بهدوئه وصمته يثير عواصف العالم، ويقلق سكينة الأشجار والغابات الهاجعة في الأقاصي.. لقصيدته وداعة البحيرات النائية، واخضرار الحلم في صدور الزهاد والأطفال.. وكالناسك يقرع بوابة المجهول لتنفجر ينابيع القصيدة وتنطلق الحمائم والأعراس والأغاريد في فضاء الكون.. بحزنه يحفر صخور الغيب، ويجتاز صحارى الغياب حاملا أوراقه وحدها في وجه الريح، ليرسم عنفوان الجبل وتطلعات الشاعر ورغبات الذات في رحلة الحياة الوعرة.. إنه الشاعر والأكاديمي والمترجم العماني الدكتور هلال الحجري الذي صدر له مجموعة شعرية بعنوان (هذا الليل لي) و(العروض المغنى مشروع جديد لتدريس الأوزان الشعرية) إلى جانب إصدار باللغة الإنجليزية بعنوان (إعادة النظر في الاستشراق: أدب الرحلات البريطانية في عمان)، بالإضافة إلى مشاركاته العديدة في المهرجانات والمناشط الثقافية داخل السلطنة وخارجها..
نستضيف الدكتور هلال الحجري في هذا الحوار الذي يتحدث من خلاله عن رؤاه وتجربته وذكرياته طفلا ويافعا ومغتربا وغريبا وشاعرا، إلى غير ذلك من الأوراق التي يخرجها هلال الحجري من حقيبته للمرة الأولى…
uu ثمة ظلال لطفولة غامضة تلوح في قصيدتك.. طفولة تتشكل في فضاء الذكرى والحزن.. هل لك أن ترسم ملامح هذه الطفولة على نحو أكثر وضوحا؟
طفولتي الأولى الحقيقية كانت رائعة، تشكلت في فضاء من الحرية لا أملكها في طفولتي المتأخرة! طفولة ما كانت تعني أكثر من اللعب منذ بزوغ الفجر في القرية حتى مأوى الطيور إلى أعشاشها. كنت وأترابي في تلك المرحلة نهيمن على معاهد الفرح بكل ألوانها…نتسابق على جذوع النخل صعودا إلى القمم…نهوي بدراجاتنا الهوائية عبر المنحدرات السحيقة…نغوص في الأفلاج تحديا بطول الأنفاس…نتزحلق على الرمال بصدورنا العارية…نخطف الزغاليل من أوكارها في الخرائب والقلاع…نصطاد الجراد على مواقد النيران…نتسلق أشجار المانجو في حَمّارة القيظ…نمتطي الحمير الضالة تحت وهج الظهيرة…نقتحم السواقي ساعة القيلولة…نتربص بغزلان الفلاة يوم يردن الأفلاج في الصيف… نتضارب بالعصي ثم نلعب بالنرد…نلعب كرة القدم حفاة حتى تتشقق أقدامنا…نسرق الُّلعَب من الباعة في الأعياد… نبالغ في تزيين دراجاتنا كي يكتريها أطفال الصحراء… نتعلق بالجرافات وهي ترصف شوارع القرية…نجمع قطع غيار السيارات التالفة لنكون منها لعبا غريبة..
كل هذه الطفولة المزنرة بالفرح، عشتها بجنونها، ويقينها، ببراءتها وخبثها، بضحكها وبكائها، برخائها وحرمانها، بحزمها وانفلاتها، ولكنها لم تكن يوما طفولة وحيدة وعزلاء..بل كانت مدججة بالأصدقاء والأتراب!
uu الصحراء ماثلة لديك.. حاضرة بصخبها وهواجرها وحدائها وشجيراتها وقوافلها الظاعنة.. أهو الحنين الذي يقذف بكل هذه التلال إلى صحوك؟
فتحت عيني على الحياة في قرية الواصل، وهي ضلع في خاصرة الربع الخالي، حيث رمال الشرقية تشكل امتدادا وجوديا لهذا القفر اليباب. ومع ذلك، تتعانق في هذه القرية ألوان الجغرافيا بشكل غرائبي مدهش؛ الذهبي، والأخضر، والرمادي، والأبيض، ممثلة الرمال، والنخيل، والجبال، والمدر. وكنت في خطوات الصبا أذرع هذه الألوان بحرية مطلقة. ولا أستطيع الآن أن أجزم بأن واحدا منها دون الآخر كان له التأثير الأعظم على تجربتي الشعرية. صحيح أن الصحراء حاضرة بقوة في بعض القصائد. وصحيح أني في طفولتي تقلبت على الكثبان وملأت جيوبي بالرمل. وصحيح أني على مستوى الاهتمام والبحث أنحاز إلى الصحراء بثيماتها المختلفة، وقد قمت بترجمة نصوص عديدة من الأدب الإنجليزي تمس الربع الخالي خصوصا على مستوى الشعر، والرواية، وأدب الرحلات. وصحيح أيضا أني أشعر الآن في هذه المرحلة بضرورة إغراق الكون في عباب الربع الخالي لتطهيره من الأحقاد والصراعات. ولكن مع ذلك، تدهشني أيضا جبال عمان بألوانها وتكويناتها المختلفة، خاصة الجبل الأخضر، بسحره، ومغيباته، وعنفوانه، وبنت كرومه، وتاريخه، ورعيانه. وأرى أن هذه الجبال العظيمة تحفظ للمكان توازنه، وأشعر أن العمانيين يستمدون خلودهم وثباتهم منها. حين أنظر إلى جبل في عمان، يغمرني إحساس بالسمو، والأمن، والهيبة. وفي لحظات ما أتخيل أن هذه الجبال كانت في الأزمان السحيقة غذاء للنسور، تنقبها من قممها، ولذلك جاءت مقطمة من أطرافها كقطع من الكعك!
إذن لم تكن الصحراء وحدها التي لونت مخيلتي، وإنما ساهمت الجبال، والنخيل، أيضا في نحتها وتلوينها.
uu حملت صحراءك المشمسة إلى سماوات أوروبا بثلوجها وغيومها الماطرة , لتتجاور كل هذه الطقوس في ذات مفردة.. كيف اجتزت صقيع الغربة تلك؟
غربة الدراسة في أمريكا وبريطانيا، كانت مزيجا من الفرح والحزن. أنا القادم من الصحراء العربية، كيف تتسع لي تلك الأجواء المكفهرة؟ لم يكن التساؤل يتعلق بالطقس والطبيعة. كلا، بل يتعلق بالثقافة، واللغة، واللون، وهي أمور ليس من السهل انسجامها في بلدان تعصف بها مشاعر العنصرية، والتفوق الحضاري، والقوة الاستعمارية، وصراع الشرق والغرب، والصور النمطية حول شعوب العالم الثالث. المفارقة تحدث، لأننا ننطلق من مجتمعات منفتحة على الآخر، الآخر المختلف عنا لونا، ودينا، وعرقا، ولغة. هنا في عمان مثلا اعتدنا تقبل الآخر الأجنبي، بتسامح لا نظير له، شهد به معظم الرحالة الأوروبيين الذين قدموا إلى هذه المنطقة قديما وحديثا. وحينما نرحل إلى أمريكا أو أوروبا، نتوقع لا شعوريا المعاملة بالمثل، وهنا تكمن المفارقة والصدمة. والرحالة البريطاني ويلفرد ثيسجر، يسجل بشفافية باهرة، مثل هذه الصدمات الثقافية، يقول في كتابه «الرمال العربية»: «بالفعل، إن أسوأ وحدة هي أن تكون وحيدا في حشد من الناس. لقد كنت وحيدا في المدرسة، وفي المدن الأوروبية، حيث لم أكن أعرف أحدا، لكننيّ لم أكن وحيد أبدا بين العرب. لقد جئت إلى بلادهم حيث كنت غريبا، وقد مشيت في السّوق فحيّاني صاحب محلّ، ودعاني للجلوس بجانبه في محلّه، وطلب لي الشّاي. ثم تقدّم أناس آخرون وانضمّوا إلينا. سألوني من أكون، ومن أين جئت، وأسئلة أخرى غير محدودة لا ينبغي أن نسألها نحن غريبا أبدا. وقد دعاني أحدهم للغداء، وفي الغداء قابلت عربا آخرين، حيث دعاني شخص آخر منهم للعشاء. وقد تساءلت بحزن كيف سيكون شعور العرب الذين نشأوا على هذه التقاليد لو أنهم زاروا إنجلترا، وتمنيت أنهم سيدركون أننا غير ودودين تجاه بعضنا البعض، تماما كما يمكن أن نبدو لهم».
على أنني هنا لا أعمم، فلم تكن السنوات الأربع التي قضيتها في بريطانيا كلها بهذه الصورة. حدثت هذه المشاعر بالوحدة والنأي في السنة الأولى، لكنني بعد ذلك تأقلمت حين اقتربت أكثر من المجتمع البريطاني، وتفهمت الاختلافات الثقافية بين العرب والإنجليز، وتوصلت إلى قناعة، أتمنى ألا تكون مخطئة، وهي أن صمت الإنجليز وعدم مبادرتهم إلى الاختلاط بالأجانب، ليس مردها العنصرية بالضرورة، وإنما هي طبيعة متوارثة تجري في دمائهم منذ قديم الزمن، ولا تقتصر على تعاملهم مع الغرباء، وإنما تشمل سلوكهم تجاه بعضهم البعض. يظل الإنجليزي نائيا بنفسه، حرونا، يرقبك بأناة وصمت، غير مندفع في مشاعره وعلاقاته، حتى يثق بك، وحينها ينكسر الثلج، وتصيب منه صديقا حميما يمطرك بأسئلته وتطلعه لمعرفتك.
لحظات الفرح لم تكن قليلة في بريطانيا، قضيت سنوات ممتعة في تحصيل المعرفة، واكتشاف المجهول. وأذكر أن لندن على وجه الخصوص، كانت مسرحا لي للتأمل، والحرية، والثقافة. هناك في تلك المدينة العظيمة، أيقنت أن الرغبة هي قمر الكائن، يضيء به غياهب الروح، ويستهدي به في عتمات الغربة. من نهر التايمز، إلى المكتبة البريطانية، إلى كلية ساوس وأكسفورد استريت، إلى لستر اسكوير، وأجوارد رود، كنت أسحق عطش الصحراء تحت قدمي، وفي غضون ذلك، أبحث عن المعرفة، وأكتب الشعر.
uu تتأمل , وتستذكر , وتحدق في المدى عبر نوافذ الشعر , لكأنك تبحث عن خلاص ما.. أي خلاص ذاك الذي تهبه لك القصيدة؟
يدرك الشعراء جيدا أنه لولا كتابة القصيدة لانتحروا! الشعر يمنحنا رغبة في الحياة، يجمل لنا الوجود رغم تشوهاته وقبحه. وهذا في رأيي أهم من فكرة «التطهير» الأرسطية، التي يرى من خلالها شيخ الفلاسفة أن الشعر يجعل الشاعر متزنا في الحياة، ومنسجما مع المجتمع. تحيق بك ملمات الدهر، ويعتصرك الأسى، وتشرف على الموت، وفجأة تشرق في روحك الحياة عبر كلمة، أو مقطع، أو قصيدة، فما الذي يحدث؟ أعتقد أنها غواية الخلق. الشعر يجعلنا نتعالى على الوجود، كما الحُمَيّا، تسري في مفاصلك، فتتعاظم نفسك، وتطل على العالم بروح الزاهد في كل شيء!
المسألة ليست تنظيرا، هي حقيقة ملموسة، تكتب عن الموت فتتخلص من هواجس الانتحار، تكتب عن الحزن فتكفكف دموعك، تكتب عن حرمان الحب فتنقذ المعشوق، تكتب عن الضياع لتقترب من الله، تكتب عن انحطاط الأمّة لكي لا تفجر نفسك فيها!
و مع ذلك، أنا لا أختزل الشعر في هذه «الوظيفة». الشعر أحيانا، بالنسبة لي، ضرب من العبث الجميل، كاللعب في الطفولة: بناء المكعبات وهدمها، جمع الأصداف ثم رميها، اصطياد العصافير ثم إطلاقها، الركض وراء الفراشات، اللعب بالنرد، وهكذا تكون القصيدة لعبة طفولية عابثة، لا تسوقها إلا البراءة، والرغبة في اكتشاف المجهول.
وقد يتصور البعض أن هذه اللعبة سهلة ومجانية، ولكنها في الحقيقة، عزيزة وباهظة الثمن. ليست متاحة إلا للأطفال- الشعراء الأشقياء، الصعاليك الذين يؤمنون بقول أولهم:
أبيتُ على بابِ القوافي كأنما
أداجي بها سِرْبا من الوَحْشِ نُزَّعا
uu القصيدة إعادة تشكيل للذات , ومواجهة مع العالم بخرابه ودماره وويلاته وكوارثه.. هل ترى أن القصيدة تستوعب كل ذلك؟
نعم.. تستوعب القصيدة كل هذه المواجهات، شرط ألا تقع في فخ المباشرة والخطابة والضجيج. لم يكن الشعر الجيد في الأدب العربي، منذ الجاهلية حتى اليوم، إلا مواجهة ورفضا للعالم، بمعناه العشائري ضد الفردي، وبمعناه الخانع ضد الثائر، وبمعناه السائد ضد النوعي، وبمعناه القديم ضد الجديد. الشاعر امرؤ القيس لم يكن منضويا تحت إبط القبيلة. كان ضد التابو القبلي، بمحافظته، وقمعه، ولذلك اتهمته سلطة النقد القديمة بأنه كان «يَتَعَهّر في شِعْرِه». وقد مثلت تجربة الشعراء الصعاليك، بتمردها على النظام العشائري، في العصر الجاهلي مرحلة مضيئة في الشعر العربي، على مستويي الشكل والمضمون. فنجد في أشعار عروة بن الورد، ورفاقه، صيحات الرفض للفقر، والجوع، والظلم، والاستبداد، والتفرقة العنصرية. وقد انسحب هذا الرفض ليشمل تقاليد القصيدة العربية الكلاسيكية، مثل التصريع، والمقدمات الطللية، والمعلقات الطوال، ومدح الشيوخ، ليحل محلها الشعر السردي، والوحدة الموضوعية للقصيدة، والمقطوعات القصار، ومدح الذات ورفاق الدرب.
وظلت القصيدة المشاغبة في العصرين الأموي والعباسي، عند مسلم بن الوليد، وبشار، وأبي نواس، وأبي تمام، والمتنبي، وآخرين، هي الأعمق فنيا، والأكثر خلودا عبر التاريخ. في أشعارهم انتصار للذات، وتعظيم للذة، ورفض للسائد، وفتح جديد في اللغة، والأسلوب، والإيقاع. وقد اتكأت القصيدة العربية الحديثة على هذا الإرث المضيء، في مشروعها لمواجهة قوى الظلام والتخلف في عصرنا هذا، وتعاطيها مع تجارب مماثلة في الآداب العالمية.
إذن الشعر ليس سكونا، بل هو قلق، وتساؤل، ورفض، وتحد، وإعادة صياغة للعالم.
uu رغبات كثيرة تتداخل في نسيجك الشعري وتأتي صريحة حينا , ومتوارية حينا آخر.. إلى أي مدى تكون القصيدة انعكاسا لرغباتنا وتوقنا وأحلامنا المقبورة؟
أعتقد أن القصيدة ليست انعكاسا، وإنما هي الرغبات والأحلام ذاتها. ولا أتفق مع مدرسة التحليل النفسي الفرويدية، التي تفسر الإبداع في ضوء التنفيس عن رغبات مكبوتة، وأحلام كامنة في اللاوعي. هناك رغبات كثيرة، لا مجال لتعويضها، نعيشها، ونكتبها في آن معا.
وأبو نواس حين تتبع خيوط غرائزه شعريا، لم يكن يفتقدها في واقع حياته، بل عاشها الرجل بتفاصيلها، كما تثبت سيرته في كتب الأدب. ولكن هذه الرؤية أيضا ينبغي ألا تكون مطية لذوي النفوس المريضة، والعقول الساذجة، في ترصدهم لغرائز الإنسان في الأدب والفن، وإدانة المبدعين من خلالها. منهج سقيم كهذا، لن يدع مجالا للكتابة عن المسكوت عنه في واقع الحياة. وقد شاعت هذه القراءات الخاطئة في عصرنا الحديث، للأسف، حيث أدين بعض الكتاب في العالم العربي بتهم متخيلة تتعلق بترويج الجنس، وإفساد المجتمع.
ويبدو أن العرب القدماء كانوا أكثر نضجا، وفهما، في تذوق الشعر، فلم نقرأ لفقيه أو عالم رأيا يكفر فيه أبا نواس، أو بشارا، على كثرة ما قالاه من شعر في الخمر والغرائز. بل خلافا لذلك، وجدنا بحر الأمة عبد الله بن عباس، وهو من هو في علمه وورعه، ينصت للشاعر عمر بن أبي ربيعة في المسجد الحرام، وهو ينشده قصيدته الرائية، التي يقول فيها:
و كان مِجَنـّي، دون من كنتُ أتـّقي
ثلاثُ شخوصٍ، كاعبانِ ومُعْصِرُ
وكذلك أيضا فهم مشائخ الإباضية القدماء الشعر، حيث لم يدينوا شاعرا بالفسق لتشبيبه بالمرأة، أو لتغنيه بالخمر، رغم كثرة ما نقرأ من هذا الشعر في دواوين الشعر العماني. فلم نسمع أحدا منهم أدان الشاعر أبا مسلم البهلاني، في قوله:
فأدنتْ ثغرَها مني وقالتْ
تمتّعْ بي إلى وقتِ الشروقِ
فبتُ أمصُّ وردة وجنتيها
وأرشفُ جمرَ مبسِمِها الشريقِ
و قد وظف بعض الصور في شعره مما لو قالها غيره لاتهمه أهل الجهل بالكفر, حيث يقول:
عصرتُ لكم من خمرة الله صفوها
فموتوا بها سُكرا, فما السكرُ مأثما
لقد هـام أهـل الاستقامـة قبلنـا
بها فانتشـوا بيــن الخليقـــة هُيـّمـا
ويقول أيضا:
مَنْ كمثلي وذا الشرابُ شرابي
والنبيـّونَ كــلـهم نِدْمــــاني
هام قبلي به الخليـلُ وموسى
ثم عيسى وصاحبُ القـرآنِ
وهناك أمثلة كثيرة لشعراء عمانيين، وغير عمانيين. يقول الشاعر العالم إبراهيم بن قيس الحضرمي:
مالتْ تُسائلنـي, إذ مثلها يسـلُ
خـــــودٌ خدلـّجـــةٌ ألفاظُهــا عســـلُ
والثدي مثلُ مليحِ العاجِ صفوتُه
والصدرُ منها كلون الشمسِ مشتعلُ
لكـنْ لها كفَـلٌ رابٍ يُتَعْـتِعُها
عــــند القيــامِ وجيـــدٌ زانــه النبـلُ
ويقول أيضا:
فكيف إذا عن كشْحِها انحلّ دِرْعُها
ومئزرُها عن عَجْزِها المُترجــرجِ
ويقول خلف بن سنان الغافري وهو من فقهاء وعلماء القرن الحادي عشر الهجري:
اذا ما تثنـّتْ في الملا قال صاحبي
علــى فقـدِ هـــذي لا يطــيبُ منـامُ
فلو شامها رهبـانُ لبنـانَ آثـروا
هواها وساحوا في الغرامِ وهاموا
uu تفر منك الكلمات , فتلجأ لعزلتك الكثيفة بحثا عن رفة جناح أو طيف امرأة.. ما الذي تكتشفه بانتظارك في أدغال العزلة الموحشة؟
العزلة معبد الشعراء والفلاسفة. لطالما تغنى الشعراء العرب بالعزلة، وامتدحوها بأنها من سمات العلماء، وقد عبر عنها المعري بشيء من نرجسية الشاعر، حين قال:
لا تُوحِشُ الوحدةُ أصحابَها
إنّ سهيلا وحده فارِدُ
و قد عظم المتصوفة القدماء أمر الخلوة، أو العزلة، حتى أن الإمام الغزالي أفرد لها فصلا في كتابه «إحياء علوم الدين». ولا أبحث هنا عن تشريع للعزلة بهذا الكلام، ولكني أؤسس لها كخيار نخبوي، أفاء إليه الرسل، والفلاسفة، والصوفية، والشعراء، منذ بدء الخليقة.
في العزلة، فضاء للقراءة، والكتابة، والتأمل، وجلد الذات، وتطهيرها من أدران الاختلاط بالدهماء. ومع ذلك، لا أرى كما يعتقد ثلة من الأدباء، أن العزلة هي بالضرورة معين الإبداع وينبوع الشعر. لا أميل إلى هذه الفكرة، بل أحتقرها أحيانا، لأن لحظات الإبداع لا تقبل التكييف. الإبداع مس من العبقرية، فكيف نكيفه بزمن ما أو مكان ما. ويحلو هنا لبعض المتشاعرين أن يقول لك: أنا لا ينزل علي إلهام الشعر إلا في سكون الليل حين أكون وحيدا، ويسترسل في التنظير حول هذا. بالنسبة لي هذا وهم، لأن في تصريحات الكثير من الأدباء العالميين ما يثبت أن الشعر، خاصة، أمشاج من لحمة الحياة اليومية. قد تقدح في ذهنك لقطة شعرية، أو صورة، أو مقطع، أو قصيدة، وأنت في السوق، أو في المقهى، أو في القطار، أو في الطائرة، حيث صخب الحياة عارم، ويكاد يتخطفك الناس من كل جانب. وليس هذا ارتجالا للشعر، كما كان يفعله قدماء العرب، ولكنه استسلام لعفوية الخلق، وقبض لشرارة الشعر قبل أن تنطفئ.
uu زاهد في حلمك , حتى لتتضاءل أحلامك من طيف امرأة إلى فخذ دجاجة.. أهكذا تتصاغر الأحلام؟
المهم أن نحلم، وقيمة الحلم الشعري لا تكمن في حجم المحلوم به، وإنما في صدق الحلم ذاته. في الشعر لا نحلم بالقصور، والثروة، والرفاهية، ولكنا نحلم بالحياة، حتى ولو كان قوامها طيف امرأة، أو فخذ دجاجة!
لقد حلم الشاعر العربي منذ الجاهلية حتى اليوم بالثورة والمجد، فما الذي تحقق غير هذا الخسران المبين! أكبر الشعراء العرب، قذفت أحلامهم في وجوههم. أولهم امرؤ القيس، الذي يقول:
لقد طوّفتُ في الآفاق حتّى
رجعتُ من الغنيمةِ بالإيابِ
وقد حلم المتنبي بشيء عظيم، لم يفصح عنه استصغارا لمن حوله من المتسلقين والخذلة:
يقولون لي ما أنتَ في كل بلدة
وما تبتغي؟ ما أبتغي جَلّ أنْ يُسْمَى
ولكنه في نهاية الحلم رجع مخذولا:
ماذا أخذتُ من الدنيا؟ وأعجبها
أني بمــا أنـــا بـــاكٍ منــــه محسـودُ
وتستمر دوامة خذلان الأحلام في الشعر العربي، حتى العصر الحديث. يقول محمد الماغوط:
«كنت أحلم بجلباب مخطط بالذهب
وجواد ينهب في الكروم والتلال الحجرية
أما الآن
وأنا أتسكع تحت نور المصابيح
أنتقل كالعواهر من شارع إلى شارع
أشتهي جريمة واسعة
وسفينة بيضاء، تقلني بين نهديها المالحين،
إلى بلاد بعيدة».
إذن لم يبق أمامي إلا أن أحلم بالسفر، ومغيّبات الجبل الأخضر، والقراءة في المقاهي، والغطس في رباعيات الخيّام، والتيه في الربع الخالي، والثأر من كل شيء في حمّامات الطائرات، والغرق في شَرْق ألف ليلة وليلة.
uu مالك بن فهم , وابن خلدون , والخيام , وإرم ذات العماد وغيرها.. أسماء وأمكنة تطل عبر حروفك في وضاءة متناهية.. أتراك تستنطق الماضي حين تقصر أبجديات اللحظة عن البوح؟
لا مفر من التاريخ. أشعر أحيانا، كما شعر المتنبي والماغوط، بأن الماضي هو الزمن المثالي للحياة. يقول المتنبي:
أتى الزمانَ بنوه في شبيبته
فسَرّهمْ، وأتيناه على الهرَمِ
و يؤكد الماغوط نفس الإحساس:
«لقد جئتُ متأخرا إلى هذا العالم
كان ينبغي
أن أخلق
مع أولئك الرومانتيكيين القدامى
ذوي اللحى المتهدلة، والياقات التي يأكلها العث
أسكن في غرفة من القرميد الأحمر».
ويتعزز هذا الإحساس الآن، على وجه الخصوص، في غمرة الانحطاط الخلقي، الذي يغمر العالم، ببطشه، وابتزازه، ولا إنسانيته. وفي قصيدة في «هذا الليل لي»، رسمت صورة لـ«إرَم» على أنها هي النجاة، تصلح منفى للشعراء وآخرة لهم. ورغم أن هذا التصور للزمان والمكان، تصور رومانسي، بعيد عن الواقع، إلا أنه لا محيد عنه. وما حاجتنا إلى واقع مترهل، عجوز، نشهد فيه انهيارا شاملا للحضارة، بمعناها القيمي، والأخلاقي؟ إن بعض الفلاسفة جن من هول ما رأى من تدهور البشرية إلى أقصى دركات الحضيض.
uu تدير ظهرك لحرائق العالم , وتحدق في مرآة الروح وحدها.. لماذا يغض الشاعر طرفه عن كل هذه الإنهيارات في جدران الحياة؟ (هذا السؤال سيكون ضمن التحقيق حول الشاعر والالتزام , والتهمة الموجهة للشعراء بأنم بعيدون عن هموم الأمة)
سأستعين بشيخنا الأصمعي في الإجابة على سؤالك، وهو الذي واجه القضية نفسها منذ قرون بعيدة. تصدى هذا الناقد المثير للجدل للضعف الذي عصف بجموح الشعر العربي حين جاء الإسلام. فقد رأى شعراء صدر الإسلام من أمثال كعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة، وحسان بن ثابت انصرفوا عن رواء الشعر ومائه إلى جفاف المثل والأخلاق، فأطلق مقولته الشهيرة «الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف، هذا حسان بن ثابت فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره». وهذه النظرة الثاقبة المبكرة في النقد العربي تؤسس لجدالنا في النقد الحديث حول الشعر الواقعي والشعر الذاتي، وهل الشعر مرآة المجتمع أم «مرآة الروح وحدها» كما تنص في سؤالك. وأجدني أنحاز إلى أن الشعر هو الحياة، كل الحياة بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة، الغثة والثمينة. المرآوية ليست كافية لأن نصف بها الشعر، هذا الزئبق الذي فلت من بين أنامل جميع النقاد في العالم، ولم يستطيعوا الإمساك به. وحين يكون الشعر هو الحياة ينبغي أن يأخذ شمولها، ضيقها، اتساقها، تلونها، فرحها، حزنها، قيمها، رذائلها، إلاهها، شيطانها، وضوحها، غموضها، سكرها، صحوها….
ما من شيء يمكن أن يحيط بمجال الشعر. الشعر أكبر من الالتزام. الالتزام أيدولوجيا، عقيدة، حزب، سياسة، إسلام، شيوعية، قومية. والشعر نقيض كل هذه المفاهيم. لم يفلح من حاول أن يؤدلج الشعر، أو يجعل له رسالة هادفة، لا الإسلاميون، ولا الشيوعيون، ولا القوميون. ستصفق الجماهير البلهاء كثيرا لناظم يعزف على وتر السياسة، أو الدين، ويجعل من قضايا فلسطين والعراق ولبنان وأفغانستان والبوسنة والهرسك، غطاء لعجزه عن الحفر في صخر الشعر ومكابدته. ولكن كل ما يفعله مكاء وتصدية، سيذهب أدراج الرياح.
uu استأثرت بالليل كله لك, ونحن نهب هذا الفضاء لنشيدك.. فما الذي ستقوله عَجِلا في ارتباك الغياب؟
مزيدا من الحزن..
ما من شجرة
ستعصمني من
هذا الطوفان
غير
حزني الطويل!
حاوره: حسن المطروشي
شاعر من عُمان