من "الجمر والرماد"، "الرحلة الأخيرة" والى "صور الماضي" يتم توسيع الأفق الخيالي بالارتهان للكتابة السردية الروائية، هذه التي تعمل على رسم حياة مفكر وسياسي عربي فلسطيني لامع "هشام شرابي" والواقع أن الرحلة مع السرد بمثابة الوجه الثاني لهذا المفكر الذي عرف بأبحاثه المرتكزة حول النظام الأبوي وآثاره على المجتمعات العربية..
على أن هذه المزاوجة في الكتابة فكر/سرد، فكر باعتبار النظر يتحدد بصرامة ودقة، وسرد من حيث كون الخيال يهب آفاق تكسير صورة المتداول والمعروف، وذلك بخلق واقع جمالي لا تمدنا به سوى الكتابة السردية، فيما الواقع الحق الموضوعي يشكل اللبنة الأساس للكتابة.. قلت إن هذه المزاوجة تتمظهر لدى مجموعة من الكتاب والمفكرين العرب: "عبدالله القروي"، "لويس عوض"، "زكي نجيب محمود"، "رفعت السعيد" وغيرهم.
في "صور الماضي" سيرته الذاتية التي تطال العقدين الأولين من حياته، يتناول "شرابي" بالحديث سيرة الحياة وسيرة المثقف والكاتب، كما سيرة السياسي..على أن هذه السيرة لا تعمل على وتيرة زمنية خطية تتصاعد وانما يلوذ الكاتب الى التكسير ليجعل فن السيرة يتداخل مع الفن الروائي الموضوعي لا الذاتي الخالص.. وكما تتداخل الأزمنة، نلغي الأمكنة كذلك، حيث الحديث عن "سوريا"، و "لبنان"، و "فلسطين" و "أمريكا". وبانفتاح السيرة على أزمنة متداخلة، وأمكنة كذلك، تتباين العلاقات الرابطة فيما بين الكاتب ورجالات التعليم، الثقافة والفكر.. بالاضافة الى الأسرة التي أسهمت في تربية وتكوين المؤلف "هشام شرابي".. وللذكر فإن معظم الشخصيات التي أقام معها علاقات ظلت وفية له الى أن انتهت الى الموت.
سيرة حياة:
يختزل كل انسان في حياة وموت.. الحياة كأثمن ما يمكن أن يعيشه، والموت كألذ عدو صارعه الانسان منذ القدم.. على أن تفاوت الرؤية الى الحياة يطبع مسيرة كل إنسان وبالأخص إن كان مبدعا يمتاز بالرؤية الفنية الجمالية، وبالتصور الفكري لمجريات الواقع.. لذلك فسيرة الحياة كما تجلو عنها "صور الماضي" تنطلق من تأسيس مفهوم للحياة..وهو بالطبع مفهوم المبدع المفكر الذي يرنو في الأغلب الى الانساني، وليس الفردي الذاتي..
فـ "هشام شرابي" لم يكن يهمه من حياته الكسب أو الوصول، وإنما ثمة قناعة استهدف الوصول اليها وهو ما تم لتبقى مصلحة المجتمع أعلى من التوجهات الذاتية الضيقة.. وهو ما يمكن أن يمتد ليطال جمهرة من المبدعين والسياسيين..
"لم يخطر ببال يوما أن أكرس حياتي للربح الخاص أو أن أضع مصلحتي الشخصية هدفا أعلى في الحياة، أقول هذا لا تبجحا بل لأصف ما حكم توجه حياة عاشها الكثيرون من أفراد جيلي الذين التحقوا بالأحزاب والحركات السياسية في جميع انحاء العالم العربي في الأربعينات والخمسينات.." (ص 23).
فانطلاقا من هذه القناعة يتولد حب الحياة، وحب الانسان أيضا. ومن خلال هذه القناعة تتحقق مجابهة ما يمكن أن يعوق المرء على الحياة على تأكيد الذات، وأقصد الموت، ليس الموت المفاجيء، وانما الموت الذي يأتي عقب قوة المرض حيث يفرض على الكائن التصدي ومجابهته، تمسكا بما في الجسد من حياة.. لتصبى العلاقة حياة /مرض،علاقة يطبعها الاختلال ما دام يترتب عنها الانعزال والحنين الى كل ماهو مفقود.. وبالأخص الى الحب..
".. لا تخيفني الشيخوخة يا أدونيس.. أتوقعها كما أتوقع سفرا الى بلد بعيد لا أعرفه وإن كنت أعرف عنه الكثير.. ما يخيفني هو نهاية الصيف.. نهاية حياة منفتحة على العالم.
أقشعر عند ما أرى نفسي وحيدا منغلقا على نفسي، ليس في حياتي الا صحتي والطبيب والدواء.." (ص 30) ".. في هذه الغرفة البيضاء الباردة أشعر بحنين جارف الى زوجتي والى ابنتي ليلى الى بيتي وكل خاص وحميم في حياتي.." (ص33).
إن الحياة /المرض بمثابة دعوة للتفكير المستقبلي في القادم، في الغائب، وفيما لا يمكن لقوة التفكير الانساني الوصول اليه.. فإن تتحقق مقاومة المرض لفترة، أو لفترات، يولد تساؤلات عدة حول ما يمكن أن يحصل مستقبلا.. إنه صراع الانسان مع جسده.. الانسان يقاوم والجسد يصد المقاومة بأعتى منها.. إذا ما ألمحنا للمحيط الذي يعيش فيه هذا الانسان، والذي يطلع عليه بالجديد دوما فيما يتعلق بصديق انتهى ضحية مرض خطير، أو فرد من أفراد الأسرة.. "خمس سنوات بالأكثر عشر: ربما هذه ما تبقى لي من عمري.. أسائل نفسي: كيف سأحيا هذه البقية الباقية من حياتي؟ " (ص 35).
وتبلغ مثل هذه التساؤلات مداها، لما تكون حياة الانسان قد عيشت في شطرها الأكبر خارج الوطن الأصل، حيث الولادة – إذ يعتبر المنفى ذاته صورة من صور المرض.. المرض الذي يتفاقم بتضاعف أنماط الاحتلال، والاهانة والقتل والتعذيب. فالى أين يحتمي الكائن إذا ما انتهى الى التقاعد وهو في غربته، لا حق له في وطنه إلا بما يتوافق والشروط القانونية..
".. لو أني قررت التقاعد في نهاية هذه السنة فما الذي سأفعله في أوقات فراغي؟ هل أعود الى الوطن ؟ أين "وطني" الآن ؟ الضفة الغربية، أدخلها بجواز سفر أمريكي لستة أشهر قابلة للتجديد؟ أم لبنان، حيث يسمح لي بالاقامة لمدة ثلاثة أشهر فقط ؟" (ص 36).
"إني في المنفى، لكن هذا المنفى هو بيتي وعملي" (ص 37)
إن استعادة الصورة المشرقة للحياة تتم وفق استحضار ذكريات الحب، تلك التي خبرها الكاتب منذ بداياته الأولى… وهي بالطبع البدايات التي تظل راسخة محفورة عبر المسيرة الحياتية.. إنها متنفس الذات والوجود.. وهي دهشة الجسد المبكرة.. الدهشة التي يحن فيها الجسد الى الآخر، حيث اللذة والمتعة.. وكما تستعاد الأنثى بالحب، نجد التوق الى المدينة التي أسهمت في تكوين الكاتب، وخلق الشخصية المثقفة الفاعلة.. واللافت أن "بيروت" بعد "سوريا" و "يافا" و "عكا" تظل محطة قوية في حياة الكاتب..
".. أظن أنها كانت المرة الأول التي أرى فيها جسد امرأة "(ص 49).
"كانت هيلدا أول فتاة أجنبية تقوم بيني وبينها علاقة حميمة.. جسدت لي ما كنا نسمع عنه حول الفتاة الأوروبية المتحررة" (ص 148)
".. منذ ذلك الحين أصبحت بيروت بلدتي الثالثة، فيها أتممت دراستي الثانوية والجامعية.." (ص 99)
"كان لبيروت آنذاك طابع حضاري متميز يجمع بين الثقافتين الأمريكية والفرنسية، فكان مركز الأولى في رأس بيروت والثانية في الأشرفية.." (ص 101).
سيرة مثقف وكاتب:
تتضح سيرة المثقف والكاتب من هذا الولع بالقراءة، وهو ولع نشأ مع "هشام " منذ فترة زمنية مبكرة حيث توسع خيال الطفل بقراءة قصص الأطفال التي تسعفه على التفكير والتخييل.. ومثل هذه القراءة تدفع على الدوام نحو البحث والتنويع، مما يجعل من القاريء شخصا باحثا لذاته عن مثال في ذات أخرى أو ذوات أخريات خاصة إن كانت هذا الذوات أسماء وعلامات فارقة على مستوى الابداع الأدبي.. وهذا النمط من القراءة لا يقف عند حدود معينة، بل يمتد ليشمل تنويعا على قراءات متباينة.. حيث تغدو فرص المقارنة متوافرة.
"منذ طفولتي أحب القراءة..ولعت بالقصص في روض الأطفال عند مس باين في يافا" (ص 24)
"بدأت حياتي الدراسية في الرابعة من عمري حين التحقت بمدرسة الست إفلين.. أذكر ذلك اليوم بوضوح (ص 81)
إن ما يتولد عن القراءة، وبالتالي تنويعها بداية الكتابة والتفكير فيه تفكيرا موضوعيا، ذلك أن من أساسيات الكتابة لدى "شرابي" – وقد تكون الحالة عامة – الاختلاء والعزلة الذاتية مع احترام نظام زمني يهب عمق التفكير، علما بأن الكتابة عنده تتولد من بطء ولادتها دون سرعة ذلك والكتابة لدى "شرابي" قد تكون سردا أو فكرا كما أشرنا سابقا على أن للكتابة الفكرية خصوصياتها..
"في السنوات الأول من حياتي الجامعية كان ميخائيل نعيمة بمنزلة معلمي الروحي.." (ص 199)
"..كانت تلك القراءات بالنسبة لي "نقلة" فكرية عميقة لا على مستوى القراءة وحسب، بل على
مستوى النظر والتفهم في "الكتابة".." (ص 120)
"قال وهو يجلس الى الطاولة: "ساقرأ عليكم اليوم قصة بقلم هشام شرابي" ص 117.
ولعل من أهم هذه الخصوصيات: النقد الذاتي: وذلك لما تتم مراجعة ما قيل أو كتب، بحثا عن تصحيح وتقوية ذاتية والعالم الحق أصلا لا يدعي اكتمال حقله المعرفي.. بل إنه ينتقد ذاته باستمرار وهو حال "شرابي" مع منهجه القائم على تبيان آثار النظام الأبوي على تطور المجتمع العربي.
"وبعد كل محاضرة ألقيها أو نقاش أشترك فيه مازلت أنتقد نفسي وأحاول في مخيلتي، تصحيح ما
ارتكبته من هفوات في الأسلوب والمضمون" (ص 35)
"كنت أحيانا عنيفا في منهجي النقدي الذي سلكته في كتاباتي حول النظام الأبوي وأثره في تطور شخصية الفرد في مجتمعنا العربي.. وربما قسوت على الأب في تشخيصي له سلطة ورمزا.. لا أريد هنا أن أظلم الشخص الذي كان أبي.. فهو في ذاكرتي أبا حنونا، وله في قلبي مكانة محفوظة لا يغيرها الزمن " (ص 83)
سيرة سياسي:
إن سيرة السياسي في "صور الماضي" تتمظهر من خلال التكوين الفكري لـ "هشام شرابي"، كما تعكسها العلاقة الجامعة فيما بينه و "أنطون سعادة ".. فالتكوين الفكري يؤهل لرسم صورة عن الوضع العربي في راهنيته تأسيسا على الصلة الوثيقة فيما بين المثقف والسلطة وهي صلة تناولها البحث والتمحيص أكثر من بحث ودراسة لعامل أهميتها القصوى.. إذا ما أخذنا بالاعتبار – وهو ما جاء به شرابي في سيرته – كون المثقف بمثابة الباحث عن الحقيقة وهو بحث غير مرغوب فيه، مادامت السلطة تنشد ولاء المثقف لا حقيقته التي يبحث عنها… وهو ما يجعل المجتمعات العربية عرضة لأنماط من الاختلالات المختلفة يعتبر النظام الجديد أحد التنويعات المنبثقة عنها..
"في المجتمع العربي يريد المثقفون ايصال "الحقيقة" الى ذوي السلطة، وهؤلاء يرفضونها.. فهم لا يريدون "حقيقة" المثقفين ولا فلسفتهم، بل ولاءهم الشخصي " (ص 26).
"ترى ما سيكون موقفنا عندما نكتشف أن هذا النظام الجديد ليس سوى النظام الرأسمالي القديم باستغلاله الطبقي وديمقراطيته الكاذبة وجشعه الاستعماري الذي قامت الاشتراكية لتغييره واستبداله بالنظام الانساني العادل ؟" (ص 29).
أما عن الصلة بـ "أنطون سعادة" فتجلو عن علاقة مع زعيم سياسي له مكانته، وهي علاقة أثرت على مسار "هشام شرابي" وجعلته يرتبط بالحزب ارتباطا أقصده حتى عن التفكير في مستقبله بيد أن الهم السياسي الذي كان مدار الاهتمام ارتكز حول:
أ – العمل على تقوية الحزب والمواجهة من داخله.
ب- الحرص على أهمية الهوية، من منطلق اللغة الواحدة، والحضارة الواحدة والتاريخ والمصير المشترك.
ج- الثورة إذا اقتضى الأمر ذلك، ولو بحمل السلاح.
لقد حملت هذه المرتكزات مؤلف السيرة على اعادة قراءة "نشوء الأمم" كتاب "أنطون سعادة".
"كان التأثير الذي تركه سعادة في نفسي طاغيا الى درجة أني لم أعد أرى لنفسي مستقبلا خارج الحزب ولا عملا إلا داخله.." (189).
"لم يراودني شعور بالذنب بأني تخليت عن "هويتي" العربية.. فسورية أمة عربية تجمعها بمصر والجزيرة العربية والمغرب لغة واحدة وحضارة واحدة وتاريخ واحد ومصير واحد.." (ص 190)
"أعدت اليوم قراءة مقاطع من "نشوء الأمم" كتابه الفذ الذي وضعه في سجن الرمل في بيروت وهو في الحادية والثلاثين.."(ص 196)
"قال لي ونحن نسير في الطريق المنحدر نحو الدير: "لا مهرب من الثورة.. لقد فرضوها علينا.. أهم شيء التزود بالسلاح.." (ص 200).
أخلص مما جئت به الى القول، بأن سيرة الحياة، المثقف والكاتب والسياسي، هي الحوطة التامة لـ "صور الماضي".. وأعترف في هذا المقام بأني لم أقرأ سيرة عربية واهنة بمثل هذه الفنية، وهذه الجاذبية والغنى، وبالرغم مما أحرزته سير عربية من شهرة عالمية.. لذلك أعتبرها إضافة قيمة الى تجارب سابقة لي أن أذكر منها: سيرة "طه حسين"، "أحمد أمين"، "توفيق الحكيم"، "عبدالمجيد بنجلون"، "جبرا ابراهيم جبرا".. وغير هؤلاء…
صدوق نور الدين (كاتب من المغرب)