إن تجربة الحداثة الشعرية في «عمان» ليست بمعزل عما يحدث في العالم العربي من صراعات وإن أخذت أشكالاً خاصة، نظراً لأن نصوصها التأسيسية قد جاءت متطورة ومتقاطعة مع أكثر الأشكال حداثة.
في هذا السياق اتخذ الشاعر «هلال الحجري» في ديوانه «هذا الليل لي» الذات الفردية، وما تمتلكه من معرفة وتجارب معاشة أساساً لبناء النص، وهي ذات مترفة وتنتمي للطبقة الفاعلة في المجتمع، وقد اتخذت أربعة أشكال للأداء الشعري.
أولاً: النمط متوسط الطول، ويعكس الذات المنكفئة على نفسها ويستخدم الشاعر فيها لغة باطنية، أو عضوية، متوترة، لا تشير إلي الخارج، والنص كله يدور حول الذات في تطوحاتها الإنسانية، ويغلب عليها العدمية وعدم القدرة على الفعل الإيجابي، وهي في معظمها إما رثاء للتراث أو عرض أزماتها أمام الخيار الإنسانى المعقد أو الاقتراب من خيالات هذه الذات المحاصرة من جميع فئات وشرائح هذا المجتمع وهذا الشكل في الأداء يكرس عزلة الذات، وتوحدها في أحسن الأحوال كما في قصيدة «صداع»:
«ما القطط الخرافية
التي
كانت ترقص في رأسي؟
أتذكر أنني
كنت ألمح وسط عزلتي المكتهلة
أطياف نساءمكتنزة
ولأنني من شرق الخرافات
ونكران الذات
كنت أكتفي منها
بجروحها الدامية في قلبي
بكلمات الغزل وصور الحرمان» ص ١٢
أما في حالات الضياع والتمزق الروحي الذي يصيب الذات نظراً لعدم تحقق الفعل الإنسانى المباشر كالحب أو الطمأنينة أو الأفعال المادية المعاشة كما في قصيدة «يأس»
«هيهات
هيهات
لا مفر من الضياع
كلما أتشبث
بخيط من خيوط اليقين
تدهسنى عربات الفوضى
وعربات الفاشست
مخلفة أيامي
جثة
تنهبها العزلة وجلد الذات» ص ٥٢
إن هذه التجربة لا تعتمد على العقل، وإنما ترتكز على الحواس مما جعلها شخصية ونسبية، لا منطق لها إلا إدراك الشاعر، واستبطان هذه الحالة يدفع إلى تشوش الحواس والتراسل فيما بينها حتى تصل الذات إلى الفرح بالألم والتلذذ به كما في قصيدة «انطفاء»
«آه ما ألذ الألم
وسط زحام المرض والمشوهين
ألم لذيذ
يدغدغ عظامي كالكهرباء» ص ١٣
وأمام هذه الحالة الكابوسية والوقائع التي تدفع إلى التآكل لم يجد الشاعر إلا الأحلام كوسيلة لإحداث التوازن المطلوب حتى يستطيع الوجود مثل الإشارة في قصيدة «وعد»
«من أجل أن أتتبع
مسيرة ألمي المراوغ
لن أتألم
ولن أبكي
بل سأعض على يأسي
حتى تفيض الأحلام بين نواجذي» ص ٣٣
أما البديل الآخر الذي يخلصه من الغفلة والهلاك والقلق ويحقق له وجوده الإنساني فهو الصحراء كما في قصيدة «وداعا»:
«إني راحل
سأغرق في الصحراء
سأتشبث بهذا الصمت المقدس
وأتغنى به
كما يتغنى العشاق العذريون
بجبيباتهم
حتى الموت» (ص ٤).
ثانياً: النمط المركب الطويل ويعكس الذات المتورطة في الصراع، أو الفاعلة في محيطها الاجتماعي وقد استخدم بناء يعتمد الوحدة «المقطع» كوسيلة لإنتاج الدلالة، وفيه تقترب اللغة من الأداء اليومي، والخيال فيها مدني متطور، مثل قصيدة» رسائل إلى امرأة العاشرة والنصف ليلا» فقد قامت على خمسة مقاطع، كل مقطع يمثل حالة مفردة، ويجمعت المقاطع كلها الدلالة الواحدة، أو فاعلية الذات في علاقتها بالآخر (الأنثى) والتجربة تعكس الجانب الحسي والمادي أكثر منها حالة روحية (عاطفية) فهي حالة لاختبار الذات على المستوى القريب وإن استطاع الشاعر أن يكشف عن هويته ومدى ارتباطه بمكوناته الموروثة، فالذات هنا جزء من الذات الجمعية، ولا تتناقض معها ولا تنفيها فهاهو حس يتمثل في:
«وحدها الصحراء
تتسع
لارتعاشة أناملي
وأنا
أقصد عرق اللذة عن جبينك
وعندما
تمررين يديك الناعمتين
في غابات جنوني
ينز من قلبي
حزن قديم» (ص ٨٥)
إن الايروتيكا تتمظهر أولاً في الفعل اللغوي ومن العلاقات القائمة على اللمس وحركة الأعضاء أما الحس الملتبس بالهوية فلم يخل مما هو روحي ومتجاوز للفعل البشري مثل:
«أنا
حفيد
الرغبات المرتدة
وغرائز البدو
الراحلين عن زوجاتهم
منذ الفتوح الأولى» (ص ٢٦)
أما قصيدة «أغنية لسيدة الرمل» فقد جاءت غنائية لا صراع فيها، وتقوم على الإنشاد القديم، خاصة في تجربة الشاعر «محمود درويش» واللغة بها إنشائية تعتمد المجاز الموروث من الشعر العربي وما يحدث من فضفضة لا تدفع النص إلى النمو وإنما إلى التكرار، الذي لا يغادر الحدث الأصلي، ومن هنا كثرت الأساليب الإنشائية كالاستهام والنداء في أول المقاطع فيقول في المقطع الثاني:
«خذي بيدي
حنانيك ما كنت إلا فتى عاشقاً
تخطفه الشعر بين شيوخ القبيلة والمنحنين
حنانيك
هذا جوادي
سأنحره لدراويش قريتي الطيبين» (ص ٧٧ ـ ٨٧)
وفي قصيدة «معلقة محارب فينبغى مجهول» يستخدم التكرار كوسيلة غنائية في أول كل مقطع إذ يقول في أوائل المقاطع جميعها:
«مساءالطفولة
سيدة الرمل
مساء الزمان» (ص٩٨)
ثم يطور الدلالة بعدها في اتجاه ما بما يرسخ ما نحن فيه من انهيار وفساد، وكأن اللحظة المعاشة هى لحظة ضياع وليس لنا إلا البكاء وانتظار الكوارث الفاجعة
«فما بين مهد الشهيق ولحد الزفير
يساومني الآن متسع للضياع
خيولي مسومة
والسؤالات مشرعة
والطريق إلى الموت عذراء» (ص ٩)
ثالثاً: النمط القصير المكثف، القائم على المفارقة وفيه تكون الذات في موقع المراقبة والرصد، وتعتمد معظم النصوص فيه على السرد أو الحكي والبناء المشهدي، الذي يجمع الأشياء بطريقة اعتباطية، فإن كانت المفارقة تقوم على الأفعال الحياتية فإن الشعرية تتحقق مثل قصيدة «وحيد»:
«يضغط العلب
معلنا نهايتها
كما يضغط الإله الأرواح إلى
مصيرها
وفي غضون ذلك
يمضغ وحدته بعتق
كعاهرة محترفة
وهو الذي في زمن ما
ظن أنه
قد يلغي كل أقراص الحكمة» (ص ٩٤)
أما إذا كانت المفارقة سطحية، ولا تعتمد على تناقضات الحياة فإن النص لا يحقق أية شعرية وإنما قليلاً من الضحك الأسود مثل قصيدة «بذخ انثوي»:
«كل هذه الوليمة
من النساء
أين منها صديقى الذى أعرفه جيداً
قد أحدودب عمره
حلما
بطيف امرأة
أو
فخذ دجاجة» (ص ٣٢)
أما إذا انتفت المفارقة، وقام النص القصير على جملة مركزية لتوليد الدلالة فإنها تقع في التجريد مثل قصيدة «فلسفة»:
«لولا العزلة
لما كتبت قصيدة
ولا بكى غريب
لولا العزلة
لما افترعت انثى
ولا أن مراهق
لولا العزلة
لما اكتشفنا
هذا العوار الرهيب» (ص 103)
إن هذه القصيدة قائمة على السببية التى لا تنتج شعراً فلا هناك تجربة ولا حالة ولا اقتراع فكرة.
رابعاً: نمط أداء الحكمة، وهو الذي يختزل خبرات الذات في الحياة في شكل لغوي يقترب من نمط القصيدة القصيرة، وهو أداء لغوي لا توتر فيه ولا مجاز، وإنما جاء بلغة النثر الخالص، ولذلك فشعريته قليلة، وإن أحدث نوعاً من التهكم أو السخرية السوداء مثل قصيدة «ابن خلدون»:
«كذب ابن خلدون
حين زعم أن الإنسان
مدني بطبعه
فأنا
منذ زمن
لم أجد وسيلة
لائتلاف هذا الوحش
الذي
يجري في دمي» (ص ١١)
إن شعرية «هلال الحجري» في هذا الديوان لم تقطع صلتها بنصوص التأسيس، فالاحساس الكارثي والجنون واعتماد الفوضى والهذيان الداخلي في بناء النص له علاقة ما باقتراحات (سيف الرحبي) وإن كانت لغته أكثر غنائية وأقل عنفاً، ويميل الشاعر إلى البناءات المحكمة، كذلك قد تقاطع مع «سماء عيسى» في مفهوم الشعر النقي وإن كانت نصوصه أكثر احتشاداً بكل ما هو إنساني، وتجمع كثيراً من المتناقضات، إنها شعرية تتجاوز إشكاليات الموجة الثانية، وتؤسس لاقتراحات جديدة توسعت من مفهوم الشعر وأشكاله المتنوعة.