هذه الليلة ايضا زارني…، بدماثته وهدوئه المعتاد لا ليس حلما بل حقيقة، كان يضحك والدموع تنزل على ذقنه الابيض ونظارته السميكة التي يرفعها بيده اليسرى ليمسح دموعه.
– هل تبكي؟
– قال لي: لا أبكي!
– ودموعك..؟.
– هذه ليست دموعا.. هذه سنون عمري الذائبة !
– أنت تبكي.. قل لي ماذا يبكيك ؟
كنت انتظر منه الاجابة، ولكنه زفر زفرة تحركت سعفات النخيل واشجار الليمون..، ومن ثم جاء لي صوته من كل مكان حتى من تحت الا حجار.
– عندما يحل الفجر أذهب الى قبري وضع وردة !، ومن ثم كلمني.. سأسمعك عندما تروي لي حكاية قريتنا، وكيف يعيش الناس.
– ولكن أين أنت، أني لا اراك.
ومن ثم اختفى كل شيء حتى النسمة التي تحرك سعفات النخيل اختفت، وعشت في برزخ اللحظة منتظرا قدوم الفجر.
قطفت زهرة ريحان وأخذت أتعثر بشواهد القبور محاولا الوصول الى قبره، كنت في كل خطوة أقف وأنظر من حولي.. المكان سكون ونسمة القبور تداعب روحي حتى أغرتني بالموت؟ لكن ليس قبل ان افي بوعدي.
جثوت على ركبتي ووضعت زهرة الريحان على القبر إلى اليسار قليلا..!
تململت في البداية ماذا أقول له، وهل سينصت الي؟
تنحنحت ومن ثم وضعت رأسي على الشاهد..
– لماذا أنت صامت، لماذا لا تحدثني، لماذا لا تعيد الحكاية من أولها؟
التفت أبحث عن الصوت، من أين يخرج هذا الصوت ؟ أيكون هو يكلمني من داخل القبر، أم روحه ؟
لم أعرف لعلني استغرقت في التفكير وجاء الصوت من هنا من الداخل من تحت بلاطة صدري، ودون أن اعرف جاءت الحكاية كجرح غائر يصعب نسيانه.. هذا الفجر المسكون بالجنون والعقم يسافر بين بيوتنا المدفونة بالفقر ورائحة الروث. يداعب ذاكرتنا الطفولية التي تحمل لوثة اليسار، أنت نائم هنا لا لكي تموت : ولكن لتقتل جنونك وهي لا تصرخ لا تقول : لا! تأكل من ثدييها، سقط كل شيء، الحكم القديمة ماتت.. حتى المبادئ. أنت من كنت تنشر الحب لكل الناس ماذا فعلوا بك تلك الليلة ايها التاريخ المزور الى متى ستظل تكتب تأريخ الطغاة.. ستتخلى عنك الشعوب ستموت في الاوطان ستشوه كما شوهوك من قبل ! يا تأريخ المـ،…!
لم أكن ليلتها نائما، كنت أسامر النجوم فوق السطح، سمعت صراخ طفلة فحدست أنها فاطمة.
آه يا فاطمة يا وجعي الاول يا جسد الارواح التائهة يا مساءات الشرق النازفة. آه. صوتك يهتك عرض الليل الطويل والسماء تراقب دون ان تتدخل !
نزلت.. كان الصوت يأتي من خارج بيتك، وجدت فاطمة تبكي ودموعها تغسل وجهها الطاهر وامرأة تولول في الداخل.
– فاطمة حبيبتي ما بك ؟
– ابي.. احذوه..؟!
-من أخذه حبيبتي؟
كانت تنشج وهي تنزف من الداخل، كانت تحاول ان تكف عن البكاء كزهرة يحاول العابثون اقتلاع الجذر من تحتها وهي تحاول الا تذبل. أخذت تحكي لي ما حدث وكان يقطع كلامها نشيجها ومخاطها الذي أختلط بدموعها (كيف لي ان أنسى ذلك المشهد يا احفاد المتوكل بالله )..
– أحذوه في اللاندروفر، بعدما قيدوا يديه ودفعوه الى مؤخرة السيارة، كانوا كثيرين يا عمي.. كانوا يصفعونه على وجهه، وهو صامد يراقبهم كذئب جريح تكالبت عليه كلاب قذرة تخرج أصواتا من مؤخرتها.
– الا تعرفين أحدا منهم ؟
– بلى يا عمي، أحدهم كان قد زار أبي.. شاهدته أكثر من مرتين حسبته صاحبه.. كان صامتا وعندما شاهدني أتشبث به وأصرخ أمسكني من يدي ليبعدني.
– ابن القذرة..! لا تبكي حبيبتي.. سيرجع، فأنت تعرفين أباك لم يفعل شيئا في الناس الا الخير.
كنت اواسيها، وأنا أعرفهم جيدا، ماذا قد يفعلون به..، وأعرف أنهم سيقتلعون الحلم من قلب فاطمة. أخذ صوت فاطمة يرتفع وهي تبكي:
– قل لي يا عمي: ماذا فعل ابي؟
– كما قلت لك : أبوك لم يفعل شيئا سوى حبه الاجمل والأحسن للناس، ليس الا..
– ولكنني سمعت احدهم يقول له : أصعد أيها الخائن ! وهم يركلونه بأقدامهم، فهل من يحب الناس يصفع على وجهه ويركل على مؤخرته؟.
– حبيبتي فاطمة اذا ركلونا من الخلف فهذا يعني اننا في المقدمة، وسيظل أبوك نجما تهتدي به اجيال، لأننا ببساطة.. نحب وطننا وسنظل نصرخ في وجه الليل حتى الصباح
ليلتها عندما رجعت من عند بيتك لم أنم ثلاثة ايام بلياليها، فقد كنت متعطشا لاعرف ما هي اخبارك؟ كنت في صحراء وأنا أنظر الى السماء لعلها تغيثني بقطرة ماء باردة تنزل على قلبي المحتضر.. كنت أنتظرك أيها الرائع !.
ظللت هكذا اربعة عشر عاما وأنا واقف على بوابة الزمن انتظرك، كما كانت فاطمة تنتظرك ايضا وكبرت وكبرت أنت في عينيها العسليتين.
عندما خرجت الى الحياة في هذه المرة، كنت اشاهد الوهن في روحك لقد خدشوا روحك الطاهرة.
كنت ساعتها متلهفا لسماع حكايتك..، ولكن خجلت ان اقول لك مباشرة، وفرحت عندما قلت لي:
– دعنا نسهر الليلة سويا.
قلت لك :
– كما تشاء.. أين تحب أن نجلس.
– لنذهب بعيدا، بعيدا في الصحراء.
– لأتنفس الهواء بقدر أكبر، فالصحراء أمنا الاولي
– جاوبتني.
×××
أشعلت لفافتك وأخذت تراقب النجوم.
– هل اشتقت الى مثل هذا المكان ؟
– كثيرا… ولو أنني كنت اخرج الى مثل هذا المكان، ولكن بطريقة اخري، كانوا يحملوننا الى الصحراء
– في كل ليلة اثنين، والبرد القاسي، ونحن كما ولدنا اجسادا مكشوفة للوخزات والآلام، هكذا حتى يقترب الفجر.
– ولكن ألم يكونوا يتركونكم تنامون؟ سألته.
– بلى، بعدما تنتهي حفلة الصحراء نحمل الى حفلة أخرى بين جدارين في الصباح عندها تبدأ لعبة اللسعات السامة.
– اللسعات السامة؟
سألته بسذاجة، وكأني أريد أن اقترب منه اكثر.
– نعم.. حتى أننا تعودنا على العقارب والجرذان، في يوم من الأيام سقط ثعبان على عنق الذي يرقد بجانب سريري، فأطبق على عنقه وكان نائما، وعندما جاء الصباح ركله أحدهم على خاصرته، يحسب أنه مستغرق في النوم.
– انهض يا كلب.. تحسب نفسك نائما في بيت أبيك.
فتجندلت جثته على الارض، بعد تدحرجها وكأننا في فيلم هوليوودي.
سكت بعدما زفرت زفرة لتشعل لفافة اخري، وعيناك تراقب النجوم والفجر يقترب رويدا.. رويدا.
ها هو الليل قارب على الانتهاء والفجر لم يأت..
لن يأتي الآن فهو يعرف متى يأتي، ومتى لا يأتي؟
هذا يا صديقي ما تحمله ذاكرتي المثقوبة، فحكايتك هي حكاية قريتنا، وحكاية قريتنا هي حكايتك، فهل تسمعني؟ هل تسمعني يا صاحبي أم انني أكلم نفسي؟
قل لي.. لا تسكت، لا تسكت، وهممت أن أغادر المكان لولا زفرة أخرى خرجت من داخل القبر وصوت واهن :
– هذا الليل ما أطوله!
فرأيت النيازك والنجوم تتساقط حوالي، وأحسست بشيء لزج يقترب من الجفاف اتشبث به وكأني أتنفس في رحم عجوز تحتضر.. يا الهي! اني أسمع أصواتا بشرية تبدد الظلمة بشمعة الحرية.