إن الصيرورة التي يعيشها الانسان هي محرك لفعل التفكير من أجل البحث عن الحقيقة, لذلك فإن محاولة الفهم هي توق ومجهود. الكتابة بمختلف أساليبها وأنواعها ليست إلا طرح المعاش والكشف عن الغموض, فهي مسار سلوكي, ذهني ومتخيل. تسعى اللغة من خلال دعوة الكتابة الى تشخيص الحالة التي تشغل مدارك الكاتب. بالتالي فإن ما نجده في كتاب “ متطايرة حواسي” للشاعرة والكاتبة السعودية هدى الدغفق إشعاع متحفز نحو جوهر البوح في صيغة تعبيرية محملة بالجرأة. فعلى خلاف العنصر العاطفي المشحون إلى الوراء زمنيا له أحلامه وأمنياته, هي نبش لأسرار مرحلة تمثل مجتمع له فلسفته وتقاليده ومكتظ بضجيج عاداته وتقاليده.
استهل الكتاب بسؤال تبحث فيه الكاتبة عن ماهيتها “ من أنا؟”, إنها الحيرة الفعلية للكاتبة والخطورة التي يتسببها هذا السؤال في غياب أهم عنصر وجودي ملازم للإنسان وهو الهدف, فإذا كان لم يحدد ماهيته فكيف له أن يرسم أحلامه وجوهر وجوده؟. هذا يفضي إلى أن الكاتبة كانت ولا تزال في حيرة تبحث فيه عن كيانها ووجودها, ورغم ذلك فكل تلك الظروف نسجت منها شاعرة عنيدة بإصرارها في مواجهة عالم ذكوري لا يقل قسوة عن السياسة والطبيعة.
عندما يعنون الشاعر مقالته بكلمة” تمرد” فهو يعني ما يقول وليس كما يستخدمها المسؤول في العمل لموظفه والتي يحاول فيها إشهار ترفه الرقابي في سلطة مزيفة, أو كما يلقيها قائد عسكري ليفشّ غله وبلاهة عقده النفسية نحو أبرياء يطلبون الحرية . إن التمرد الذي أطلقته الشاعرة ليس جزافا وإنما سبقه في ذلك التفكير الذي نضج قبل سنوات عمرها في صحراء دفنت الفكر منذ زمن بعيد بعد أن أروى عمالقة الشعر العربي الكلاسيكي بنماذجه ومراحله المختلفة تلك البقعة الآسنة في الجفاف, بينابيع الفكر وتناوبوا في زراعتها بشتى أنواع الأحاسيس والمشاعر في الشجاعة والجرأة نحو الرفض, في المقابل كانت طيوب الرومانسية تفوح في لياليها بأقمارها ونجومها.
إن الشغب الذي كانت تمارسه فتاة في الرابعة عشرة من عمرها في أسرة يتقدمها شبّان ذكور ليس بالأمر الهيّن في مجتمع ذكوري صرف دون أن تلتفت إلى وصاياتهم وقسوتهم المتوارثة تجاهها, حين تستل من تحت وسادتها دفترا وتشخبط في صفحاته صابة جامّ غضبها وحزنها, مما ساعدها ذلك إلى الميل نحو العزلة والتلذذ بمؤانسة نفسها مستسلمة لمزاجها الذي لم تستطع حتى أخواتها الأكبر منها امتصاصه، عندما تصف ذلك السلوك في كتابها بأنه العصيان نجدها أن قسوتها على نفسها كبرت معها حتى وهي بعد سنوات طويلة تحولت إلى عقود تجد أن ما كانت تفعله هو العصيان وليس الحياة البريئة والسلوك الدافئ بحيث يجب على من في سنها ممارسته. نجد أن الشاعرة قدرها قد سبقها بأن تكون شاعرة وليس باختيارها فذلك السلوك هو خيط الشعاع نحو المعرفة والفكر وطريق المتعبين خصوصا في بيئاتنا التي ترفض كل الرفض مشاعر الإلهام النبيلة للذكور, قبل أن تتأثم به النساء. في بيتهم القديم مسرح كل القصص والحكايا كانت تدفن الكاتبة أسرارها في دفتر العزاء, وسيلتها للتحرر من ربقة المجتمع الخانقة وكانت حينها لم تتجاوز عتبة الدار.
في منزل جدها الطيني أول تحررها من رقابة الأهل حول مكنونها الداخلي حين تفضحها أحاسيسها, لذلك لجأت إلى غرفة في السطح وأصبحت تمارس خلوتها الإنسانية والشرعية والقانونية كي تقترب من سماء أفكارها, ربما كان ذلك مثار شك يسرّح في أفكار باقي أفراد العائلة باستثناء والدها الذي ظل دافئا كدفء تلك الغرفة . فالمجتمع كعادته مجنونا بالفضول ومتعة كشف مقتنيات الآخر المخبأة حتى في أعمق بحار قلبه ومشاعره.
إن الجرأة الكتابية التي تمتاز بها الشاعرة هو ذلك التصريح التعبيري أو تلك الصرخة المكلومة في أفئدة وحناجر الملايين من النساء حول القيود التي صوت لها أفراد المجتمع بعد أن أدخلها في ذلك النفق الأسود ( العباءة), حيث أنها لم تجد أنوثتها في ذلك الصندوق كما صنفته, كانت ترغب في أن يتطاير شعرها حين يتخلله هواء الرغبة ونسيمها, ثم تذهب إلى عالم متخيل عندما يتحول ذلك الشعر إلى موج أزرق أو قارب شراعي أو قوقعة تسترخي على الشاطئ. الاستعارة الشعرية التي تتضمنها جمل الكتاب دلالة على أن الشاعرة تحتضن هما وجوديا تحاول الانسجام مع قسوته والتعاطف مع ذاتها حين تصوره ضمنا عالما سينمائيا لا محدود, كشكل من أشكال الخلاص الروحي. العباءة هي مقبرة الأنوثة الدائمة كما تدّعي الكاتبة حين قالت “ تلبستني عتمة العباءة, وكفراشة فقدت جناحيها تكومت في قبوها ولم أخرج بعد”. حيث بعدها أصبحت الحياة سوداء في عينيها.
في “حقيبة قلبي” , تلك الترنيمة التي لطالما اشتاق ويشتاق لها القارئ المرتبطة حياته بالكتاب, هي أنشودة الخلود لدى المثقف الذي زهد الحياة ليركن في أقصاها يتحدث ويناجي الكتب , حقيبة السفر اليومية , هذا الإرث الذي يخلده المؤلف بين ضفتين. صفحات من الفلسفة والفكر والوعي والحزن والفرح وأشياء كثيرة , ربما يعتبرها الكثير في مجتمعاتنا الهرمة كنز الفقراء, بينما تقول الكاتبة “ الجلسة الفاخرة هي تلك التي تقضيها مع كتاب ينظر إليك ويتفكر بمعيّتك ويحس بك ويعبّر عنك”. بعد ذلك تعرج هذه الشاعرة بحساسية متماهية بالغيب ومتطايرة في الهواء بأنوثة الورقة التي لازمتها لأكثر من ثلاثة عقود والتي لازمتها كما لو أنها أنوثتها التي تتحرك في جسدها وتعبّر به حواسها ثم تلاحق افكارها إنها التوأم في الرؤى والأمنيات وكذلك في العتبات والكآبات, بمعنى آخر إنها النصف الآخر الذي يرسم فناء الروح الخفي.
في “حواس متطايرة” , يعيش القارئ دهشة العبارات عند الشاعرة وهي تفسّر مخاض الكتابة وحالة الإنهاك. إن الجماليات الصغيرة في الحيز الكوني الهامشي هي غيمة الفرح عند الكاتب, فلا توجد قسوة أشد من استيقاظ مدركات الوعي حين يكون الجسد مشلولا واهيا ساعتها لا تستطيع أن ترسم الفكرة التي أوقدت ذهنك في ورقة تغفو بجانبك, لقد تعثرت أصابعك في المجهول دون نجاح لذلك تعذر أن تكتب تلك الفكرة أو ذلك المقطع فتعيش عذابات الفقد واللاطمأنينة في النوم, هكذا تصور الكاتبة لحظة الفكرة المتطايرة التي أيقظت ذهنها في حين لا يزال الجسد يسبح في عالم الموت الجزئي. لعنة الكتابة لم يجد لها قواميس في السماء لذلك آثر الكاتب بحملها, وما أقساها من لحظة حين تنتفض الفكرة في مخيلتك وحسّك متعب بك.
“ لسعة حسية” عنوان بديع لعبارات تحمل مضامين حسية بالغة الدقة ومتناهية الأحاسيس, هنا يبرز دور الشاعر الذي يتحدث مع محسوساته كونها تمثل جزء من حياته اليومية , ربما يجدها الاخر ضربا من الجنون لكنه واقع الأديب الذي يرى ويشعر أن التفاصيل الدقيقة في يومياته مركّبة من المواد الفيزيقية والتي لها أثر كبير في البحث عن نتائج المتخيل والواقع معا, هي تفاحة نيوتن التي أرشدت العالم الى قانون الجذب. لذلك نجد أهمية المنشفة في الإغراء بلونها البنفسجي تصرخ فيه الأنوثة ينتج عنها التقاء النشوة سواء بين المنشفة ولونها أو الكاتبة والمنشفة أو اللون والكاتبة أو …. هكذا نجد أن هذا اليومي يتضمن سيناريو أو مونولوجا خفيا عند الكاتبة, كذلك بالنسبة لفرشاة الأسنان ورغوة الصابون وأمثلة أخرى.
إن سياسة الحياة الاجتماعية في عالمنا العربي بالتحديد ومجتمعنا الخليجي بالأخص تتبع نظام التعتيم حيث الحرية الواقعة تحت ظلال الشرط من قبل وصايا مختلفة يشرف عليها الأسرة في الداخل ثم المجتمع والتي تمثل خلاصة السلطتين الدينية والسياسية, حيث تتحدث الكاتبة في “مدن معتمة“ حول الظلام الذي يخيم حواسها ويقمع حريتها الوجودية وتقع أسيرة للغربة والعزلة الافتراضية ابتداء من تصميم البيوت المغلقة والشقق التي تأسر المقيم بين جدرانها بهندستها الأقرب إلى قفص يقتل الحياة الإنسانية حيث لا شرفات مطلة للعالم الخارجي, كما ترى أن المدن المعتمة كما وصفتها في كتابها تشّوه صيرورة الحياة التي ترغب في ممارستها حيث مشاهدة المارة حين ترغب في الانعتاق من وحشة الذات, حتى في المقهى تحرمها سياسة المكان وشروطه من الجلوس في الداخل بالقسم المخصص للنساء, حيث تفتقد نكهة حركات العابرين والوجوه, لذلك اقتبست مقولة ابن خلدون ( اتباع التقاليد لا يعني أن الأموات أحياء, بل أن الأحياء أموات).
إن تجربة التعتيم التي تعكس الحياة عند الشاعرة هي امتداد لفلسفة التشاؤم الذي ترك آثاره تجري في تفاصيل مختلفة لعالم المحسوسات وبالرغم من المحاولات المستمرة في كشف جنوحها في عالم الكتابة النثرية أو القصائد الشعرية إلا أنها تحتفظ بعالمها السري الذي أرادت به أن يتخمر في أعماقها ليزداد قيمة ومعنى كلما أطال كتمانه, ورغم ذلك فهي تستشهد بالروائي الروسي ديستوفيسكي أن السعداء هم الذين لا يملكون شيئا يستحق أن يوصد بالأقفال, والكاتبة هنا تحاول أن تجّمل أسرارها وتعزّي حواسها وتجعل لها قيمة ومعنى على الرغم من قسوة الأقفال على المشاعر وحراستها من أن يراها أو يقرأها الآخر, بالتالي تغرق في بركان القلق المستمر الذي ألهب أطراف أظافرها بحرائقه.
إن الطريقة التي داعبت فيها الكاتبة حواسها كانت بقسوة تفاصيلها، هي موسيقى التعب وكائنات تنفض عن كاهلها الكآبة والضياع , تجسد أرواحا يظللها الفقد والخيبة, حواس مؤلمة ومتألمة منسلخة من جسد ذاو في صحراء معزولة عن العالم, وكما أن للقارئ رؤيته الخاصة في برمجة فضائل اللغة وقبحها للمؤلف وما أجده في هذا الكتاب هو صرخة احتجاجية لحواس متطايرة في ضمير متصل بهمومه ومنفصل عن العالم الافتراضي في هذه الجغرافية التي تحكمها سلطات المجتمع القمعي, تعتبر مشاكستها أداة تبحث من خلالها عن مناخ متصالح مع الذات أستوطنه الرضوخ للواقع.
يحيى الناعبي*