المقدمة
أونا – وهي تسمية رومانية تعني الواحد أو الوحيد The One، نهر يعبر كرواتيا والبوسنة والهرسك، طوله 212 كيلومترا، وهو يشكل فاصلا طبيعيا بين الجانبين؛ الكرواتي والبوسني.
الكاتب فاروق سيهيك Faruk Sehic ، ومُسمى سيهيك يعود إلى الجذر السلافي لكلمة sheikh وأصلها العربي شيخ. لذا أمكن ترجمة الاسم إلى «شيخ» فاروق شيخ.
المؤلف فاروق شيخ تطوع في القتال في حرب البوسنة، وكان قائدا لفرقة من المقاتلين المتطوعين. وهو في هذا العمل يصدر عن تجربة شخصية، ويمثل بصورة من الصور شاهد عيان على حرب السنوات الثلاث (1992-1995).
أما ارتباط نهر الأونا بالرواية/ الحكاية، فهو ارتباط مادي موضوعي، وتخييلي في الوقت ذاته.
قضى المؤلف/ الراوي/ الشخصية في الرواية/ الحكاية طفولته في بيت جدته على ضفة النهر في مدينة «بوسناسكا» التي تقع شمالي غرب البوسنة.
وبالتالي، فإن هذا الدراسة القصيرة ستقرأ هذه الرواية انطلاقا من كونها تنتمي إلى أدب السيرة الذاتية Autobiographical Literature من جهة، وإلى أدب الحرب War Literature من جهة ثانية.
غير أن تصنيف الرواية ضمن أدب السيرة الذاتية وأدب الحرب يبقى تصنيفا شكليا، بهدف فهم أعمق لمنطلقات الحكاية ومادتها، وفهمٍ أعمق للسياق التاريخي للحدث الروائي وعلاقتهِ بالمكان والزمان، داخل الحكاية وخارجها، وعلاقة الحدث/ الحكاية بالسارد/ الكاتب، وبالراوي / الشخصية.
في هذا السياق، من المهم التأكيد على أن هذا العمل (ككل الأعمال الفنية الإبداعية الخلاّقة) هو عمل روائي -إبداعي، وُظفت فيه التجربة الذاتية للكاتب، توظيفا فنيا، لا توظيفا توثيقيا، تقريريا. هذا التوظيف الفني اختلط فيه الواقعي بالمتخيل، الشعري بالحكائي.
كما أن زمن السرد في هذه الرواية لم يمض، لا أفقيا ولا عموديا، وإنما في مسار متعرج.
إذا هذه الدراسة ستنقسم إلى قسمين؛ الأول مقاربة الرواية من زاوية أدب السيرة الذاتية، أو سرد الذات، والثاني مقاربتها من زاوية أدب الحرب أو سيرة الحدث.
أولا: الرواية من زاوية أدب السيرة الذاتية، أو سرد الذات
لعله من المناسب أن ننطلق من إثارة أسئلة أولية:
هل يمكن تصنيف هذا العمل ضمن أدب السيرة الذاتية؟
ما هو أدب السيرة الذاتية؟
ما هي النظرية النقدية الأدبية أو الثقافية التي تُقيم حدود ومعالم هذا النوع من الكتابة؟
في حقل الدراسات الأدبية، والنقد الأدبي وحقل الدراسات الثقافية والنقد الثقافي، لا يوجد، أو لم أقع على تعريف متفق عليه لأدب السيرة الذاتية Autobiographical Literature. لا توجد نظرية أدبية أو ثقافية تُقيم حدود ومعالم هذا النوع من الكتابة.
أما تعريف كتابة السيرة الذاتية، كما ورد في الموسوعة الأدبية The Literary Encyclopaedia فهو «تلك التي تُروى بواسطة صاحبها، أو قصة حياة شخص ما تُسرد بواسطة الشخص ذاته»(1).
غير أن الأمر يختلف عند الحديث عن «أدب السيرة الذاتية»، حيث تتداخل العوالم وتتقاطع الحدود، وأحيانا تختلط، بين ما هو واقعي وما هو متخيل، ما هو توثيقي وما هو مجازي، بين لغة المعرفة ولغة المشاعر.
ثم أليس كل نص سيري هو، بالضرورة، أو على الأقل في جزء منه، عمل إبداعي، بمعنى أن الخيال يتدخل في تطوير أو إعادة خلق الأحداث، حتى تلك التي كانت وقعت في زمن ما في الماضي، بوعي من الكاتب أو بدونه؟ أو كما ترى Patricia Meyer «كل سيرة ذاتية، هي بطريقة ما، مُتخيلة، لأن الناس يرغبون دوما في إعادة صياغة أنفسهم، وأن قراءة السيرة الذاتية، تجعلك في مواجهة مع ذاتٍ تتخيل ذاتَها»(2)
وفي « هادئا يتدفق أونا»، صاحب الحياة / شاهد عيان الحرب يروي.
لكن علينا ألا نستعجل الحكم، فالكاتب/ الراوي لا يسرد علينا سيرةَ حياتهِ أثناء الحرب، ولا يروى لنا أحداث الحربِ ويومياتِها، لكنه يسرد ويروي الاثنين معا، في صور حيوات مُركبة، طبقات، واحدةً فوق الأخرى، وفي صور ذواتٍ تقفُ على جرف الهاوية، تقاوم السقوط والفناء، وفي صور ذاكرة متشظية بين أزمنة يتداخل فيها الوعي بالحلم بالواقع، كما يتداخل الماضي (ماضي المكان، الذات وضفة النهر وبيت الجدة) بالحاضر (الحرب وفعلها في الذات والمكان).
وإذا كانت بتريشا مايور ترى أن كل سيرة ذاتية فيها، بالضرورة، شيء من الخيال، أي شيء من إعادة تخيل الذات، ومن إعادة خلقها في المسافة الفاصلة بين زمني الحدث « سيرة الذات وصيرورتها» وبين زمن السرد أو زمن الكتابة، فإن هناك، في المقابل، من نظر إلى كتابة « السيرة الذاتية» باعتبارها ليست أدبا، لأنها لا تقوم، أساسا، على الإبداع والخيال، قدر ما تقوم على التوثيق للمذكرات اليومية memories ، أو كتابة «الاعتراف confession ، أو أدب الرسائل. وهي نظرة قديمة تعود إلى أصل الكلمة الإغريقية لأدب السيرة الذاتية Auto-Bio-Graphia ، والتي تُترجم إلى «كتابة الحياة الذاتية» self-life writing .
وبحسب جيمس أولني Olney, J (1980) فأن ثمة مواقف متناقضة حيال أدب السيرة الذاتية، بين من يراه أقل من الأدب في بعده الفني الخلاّق، وبين من يراه أكبر من الأدب في بعده التاريخي .(3)
ونرى أنه من الصعب تعريف ما هو أكبر من الأدب؟ لعل المقصود هنا هو النص التاريخي المكتمل في ذاته، الشبيه بالنص المقدس، غير القابل للتطوير والإضافة أو التجدد.
لكن ألا يوجد مسار أو حالة ثالثة لأدب السيرة الذاتية، حالة، لا هي أقل ولا هي أكبر من الأدب، وإنما هي الأدب فحسب؟
فيليب لوجون كان أقرب إلى اقتراح هذا المسار الثالث عندما رأى أن «الحكاية السردية الذاتية (وهو لم يقل السيرة الذاتية وإنما الحكاية الذاتية)، منذ جان جاك روسو أو شاتوبريان، تلجأ إلى الترددي أكثر من الحكاية المتخيلة، ولا سيما في استحضار ذكريات الطفولة»(4)
وما أشار إليه لوجون يدفعنا إلى التساؤل: أين يُمكن أن نضع واحدا من أهم وأقدم نصوص السيرة الذاتية في التاريخ الحديث «اعترافات جان جاك روسو»؟ هل هي مجرد يوميات لسيرة حياة هذا المفكر والفيلسوف الكبير، دوّنها ثم أعاد صياغتها هو ذاته؟
كيف انتقت أو فرزت ذاكرة أو مُخيلة روسو مسيرة حياته الممتدة منذ طفولة والديه في جنيف (قبل ولادته) مرورا بمولده في المدينة ذاتها عام 1712م، ثم ماذا عن الروايات المنقولة من آخرين داخل رواية السيرة الذاتية، ماذا عن ذاكراتهم ومخيالهم، وسردياتهم؟
ماذا عن إعادة الكتابة أو إعادة صياغة يومياتنا أو مذكراتنا، ماذا عن المسافة الزمنية الفاصلة؟ (وهذه مسألة مهمة في «هادئا يتدفق أونا»)؟ ثم ماذا عن علاقة القارئ بالنص السيري أو الاعترافي، في حال لم يُعنون بأنه اعترافات أو سيرة ذاتيه، أو لم يُشر إلى أنه سيرة ذاتية، أو لم يعرف القارئ علاقة الكاتب الشخصية بالحكاية أو الحدث المسرود؟
ماذا لو أنا لا نعرف أن فاروق شيخ كان مقاتلا في صفوف جيش البوسنة؛ هل كانت قراءتنا للرواية ستختلف حينها، وسوف لن تُقرأ باعتبارها سيرة ذاتية؟
غير أنه علينا أن نتفق أيضا مع أولني في أن هناك كتابة سيرة ذاتيه أقل من الأدب. فبعض كتب السيرة الذاتية التي كتبها بعض نجوم السياسة والفن والرياضة، تهدف إما إلى الربح، عبر بعدي الاعتراف بالأسرار والإثارة، وإما إلى التأريخ للذات خارج حدود الصدق، والأمثلة على هذه كثيرة ومتعددة.
في المقابل هنالك أعمال تجاوزت في قيمتها البعد الشخصي التاريخي إلى القيمة الفنية الإبداعية، والأمثلة هنا أيضا كثيرة ومتعددة. من لم يستمتع مثلا بكتاب الأيام لطه حسين، أو حياتي لأحمد أمين، أو مذكرات شالي شابلن، أو قصة تجاربي مع الحقيقة للمهاتما غاندي؟ رغم أنها لم تُصنف أدبا.
ضمن تصنيف أدب السيرة الذاتية، أين يمكننا أن نموضع « هادئا يتدفق أونا «؟: أقل من الأدب أم أكبر من الأدب؟ أم أن الرواية مجرد رواية فحسب، أدب فحسب، وظف فيه الكاتب – كأي كاتب – تجربته وخبرته وذاكرته الشخصية في كتابة النص. (هل توجد رواية خلوا من ذات الكاتب؟).
ألم يقرر ميلان كونديرا، بيقينية الروائي الخبير، بأن كل الروايات في كل الأزمنة تدور حول لغز الأنا. ما هي الأنا؟ كيف نفهمهما؟(5)
دعونا ننظر إلى الشكل أو البناء الذي قامت عليه «هادئا يتدفق أونا» لنرى كيف يمكن قراءتها ضمن الإطار المشار إليه (أقل من الأدب – أكبر من الأدب)، وما إذا كان هذا النص هو سيرة ذاتية مروية بلسان صاحبها من جهة، وتأريخ أو توثيق للحرب من جهة أخرى، أو أنه نص أدبي صاف صادف أن كاتبه تطوع للقتال في تلك الحرب وأحد شهود عيانها الموثوقين، فأمكننا تصنيفه على هذا النحو: سرد للذات وسيرة للحدث؟
من ناحية الشكل، قُسمت الرواية إلى ما يُمكن اعتباره مدخلا. هذا المدخل قُسّم بدوره إلى خمس حكايات، أما جسد النص فتوزع على خمسة وأربعين فصلا (حكاية) أو لوحة.
هذه الفصول أو الحكايات أو اللوحات لم توضع في مسار تسلسلي -تصاعدي بحيث أن الفصل التالي أو الحكاية التالية هي تكملة للسابقة، أو أن السابقة تفضي، بالضرورة إلى التالية. كما أن هذه الفصول، عدا الفصل الأول – المدخل، لم تحمل أرقاما ولا عناوين مباشرة تكشف عن مشاهدات أو عن مراحل زمنية، إنما حملت عناوين قاربت «المغامرة الفنية» أكثر منها مقاربة توثيقية مباشرة. أمثلة على هذه العناوين:
– ملاحو الجيش الأخضر Mariners of Green
– جمهورية الماء The Water’s Republic
– فرسان من الشمال Horsemen from the North
– لا قيامة، لا موت No Resurrection, No Death
– آلهة النهر The Gods of the River
– الجدة Grandmother
– 2007 بحسب جارجانو 2007 According to Gargano
– 1992- العام الصفر 1992- Year Zero
– صيف هندي Indian Summer
– رائحة مدينة محترقة The Smell of the Burned Town
– ضفة النهر في الشتاء The River Bank in Winter
على صعيد الشكل (وصعيد الحكاية) أيضا، لم يتحرك زمن السرد أو زمن الحكاية من صفر إلى عشرة، كما في كتب السيرة الذاتية عادة، ولكنه تحرك وفقا للذاكرة، من النهاية إلى البداية والعكس، ومن المنتصف إلى البداية إلى النهاية إلى المنتصف والعكس. الزمن في هذه الرواية مغامرة فنية مُتقنة، خصوصا في لعبة كسر الإيهام التي قام بها السارد في بداية الرواية، وبناء جسر من التوقعات لدى القارئ (جسر سوف يُحطم ليعاد بناؤه ثم ليعاد تحطيمه في مسار الحكاية)، فنحن نعلم منذ الصفحة الأولى أننا بصدد قراءة مذكرات لرجل منوم مغناطيسيا، بمعنى أنه لا يقرر أولا يعي ما يقول.
وإذا كان بول ريكور(2006)(6) يعتبر أن في السرد هناك، على الدوام زمنان، زمن التاريخ وزمن السرد، وأن زمن السرد أو زمن الحكي يمضي في مسار خطي، افقيا أو عموديا، يتحكم فيه السارد، وزمن التاريخ مُتفجر، متعدد، تتحكم فيه الأحداث التي يمكن أن تقع في وقت واحد، في أماكن مختلفة، فإن فاروق شيخ نجح في هذه الرواية في تكسير وخلط مساري الزمن (زمن التاريخ: تاريخ الحدث/ الحرب) وزمن السرد: الحكاية والذاكرة وتقاطعاتهما مع زمن الحدث، بل ان «الزمن» في بنية هذا العمل تحرك أو تأرجح في بندول أزمنة القديس أوغسطين الثلاثة التي درسها ريكور في كتابة « الزمان والسرد» (زمن حاضر الأشياء الماضية، وزمن حاضر الأشياء الحاضرة، وزمن حاضر الأشياء المستقبلية).(7)
يتجلى هذا بوضوح بدءا من الفصل الأول (Hypnosis) التنويم الإيحائي أو المغناطيسي، وهي الحالة التي يستسلم فيها الشخص إلى مجموعة من الإشارات أو الإيحاءات المُحفزة والدافعة للقيام بعمل ما، وهو وسيلة مساعدة في العلاج العضوي.
هذا الفصل تضمن خمس حكايات، أو لوحات، أُريد لها أن تكون قصيرة، وأن تُشكل مدخلا لعالم الرواية، لزمن الحدث/ التاريخ، ولزمن السرد/ الحكاية، في راهن الحدث الماضي، وراهن الحدث الحاضر، وراهن الحدث الآتي، بالمعنى الأوغوسطيني. لكنها، على خلاف فصول الرواية الأخرى، وإمعانا في تفكيك الزمن وتشظيته، لم تحمل عناوين ولكن حملت أرقاما، وكما لو أن على الراوي-السارد، والقاري أن يتحركا في عوالم وأزمنة السرد التي ستلي، لا إراديا، بفعل إيحاءات الحكايات الخمس هذه.
دون مقدمات، تدشن الرواية عالمها بجملة مفتاحية مهمة – على القارئ أن يتذكرها:
“Sometimes I’m not me, I’m Gargano. He, that other, is the real me: the one from the shadow, the one from the water. Blue, frail and helpless. Don’t ask me who I am because that scares me”. P 9
«أحيانا أنا لست أنا. أنا جارجانو. هو، ذلك الآخر، هو أنا الحقيقي، ذلك الذي يأتي من الظل، من الماء. أزرقَ، واهنا، وضعيفا. لا تسألني من أكون، ذلك يخيفني» ص9
إذا كان المُخاطب في هذه الجملة الافتتاحية هو نحن القراء، فمن هو المتحدث؟
هل هو الكاتب/ الروائي؟
هل هو الراوي/ الشخصية؟
من هو أنا؟ ومن هو أنا الآخر جارجانو؟
إنه سؤال الأنا الذي تنهض عليه كل الروايات حسب كونديرا.
إن أسئلة كهذه لا تثار مع كتاب في السيرة الذاتية، مهما كانت أدبيته عالية، إنما مع كتاب في الأدب بصرف النظر عن صدق وواقعية السيرة الذاتية لكاتبه وواقعية وحقيقية الحدث الذي يرويه.
هكذا، بهذه الجملة الإيحائية، على القارئ أن يمضي مفتوح العينين، بوعي ولكن دون إرادة، إلى عالم هذه الرواية المُتشظي بين الذات والآخر، الآخر الذي هو الذات، الذات التي هي الآخر. مائية، زرقاء إنما محطمة وخائفة.
تلك هي الذات العائدة من الحرب: حنين إلى الزرقة «الطفولة والماضي»، وخوف من السؤال «الراهن» والمستقبل.
إن مدخلا كهذا هو تجاوز أول لمفهوم كتابة السيرة الذاتية، لكنه ليس فوق الأدب، ليس تاريخا قارا، ليس مقدسا بطبيعة الحال، إنما أدب فحسب.
تمضي الشخصية، منذ الفصل الأول هذا، في تحضير القارئ، بصورة واعية، لما سوف يكون عليه تلقيه ومعايشته من فصول الحرب، عنفها ودمويتها وعبثيتها:
“My memories are ugly and dirty. I feel disgust when I have to talk about the way things were in Yugoslavia and the start of the war” P 9
«ذكرياتي قبيحة وقذرة. أشعر بالقرف عندما يكون عليّ التحدث عما كان عليه الوضع في يوغوسلافيا، واشتعال الحرب» ص9
لكن الذكريات القبيحة والقذرة التي تُشعر الراوي بالقرف عند الحديث عنها، هي الذكريات القريبة وليست الذكريات البعيدة، كما سيتكشف لنا في سير الحكاية في فصول قادمة.
هذه الرواية، بصورة ما، نص يفيض بالحنين إلى زمن ما قبل الحرب، وهو، في الوقت ذاته، نص يفيض بالقرف والرفض لزمن الحرب.
نص ينظر إلى الماضي الحميم من نافذة الحاضر الأليم.
في محطات الفصل الأول يتحدث الراوي بلسان الأنا عن ذاته، ذاته هو الكاتب فاروق شيخ، وذواته الأخرى (الذوات الروائية، الساردة والمسرودة) جارجانو، ومصطفى هوشار Mustafa Husar، وظهور هذه الشخصية الثانية عابر. ص109.
فالشاب المقاتل في صفوف جيش البوسنة، البالغ من العمر اثنين وعشرين عاما، الذي ترك مقاعد دراسة الطب البيطري، والذي أصبح قائدا لوحدة مقاتلة كانت مهمته الخاصة: أن ينجو بجسده. لكن النجاة بالجسد، لا تعني نجاة الفرد وحده، إنما نجاة المجموع؛ الناس والمكان، الهوية والذاكرة.
“I had one private mission: physical survival. P”12
هذه لغة الإنسان لا لغة المقاتل. خطاب الروائي لا خطاب موثق يوميات الحرب.
لكن هذه اللغة وهذا الخطاب، عندما يتعلق الأمر بالقتل (موت الآخر – الخصم)، فإن هذا الموت لا يأتي إلا في سياق البحث عن نجاة الذات، عن حياة الذات.
“I have to tell you this: I’ve killed a man and not just one but several. When you’re firing, all your worries vanish. P”13
«عليّ أن أخبرك بهذا: لقد قتلت رجلا. ليس واحدا فقط إنما العديد من الرجال. عندما تطلق النار فإن كل قلقك يتلاشى» ص13
الإشارات واضحة، إننا بصدد عمل أدبي يقوم على التجربة الذاتية، لكنه ليس سيرة ذاتية لمقاتل تصادف أنه قادر على الكتابة، أو على كتابة يوميات الحرب التي وجد نفسه يخوض غمارها من أجل مهمة خاصة وشخصية جدا هي: النجاة.
ولعل النقاد الذين صنفوا هذا العمل ضمن أدب السيرة الذاتية تأثروا، أو لعلهم لم يتجاوزا الفصل الأول: المدخل، والذي تقصّد فيه الكاتب، بوعي بيّن، الكشف، عن نفسه (عن فاروق شيخ) غير أن حتى هذا الكشف، من وجهة نظرنا، لم يكن مباشرا ولم يكن تقريريا. كان ذكيا وأدبيا.
إن جارجانو يمكن أن ينتمي إلى البوشناق، ويمكن أن يكون مسلما بوسنيا، ويمكن أن يرفض الهوية العرقية أو الدينية، ويمكن أن يُبقي على انتمائه الوطني الجامع، ويمكن أيضا أن يعيش شرخ الهوية الذي عاشه مواطنو يوغسلافيا السابقة بأعراقهم وأديانهم المختلفة.
إن جارجانو هو مصطفى هوشار من جهة، وهو فاروق شيخ من جهة أخرى، وهو كل ضحايا الحرب، الناجين والفانين، من جهة ثالثة.
“I came from a Bosniak family, the Serbs and Croats tried to persuade me to write “Bosnian Muslim” because Yugoslavs didn’t really exist.” P.15
«أنتمي إلى عائلة من البوشناق. الصرب والكروات حاولوا إقناعي بأن أقدم نفسي باعتباري بوسنيا مسلما، لأن اليوغوسلاف لم يعد لهم وجود» ص15
لقد كان هذا طبيعيا، فعندما بدأ خط انهيار ما كان يُعرف بجمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية بموت مؤسسها الجنرال جوزف تيتو عام 1980، والتي قامت على ضم قسري لممالك ودويلات كصربيا، وكرواتيا، وسلوفينيا، والبوسنة والهرسك، والجبل الأسود ومقدونيا، وهذه بدورها تضم أعراقا مختلفة، أبرزها (الكروات، والبوشناق، والسلوفان، والمقدونيون، والألبان)، كان من الطبيعي ظهور النزعات العرقية والقومية والدينية، وهذا ما حصل، وما أفضى إلى تلك الحرب.
المقاتل الشاب (الراوي) الذي كان يعيش الحرب وأهوالها، ويحيى لحظة بلحظة من أجل تحقيق مهمته الوحيدة: النجاة. كان يمضي أيضا كالمنوم مغناطيسيا وراء صور طفولته (التي بدت أكثر وضوحا وإلحاحا على الحضور مع صور الموت الحاضرة بعنف وقسوة في يوميات الحرب)، طفولته في بيت جدته أمينة في بلدته بوسناسكا (لعل اسم البلدة مشتق من قومية البوشناق) هذه البلدة ستشكل في جسد الرواية حالة حنين هذيانية جارفة.
والراوي يقرر أن الرحلة/ الحكاية تبدأ هنا من (ضفة النهر وبيت الطفولة) وستكتمل دورتها هنا في (ضفة النهر وبيت الطفولة). وسنعرف لاحقا أن بيت الجدة ذاك لم يعد موجودا إلا في ذاكرة المقاتل الشاب التي أعادت صور الحرب والموت والدمار، وكأن الحرب كابوسا، والبيت هو الواقع الوحيد، أو كأن البيت حلما يُراد له أن يتصل دون يقظة منه (إنها حالة التنويم الإيحائي التي افتتح بها الكاتب روايته)
“I saw Grandmother Emina’s house and knew I had to stop. The journey begins here and will be rounded off here, too” P 23.
«رأيت بيت الجدة أمينة، وعلمت أن عليّ التوقف. الرحلة تبدأ هنا، وسوف تكتمل هنا أيضا» ص23
ينتهي الفصل الأول/ المدخل الذي مهد فيه الروائي لكل شيء، والذي قدم فيه ذواته: ذات الكاتب، وذات الراوي، وذات الشخصية المقاتلة في الحرب وفي حكاية الحرب: شخصية الأنا « الراوي، وشخصية الآخر، الأنا الأخرى، الشخصية جارجانو».
ومع نهاية هذا الفصل تنتهي، في تقديرنا، خدعة رواية السيرة الذاتية، لتبدأ بعدها الرواية – الأدب أو رواية الحرب؛ الرحلة التي تبدأ وتنتهي من الضفة الهادئة لنهر أونا حيث بيت الجدة.
ثانيا: الرواية من زاوية أدب الحرب، أو سيرة الحدث
لا أحد يعيش في زمن الحرب وفي دائرة عنفها دون أن يكون شريكا فيها، فاعلا أو مفعولا به، قاتلا أو مقتولا، مُدمِرا أو مُدمَرا، مقاتلا أو ضحية مشردة.
لكن بالنسبة للكاتب، الحرب أكثر من موضوع عنف وقتل عابر، إنها اللحظة التي يعاد فيها اكتشاف الذات، الذات القاتلة، والذات المقتولة، الذات التي تتحول، في متوالية الحرب وفي توازي وتساوي حظوظ الحياة مع حظوظ الموت، إلى مجرد رقم، رقم ناعم وأنيق، لكنه مجرد رقم قد يبقى وقد يمحي:
“I commanded a squad of ten soldiers. Everything becomes easier when you turn into a neat number, and that was of my own choosing. I wanted to be a number, a random figure” P78.
«كنتُ آمرا على فرقة من عشرة جنود. كل شيء يصبح أسهل عندما تتحول إلى رقم مجرد. لقد كان هذا اختياري. أن أصبح رقما غير محدد» ص 78
كثير منا قرأ وتابع في الأخبار حرب البوسنة والهرسك في التسعينات، فضائع تلك الحرب، مذبحة سربرنيتسا أو سربرنيتشا المروعة والتي قتل فيها أكثر من ثمانية آلاف إنسان من قومية البوشناق المسملة، لكن ذاكرة الأخبار ضعيفة وقصيرة، عكس ذاكرة الأدب. والأخبار لا تنتقل كالأرواح عبر الأزمنة وعبر الأجيال، مثل الأدب. ماذا بقي لنا من أخبار عن الحرب الأهلية الأميركية وعن الحربين العالميتين، الأولى والثانية، وعن الحرب الأهلية الإسبانية وعن الحرب الأهلية اللبنانية؟
سوف يكون علينا البحث في الوثائق والأراشيف لمعرفة تفاصيل تلك الحروب. لكن لن يقوم بهذا إلا دارس أو باحث مهتم على نحو خاص بتاريخ الحروب مثلا. أما الناس العاديون، فما الذي يدفعهم إلى التنقيب في الوثائق عن الجثث والدماء، في الوقت الذي يمكنهم معرفة الكثير عن الحرب الأهلية الأميركية في « ذهب مع الريح» لمارغريت ميتشيل، أو معرفة أهوال الحرب العالمية الأولى في « الدون الهادئ» لميخائيل شولوخوف (بالمناسبة العنوان الأصلي لهذا العمل الكبير هو هادئا يتدفق الدون Quietly Flows the Don)، أو الاقتراب من عالم الحرب الأهلية الإسبانية في « لمن تقرع الأجراس» ليهمنغوي، أو الحرب الأهلية اللبنانية في «طواحين بيروت» لتوفيق يوسف عواد. أو معرفة تفاصيل وعنف الحرب الطائفية في العراق من خلال «فرنكشتاين في بغداد» لأحمد سعداوي، وتفاصيل حرب البوسنة من خلال « هادئا يتدفق أونا» لفاروق شيخ.
واحدة من المقولات عن أدب الحرب، أو أهمية الأدب في توثيق الحرب، هو ما قالته الروائية وأحد أهم المراسلين الحربيين الأميركيين مارثا جيلهورن (Martha Gellhorn 1908-1998) وهي بالمناسبة كانت زوجة لهيمنغوي:
“If you can’t change it [war] you must at least record it, so that it cannot just be ignored or forgotten. It is some place on the record and it seemed to me personally that it was my job to get things on the record in the hopes that at some point or other, somebody couldn’t absolutely lie about it”8
«إذا لم يكن بمقدورك تغيير الحرب، فعليك توثيقها، بحيث يصعب تجاهلها أو نسيانها، وبحيث تبقى في مكانها في الذاكرة. بالنسبة لي، عملي هو حفظ الأشياء موثقة، على اعتبار أنه في مرحلة ما، سيأتي شخص ليُكذّب الوقائع»
هل هذا ما قام به «فاروق شيخ» في هذا العمل، خصوصا وأنه أصبح، بعد الحرب، صحفيا، يعنى بتوثيق وحفظ الأحداث. (هذه الرواية كتبت بعد انقضاء الحرب بعشر سنوات، بُدء بكتابتها في 2005 وانتهي منها في 2011)
ومثلما أن هناك فرقا بين أدب السيرة الذاتية وبين الأدب، أو حسب جيمس أولني، هناك أدب سيرة ذاتية تحت الأدب، وهناك أدب سيرة ذاتية فوق الأدب. ولقد اقترحنا مسارا ثالثا وهو أن هناك أدبا فحسب، لا تحت ولا فوق، يقوم على السيرة الذاتية – وكل الأدب، خصوصا السرد يقوم على جانب من حياة الكاتب وسيرته، الأمر ذاته ينطبق على أدب الحرب. فثمة حرب يجب أن توثق أحداثها ومآسيها، وثمة أدب يكتب تتدخل فيه المخيلة واللغة بمجازاتها وصورها ومحمولاتها، بل وبشعريتها أيضا، شعريتها حتى في وصف الموت. ألم تكن « ذهب مع الريح» قصة حب على خلفية الحرب؟ ألم تكن « لمن تقرع الأجراس» حكاية حب روبرت وماريا تتعايش مع فصول الحرب؟
في مسرحيته « الأم الشجاعة وأبناؤها» يصف بريخت الحرب بانها مثل الحب، دوما تجد طريقها. هذا أيضا ما تقوله رواية «هادئا يتدفق أونا»: وجدت الحرب طريقها إلى ضفة النهر الذي بقي يجري هادئا، غير عابئ بها.
لكن الفتى الذي نشأ يلاحق سمك السلمون المرقط على ضفة النهر في فصل الخريف، وجدت الحرب طريقها إليه، وحولته من طالب طب إلى مقاتل، ومن حالم على ضفة النهر إلى حالم بالعودة إلى تلك الضفة، وإلى مصاب بداء الحنين إلى « بوسناسكا» التي ستتحول، بفعل الحرب التي تسللت إليها خفية، إلى مدينة أشباح.
في الفصل التاسع عشر بعد فصل المدخل (2007 بحسب جارجانو». تُخاطب الشخصية “جارجانو» في رسالة لها إلى الراوي، تخاطب البلدة بوسناسكا على الأغلب):
“I have to talk to you, town, because you’re always present in my memory, and it is the only paradise from which I can’t be expelled, the poet eyes. You’re now a phantom town and your name is insignificant” P 93.
« يجب أن أتحدث إليك، أيتها البلدة، لأنك دوما حاضرة في ذاكرتي، ولأنك الفردوس الوحيد الذي ليس بمقدوري إخراجه مني، من عيني الشاعر. لقد أصبحت الآن مدينة أشباح، ولم يعد لاسمك قيمة» ص 93
في رسالة جارجانو إلى الراوي التي تفيض بالحنين إلى «بوسناسكا» القديمة، والتي تحولت من «الفردوس» إلى مدينة أشباح، يصف الموت مثل خطاف أرواح « يهبط من الأعلى، ينقض على الناس ويأخذهم بصرف النظر عن أعمارهم، يأخذهم إلى الأعلى، إلى حدائق الجنة المُعلقة»ص 93
‘Death comes from above and bears people away regardless of their years. It takes up to the hanging gardens of haven” P 93
الرواية لم تكتف برسالة جارجانو الحنينية في مخاطبة مكان وذاكرة الطفولة، كان عليها أن تعود، قليلا إلى توثيقيتها لصورة التحول الذي أصاب البلدة. ففي عام 1993، أي في العام التالي لنشوب الحرب، « البلدة التي كنا نعرفها اختفت أمام أنظارنا» ص 104.
اختفت من كونها مكانا على الأرض، ولكنها بقيت مكانا في الذاكرة.
ثمة حالة من الشعرية في وصف الدمار والموت.
الحرب إذا ليست ضجيج أسلحة ونار وجثث فحسب، ولكنها لحظات تأمل أيضا، ورؤية صامته للكارثة، وللتعايش معها باعتبارها موضوعة للحياة، باعتبارها شيئا يمكن ممارسة الحب معه تحت سماء مفتوحة.
وليس بعيدا عن تعريف بريخت للحرب، يعرف الراوي في « هادئا يتدفق أونا» الحرب:
“It’s like a double End of the World with whipped cream, only much, much better. It’s a plague of snakes, the colour of the sun and the moon, and we make love with them all night beneath the open sky” P 110
« مثلَ نهاية مزدوجة للعالم عليها قشطة كريم مخفوقة، فقط أحلى بكثير. كسم الثعابين، كلون الشمس والقمر. إنها تلك التي نمارس معها الحب طوال الليل تحت سماء مفتوحة» ص 110
الشعرية في مقاطع عديدة، تكاد تضع هذه الرواية في خانة «الواقعية السحرية»، في الحالة الماركيزية تحديدا. بل يمكننا تلمس تأثير غارسيا ماركيز، خصوصا في هذا المقطع الذي يكاد يتماثل مع مقطع لماركيز في « مائة عام من العزلة» عندما وصف ماركيز درجة اللزوجة في الجو بحيث « أن الأسماك كانت تدخل من الباب وتخرج من النافذة سباحة».
في « هادئا يتدفق أونا» يصف الراوي حالة الهدوء على ضفة النهر حيث بيت الجدة، بحيث:
“The ethereal fish would enter through the balcony doors and roam the whitewashed rooms” P 35
«ستدخل الأسماك الأثيرية خلال أبواب الشرفة، وتجول في الغرف البيضاء» ص 35
ويبدو تأثر الكاتب بمدرسة الواقعية السحرية واضحا، من خلال استشهاده بأحد الآباء الكبار لهذه المدرسة «خورخي لويس بورخيس» في وصف الأخير للظلام. ص 122.
وإذا كانت روايات الحرب الكلاسيكية التي أشرنا إلى بعضها، تنهض حكاية الحرب فيها على خلفية حكاية حب كلاسيكية بين رجل وامرأة، فإن « هادئا يتدفق أونا» تروي الحرب عبر حكاية حب غير كلاسيكية، حب بين الإنسان والمكان (النهر، والبلدة، وبيت الجدة). وتحت جلد المكان تكمن صورة حب أعمق، مع الإنسان في حالة الأخوة والمواطنة العابرة للعرق والدين. وفي هذا حنين إلى المكان يوم كان واسعا وموحدا وحاضنا للجميع، يوم كان يدعى جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية.
في مقابل الشعرية (ونعرف أن فاروق سيهك شاعر ولديه مجموعة شعرية عنوانها « أنهاري» My Rivers صدرت عام 2014)، في مقابل الشعرية، الرواية لم تغفل التوثيقية (التي هي عنصر أساسي من عناصر أدب السيرة الذاتية وأدب الحرب معا). الحرب، في الأصل، فعل جسدي، واندفاع باتجاه إحدى النهايتين: الحياة أو الموت.
“Tomorrow we would be burning house and killing people with the same names as us” P 100.
«غدا سنقوم بحرق البيوت وقتل أناس يحملون أسماءً كالتالي لنا» ص 100
“Learning to hate isn’t hard, you just need to follow your body, whose impulses makes you do whatever is necessary to survive” P 104.
«تعلُّم الكراهية ليس صعبا. كل ما تحتاجه هو المضي وراء جسدك، الذي خفقاته تدفعك للقيام بكل ما هو ضروري للبقاء على قيد الحياة» ص 104
“We hadn’t rely on an abundance of weapons and ammunition, nor did we have a mother country behind us, like our former Serbian neighbours did” P 105
«لم يكن لنا الاعتماد، لا على وفرة السلاح والذخيرة، ولا على وجود وطن يقف خلفنا، كما هو الحال بالنسبة لجيراننا السابقين الصرب» ص105
الخاتمة
لقد صُنفت هذا الرواية باعتبارها «أدب سيرة ذاتية» وباعتبارها تنتمي إلى « أدب الحرب» وهذا تصنيف صائب، غير أن هذا العمل داخل هذين التصنيفين وخارجهما معا.
فإذا كان الكاتب قد خاض الحرب متطوعا دفاعا عن الذات، وعن الحياة، وعن الأرض وعن الهوية، وأصبح شاهدا أصيلا لأحداث الحرب، ليومياتها وتحولاتها (ومن هنا يأتي تموضعها ضمن أدب السيرة الذاتية)، وإذا كانت الرواية تتناول موضوعة حرب البوسنة (1992-1995) (ومن هنا يأتي تموضعها ضمن أدب الحرب)، فإنها – وهنا تكمن أهميتُها من وجهة نظرنا – لم تسجل الحرب كأحداث ووقائع، إنما كحالة من حالات التيه الإنساني، وحالة الفقد للأمان النفسي والاجتماعي، وللهوية الوطنية الجامعة، التي تبعثرت وأصبحت، بفعل الحرب، هويات.
كان واضحا أن الكاتب لم يكن معنيا بتسجيل يوميات الحرب (لا كرنولوجيا ولا حتى كأحداث) قدر عنايته بالذاكرة التي وشمتها الحرب، الذاكرة الشخصية، والذاكرة الجمعية، وقدر اهتمامه باستعادة المكان الحميم «بيت الجدة على نهر أونا في «بوسناسكا» Bosanska . هذا البيت الذي عاش تاريخا من الانهيار والنهوض، فقد احترق أثناء الحرب العالمية الثانية عندما قصف الحلفاء البلدة عام 1942. بعدها كنست الريح الرماد وذرته فوق نهر أونا، ثم أعيد بناؤه بيتا جديدا من الحجارة المسامية Tufa وطمي النهر. وعام 1992، مع اشتعال الحرب، أحرق أحدهم البيت. ص 179.
لكن بيت الجدة، تماما كما هو بيت العائلة في مائة عام من العزلة لا يزال حيا في عالمه الداخلي، في عالم الأدب الذي لا يفنى.
هكذا يقرر فاروق شيخ أن مصير البيت ذاك كان مصيرا أرضيا، أما في العالم الداخلي فالأمر مختلف، البيت يواصل حياته. ص 179
“Those were its earthly downfalls, but the inner world is quite different, and here the house continues its existence” P 179.
وكما هو مصير البيت، يتبدى مصير الحرب التي، وإن كانت انتهت على ارض الواقع فإنها تواصل حياتها في الأدب.
الهوامش
* اعتمدت هذه الدراسة على الترجمة الإنجليزية للرواية والتي قام بها Will Firth . المقاطع العربية من الوراية التي تضمنتها الدراسة هي من ترجمة الباحث.
هذه الدراسة قدمت في ندوة «قراءات في الرواية العُمانية والبوسنية» التي نُظمت بالتعاون بين النادي الثقافي العماني وجامعة ساراييفو، وعُقدت في مسقط: 23 مايو /2017
1 –
The Literary Encyclopaedia: online version
2 –
Spacks, Patricia Ann Meyer (1976). The female imagination. Avon Books.
3 –
Olney, J. (Ed.). (1980). Autobiography: Essays Theoretical and Critical. Princeton University Press. Retrieved from http://www.jstor.org/stable/j.ctt7ztmtj
4 – لوجون، فيليب. في جنيت جيرار (2000). عودة إلى خطاب الحكاية. ط1. ت: محمد معتصم. الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي.
5 – كونديرا، ميلان (1999). فن الرواية.ط1.ت: أمل منصور. بيروت، لبنان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
6 – ريكور، بول (2006) الزمن والسرد. ج1 تزط1: سعيد الغانمي وفلاح رحيم. بيروت، لبنان: دار الكتاب الجديد.
7 – ريكور، بول (2006) الزمن والسرد. ج1 تزط1: سعيد الغانمي وفلاح رحيم. بيروت، لبنان: دار الكتاب الجديد.
8 –
Freedom Forum European Centre, “Freedom Forum Europe Pays Tribute to Martha Gellhorn” (London: Freedom Forum European Centre, 1996)
محمد اليحيائي *