-1-
كنت قد تعبت،
لأني لم أكن أعرف أيهما أفضل،
فإن قالوا: مجتهد، فإنهم يسحبون عني صفة العظمة،
ويحيلونني إلى قليل من قراءة ومثابرة وشيء من سهر،
وإن قالوا: موهوب، فإنهم يفترضون أن قوة خارج ذاتي منحتني عظمتي،
ويحيلونني إلى روبوت.
وهكذا دائما يسعون إلى تقزيمي
ويضغطونني بين شيئين عاديين.
بيد أني أدركت المعادلة:
فالحق أنهم لا يقولون شيئا عني بقدر ما يقولون شيئا عن أنفسهم،
فهم يلقون بعاديّتهم عليّ في محاولة لفهمي،
ويفترضون، سلفا، أنني شبيه بهم:
إن هذا، بالضبط، هو خطؤهم الأصل.
-2-
كنت كلما فعلت شيئا أحسبه حسنا
سربته إلى أصدقائي ومعارفي،
لأحظى بتربيتة على الظهر،
أو ابتسامة إعجاب،
مع الوقت، أصبحت محتاجا لتربيتة كل يوم،
وابتسامة كل حين،
ما أفقدني ثقتي بنفسي،
وجعلني أسيرا لنزوات الآخرين.
ثم اخترعت تقنيتي الخاصة:
أصبحت كلما وقفت أمام المرآة ابتسم معجبا بنفسي،
وأربت على كتفي بكفي.
الآن، أشكو من قلة قدرتي على معرفة حسني من سوئي.
-3-
حينما أفعل شيئا يسيئ للآخرين بشدة
أتمنى أن تحدث لي حادثة،
كأن تضرب سيارتي سيارة أخرى،
ليس مرد ذلك إحساس بالذنب،
بل رغبة في تخفيف شعور الآخرين بالسوء،
فالآخرون لا يحقدون عادة على إنسان مريض أو مصاب،
حتى وإن اعتدى عليهم.
فقط يخيفني أحيانا تحقق أمنياتي،
لذا أتمنى دائما حادثا بسيطا،
يحقق التعاطف ولا يبقي أثرا دائما.
-4-
يحدث أحيانا أن يبدأ الناس بالموت تباعا،
وكنت قد لاحظت أن ذلك يحدث عادة بعد الأعياد بقليل،
وطالما كنت أبحث عن تفسير لهذه الظاهرة.
نفسيا، لعل القابلين على الموت يدركون في العيد مرور الزمن عليهم،
اكتساحه أجسادهم،
لعلهم يشعرون أن أحباءهم لم يدركوا عيد هذه السنة،
وأنهم أصبحوا منذورين للوحدة.
طبيا، لعلهم يأكلون لحما وشحما كثيرا في العيد،
ويطفحون سكرا مع الحلوى،
فيقتطعون جزءا من أيامهم بفرحهم.
هرطقةً، لعل عزرائيل يحبذ، لمجرد الاقتصاد،
أن يقبض الأرواح القابلة للموت في مكان ما مرة واحدة،
دون معاودة الصعود والهبوط،
وربما تكون تلك طريقته للاحتفال بالعيد.
-5-
الجشطالتيون، أصحاب مبدأ أن الكل يساوي أكثر من مجموع الأجزاء،
يرون أن المخ يكمل المشاهد الناقصة،
فحين تشاهد دائرة مقطعة يراها مخك مكتملة.
لعل هذا يفسر الحب والإنسانية والمثل العظمى،
فكل هذه لا وجود كامل لها:
إنها اختراع أدمغتنا لإكمال ما نراه من مشاهد مقطعة
-6-
الزمن مرآة ونافذة أنت مضغوط بين سطحيهما،
فنافذتك ماضيك،
ومرآتك مستقبلك،
ولذا فمستقبلك انعكاس لماضيك وامتداد له.
لا يمكن أن تعبر إلى مستقبلك،
ولكن يمكنك دائما أن ترى من النافذة،
بل ويمكنك أن ترمي بنفسك فيها.
الحياة مراوحة بين السطحين.
الانتحار ان تكسر مرآتك.
الموت ان تنكسر المرآة من غير ان تمد يدك باتجاهها.
-7-
لا أقبل السخافات اليومية،
ولا الكلام البذيء الذي ينحدر بي في تجاويف دبقة،
ولا أفعل إلا ما يقربني من ذروة المجد.
وأعف عيني عن مواطن القذارة،
وأذني عن ملاقط السوء.
وأمشي كما تمشي كتيبة جيش على إيقاع الموسيقى المنهضة،
وأشعر دائما أنني المنتظر وخليفة الله في أرضه ووارثها عن ملوكها.
وأحيانا أرى نفسي جديرا بمنصب نبي.
وأراني أثب على السحب الراكضة،
وأستوطن قمم الجبال الشاهقة.
ولكنْ حينها،
تدركني الرغبة في دخول الحمام.
-8-
يحدث أحيانا قبيل أن يشنق المنتحر نفسه أن ينقطع الحبل.
هاكم نصيحتي!
ليأخذ من يريد شنق نفسه حبلين،
فالمرء لا يعرف متى يداهمه سوء الحظ.
-9-
الزمن يعرّف العلاقات:
الزواج علاقة مدى الحياة تنتهي بأحد قاصمين: موت أو طلاق،
الحب علاقة طويلة تنتهي بإحدى مصيبتين: فراق أو زواج،
الصداقة بينها وبينك علاقة أقصر بنتائج مبهمة،
أما حين يقصر الوقت أكثر فإن العلاقة تغدو عهرا.
-10-
لم أكن أعرف أنها صادقة،
فقد قالت ببساطة أنها ستنتحر إن تركتها!
ولما أن تركتها فعلت ما قالت وانتحرت!
بيد أني لم أشعر بالذنب،
لأني عرفت أن القدر استخدمني، كما استخدمها،
في حركة التدافع الاجتماعي.
-11-
يطور الرجال بعد الأربعين بارانوياهم الخاصة بهم:
إنهم يرون أنفسهم مظلومين،
فمسؤولوهم المباشرون كشفوا مواهبهم،
لكنهم لم يمنحوهم ترقيات مناسبة.
والدولة عرفت مدى ذكائهم،
وبدل أن تقدرهم خافت منهم.
وأولادهم، بعد كل ما بذلوا لهم،
ها هم يتخلون عنهم، ويسلكون دروبا أخرى في حيواتهم،
ولم تكافئهم الحياة بما يستحقون، وهمشتهم.
حتى أجسامهم التي طالما حملوها في كل مكان ذهبوا إليه،
ها هي تبدأ في خذلانهم.
لقد فاز جيرانهم وزملاؤهم،
وتزوجوا نساء فاتنات،
وانجبوا أولادا رائعين،
وتقلدوا مناصب عالية.
إن الرب لا بد أنه غاضب عليهم، وإنما يعاقبهم،
لكن على ماذا؟
فهو يعرف، أكثر من غيره، كم هم طيبون ومخلصون وأمناء:
لقد آمنوا به، وأخلصوا لوطنهم،
وقاموا بما يجب أن يقوم به الرجال مع عائلاتهم من واجب،
إن المؤسسة لم تكن لتقوم لولا تفانيهم،
والعائلة ما كانت لتنجح لولا دأبهم:
لقد كان كل خير وحب وإخلاص وتفان يأخذ تعريفه من دواخلهم.
من أين إذا تسلل هذا الخطأ الفادح
من أين تنزلت هذه القسوة القاصمة.
كيف لم ير الناس والدولة والأولاد مدى حسنهم،
وإن كان جميع هؤلاء قادرين على الخطأ،
فكيف تخلى الله عنهم؟
-12-
السيوف نخرجها من أغمدتها في العيد،
نمسح عنها غبار نصالها،
وندعكها بالزيت لنعيد لها صفاءها!
نحملها معنا إلى الصلوات،
ونتوكأ عليها في الاحتفالات،
ونسندها أكتافنا في الرزفات،
ونهزها بلطف أمام خصومنا المتوهمين في العزوات،
ونرميها للأعلى،
لنري لمعانها النظارة من حولنا وهي تشق الهواء،
ونمسك بمقابضها المفضضة حال انحدارها.
ثم ندخلها أجربتها ونعلقها في السبلات،
في انتظار عيد آخر أو احتفال وطني تال،
نحتاج فيه إلى تسلية جديدة،
تعتقنا من كآباتنا المزمنة،
وتدر علينا تاريخا لامعا بالهفوات.
السيوف عزيزات قرون سابقة أذلها البارود،
ونحن نجتر عذابات لمعانها الصامتة.
-13-
القادة والرسل والأنبياء،
تزوجوا شرقا وغربا
ليجمعوا شمل القبائل تحت سقف واحد.
وينشروا الدين والثورة والنوايا الحميدة.
يحق لنا إذا، ونحن شعوبهم وحفدتهم، أن نقتدي بهم،
ونوحد القبائل على إثرهم،
وننشر البذور في الأراضي الخصيبة،
فالهرمونات التي حفزتهم،
ها هي الآن تحفز أحفادهم ورعاياهم شرقا وغربا.
-14-
القدر بمفهومه الشائع إما خاطئ أو دعوة للكسل.
لو كنت أؤمن بالقدر لكنت جلست في غرفتي بلا حراك،
وأكون توكلت على قدري.
حينها إما أن يكون القدر موجودا وأنا أفعل تعاليمه،
أو أنني أكتب قدري على كنبتي .
-15-
حين تحدث لي حادثة قاصمة
فإن إيماني بالقدر يخفف من حزني،
لأني ألقي الحادثة على كاهله!
هكذا يجب أن يكون القدر:
تقنية دفاع نفسية « ما بعدية»!
-16-
يُقلِّل الزواجُ من الانتحار،
ذلك لأن المتزوج ميتٌ أصلاً.
ليس معنى هذا أن الزواج في مرتبة الانتحار؛
فالانتحار تعبير عن الإرادة،
فيما يُعبِّر الزواج عن الانصياع لغريزة النوع.
-17-
كل مرة أشاهد فيها نفسي في المرآة أتوقع أن أحدا آخر يراني:
ليست هذه دعوة للإيمان بل دعوة للجحود؛
فلو أن أحدا آخر موجود غيري لكان خلفي،
وآنذاك فلا ضير،
فالذي ينعكس على سطح المرآة هو الموجود،
أما ما لا ينعكس فأغمره بوجودي!
-18-
يعجبني أحيانا أن أمارس الخبث المفتعل،
فحين يتكلم صديقٌ، بحبٍ، عن فيروز، أقول:
إنها ظاهرة رحبانية.
وحين يتكلم صديقٌ آخر عن عبدالحليم، أقول:
لكنّه هاوٍ أمام أم كلثوم،
وعن يوسا أقول:
لكنّ ماركيز ساحر،
وعن ماركيز،
لكنّ بورخيس حقيقي،
وعن محمود درويش.. أدونيس مجدد،
وتولستوي.. ديستويفسكي حي،
وسارتر.. هيدجر الأصل،
وهكذا،
حتى أفقد كل أصدقائي!
[ [ [
أحببتُ مرة فتاةً ثم تباعدتْ دربانا،
وحين رأيتُها صدفةً بعد ستة أشهر،
كنتُ قد نسيتُ اسمها!
-19-
وراء زخرفات الجدار اسمنت وحديد،
وراء الطبقة الجلدية الشهية للمرأة..
شحوم وأوعية دموية وألياف،
وراء صور الناس معادن خبيثة.
لماذا تُصرُّ إذاً أنْ تعملَ حافراً وجرّاحاً ومُنقِّباً؟
كاتب وطبيب من عُمان