الشاعر "هلال سالم السيابي" من سلطنة عمان، هو أحد فرسان الشعر العربي الأصيل، تربطه بالشعر القديم أواصر عشق واستلهام وإعجاب وولاء، حتى ملك ديباجته، وفك مغاليق أسراره الفنية، فغدا البيان العربي الناصع طيعا على لسانه، يرفده تمكن لغوي لابد منه لمن ينظم الشعر التقليدي، لأن هذا الشعر لا يفتح بابه إلا لمن يمتلك ناصية اللغة، فإذا لم يكن متمكنا من اللغة فسرعان ما يظهر عجزه وترديه. على نقيض بعض شعراء القصيدة الحديثة الذين يدارون عجزهم اللغوي برفض كل ما ابتدعته القرائح من صور بيانية موروثة، لأنها في زعمهم بليت وفقدت تأثيرها، وهم في ذلك يحطمون ذلك النسيج اللغوي المتين، ويهربون من التزاماتهم تجاه سلامة التركيب ودقة اللغة واحترام بنيتها ودلالاتها.
وليس غريبا ألا نعرف عن شعر شاعر عماني كالسيابي إلا مصادفة، فالمجلات والصحف عندنا، سدت أبوابها في وجه هذا الشعر، فهي تريد أن تنزع عن الشعر العربي عمامته، وتلبسه القبعة الفرنجية الوافدة، لأنه في نظر المنظرين للتجديد جمدت أساليبه وتجاوزه الزمن، فبدا شعراء القصيدة التقليدية اليوم معلقين غبين ماض يقدرونه ويعتزون به، وحاضر لا يشجعهم على تقديم أنفسهم للناس، وكيف نسمع عن شاعر عماني في بلد عربي آخر، وقد عز التواصل الفكري، وأقيمت الحدود والحواجز بين الواحات الثقافية في الوطن العربي.
واستقل كل بلد بإبداعه، فلا يتاح للقارئ العربي أن يخرج من حدود إقليمه ولا أن يتفاعل والروافد التي تكون نهر الثقافة العربية.
ويبدو أن في طبع الشاعر "هلال السيابي" لونا من التواضع والتهيب والتحرج، فهو لم ينشر من شعره إلا قصائد محدودة في المجلات والصحف المحلية، مع أنه عاش بحكم عمله الدبلوماسي سفيرا لبلده متنقلا بين الأقطار العربية، ودفعه اعتزاره بعروبته وإسلامه إلى أن يخص الأقطار العربية وعواصمها بقصائد غر تفصح عن شاعرية متميزة، وموهبة نادرة لا ترقى إليها قرائح شعراء يحتلون صفحات الجرائد وتنهمر دواوينهم لتملأ الأسواق، فمن حق أولئك الذين يمنعهم الحفاظ عن التماس الشهرة أن ينصفهم النقد، ويضعهم في مكانهم الصحيح بغض النظر عن الشهرة الأدبية التي يسهل اقتناصها، مع ضياع النقد وتحوله، مع الأسف الشديد، إلى أداة ترويج وتكسب وتبادل مصالح.
وقد أسعفني الحظ بالتوصل الى مخطوطة ديوان الشاعر "السيابي" الذي يضم أكثر من مئة قصيدة نصفها في الوطنيات ومثلها في القوميات، وكأن الشاعر وقف شعره على حب وطنه وقومه، فنسي في ذاته، وشغله الهم الوطني والهم القومي عن كل ما عداهما، فهو موزع القلب بين أسى جارف لما آلت إليه حال الأمة العربية من ترد وضعف وفرقة، وما يطمح إليه من أمل في النهضة واسترجاع ما غبر من ماضي الأمة المجيد. يوم دان لها المشرقان، ونشرت نور الاسلام والحضارة في العالم.
ويبدو أن اغتراب الشاعر عن وطنه خلال عمله المتنقل قد أجج في أعماقه حنينا الى الديار والأهل والمرا بع، فبدت "عمان" بقراها ومدنها وجبالها وأوديتها وطبيعتها وعزة شعبها وإبائه، أمله المرتجى وصبوته الحرّى، فيستهل قصائده الوطنية بمطلع أخاذ يناجي فية وطنه ويحييه عن بعد:
حي عني الحمى وحي الديارا
واسق من مهجتي الربا والصحاري
والثم الترب من ثراها، فإني
ما أراه إلا أريجا وغارا
كم مشى موكب العلاء عليه
وتعالى الجلال فيه منارا
ويظهر لوعته لفراق الوطن وحنينه اليه، ويستغفره من أنه غادر جسدا لكنه يحمله في قلبه وروحه أينما كان :
سبحت باسمك بعد الله ولهانا
عمان فاغتفري لي البعد أحيانا
فما نأيت ولكني حملت هوى
راياتك الشم في الآفاق إيمانا
غمست روحي على شطيك والهة
وإن رحلت مع الأمواج جذلانا
ويكني عن عمان بالسمراء التي تظل عيناها مرافئ يلتجئ اليها مهما بمد عنها :
سمراء إني إلى عينيك التجيء
فقد سرى في ضلوعي الجوع والظمأ
تلك المرافئ في عينيك ملتجأ
من الدوار إذا ما عز ملتجأ
أظل فيك وإن أبحرت مبتعدا
من قال إني على الإبحار اجترئ
ويجعل حب "عمان" في مطلع قصائده الوطنية حبا عذريا من طبيعته أن يقوم على الافتراق والتباعد، فالبعد يلهب نار ذلك الحب العذري ويعمقه:
ما افترقنا "عمان"، كيف الفراق؟
وكؤوس الهوى علينا دفاق
فاعذريني مسافرا فركابي
يا بلادي على ضياك تساق
واعذريني فمن سمات الهوى العـ
ـذري الا تضمنا الأطواق
فإذا لج به الهجر والنسيان، عزى نفسه، ودافع عنها معتذرا، مكفرا عن جريمته في غياب صورتها عن خاطره، أو صمت لسانه عن ذكرها:
أتراه غفا على أوتاره
أو تناسى عهد الهوى في دياره
لم يعد يعرف الوقوف (بسلع)
أو (قفا) نبك في بعيد مزاره
لا طيوب الندى تثير صداه
أو طيوب الهوى بسمر جراره
في هذا المطلع الجميل يتسع المفهوم الوطني حتى يشمل الخليج كله، وكأن الشاعر ينظر الى "عمان" على أنها جزء من وحدة جغرافية وتاريخية تجمع دول الخليج وشعبه، مثلما يشهد لذلك ماضيه المشترك، وسبل عيش أهله :
بلد واحد، وشعب أبي
شامخ من "عراقه" لـ "ظفاره"
ولتعش نهضة الخليج، ويحيا
وطن العرب شامخا بانتصاره
هذه المطالع القوية التي يحشد لها الشاعر كل عناصر القوة الفنية تعد مفاتيح ينفذ منها إلى فضاء رحب من الاعتزار بالوطن. والذوبان فيه، مثلما يهيئ للنص الشعري إيقاعا موسيقيا يهيمن عليه، تسوقه المشاعر الدافقة، و"هلال السيابي" في ذلك يحاكي اعلام الشعر القديم الذين كانوا يحتفون كثيرا بمطالع قصائدهم، ومثلهم شعراء عصر النهضة من الاتباعيين المحدثين "أحمد شوقي- حافظ ابراهيم – الأخطل الصغير" ومع تقفيه بعض أوزان مطالعهم وقوافيها لم يكن مقلدا أو ناسخا معانيهم، فهو يجهد في اختيار المعاني الطريفة المبتكرة، وندر أن يقف عند حدود المحاكاة الطبيعية التي نلمحها في مطلع قصيدته "أهوى عمان" فقد استهلها بمخاطبة حمائم الوادي. فقد قرن نفسه الساجية المتألمة بحزن ذلك الحمام الذي يسجع كئيبا، ويحسدها على حريتها وهو مكبل بالأصفاد :
بيني وبينك يا حمام الوادي
نسب الشجون ورنة الأعواد
فإذا شكوت فان جرحي نازف
وإذا بكيت فان حزني باد
يا بنت فواح الغصون طليقة
من لي بمثل جناحك المياد
تمشين من فنن لآخر راقص
وتداعبين مطوق الأجياد
والأفق مسرح خافقيك وفي يدي
"ما في سماء الشرق من أصفاد"
فالشاعر يستعير من تراث الشعر العربي على غرار الشاعرين : الزركلي وجبري، وقبلهما الشاعر "أبو فراس الحمداني" مناجاة الطير، لكنه يضيف إلى الصورة غبطته الطير على حريته، ويضمن قول الأخطل الصغير "ما في سماء الشرق من امجاد" الشطر الأخير من البيت الثالث بعد تحويره.
فإذا كان الطائر حزينا على الرغم من حريته، فكيف لا يكون حزينا وهم الوطن يكبله بالأصفاد…؟!
وفي هذه المطالع بالذات بما تحمل من حنين جارف واستسلام لعاطفة رومانسية واضحة تنأى بها عن سمة الاتباعية التي تغلب – في رأي بعضهم – على العربي قبل الخمسينات فالعاطفة المتوهجة، والاستسلام لمنطقها السائد يجعل شعر "هلال السيابي" ومن سبقه من شعراء النهضة فوق كل تصنيف نقدي مدرسي مستورد، ففيه يتضافر المنطق العقلي والمنطق العاطفي اللذان يتحكمان في سلوك الفرد وتصرفاته.
وإلا فكيف نفسر منطق الشاعر بأن وطنه أجمل الأوطان وطبيعته أروع طبيعة يقدمها الخالق للبلدان، بل إن سحرها يفوق سحر شعب بوّان الذي وصفه المتنبي:
لبست حلة الربيع برودا
نفحت بالعبير من ريحانه
بين ظهر النسرين يبسم للورد،
وينصب في هوى اقحوانه
وغناء الحمام حن الى الإلف.
فلذ الغناء في تحنانه
وهيام العصفور بلله القطر،
وشدو الشحرور في أغصانه
وتغنى النسيم يلعب بالأغصان
لعب الهوى بخصر حسانه
أو كهمس الحسان في أذن
الصب وللحب لوعة بحنانه
قد كسته يد الطبيعة وشيا
لم تنله الشعاب في "بوانه"
مسرح دونه البيان قصيرا
يا بياني أعن على تبيانه
فإذا تحولنا عن مطالع قصائده الوطنية الرائعة الى مضامينها وجدنا الشاعر "السيابي" مفتونا بتاريخ وطنه المجيد :
وطن طاول النجوم جلالا
وأضاء القرون منه فخارا
رف من جانبيه ضوء "الجلندى
والمهنا" وشع فجرا ونارا
وتراءى "ابن مرشد" فيه ضوءا
و "بنو يعرب" به أقمارا
وسلوا عنه "أحمد بن سعيد"
حين نادى الحماة والأنصارا
و "ابن سلطان" كم تعالى على الدهر،
وقاد العرمرم الجرارا
صفحات مشى الجلال عليها
مشرئب الأعناق يزهو افتخارا
تنطح الشمس في جلال ومجد
وتباري الكواكب الزهر دارا
فإذا تحول الى حاضر وطنه شدته اليه
مرابعه الخضر، وأهله الغر الميامين:
فمن لنفسي "بالفيحاء" يغرمني
هواؤها العذب نسرينا وريحانا
على جداولها يمشي الهوى عطرا
وينتشي المجد من وديانها حانا
وتستحم العلا زهوا بأنهرها
وتستريح اليها الشهب ميزانا
ومن لنفسي بـ "شاذان" وطلعتها
يا صبح الله بالأنوار شاذانا
مثل الكواكب يستامون عليتها
خلقا وخُلقا وأعراقا وإيمانا
تفيأوا ظلها العالي فما وجدت
منهم سوى العز إسرارا وإعلانا
ويستثيره جمال حسانها وسحرهن الذي لا يماثله سحر في بلدان الأرض :
أين الملاح اللواتي ما رأى قمر
لهن شبها وأين الريم والرشأ؟
القاتلات بأجفان مكسرة
ما أن يضل بها عن قصدها خطأ
والساحرات بمثل الورد قبله
ذوب الندى فانجلى عن خده الصدأ
من كل بلقيسة شماء نيرة
ما أنجبت مثلها في زهوها سبأ
ولعل من أطرف صوره المبتكرة قوله في الحنين إلى بلده:
كلما هينعت لساني بذكر الله،
أو فاض بالصفا الخلاق
قلت : يا رب موطني وجرى
الدمع وهزني الاشتياق
فاعذريني على دموع رقاق
إن أمضى السيوف تلك الرقاق
أما شعره القومي فأبرز ما يميزه الصفاء والصدق، فقد كتب "هلال السيابي" أكثر قصائده القومية ما بين السبعينات والتسعينات من القرن العشرين، في مرحلة تمخضت عن أحداث جسام في حياة الأمة العربية، منها تشتت الصف العربي في مواجهة العدو الصهيوني، وانقسامه وتشرذمه، ومحاولات التطبيع بعد حرب الخليج ونتائجها الخطيرة على المنطقة، وهي احداث مؤسية لشاعر حساس يفيض ألما حين يشهد حاضر قومه المتردي بعد مجدهم الغابر:
يا قادة العرب، بل يا أيها العرب
ومن ضميري لهم الحب والعتب
أكلما أشعل الطغيان نار وغى
تثور من بيننا الأشعار والخطب
حتام من مجلس نسعى لمختلس
والعرض منتهك والحق منتهب
ختام نطرح للدنيا ظلامتنا
ونشكي ودموع العين تنسكب
أين الفيالق ؟ بل أين الجحافل ا؟ بل
أين الأسنة والحظية القضب
والشاعر لا يحمل القادة "فحسب" مسؤولية هذا التردي، بل الشعب كله وينثني مذكرا أبناء أمته بماضيهم المجيد ويحثهم على الجهاد والمقاومة :
صونوا حماكم وحاموا عن مواطنكم
كالأسد ليس بها عن غيلها رهب
حان الجهاد، وحق الموت عن وطن
قد بات بالعهد والتدنيس يغتصب
وفي الخليج رجال لا يروعهم
قرع الخطوب ولا تحنيهم النوب
وتفجعه مأساة غزو الكويت، فلا يندد بالمعتدي ويقسو في توبيخه كما فعل الذين نددوا، بل يخشى أن يعمق الجرح، ويزيد محنة الانقسام، فيتوجه الى العراق وشعبه وحكامه بعتاب رقيق لكنه أقسى من كل تنديد، يكتب رسالة حب وعتب الى بغداد. ويذكرها بوحدة المصير والدم، وحرمة الإخاء، ويستنكر ذلك العدوان على الشقيق الذي حطم الوشائج، وبه وجه الأخ سلاحه لصدر أخيه:
نزفت جراحك في الهوى وجراحي
بغداد.. فاقترعي على أقداحي
قلبي كقلبك نازف بجراحه
أو ما رأيت على رباك جراحي
دمك الطهور دمي وروحك مهجتي
لولا الجنوح الي الحسود اللاحي
يا امنة المنصور أي جريرة
شوهاء بين عشية وصباح
فبدا حسامك في فؤادي غائرا
وسطا قناك بمعطفي ووشاحي
فاستدركي بغداد إن لنا غدا
سيضمنا روحا الى أرواح
وهو عتاب لطيف لكنه جارح في الوقت ذاته، يكشف عن وعي الشاعر السياسي، الذي يدرك أن وحدة الصف أهم في نظره من تأجيج الفرقة، ويعرف جيدا أن الانقسام في الصف العربي لا يخدم إلا أعداء الأمة العربية.. والشاعر "هلال السيابي" معتز بالاسلام، فهو وجه أمته الناصع، وأعظم ما قدمته للبشرية، وهو الذي برسالته النبيلة بوأ الأمة مكانتها السامية في التاريخ، فلما قعد المسلمون عن مكارم الأخلاق، وفترت بهم الهمة، وشغلتهم مشاغل الدنيا وأغراضها دب بهم الضعف والخذلان:
صحابي والتذكار بعض مواجعي
وبي من جراح الحادثات عناء
أشاهد دور الأكرمين ولا أرى
لهم أثرا أنى غدوا وأفاؤوا
وأسأل عنهم مربعا بعد مربع
وكيف تجيب الدار وهي خلاء
زهت بهم الدنيا زمانا، كما زها
بأمثالهم عرش ونار سماء
تضيء لهم داجي العجاج سيوفهم
وأوجه صدق كالنجوم وضاء
ويطوف الشاعر "السيابي" سفيرا لبلاده شتى الأقطار العربية، فلا يشعر الا أنه بين أهله وعشيرته، يترنم بالعواصم العربية، فيخص تونس والجزائر والشام بقصائد يعلن فيها أن هذا الأرض أرضه أنى حل:
أرض العروبة أرضي أينما ذهبت
ركائبي فهي لي كالأم والولد
فما أغادر من أرضي ولا وطني
إلا إلى وطني والله أو بلدي
ويذكر أبناء هذه الأمصار بماضيهم التليد وكفاحهم الاستعمار لنيل الحرية، ويدعوهم الى الجد والعمل في مواجهة أعداء الوطن العربي.. وبهذه الأنفاس الرائعة، وبمثل هذا الشعر الذي لا نجد في أبياته إلا الجياد، ولا في مضامينه إلا الاقناع، ولا فيما يحمل من مشاعر إلا الصدق – يضع الشاعر "هلال بن سالم السيابي" نفسه في طليعة شعراء القصيدة التقليدية في عصرنا، وقد دانت له اللغة، فليمس في نظمه إلا إصابة المعنى بالتركيب المحكم المتين، وبمثل هذا الشعر يجدر به أن يعد واحدا من أبرز فرسان الشعر العربي الأصيل المعاصر.
وأن شعره ليس تقليدا وإتباعا بقدر ما هو تجديد وابتكار، وهو كالشعراء الرواد الذين سبقوه يثبت بشعره أمام أولئك الذين يريدون أن يزعزعوا دعائم الشعر العربي الموروث الذي واكب الأزمنة السالفة انه قادر على أن يساير حاجات العصر، ويعبر عن نوازع الإنسان العربي في كل زمان ومكان.
عبداللطيف الأرناؤوط (كاتب من سوريا)