأننا هناك أكثر أمانا. فعلت ذلك بعد ان مدت سجادة صيفية على الأرض كي نجلس عليها، اذ لم تكن لتسمح لنا بالاقتراب من مقاعد تبدو قديمة وفاخرة، حتى في ظرف كهذا يمور بالرعب، فتحت سناء جهاز الراديو الكبير، فتسلل صوت موسيقى وصفتها سناء بأنها عسكرية، "اذاعة لندن".. حثتها الأم بصوت متلهف كي تغير مؤشر الراديو. وعند المحطة المطلوبة صدر صوت رصين حازن. وتحدث المذيع باللغة العربية عن انقلاب عسكري."انقلاب!". شهقت البنتان، فاحتدت الأم بسبب علو صوتيهما. انقلاب. لم تكن المفردة قد دخلت قاموسنا اللغوي بعد، وكان علينا ان نكتفي بمتابعة تخمينات وتكهنات تتبادلها النساء الثلاث، لنعرف ان دلالات الكلمة أخطر مما تتصوره أذهان صغيرة، لم يتعد عمر أكبرها السنوات التسع، وأكبرنا هو مسعود، الذي تخلى عن تعليقاته المشاغبة وقبع يتابع الأحداث بصمت وخوف.
انطلق أذان العصر، فلم تسرع الأقدام الصغيرة نحو باب الحرية، تساءلت البنتان كيف سيعود الصغار الى بيوتهم ؟ فردت الأم أننا باقون لحين حضور أهلنا. "هم أمانة في عنقي". اشارت ناحيتنا بنبرة صوت حانية لم نتعودها منها. ومع تحرك مؤشر الراديو بين المحطات، راح يتردد بين آن وآخر البيان الأول بصوت صارم.
"الله يلعن أبو السياسة.." قالت أم سناء بصوت غاضب وخفيض، فزاغت عيناي بسرعة باتجاه آخر، وشعرت بملمس الأرض باردا تحتي، كأن السجادة الصيفية لا تفصله عني. لقد قرنت الخوجة قريبي مرة بالسياسة، فهل هو مذنب الآن ؟ وهل أنا وأخوتي أيضا مذنبون بسببه ؟.. تداخل ثقل أصوات البث الاذاعي مع خوفي، وبدأت أتحاشى النظر الى أي واحدة من نساء البيت – في الأيام التالية عرفت أن خالي بقى ملاحقا-.
مضى وقت قبل أن يطرق أحد الباب، ثم جاء شاب صغير ليصطحب شقيقيه، أدخلته الخوجة، على غير عادتها في الأيام العادية، بعد أن غطت رأسها وأمرت ابنتيها بالشيء نفسه، بدا مرتبكا من العسكر الذين سيطروا على الطريق، وقال إن منع التجول سيبدأ بعد قليل. رجته أم سناء أن يصحب معه من هم على دربه، وكنا نحن من نصيبه. خرجنا مسكونين بالفزع إلى الطريق الذي سيبقى زمنا، مكانا لقيود لم نتعود عليها من قبل، رافقنا صوتها "في أمان الله". وبقيت واقفة تطل من فتحة الباب وقد لفعت رأسها بغطاء الصلاة الأبيض، ممسكة به عند الرقبة كيلا ينفلت، أدرت رأسي إلى الخلف استمد من وجهها التشجيع، خمنت أنها كانت تقرأ سورة قرانية لأنها نفخت فمها
محركة رأسها باتجاهنا. "يا لله تحركوا بسرعة ".. صاح جندي وهو يومئ ببندقيته الغريبة، يحثنا على المضي بسرعة، تعثرت قدم الصغير وسقط على الأرض، إلا أن الجندي ظل ينظر باتجاهنا بصرامة زاد من حدتها ارتداؤه خوذة معدنية. كان الوقت عصر نهار صيفي حار، والفرصة مناسبة لمغادرة أطفال ضجرين بيت الخوجة، للمرة الأخيرة، لكنه كان أيضا يوما حافلا بالأشباح والعسكر، لم يمنحنا خلاله صوت المؤذن الشعور بالفرج والانطلاق. عصر ذلك اليوم لم تدفع أقدامنا الصغيرة باب البيت الحديدي بقوة. كان الباب الحديدي ذو الحبوب النافرة ساخنا دفعناه بأيدينا، بهدوء، وبصوت خفيض، ولم يندهش أحد من الكبار من مضي الوقت عندما دخلنا، لقد تغير إيقاع البلاد من حينها.
غالية قباني (كاتبة من سوريا تقيم في لندن)