تخلت أمي عن معاركها في فترة متأخرة، من دون حزن. عملت لأول مرة في سن الرابعة والثلاثين كخادمة في البداية، ثم بعد ذلك عاملة في المصانع، عملت في المصنوعات وعملت في المطاعم. في السابق، في تلك الحياة التي فقدتها، كانت البنت الكبرى لأبيها الحاكم. لم تكن تفعل شيئا سوى فض النزاعات بين رئيس الطهاة الفرنسي ورئيس الطهاة الفيتنامي في المحكمة العائلية. أو كانت تقوم بالحكم على الغراميات السرية بين الخادمات والخدم. أو تقضي فترات بعد الظهر في التجمل، في ارتداء ملابسها كي ترافق أبي إلى حفلات المجتمع.
بفضل حياة البذخ التي عاشتها، كان مسموحا لها بكل الأحلام، خاصة تلك التي كانت تحلمها لأجلنا. جهزت لنا، إخوتي وأنا، كي نصبح في نفس الوقت موسيقيين وعلماء، سياسيين، رياضيين، فنانين ونتقن العديد من اللغات.
لكن ولأن الدم استمر في التدفق واستمرت القنابل في السقوط من بعيد، علمتنا أن نركع مثل الخدم. كل يوم، كانت تجبرني على غسل أربع قطع من بلاط الأرضية وعلى تنظيف عشرين فاصولياء بأن أنزع جذورها واحدة تلو الأخرى. كانت تهيؤنا للسقوط. كانت على صواب، لأنه سرعان ما لم نعد نملك أرضية تحت أقدامنا.
***
خلال ليالينا الأولى كلاجئين في ماليزيا، كنا ننام مباشرة على الأرض الحمراء، غير المبلطة. أنشأ الهلال الأحمر مخيمات لللاجئين في البلدان المجاورة للفيتنام كي يستقبل الـ»boat people» (ناس القوارب) أولئك الذين نجوا من رحلة البحر. الآخرون، الذين غرقوا خلال رحلة العبور، لم يكن لديهم أسماء. ماتوا مجهولين. نحن ننتمي إلى أولئك المحظوظين الذين حصلوا على فرصة السقوط على أرض صلبة. لذلك شعرنا بأننا مباركون لكوننا ضمن ألفي لاجئ ذلك المخيم الذي لم يكن يتوجب عليه أن يستقبل سوى مائتين.
***
أنشأنا كوخاً على ركيزة في ركنٍ خلف المخيم، يقع على منحدر تل. طيلة أسابيع، كنا خمسة وعشرين شخصا من خمس عائلات، نقطع معاً في الخفاء بضع أشجار من الغابة المجاورة، ثم نغرسها في التربة الرخوة للأرض المنزلقة. كما ثبتنا ستة أعمدة من الخشب «الرقائقي» لنصنع منها أرضية كبيرة وغطينا هيكل الكوخ بقماش لونه أزرق مثل زرقة الكهرباء، أزرق مثل زرقة البلاستيك، مثل زرقة لعبة. كنا محظوظين ووجدنا ما يكفي من أكياس الأرز المصنوعة من قماش القُنب ومن النايلون كي نحيط بها الجهات الأربع لكوخنا، بالاضافة للجهات الثلاث للحمّام المُشترك. معاً كانت هاتان المنشأتان تشبهان نصباً في متحف لفنان معاصر. في الليل ولفرط نومنا ملتصقين ببعضنا البعض لم نكن نشعر أبدا بالبرد، حتى من دون غطاء. وفي النهار كانت الحرارة المُمتصة من القماش الأزرق تُحول هواء الكوخ إلى هواء خانق. وفي أيام وليالي المطر، كان القماش يسمح للماء بالانسياب عبر الثُقُب التي انثقبت بالأوراق والأغصان والجذوع التي أضفناها للكوخ في الصيف كي تقوم بتبريدنا.
لو حضر مصمم رقص ذات يوم أو ليلة ممطرة تحت هذا القماش، كان بكل تأكيد أعاد نسخ هذا المشهد: خمسة وعشرون شخصاً واقفين، صغاراَ وكباراً، يحملون بكل يد من أياديهم عُلب أكل محفوظ لاستقبال الماء المتدفق من القماش، الماء الذي كان يتدفق أحيانا فيضانات وأحيانا أخرى قطرة قطرة. لو وجد موسيقيّ نفسه هناك، كان سيستمع للألحان الموسيقية لأوركسترا كل تلك المياه التي تضرب قاع علب الأكل المحفوظ. لو تواجد سينمائيّ هناك، لكان التقط جمال ذلك التواطؤ لكن لم يكن هناك سوانا، واقفين على هذه الأرضية التي تنغرس بلطف في الطين. بعد ثلاثة أشهر، لفرط ما كان الكوخ مائلاً من إحدى الجهات، اضطر كل واحد منا أن يُغير مكانه كي نمنع الأطفال والنساء من الانزلاق خلال نومهم باتجاه البطن السمينة لجارهم.
***
رغم كل تلك الليالي التي كانت تسيل فيها أحلامنا مع انحدار الأرضية، واصلت أمي طموحها بمستقبل لنا. وقد وجدت لها شريكا متواطئا. كانا شابا وبكل تأكيد كان ساذجاً بما أنه كان يتجرأ على إظهار الفرح والوقاحة وسط الفراغ الروتيني لأيامنا. معا، أسسا هو وأمي صفاً للانجليزية. كنا نقضي معه صباحات كاملة، نكرر خلالها كلمات من دون أن نفهمها. لكننا كنا كلنا في الموعد، لأنه كان ينجح في رفع السماء كي يسمح لنا برؤية أفق جديد، بعيدا عن الحفر العطنة الممتلئة بالمخلفات البشرية المتراكمة من قبل الألفي شخص المقيمين في المخيم. من دون وجهه، لم نكن لنستطيع أن نتخيل أفقاً خالياً من الروائح المثيرة للغثيان، أفقا خالياً من الذباب والدود. من دون وجهه، لم نكن لنستطيع تخيل أننا ذات يوم لن نأكل المزيد من السمك المتعفن، الذي يتم القاؤه على الأرض عند نهاية كل ظهيرة ساعة توزيع المواد الغذائية. من دون وجهه، لكنا فقدنا بكل تأكيد الرغبة في رفع أيدينا للحاق بأحلامنا.
***
للأسف، من كل هذه الصباحات مع أستاذ الانجليزية غير المتوقع هذا، لم أحفظ إلا جملة واحدة : «My boat number is KGO338» . وتبين أن هذه الجملة من دون فائدة تماماً بما أنني لم أجد أبدا الفرصة لاستعمالها، حتى خلال الفحص الطبي للمُفوضية الكندية. لم يوجه لي الطبيب في المركز الكلام . سحب المطاط الخاص بسروالي ليحدد جنسي بدلا أن يسألني عنه. لم يقل boy or girl? . كنت أعرف أيضا هاتين الكلمتين. أتصور بأن المظهر الجسماني لصبي أو لبنت في سن العشر سنوات كان متشابها بصفة كبيرة، بسبب نحولنا. ثم إن الوقت، كان مضغوطاً: كنا كثيرين من الجهة الأخرى للباب. وكان الطقس ساخنا جدا في تلك القاعة الصغيرة الخاصة بالفحص بنوافذها المُشرعة على ممشى صاخب حيث كان هناك مئات البشر يؤرجحون ولاءهم الخاصة بمياه المضخة.
كنا مغطين بطبقات من الجرب والقمل وكنا كلنا نمتلك وجوه الناس اليائسين والضائعين.
على كل حال، كنت أتكلم قليلاً، وأحيانا لا أتكلم مُطلقاً.على امتداد طفولتي بأكملها، لطالما تكلمت ابنة خالي «ساوُ ماي» بدلاً عني لأنني كنت ظلها: نفس السن، نفس الفصل، نفس الجنس، لكن وجهها كان من ناحية الضوء بينما كان وجهي من ناحية العتمة، من ناحية الظل، من ناحية الصمت.
***
كانت أمي تريدني أن أتكلم، كانت تريدني أن أتعلم التحدث بالفرنسية في أسرع وقت ممكن، والانجليزية أيضا، بما أن لغتي الأم لم تصبح تافهة وإنما أصبحت من دون فائدة. منذ سنتي الثانية في الكيبيك، أرسلتني والدتي إلى معسكر للصغار الناطقين بالانجليزية. هذه طريقة لتعلم الانجليزية مجانا، قالت لي. لكنها كانت مخطئة، لم يكن هذا مجانا. لقد دفعت الثمن غاليا. كانوا أربعين طالبا ضخاما وفائرين وعلى الأخص، مراهقين. كانوا يأخذون أنفسهم على محمل الجد، مدققين بحرص في طية ياقة، وفي زاوية «بيرية» (قبعة فرنسية)، وفي لمعان حذاء شتوي. الكبار يصرخون على الأصغر منهم. وكانوا يلعبون لعبة الحرب من باب اللعب، من دون فهم. لم أكن أفهمهم. كما لم أفهم أيضا لماذا كان اسم زميلي في الطابور يتكرر بصفة متواصلة من قبل المُشرف علينا. ربما كان يريدني أن أحفظ اسم هذا المراهق الذي يضاهي حجمه حجمي مرتين؟ صغتُ أول حوار لي بالانجليزية مُحيية إياه عند نهاية الحصة قائلة: « bye Asshole».
***
كانت مدينة «جرانبي» البطن الدافئ الذي احتضننا خلال سنتنا الأولى في كندا. هدهدنا سكان هذه المدينة واحدا واحداً. كان تلامذة مدرستي الابتدائية يقفون في طابور كي يقوم بدعوتنا إلى بيوتهم لوجبة الظهر. هكذا، كانت كل ظهيرة من ظهيراتنا محجوزة لعائلة، وفي كل مرة كنا نعود للمدرسة ببطون تقريبا خاوية، لأننا لم نعرف كيف نأكل الأرز بالشوكة. لم نعرف كيف نقول لهم بأن هذا الطعام كان غريبا بالنسبة لنا، بأنه لم يكن من الضروري أن يتجولوا في الأسواق لينبشوا عن آخر علبة « أرز في دقيقة». لم نكن نستطيع لا الحديث معهم ولا سمعهم. لكن الأساسيَ كان موجودا. كان يوجد من الكرم والامتنان في كل حبة أرز تُركت في صحوننا. ما زلتُ أتساءل إلى اليوم إن لم تكن الكلمات لتلوث لحظات النعمة تلك. وأتساءل أحيانا إن لم تكن المشاعر تُفهم أفضل من خلال الصمت، مثل الصمت الذي كان موجودا بين «كلوديت» والسيد «كييت». كانت لحظاتهما الأولى معا من دون كلمات، ومع ذلك رضي السيد «كييت» بأن يضع طفله بين ذراعي «كلوديت» من دون استجواب: الطفل، طفله الذي وجده على الشاطئ، بعد أن التف قاربه في موجة نهمة كثيراً. لم يجد زوجته، وجد ابنه فقط، ابنه الذي عاش ولادته الثانية من دون والدته. «كلوديت» مدت لهما ذراعيها وأبقتهما في بيتها لبضعة أيام، لأشهر، لسنوات.
***
جُوهان مدت لي يدها بنفس الطريقة. لقد أحبتني رغم أنني كنت أرتدي قلنسوة عليها شعار ماكدونالد، أحبتني رغم أنني كنت أسافر خلسة في شاحنة- مربعة مع خمسين فيتناميا آخرين للعمل في حقول الـ Cantons de l`est (منطقة سياحية في جنوب غرب الكيبيك) بعد المدرسة. كانت جُوهان تريدني أن أذهب معها للمدرسة الثانوية الخاصة معها في السنة المقبلة. بالرغم من أنها كانت تعرف بأنني كنت أنتظر عند نهاية كل ظهيرة، في ساحة نفس تلك المدرسة، شاحنات الفلاحين كي أذهب للعمل بصفة غير شرعية، كي أجمع بضعة دولارات مقابل أكياس الفاصولياء المقطوفة.
جوهانا أخذتني أيضاّ للسينما رغم أنني كنت أرتدي قميصا تم شراؤه بتخفيض ثمانية وثمانين بالمائة ويوجد به ثقب قرب الحاشية. عند العودة من الفيلم « Fame» علمتني أن أغني بالانجليزية والأغنية الرئيسية للفيلم: «I sign the body electric… من دون أن أفهم الكلمات، من دون أن أفهم حديثها مع أختها ووالديها حول منزلهم. كانت هي أيضا من رفعتني من سقطاتي الأولى في التزلج على الجليد، وكانت هي من صفقت لي وصرخت باسمي وسط الجمهور، عندما حملني «سيرج»، زميلي في الفصل والذي كان حجمه أكبر من حجمي ثلاث مرات، حملني بين ذراعيه مع كرة القدم ليسجل هدفا.
أتساءل إن لم أبتكر هذه الصديقة. لقد التقيت بالكثير من الأشخاص الذين يؤمنون بالله، لكني أؤمن بالملائكة. و«جُوهان» كانت ملاكا. كانت تنتمي لكتيبة من الملائكة التي تم انزالها بالمظلات على المدينة لتعطينا علاجا من الصدمة. كانوا بالعشرات أمام أبوابنا كي يهدونا ملابس دافئة وألعاباً ودعوات وأحلاماً. كثيراً ما كنت أشعر أنه لم يكن يوجد بدواخلنا مساحة كافية لتلقي كل ما كان يُهدى لنا، ولالتقاط كل تلك الابتسامات المُوجهة لنا. كيف يمكن زيارة حديقة الحيوانات في «غرانبي» أكثر من مرتين عند نهاية الأسبوع؟ كيف يمكن تقدير عطلة نهاية أسبوع من التخييم في الطبيعة؟ كيف يمكن التلذذ بـ «أومليت» بشراب القيقب؟
***
لديّ صورة لأبي مضموما بشدة في أحضان «عرّابينا»، عائلة من المتطوعين الذين تم تخصيصهم لنا. كان عرّابونا يخصصون آحادهم لاصطحابنا إلى أسواق الأغراض المستعملة. كانوا يفاوضون عاليا وبقوة كي نتمكن من شراء المراتب والأواني والأسرة والأرائك، باختصار لشراء كل ما هو أساسي، بالثلاثمائة دولار خاصتنا التي قدمتها لنا الحكومة كمنحة مُخصصة لتأثيث بيتنا الأول في الكيبيك. أحد الباعة أعطى والدي كهِبة، سترة حمراء بياقة كبيرة ملفوفة. ارتدى أبي السترة بفخر كل يوم من أيام أول ربيع لنا في الكيبيك. اليوم، تنجح ابتسامته الكبيرة في الصورة على جعلنا ننسى قصّة تلك السترة ذات التصميم المُخصّر. أحيانا، من الأفضل عدم معرفة كل شيء.
بكل تأكيد، هناك لحظات كنا نتمنى لو نعرف المزيد. مثلا، أن نعرف بوجود براغيث في مراتبنا القديمة. لكن هذه التفاصيل ليست مهمة بما أنها لا تظهر على الصور. على كل حال، كنا نعتقد بأننا محصنون من اللدغات وبأن لا برغوث يمكنه أن يعض بشراتنا التي تحولت إلى نحاسية جراء التعرض لشمس ماليزيا. لكن الرياح الباردة والحمامات الدافئة نقتنا، وجعلت اللدغات لا تُطاق وجعلت الحكات دامية.
ألقينا بتلك الفرشات من دون أن نُعلم عرّابينا بذلك. لم نكن نريد أن نحزنهم لأنهم منحونا قلوبهم ومنحونا وقتهم. كنا نُقدر كرمهم لكن دون كفاية: لم نكن نعرف بعد ثمن الوقت، لم نكن نعرف قيمته الحقيقية، لم نكن نعرف ندرته الكبيرة.
***
خلال سنة كاملة، مثلت «غرانبي» الجنة الأرضية. لم أكن أستطيع تخيل مكان أفضل في العالم، حتى لو كان الذباب يلسعنا بنفس المقدارالذي كان يلسعنا به في مخيمنا للاجيئن. اصطحبنا عالم نباتات محليّ نحن الصغار إلى المستنقعات حيث كانت أعشاب البِرك بأوراقها العريضة تنمو بالملايين، اصطحبنا ليرينا الحشرات. لم يكن يعرف بأننا كلنا تعايشنا مع الحشرات لأشهر في مخيم اللاجئين. كان الذباب مُلتصقاً بأغصان شجرة ميتة قريبا من الحفر المُثيرة للشك، بجانب كوخنا. كان الذباب واقفا الواحدة قبالة الأخرى حول الأغصان مثل حفنة من التوت العنقودي أو مثل كشمش مدينة «كورينث» (مدينة إغريقية يونانية تقع جنوب اليونان). كان الذباب من الكثرة وعملاقا بحيث لم يكن مضطرا للطيران لكي يكون أمام أعيُننا، لكي يكون في حياتنا. لم نكن مضطرين أن نصمت كي نسمعه، بينما كان دليلُنا عالم النباتات يهمسُ كي يسمع الطنين مُحاولاً أن يفهمه.
***
أعرف غناء الذُباب عن ظهر قلب. ليس عليّ سوى إغلاق عينيّ لأعاود سماعه وهو يحوم حولي. لأنه ولعدة أشهر، كان علي أن أقرفص مثل ولد صغير على علو عشرة سنتيمترات من حوض استحمام عملاق ممتلىء حتى حافته بالبراز، تحت شمس ماليزيا الحارقة. كان عليّ النظر للون الداكن الذي لا وصف له من دون أن أرمش بعينيّ كي أتجنب الانزلاق من فوق اللوحين الخشبيين الموضوعين خلف باب أحد الأكواخ الستة عشرة، كل مرة وضعت قدميّ هناك. كان عليّ أن أحافظ على توازني وأن لا أفقد الوعي عندما تتدفق فضلاتي الخاصة أو تتدفق الفضلات الخاصة بالكوخ المجاور. في تلك اللحظات، كنت أهرب عبر الاستماع لطيران الذباب. مرة، فقدت خُفي بين الألواح الخشبية بعد أن نقلتُ قدمي من مكان لآخر بسرعة كبيرة. اندفعت فردة خفي في هذه العصيدة من دون أن تغوص. طفت مثل قارب على غير هدى.
***
ظللت حافية طيلة أيام، بانتظار أن تجد لي أمي فردة حذاء يتمية لطفل آخر يكون هو أيضا قد فقد واحدة. كنت أمشي مباشرة على الأرض الطينية حيث زحف الدود منذ أسبوع. عند كل أمطار غزيرة، يخرج من الثقب المريب مئات الملايين، كما لو أنه تمت منادتهم من قبل مسيح. توجهوا كلهم نحو جانب تلتنا وتسلقوها من دون أن يتعبوا ومن دون أن يسقطوا البتة. زحفوا كلهم حتى أقدامنا بنفس الايقاع، محولين اللون الأحمر للأرض الطينية إلى سجاد متموج أبيض. كانوا من الكثرة إلى درجة أننا كنا نعلن استسلامنا قبل حتى أن نبدأ في محاربتهم. تحولوا إلى مخلوقات لا تُقهر وتحولنا إلى مخلوقات ضعيفة. لذلك كنا نتركهم يمتدون على الأراضي التي سيطروا عليها حتى نهاية المطر، حتى اللحظة التي يصبحون فيها بدورهم ضعفاء.
***
عندما دخل الشيوعيون «سايغون»، تنازلت عائلتي لهم عن نصف ملكيتنا لأننا أصبحنا ضعفاء. تم تشييد حائط من الآجر لإنشاء عنوانين: عنوان لنا وآخر لمركز شرطة الحي.
سنة في مابعد، عادت سلطات الإدارة الشيوعية الجديدة كي تقوم بإخلاء النصف الخاص بنا من المنزل، كي تقوم بإخلائه منا. دخل المفتشون إلى ساحتنا من دون إشعار، من دون أمر رسمي، من دون سبب. طلبوا من كل الموجودين أن يتجمعوا في الصالون. كان والديّ غائبين، فانتظرهما المحققون وهم جالسون على أطراف الآرائك الدائريّة وظهورهم مستقيمة، من دون أن يلمسوا ولو لمرة مربعيْ الكتان الأبيض المزينة بالتطريزات الرقيقة التي تزيّن مساند الذراعين. كانت أمي أول من ظهر من وراء الباب المعزز بالحديد المُطاوع. كانت ترتدي تنورتها القصيرة البيضاء ذات الطيّات وحذاءها الرياضي. وكان أبي وراؤها يجر مضارب التينس ووجهه مازال متعرقا. الوصول غير المتوقع لهؤلاء المفتشين، ألقى بنا في الحاضر بينما كنا لا نزال نتلذذ بعد بمذاق اللحظات الأخيرة للماضي. أمِر كل الراشدين في المنزل بأن يظلوا في قاعة الجلوس بينما بدأ المحققون عملهم في الجرد.
نحن الأطفال، استطعنا اللحاق بهم من طابق إلى آخر ومن غرفة إلى أخرى. ختموا على الجوارير والخزانات وطاولات الزينة والخزنات. حتى أنهم ختموا على الخزانة الكبيرة لحمالات الصدر الخاصة بجدتي وببناتها الست، من دون أن يسجلوا محتوياتها. لذلك فكرت بأن المحقق الشاب قد شعر بالاحراج لفكرة أن كل هاته الفتيات بنهودهن المدورة الجالسات في الصالون، يرتدين هاته الدانتيلات الرقيقة المُستوردة من باريس. فكرتُ أيضا بأنه ترك الورقة عذراء دون وصف لمحتوى الخزانة، لأنه كان مرتبكا جدا بسبب الرغبة كي يكتب من دون أن يرتجف. لكنني كنت مخطئة: لم يكن يعرف فائدة حمالات الصدر تلك. بالنسبة له كانت تشبه أكياس فلتر القهوة الخاصة بوالدته، المصنوعة من قماش تمت خياطته حول حلقة معدنية وظيفة أحد أطرافها أن يكون مقبضاً.عند أسفل جسر «لون بييان» الذي يعبر النهر الأحمر في «هانُووي»، في كل الأمسيات، كانت أمه تملأ فلتر القهوة خاصتها قبل أن تغمسه في جهاز القهوة المصنوع من الألمينيوم، كي تبيع منه بضعة كؤوس للمارة. في الشتاء، كانت تضع الكؤوس التي تحتوي بالكاد على ثلاث جرعات في اناء مملوء بالماء الساخن كي تحافظ على الكؤوس دافئة بينما يتحدث الرجال الجالسون على المقاعد التي كانت بالكاد تعلو عن الأرض. كان زبائنها يحددون مكانها بالشعلة الهزيلة لمصباحها الزيتي الموضوع على طاولة عملها الصغيرة، بجانب الثلاث سجائر المعروضة في صحن. كل صباح، عندما كان المحقق الشاب طفلاً، كان يستيقظ وفوق رأسه مصفاة القهوة ذات النسيج الداكن التي تم استعمالها وإصلاحها مرات كثيرة، مُعلقة بمسمار وأحيانا تكون مازالت مبتلة. سمعته يتناقش مع بقية المحققين عند زاوية من السلم. لم يفهم لماذا تملك عائلتي كل هذه الفلترات الخاصة بتصفية القهوة مرتبة على رفوف مفروشة بأوراق حريرية؟ ولماذا كانت مزدوجة؟ هل يعود هذا لأن القهوة تُشرب دائما بصُحبة صديق؟
* الكاتبة: كيم ثُويْ Kim Thuy
كاتبة فيتنامية كندية حققت روايتها الأولى «نهر صغير» نجاح عالمي حيث صدرت منها أكثر من أربعين طبعة وترجمت لعشرات اللغات العالمية بالاضافة إلى حصولها على جوائز عديدة. وقد كتبت كيم ثوي روايتها هذه في سن الاربعين حين أجبرها زوجها على الكتابة والتوقف عن العمل إلى أن تنتهي من كتابة هذه الحكاية التي تؤرقها طيلة سنوات من دون أن تجرأ على كتابتها فعليا. استمدت كيم ثوي تفاصيل «نهر صغير» من حياتها الشخصية ووقائع حقيقية عاشتها هي وعائلتها وجيرانهم وأناس حقيقيون هربوا من فيتنام عندما سيطر الشيوعيون على سايغون، وقد هربوا عبر البحر في قوارب في رحلات خطرة ليتحولوا للاجئين في مخيمات بماليزيا ومنها وصلوا إلى كندا.
ترجمة: إيناس العباسي